المترجم محمد الفولي: المترجمون السابقون عملوا في ظروف أصعب | ثقافة
لطالما كان المترجمون الجنود المجهولين الذين كانت، ولا تزال، لهم اليد الطولى في تغيير ذائقات وطبائع وحتى أفكار وحيوات كثيرين من قرّائهم، إذ لا يُنكر أحد دور الترجمات الأدبية والثقافية من اللغات العالمية إلى اللغة العربية في إحداث الفارق والتأثير ليس فقط لدى القراء، بل كذلك لدى الكُتّاب والمفكرين الناطقين بالعربية.
لذلك تحاول الجزيرة نت، من خلال هذه المساحة، أن تُلقي الضوء على جوانب عديدة من الترجمات وأعمال المترجمين، كإضاءة على تلك الجهود.
في هذه الحلقة نحاور الكاتب والمترجم المصري محمد الفولي حول ترجمة الأدب المكتوب بالإسبانية إلى اللغة العربية، ومحمد الفولي (1987) كاتب ومترجم مصري تخرج من كلية الآداب في جامعة القاهرة المصرية، قسم اللغة الإسبانية، بتقدير جيد جدا مع مرتبة الشرف. وهو كاتب قصة قصيرة، حيث صدرت له مجموعة قصصية بعنوان “تقرير عن الرفاعية”، عن دار الكتب خان (2019)، و”عين الصقر”، عن دار أثر (2023).
ورغم صغر سنه (37 عاما) نشر محمد الفولي كثيرا من الروايات والكتب المترجمة عن الإسبانية، ما يقارب 30 كتابا، وقد بدأ بنشر ترجماته في عام 2018 مع كتاب رحلات بعنوان “الشرق يبدأ في القاهرة” للكولومبي إكتور آباد فاسيولينسي. ثم ألحقها برواية “بشر وتروس” للأرجنتيني أرنستو ساباتو (1911-2011)، و”غرفة الرئيس” للكاتب الأرجنتيني ريكاردو روميرو (1976). وخلال هذا العام صدر من ترجماته رواية “المستأجر” للكاتب الإسباني خابيير ثيركاس (1962) و”هيبة الجمال” للكولومبية بيداد بونيت (1951)، و”جثة لذيذة” للأرجنتينية أغوستينا باثتيريكا (1974). منوّعا ترجماته ما بين الدراسات والرحلات والرواية والشعر، وما بين الأدب الكلاسيكي والأدب المعاصر، والتي نال من خلالها عددا من الجوائز، مثل جائزة الشباب (2023) من المركز القومي للترجمة (المركز الثاني) عن ترجمته لرواية “حاصل الطرح” للتشيلية آليا ترابوكو ثيران، وجائزة جابر عصفور في الترجمة (2024) عن رواية “الوحش” لكارمن مولا.
وشارك الفولي في إدارة عدة ورش وندوات عن الترجمة الصحفية والأدبية، وشارك في إلقاء محاضرات عنها في كلية الآداب جامعة القاهرة (مصر)، وفي مؤسسة “إثراء” (السعودية)، و”بيت الزبير” (سلطنة عمان)، والمركز الثقافي الإسباني (ثربانتس) في القاهرة.
ويعمل محمد الفولي مترجما ومحررا ومراسلا في الخدمة العربية في وكالة الأنباء الإسبانية (إفى) منذ 2008.
هنا نص الحوار:
التنوع الهائل والاختلاف
-
كيف تلخص أهمية الأدب المكتوب بالإسبانية، وبالتالي أهمية ترجمته إلى اللغة العربية؟
هذا سؤال صعب، لأنني أعتقد أن أهمية الأدب، أيا كانت اللغة التي كُتب بها، لا يُمكن تلخيصها، فأي أدب، وكل أدب، مهم، لكنني على أي حال سأحاول أن أجيبك، مع أن ردي لن يغدو أبدا قاطعا أو حاسما، وإنما يُمكنك أن تعتبره رأيا شخصيا بحتا:
إن كان ثمة ما يميز الأدب المكتوب بالإسبانية فهو تنوعه الجغرافي، الذي يترتب عليه بالتبعية تنوع تاريخي وثقافي وأسلوبي، فمثلا على الرغم من وجود نقاط تلاقي بين الأدب الإسباني والأرجنتيني والمكسيكي والكولومبي -وأولها طبعا أنه مكتوب باللغة نفسها- فثمة فوارق، أكاد أصفها بالهائلة، من حيث الموضوعات وخلفيتها التاريخية والمجتمعية أو طريقة طرحها وحتى أسلوبها.
وبالتالي، لا تساهم الترجمة من الإسبانية إلى العربية في تعريفنا بكيف يفكر الآخرون فحسب، بل كيف يختلف تاريخ ومجتمع وأفكار وقضايا مَن يتحدثون لغة واحدة، وأغلبهم -مثلنا نحن العرب- جيران، طبعا باستثناء إسبانيا التي تسكن بعيدا في القارة العجوز.
ليس هذا فحسب، إذ إنها ستُساعدنا في التعرف على الكيفية التي نشأت بها مدارس وأساليب وتيارات أدبية، بناء على هذا الاختلاف، وكيف تمازجت أيضا فيما بينها، وكيف أثرت آدابا كُتبت بلغات أخرى، من ضمنها العربية مثلا، ولنا في الواقعية السحرية خير مثال، وأقصد هنا الواقعية السحرية الحقيقية لا كمصطلح استهلاكي يُطلق على أي عمل يمزج بين الواقع والخيال.
-
وهل تجد بأننا تأخرنا في ترجمة الأدب المكتوب بالإسبانية؟
نحن متأخرون في حركة ترجمة الأدب بوجه عام، لا المكتوب بالإسبانية فحسب، لكن بعيدا عن جلد الذات، فثمة عوامل مؤثرة في هذه الظاهرة، أولها بالطبع أن حجم الأدب المكتوب بالإسبانية ضخم وهائل. فنحن لدينا كل ما تنتجه إسبانيا بالإضافة إلى كل ما تنتجه 20 دولة أخرى، من ضمنها دولة أفريقية لم يُترجم شيء من أدبها المكتوب بالإسبانية، وهي غينيا الاستوائية.
تخيل معي إذن حجم الإنتاج الأدبي بهذه اللغة مثلا في آخر 50 عاما فحسب! لا بد أن العدد هائل ويصعب إحصاؤه! بعدئذ، تعال معي لنحسب عدد الجامعات العربية التي تُدرّس الإسبانية، قبل أن نضيق الدائرة قليلا ونحصي عدد من يُدرّس الترجمة الأدبية منها بأسلوب منهجي صحيح، ثم لنُضيّق الدائرة أكثر لإحصاء من يريدون أن يكونوا مترجمين من الطلاب، ثم من يريدون أن يكونوا مترجمين أدبيين تحديدا، فمن لديهم الحد الأدنى من المقومات لتحقيق هذا الغرض، ثم من يتحملون كل العراقيل التي ستقابلهم في الطريق.
ولا أقصد هنا عملية تطورهم “ترجميا” فحسب، بل أيضا مشاكل سوق العمل واستغلال بعض الناشرين للمترجمين المستجدين، ثم مسألة شراء حقوق الكتب، وارتفاع أسعارها بناء على سعر صرف الدولار بالنسبة إلى كثير من الدول، وإلى آخر ما هنالك من أسباب تخصّ عالم نشر الترجمات. أعتقد أننا سنظل دائما متأخرين في ترجمة الأدب بوجه عام، إن ظلت كل هذه المشاكل قائمة.
المنظور اللاتيني
-
متى ترجمت أول مرة؟ وما الدوافع التي دفعتك آنذاك لتصبح مترجما؟
أول كتاب ترجمته كاملا إلى العربية ينتمي إلى أدب الرحلات، واسمه “الشرق يبدأ في القاهرة”، للمؤلف الكولومبي إكتور آباد فاسيولينسي. بدأت الترجمة في أوائل 2016 وانتظرت عامين تقريبا إلى أن تمكنت من نشرها في 2018. ترجمته حُبا في الترجمة وموضوع الكتاب فحسب. آنذاك، لم أكن أعرف شيئا عن متاهات حقوق المؤلف ودور النشر، وهي أمور تعلمتها بالتدريج. جذبتني فكرة الكتاب، إذ يتناول رحلة فاسيولينسي إلى مصر التي استمرت شهرين تقريبا، ومقارنته بين ماضيها الذي قرأه في الكتب، والواقع الذي يراه بعينيه.
لما قرأت الكتاب للمرة الأولى راقني جدا، وفكرت في أن أحدا لم يترجم أدب رحلات عن مصر من منظور لاتيني، إن صح التعبير. شعرت بشرارة داخلية تُحفزني على بدء المهمة واتخاذ القرار، الذي أجلته كثيرا، باقتحام مجال الترجمة الأدبية والنشر. وها نحن أولاء نتحاور الآن بخصوص المسألة وقد قارب عدد ترجماتي 30 كتابا حتى الآن، لذا أعتقد أنه كان قرارا صائبا. أنا ممتن لهذه الشرارة، التي تزامنت مع أسباب شخصية زادت حدتها، ربما قد أتحدث عنها لاحقا، أو ربما لا، لكنني سأقول لها ببساطة “شكرا على النار”.
-
كيف تنظر إلى عمل المترجمين الذين سبقوك في هذا المجال؟
بكل احترام وتقدير بالطبع. ما أقوله ليس مجاملة أو عبارة استهلاكية، بل ينم عن قناعتي الحقيقية، لأن كل من سبقوني -أنا وجيلي الحالي- ترجموا وعملوا في ظروف مغايرة وبأدوات مختلفة تماما عن وقتنا الحالي.
لدينا أنا وأبناء جيلي الإنترنت، بكل ما يحمله من قواميس إلكترونية متخصصة، وقواميس عن اللهجات والمصطلحات المحلية في أغلب الدول الناطقة بالإسبانية. هكذا، إن واجه أي منا مشكلة في التوصل إلى معنى أو مصطلح قد استعصى عليه، فيمكنه بكبسة زر أو بقليل من البحث وهو يجلس في مكتبه، تحت مكيف الهواء، أن يصل إلى مراده.
يُمكنه أيضا أن يكتب للمؤلف نفسه أو وكيله بريدا إلكترونيا أو رسالة على “واتساب”، ليوضح له المعنى أو التعبير الذي استعصى عليه، وستأتيه الإجابة في ظرف أيام أو فورا. إن أراد الواحد منا أن يبحث عن الخلفية التاريخية لرواية ما، فيمكنه أيضا بكبسة زر أن يصل إليها عبر الإنترنت، من دون الحاجة إلى الغوص في كتب كثيرة في مكتبات مختلفة ليصل إلى مراده.
كيف يُمكنني وأنا لديّ كل وسائل الراحة هذه ألا أنظر بعين الاحترام لمن سبقوني في المجال؟ لكن دعنا هنا نوضح شيئا ما: هل لديّ تحفظات على بعض ما قد أعتبره -وهو رأي يحتمل الصواب والخطأ- أوجه قصور في ترجمات من سبقوني؟ بالطبع لديّ! لكنني لا أعزيها إلى ضعف في مهاراتهم في الترجمة أو عدم تمكن لُغوي منهم، وإنما إلى عوامل ترتبط باختلاف الزمن والأدوات المساعدة.
أقول هذه الكلمات وأنا أعرف تماما أنه بعد 30 أو 50 عاما مثلا، قد يأتي جيل جديد من المترجمين بأدوات ووسائل أكثر تطورا ليقول الكلام نفسه عن عملي أنا أو غيري، وأعتبره طبيعيا جدا.
النشر صناعة استهلاكية
-
هناك تركيز حاليا على فن الرواية، بينما نادرا ما يترجم المسرح أو الشعر. هل ذلك يعود إلى دور النشر العربية أم إلى اختيارات المترجمين؟
الأمر يعود إلى طبيعة السوق الحالية. دعنا لا ننسى أن النشر، على الرغم من كل فوائده وغاياته الثقافية والاجتماعية والأدبية وغير ذلك، صناعة استهلاكية في نهاية المطاف. يُقدم الناشر منتجا وفقا لرؤيته ومشروعه ورغباته في نشر نمط ثقافي معين، لكنه في الوقت نفسه يريد تحقيق مكاسب، أو على الأقل ضمان تحقيقها نظريا.
ما الذي يُريده أغلب الجمهور الآن؟ الرواية! فلنقدم له ما يُريده إذن! هكذا تغولت الرواية وطغت على باقي الأصناف الأدبية، وهنا لا أتحدث عن مجال الترجمة فحسب. لننظر إلى عدد المؤلف والمنشور بالعربية من مسرح وقصة وشعر ولنقارنه بالرواية، وسنجد فورا هذا التغول، بل إننا إن نظرنا عالميا وباللغات الأخرى سنجد الشيء نفسه.
-
حصل العديد من الكتاب الذين يكتبون بالإسبانية على جوائز عالمية، ومنها جائزة نوبل، ومع ذلك هناك بطء في الترجمة إلى العربية، ربما لكثرة الكتب والكتاب وقلة المترجمين. لكن هناك الكثير من الكلاسيكيات لم تترجم، رغم التركيز عليها في كل ترجمة إلى لغة أخرى، وهل تتم ترجمة الجديد منه بسبب حصوله على جوائز، أم لأسباب أخرى؟
تحدثت سلفا عن مسألة حجم الإنتاج وقلة المترجمين، أما بالنسبة إلى الشق الثاني من السؤال، فسأجيب بناء على تجربتي الشخصية فحسب، لأنني بصراحة لا أعرف كيف يعمل الآخرون.
أنا أميل إلى ترجمة الأدب المعاصر المكتوب بالإسبانية لمؤلفين مهمين -أو أعتبرهم مُهمين- ولم يُترجموا من قبل إلى العربية، وبالمثل إلى ترجمة أعمال مهمة -أو أعتبرها مهمة- ولم تُترجم من قبل لمؤلفين يعرفهم القارئ العربي من أعمال سابقة.
لا أضع فوز هذا العمل أو ذاك على جائزة معيارا لترجمته، فليست كل الأعمال التي نقلتها إلى العربية حاصلة على جوائز. مع ذلك، قد أعتبر حصول عمل ما على هذه الجائزة أو تلك مؤشرا على جودته، لكنها مجرد مؤشر، فأنا لا أرشح عملا لأي ناشر ولا أوافق أي ترشيح ترجمة يقترحه ناشر إلا بعد قراءة العمل كاملا، لأرى إن كان يتماشى مع تفضيلاتي، ومشروعي الشخصي، وإن كان سيروقني، وإن كنت سأقدر على التماهي معه والإحساس به، لأنهما عنصران أساسيان في رأيي لإخراج الترجمة في أفضل صورة، أو ربما أنا مجرد شخص عاطفي زيادة عن اللزوم.
مُنظّر أعلى ووكالات أدبية عربية
-
هل تجد أن هناك حركة للترجمة من الأدب المكتوب بالإسبانية إلى العربية؟ أم أنها تجارب فردية؟
أعتقد أننا نشهد حاليا تجارب فردية مميزة ستشكل لاحقا -ربما بعد 30 أو 50 عاما- ما سيسميه الناس حركة ترجمة حقيقية من الأدب المكتوب بالإسبانية إلى العربية، لأنني أعرف أن لكل واحد من المترجمين، الحاليين أو من سبقونا ولا يزالون على قيد الحياة، مشروعاتهم واختياراتهم الشخصية المختلفة عن مُجايليهم، وإذا ما تمازجت كل هذه التجارب والاختيارات ستشكل حركة متنوعة وثرية تقدم منتجا مترجما أدبيا مختلفا، لا فقط في محتواه وموضوعاته وأسماء مؤلفيه، وإنما أيضا في طريقة فهم وتعاطي كل واحد من هؤلاء المترجمين لعملية الترجمة.
وحين يأتي دارس أو ناقد بعد مرور كل هذه السنين، وينظر إلى الخريطة الكبرى التي تضم المترجمين الحاليين ومن سينضمون إلينا في السنوات المقبلة، سيدرك هذا الأمر. في الحقيقة أود أن يستمر الوضع الحالي من دون وجود “مُنظر أعلى”، سواء كان هيئة أو شخص، يُحدد ما يجب ترجمته وما لا يجب ترجمته، لأن وجوده سيقضي على التنوع الحالي والخريطة المستقبلية التي أتحدث عنها، إذ سيسعى، بشكل أو بآخر، إلى فرض رؤيته الشخصية الموحدة والواحدة.
-
هل تجد أن ترجمة الأدب العربي إلى القراء بالإسبانية متوازنة مع الترجمة من الأدب المكتوب بالإسبانية إلى العربية؟
ليست متوازنة بالطبع، والأسباب كثيرة ومتنوعة، لكن أهمها أننا ليس لدينا وكالات أدبية تروج لأعمال الكتاب العرب في الخارج. شهدنا في آخر 3 أعوام بعض المحاولات الخجولة لإنشاء وكالات أدبية عربية، أو مشروعات لعرض كتالوجات أهم الأعمال التي صدرت بالعربية في محافل خارجية -مثل معرض فرانكفورت الدولي للكتاب مثلا- أو الشارقة، لكننا لا نزال متأخرين كثيرا في هذه النقطة.
مع ذلك، ستتطور هذه المسألة مع الوقت، ما سيُسهم بالضرورة في زيادة ترجمة الأدب العربي إلى لغات أجنبية متنوعة ومن ضمنها الإسبانية بالطبع. أيضا ثمة عامل آخر، وهو أننا مثلا لا نجد مِنحا كثيرة لدعم ترجمة الأعمال من العربية إلى لغات أخرى. دعني أخبرك على سبيل المثال أمرا يتعلق بالإسبانية: تدعم إسبانيا والأرجنتين والمكسيك وكولومبيا بمنح تُقدم كل عام أو عامين -وفقا للدولة- ترجمة أدبها إلى اللغات الأخرى.
وتتقدم دور النشر من كل الدول بمشروعاتها المتعلقة بترجمة عدة أعمال مصحوبة بمستندات تحددها الهيئة المانحة، وتُرفع كل هذه الوثائق على منصة إلكترونية حكومية. بعدئذ، يُقيم كل مشروع وفقا لعدة معايير وتحصل الأعمال الفائزة في النهاية على منحة لدعم الترجمة. نحتاج إلى مشروع مثل هذا لتحفيز حركة ترجمة الأدب العربي، بجانب مسألة الوكالات الأدبية والكتالوجات التي تُروج لإنتاجنا في المحافل الدولية.