ثلاثية الشمال والجنوب والحرب في السينما اليمنية | آراء
يقف الشاب اليمني أحمد وسط زحام غفير من الناس على شباك صراف، ويسأله إن كانت رواتب موظفي هيئة الإذاعة والتلفزيون قد وصلت، فيجيبه بالنفي. وحين يستفسر أحمد عن موعد وصول الرواتب، فيخبره الموظف بأنه لا يدري. في الوقت ذاته، تقف إسراء (زوجة أحمد) تفاوض صاحب محل ذهب لبيع ما تملكه من مصوغات وحلي، لمساعدة زوجها في تدبير نفقات المعيشة. وبينما يكابد الزوجان شظف العيش في مدينة عدن اليمنية، تكتشف إسراء أنها حامل فتفكر هي وزوجها في إجهاض الجنين خوفا من الفقر، وينخرطان في مناقشة مشروعية ذلك من النواحي الدينية والاجتماعية في فيلم “المرهقون” للمخرج اليمني عمرو جمال إنتاج عام 2023.
أدت حالة الاستقطاب الثقافي والفني هذه داخل اليمن وعدم التوافق على معايير رضائية جامعة إلى تراجع الإنتاج السينمائي وحرمان العالم العربي والعالم من مشاهدة واحدة من أجمل بلدان العرب طبيعة وثقافة وروحا على الشاشة الفضية
يعد هذا العمل أول فيلم يمني يشارك في مهرجان برلين السينمائي هذا العام 2023 وحصل على جائزتين ممنوحتين من منظمة العفو الدولية. وهو بداية واعدة لسينما يمنية تخرج من بين الأنقاض كالعنقاء، كي توصل صوت أنين المرهقين فعلا الذين يعيشون داخل اليمن. كما أنه يجسد حالة ومرحلة هامتين تمر بهما السينما اليمنية بين جدلية التعدد والتنوع الثقافي بين الشمال والجنوب من جهة، وتأثير الحرب على هذه السينما من جهة أخرى، وهي الحالة التي سنعرض لها في هذا المقال.
الفيلم -في مجمله- تجربة جريئة وجديدة في السينما العربية في السنوات الأخيرة لعدة اعتبارات:
- أولا، أنه تجسيد لصحوة واقعية جديدة، يحاول جيل جديد من المخرجين أن يقدمها للمشاهد عبر التماس مع قضايا الناس الحياتية في منطقة ملتهبة، هي اليمن. فالفيلم مأخوذ من قصة حقيقية حسب ما يقول المخرج، كما أنه يقدم تفاصيل المعاناة الإنسانية في قالب شخصي وعام.
- ثانيا، هو أنه نجح بإمكانات بسيطة في توظيف العناصر البصرية في البيئة اليمنية لتقديم لوحات سينمائية. والأهم من هذا هو قدرته الإنتاجية على اكتشاف مواهب تمثيلية من داخل المجتمع اليمني.
- ثالثا، هو رسمه تفاصيل الحياة المعيشية للناس في اليمن، بعيدا عن أخبار الحرب والقصف، وتوصيل هذه التفاصيل للشعوب المختلفة عبر هذا الفيلم. فمعظم المشاهدين في العالم -وحتى العرب- لا تختزن ذاكرتهم عن اليمن سوى مشاهد وأخبار الحرب والدمار والصراع والسياسة.
ويعد العمل ثاني فيلم روائي طويل للمخرج، بعد فيلمه الأول “10 أيام قبل الزفة” إنتاج عام 2018، الذي عرض في دور السينما في عدن، وترشح لجائزة الأوسكار ضمن فئة الأفلام الأجنبية. والفيلم يروي قصة معاناة شاب وفتاة مخطوبين يستعدان للزفاف، ويسابقان الزمن من أجل إتمام الاستعدادات للزواج قبل الموعد المحدد. وبذلك يكون المخرج قدم عملين يتناولان مراحل عمرية مختلفة يمر بها الإنسان داخل منظومة الأسرة اليمنية في ظل الظروف القاسية. إحدى هذه المراحل مرحلة الخطوبة أو التأسيس للأسرة، والثانية هي مرحلة الزواج وإنجاب الأطفال. ولهذا أتوقع أن يتوج هذا بفيلم ثالث عن مرحلة عمرية لاحقة، وهي التقاعد أو الأجداد والجدات ليكمل بذلك ثلاثية بديعة.
سينما للجنوب وأخرى للشمال
ليست صدفة أن تخرج هذه التجربة السينمائية من مدينة عدن التي تنتمي لمحافظات الجنوب اليمني. فهناك حديث سياسي عن اليمن المقسم بين شمال وجنوب قبل الوحدة، وهناك حديث ثقافي آخر عن تباينات في فهم الثقافة والفنون بين محافظات الشمال والجنوب. إذ إن هناك عديدا من المثقفين والفنانين من الجنوب يتهمون الشماليين بأنهم لا يُقدّرون ولا يدعمون الفن، وأن سنوات الوحدة شهدت رقابة متزايدة على الإنتاج السينمائي. وعلى الجهة الأخرى، يرى مثقفو وفنانو الشمال أن الإنتاج السينمائي والفني في محافظات الجنوب قبل الوحدة اتسم كثير منه بالخروج عن العادات والتقاليد ووصل للتصادم مع الشرع والدين، فضلا عن الظروف الاقتصادية الصعبة التي اقتضت إعطاء أولوية في الإنفاق الحكومي لمشروعات أخرى، ليس من بينها السينما والأفلام حينئذ.
أدت حالة الاستقطاب الثقافي والفني هذه داخل اليمن وعدم التوافق على معايير رضائية جامعة إلى تراجع الإنتاج السينمائي وحرمان العالم العربي والعالم من مشاهدة واحدة من أجمل بلدان العرب طبيعة وثقافة وروحا على الشاشة الفضية. فاليمن يملك مخزونا هائلا من العادات والتقاليد والفنون والتاريخ مفعما بالعراقة والألوان، وهو ما يجعل الكاميرا تنطق جمالا لمجرد تجوالها في أي من ربوع اليمن وسواحلها وجبالها. وكل حكاية منها تصلح لصنع 100 فيلم سينمائي، بداية من أصول القهوة والطعام اليمني، وليس انتهاء بالزي الشعبي والتراث الشفهي.
لقد أسر جمال اليمن وأهله الكاتب البريطاني بول تودري الذي كتب -بعد أن تجاوز الخمسين من عمره- روايته الأولى بعنوان “صيد السلمون في اليمن” عام 2007، ولقد حازت جوائز أدبية مرموقة. وتحولت إلى فيلم سينمائي بريطاني -في قالب كوميدي رومانسي- يحمل العنوان ذاته عام 2011 للمخرج السويدي لاسي هالستروم، وبمشاركة الممثل المصري عمرو واكد. وتدور القصة حول أحد أثرياء اليمن المقيم في أسكتلندا الذي يريد أن ينقل رياضة صيد السلمون التي يعشقها من ربوع أسكتلندا إلى سهول اليمن، في خطوة شبه مستحيلة، ولكنه يتمكن من تحقيقها في نهاية المطاف.
ورغم أن الفيلم ليست له صلة بالجوانب الدينية، فإنه يعالج مفهوم الإيمان والإصرار على تحقيق الأهداف بشكل جعل صحيفة “نيويورك تايمز” (New York Times) الأميركية تلخص الرواية بقولها إنها “رحلة من الشك إلى الإيمان”.
وهذا ليس بالأمر الغريب على كل ما له صلة بالفنون والثقافة في اليمن التي تقدم مفهوما للرومانسية في العالم العربي غير معبر عنه فنيا. فحينما أشاهد أي فيلم يمني تتداعي لذهني فورا أعمال الرسام البلجيكي الهولندي في القرن التاسع عشر بتروس فان شندل الذي اشتهر برسم مظاهر الحياة اليومية الليلية مستخدما -في لوحاته- إضاءة مصدرها الشموع التي تضفي على اللوحات مسحة رومانسية حالمة تشبه إلى حد بعيد مظاهر الطيبة والأصالة التي تطل من عيون اليمنيين في هذه الأفلام.