علامة استفهام (44) | هل أنت حقيقي؟ | آراء
(1)
يبدو أن العالم الذي نعيش فيه هو العالم الافتراضي، وليس ذاك الذي نتواصل فيه من خلال شبكات التواصل الاجتماعي وغيرها.
نحن أيها السيدات والسادة غير حقيقيين، ومن حولنا غير حقيقيين، وما نراه غير حقيقي، وما نشعر به غير حقيقي، فتلك الحضارة المتوحشة قد غيرت كل شيء فينا، نحن نختفي وراء أقنعة، ونتكلم بما لا نؤمن به، ونفرح لما يجب أن نغضب منه، كل شيء فينا تلوث تقريبًا، التراب يعلونا، والصدأ يزمجر داخلنا.
(2)
اسأل نفسك، لو وُلِدت على جزيرة معزولة، وكبرت بعيدًا عن أعراف المجتمع وتقاليده وقوانينه البائسة، لم تسمع أو تشاهد كل هذا الهراء من ضخ وسائل الإعلام، ولم تدرس الفلسفة ولم تسمع عنها، ولم تصل لك نظريات القرد الذي تطور، ولم يلقنوك أن الوطن هو سيادة الرئيس، أي رئيس، حتى لو كان “علي بابا والأربعين حرامي”، ولم تأكل أطعمة فاسدة، أو خضروات غذيت بأسمدة كيمياوية، ولم تتناول لحومًا كبروها على عجل، ولم تتعرض لإشعاعات الأجهزة الإلكترونية، وأسست بيتك وعائلتك ما إن وصلت سن البلوغ، فلم تعان كبتا، إلى آخر ما يمكن أن تتصوره، هل كنت ستصبح نفس الإنسان الذي أنت عليه الآن؟
إذن، أنت لست أنت، وأنا لست أنا.
أكثر شخص حقيقي فينا هو أكثر شخص استطاع أن يتخلص من أعلى نسبة من هذا الزيف الذي فُرض علينا، أي بمقدار الزيف الذي تخلصت منه أنت حقيقي.
جاء في كتابات الشاعر الإيطالي دانتي في “الكوميديا الإلهية”: يوم يسمح الإنسان للحب الحقيقي بأن يتجلى، سوف تتزعزع الأشياء المقولبة وتمسي في فوضى، وستحيط الريبة بكل ما نعتقده يقينًا أو حقيقة
هل بوسع علماء الطبيعة، الدارسين للحيوانات والطيور أن يبلغونا ما إذا كانت الحيوانات يمكن أن تتم معاشرة بين نفس الجنس، هل الحيوان الذكر ينزو على ذكر آخر، لا أظن ذلك، هذا ببساطة لأن فطرتها ما زالت على ما خلقت عليه، أما نحن فإنا في طريقنا إلى إصدار قوانين تجرم كل من ينكر “حق” الممارسات الشاذَّة.
شئنا أم أبينا نحن غير حقيقيين، حتى كاتب هذه السطور الذي يعلن نظريته غير حقيقي، وكل ما يفعله أنه يحاول أن يزيل التراب من داخله، أما تراب الخارج فقليل من الماء كفيل به.
تخيلوا أن الأمر قديم، من أيام سيدنا نوح الذي دعا قومه إلى الهدى، لكن الله العظيم يخبرنا أن الأمر قد التبس على قومه ولم يتمكنوا من أن يروا الواقع على حقيقته.
“قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعُمّيت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون”.
عمّيت عليهم، وعُمِّي علينا.
(3)
هو لم يخدعها، هو كان فعلا “يظن” أنه يحبها، لكن الأيام كشفت له أن الأمر ليس كما كان يظن، وأن مشاعره لم تكن حقيقية.
أو هي ربما ظنت أن ما يدور بداخلها إنما هو حب حقيقي، ونسيت أن ما بداخلها غير حقيقي.
لذا أصبح على كل شخص، فضلا عن الفحوصات الطبية، ودراسة وسائل تربية الأولاد التي دعوت إليها يومًا، أن يتفحص بدقة مشاعره، مشاعره الحقيقية، دون زيف، وهو أمر ليس بالسهل أبدًا.
لقد تم تشويه فطرتنا، كما تم تشويه المعاني.
الشيطان ليس ساذجًا إلى حد أن يكتفي بأن يدعوك إلى نظرة حرام أو قرش حرام، وإنما سيفعل أكثر من ذلك، وهو يسبح في مجرى دمك، سيشوّه المعنى الحقيقي، الأفلام والأغاني والتقاليد، والمفاهيم الدينية المغلوطة، وغيرها وغيرها ستشوه هذا الشعور التلقائي الجميل، وتفقدنا القدرة على التعامل معه، وعلى حفظه ورعايته، وعلى إطالة أمده.
نعم للشيطان دور عظيم، لكن حتى لا نظلمه فإن منا من تفوق عليه، وجعله يقف مكسورًا أمام ما يرتكبه بعض البشر.
شيء مخيف أليس كذلك؟ يدعوك لأن تشك في كل شيء، ما الحقيقي فيك؟ وما المزيف؟
(4)
هل آمنّا حقًّا؟
نعم المؤمن الحقيقي يرتكب الذنوب، ليس معصومًا من الخطأ، لكن بداخله إيمان حقيقي وليس مزيفًا، هو في حياته اليومية كأنه يرى الله جهرة، يخافه، إلى أن يغلبه الشيطان مرة فيقع في ذنب، لكن المعاني واضحة: الله، الآخرة، أما الآن فيمكن للمرء أن يكون حريصًا على إقامة الصلاة، باذلًا جهده لأداء فريضة الحج، لكنه في نفس الوقت يأكل مال اليتيم، وينهب إرث أخته.
تناقضات صارخة، لأن الإيمان غير حقيقي، إيمان ظاهري، موروث من الآباء والأمهات والمجتمع، مثل أي شيء آخر نتوارثه.
المنافقون لم يكن إيمانهم حقيقيًّا، لكن الذين كانوا مع النبي صلوات الله عليه وسلامه، شهدت حياتهم تحولًا دراماتيكيَّا، في نظرتهم لأنفسهم، ولآبائهم وأمهاتهم، لمجتمعهم، لوطنهم، لسلوكهم اليومي؛ لأن إيمانهم كان حقيقيًّا، وعندما نحاول الآن أن نفعل مثلهم نجد صعوبة بالغة، فلا أعيننا تبكي في الصلاة مثلهم، ولا قلوبنا تخشع، ولا سلوكنا يستقيم، لذا عند أول أزمة، أو أول فتنة ننهار ونفرط، فما بداخلنا لم يكن حقيقيًّا.
(5)
لا يمكن أن تكون حبيبًا صالحًا وأنت تكره الآخرين، المختلفين عنك، معتقدًا أو لونًا أو شكلًا، الحب لا يتجزأ، إذا كان قلبك عامرًا بحب حقيقي فسوف توزعه على الجميع، صحيح سوف تخص شخصًا بعينه بنصيب الأسد، لكن من غير الطبيعي أن يجتمع في قلبك الحب والكراهية في نفس الوقت.
سوف تلحظ ذلك جيدًا، عندما تخرج من باب بيتك، ستُلقي السلام على الشجرة التي تمرّ بها، ستلاعب القطة الراقدة، ستوزع ابتساماتك على جيرانك.
جاء في كتابات الشاعر الإيطالي دانتي في “الكوميديا الإلهية”: يوم يسمح الإنسان للحب الحقيقي بأن يتجلى، سوف تتزعزع الأشياء المقولبة وتمسي في فوضى، وستحيط الريبة بكل ما نعتقده يقينًا أو حقيقة.
عندما تحب بحق تكون على صورتك الأولى، حقيقتك المجردة.
(6)
لا ينمو الحب الحقيقي ويزدهر إلا إذا كنت حرًّا.
العبد لا يعرف كيف يحب حتى إن كان يجيد كل مصطلحات الحب، وأدوات الرومانسية.
العبد لن يكون أبدًا حبيبًا صالحًا، ففاقد الحرية ليس عاشقًا حقيقيًّا.
المؤمن لن يكون مؤمنا حقيقيا إلا إذا كان حرًّا.
عبد الله حر حتى إن كان مسجونًا.
الحرية هي الخطوة الأولى لاسترداد نفسك الحقيقية.
راجع كل ما بداخلك، وأزل عنه التراب، وعد به إلى “ضبط المصنع”.
ستعرف أنك حقيقي عندما تشعر بالغربة.
عندما ينفضُّ عنك بعضهم.
عندما تكون لك القدرة على كشف الزيف.
عندما يكون خارجك مطابقًا لداخلك تمامًا.
عندما تغضب فلا يخرج منك قبح.
فالغضب يظهر ما بداخلنا.
كن حقيقيًّا حتى لو كان الثمن غاليًا.