منبر صلاح الدين.. تحفة فريدة تزين المسجد الإبراهيمي | الموسوعة
منبر صلاح الدين، أقدم منبر إسلامي ما زال قائما وعلى حاله، ويزين المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل جنوبي الضفة الغربية، وهو تحفة فريدة صنعت من الخشب بأياد مصرية، مع أن هذا السلطان الأيوبي لم يأمر بصناعته. وقد مر المنبر برحلة طويلة من القاهرة إلى عسقلان ليصل الخليل.
ويعد كتابا “رقوم المسجد الإبراهيمي” للباحثين يونس عمرو ونجاح أبو سارة عام 1989م، و”الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل” لمحيي الدين الحنبلي (كتب بين عامي 1455 و1521) مصدرين مهمين حول تاريخ المنبر والرقوم (الكتابات) التي تزينه وتزين عموم المسجد.
التصميم والبناء
لم يحمل منبر صلاح الدين هذا الاسم عند تصميمه وصناعته، وإنما صنع في عهد الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، كي يوضع في مشهد (مسجد) عسقلان قبل نقله إلى القاهرة لاحقا حسب بعض الروايات. ويصف الرحالة المغربي ابن بطوطة المشهد بأنه “مسجد عظيم سامي العلو”.
ووفق المصادر التاريخية فإن المنبر صنع زمن المستنصر، بأمر من وزيره أبي النجم بدر الجمالي عام 484 هـ (1091م) ليوضع في المشهد، كما هو موثق في رقوم المنبر، وهي التوثيقات الكتابية التي تزخرفه.
وبعد تحرير عسقلان من الصليبيين عام 1191، أمر صلاح الدين الأيوبي بنقل المنبر من مشهد عسقلان إلى المسجد الإبراهيمي بمدينة الخليل، والذي أعاد له هويته بعد أن حوّله الصليبيون سنة 568هـ (1172م) إلى كنيسة، وعلّقت عليه لوحة معدنية كتب عليها “منبر صلاح الدين”.
ووصف الحنبلي المنبر قائلا “هو من الخشب، في غاية الإتقان والحسن، وهذا المنبر عمل في زمن المستنصر بالله أبي تميم معد الفاطمي، خليفة مصر، بأمر بدر الجمالي مدبر دولته برسم (مشهد عسقلان) الذي زعمت (الطائفة) الفاطمية أن به رأس الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما”.
الرقوم والكتابات
تُزين المنبر رقوم وكتابات من آيات قرآنية وأحاديث نبوية، وعبارات التمجيد للحسين وعلي بن أبي طالب والخليفة والمذهب الشيعي.
وباستثناء صفائح تربط بين أجزائه الثلاثة، جهز المنبر من الخشب المعشق، أي أنه لم تستخدم فيه مسامير أو أسلاك أو حبال وغيرها من أدوات الربط، وإنما صنع بطريقة الخرط والتعشيق والنقر، وما عرف بنظام المشربية في الصناعات الخشبية، وفق الباحثين عمرو وأبو سارة.
ويتكون المنبر من 3 أقسام: المدخل والمنصة والجسم (الهيكل) وكل منها تنافس الأخرى في الروعة والجمال.
وتُقابل المتجه إلى المنبر لوحة كتابية تعلو المدخل من 6 أسطر بالحروف البارزة والمذهبة، مزينة بالحفر والنقش، تعلوها تجاويف ملونة يغلب عليها الذهبي.
وكتبت اللوحة بلا تشكيل وعلامات إعجام بطول 89 سنتيمترا وارتفاع 27 سنتيمترا، ومما جاء فيها “بسم الله الرحمن الرحيم. نصر من الله وفتح قريب، لعبد الله ووليه (…) الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه البررة” وفق تحقيق وتعجيم الباحثين عمرو وأبو سارة.
كما يوثق الرقْم في السطر الأخير مكان وضع المنبر قبل وصوله إلى مسجد عسقلان “مشهد أمير المؤمنين أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب، صلوات الله عليهما، في شهور سنة أربع وثمانين وأربعمائة”.
ويلتف شريط كتابي منقوش ومحفور بعبارات الثناء وآيات القرآن بخط كوفي، حول المنبر من 3 جهات، وتبدأ الكتابة من أسفل الناحية الغربية يمين المتجه إلى المنبر، مرورا بأعلى المحراب وانتهاء بأسفل الجهة اليسرى.
ويتكون المنبر من 9 درجات تتصدر كل منها واجهة خشبية محفورة ومزخرفة، وتنتهي إلى المنصة، بينما تُزين الدرابزينَ يمنة ويسرة آياتٌ قرآنية وكتابات منقوشة ومحفورة.
أما المنصة فهي مقصورة مسقوفة، يقوم سقفها على 4 دعامات خشبية، يعلوها تاج مزخرف تعلوه بدوره مقرنصات فوقها هلال.
في حين أن هيكل المنبر -الذي يحمل المكونات الثلاثة- عبارة عن قطع خشبية حفرت وعشقت ببعضها البعض، في أشكال هندسية خماسية وسداسية ونجمية.
ترميمات حديثة
يقول الباحث محمد أبو صالح، الذي عمل لعقود داخل المسجد من خلال وظيفته في دائرة الأوقاف الأردنية ثم الفلسطينية، إن المنبر خضع لترميمات طفيفة في العهد العثماني دون تغيير في مظهره ومكوناته، وإنما في دهان بعض أجزائه وخاصة المقرنصات الملونة.
وأشار -في حديث للجزيرة نت- إلى أن المنبر مكون من قرابة 3 آلاف قطعة خشبية، وهو الأقدم من نوعه في العالم الإسلامي، ويحيط به اليوم زجاج يمنع الزوار من الوصول إليه.
ويقع المنبر إلى يمين المحراب، حيث قام أحد اليهود بارتكاب مجزرة داخل الحرم الإبراهيمي عام 1994 راح ضحيتها 29 مصليا. ويتوسط صفوف الصلاة الأولى.
ويشير نقشان حديثان إلى إصلاح المنبر، فقد دُوّن فوق رأس الجالس على منصة المنبر “صَلّح منبر الحرم الإبراهيمي الشريف محمد مصطفى المصري بمنيل الروضة (في القاهرة)، رحمه الله تعالى دنيا وأخرى سنة 1357 هـ”.
ويظهر في النقش الثاني “صنع دهان هذا المنبر مرتضى حسين عويضة الدويك سنة 1356 هـ”.
المسجد الإبراهيمي
ينسب المسجد الإبراهيمي إلى النبي إبراهيم الخليل عليه السلام، إذ تشير مصادر تاريخية إلى أنه مدفون في مغارة أسفله بعمق عشرات الأمتار، إلى جانب زوجته سارة، والأنبياء إسحاق وإسماعيل ويعقوب ويوسف وزوجاتهم عليهم السلام، وداخل المسجد حجرات بأسمائهم بنيت فوق قبورهم.
ووفق وزارة السياحة والآثار الفلسطينية، فقد بنى الملك هيرودس الأدومي حاكم فلسطين (الفترة الرومانيَّة المبكرة) سورا حول مكان الدفن بحجارة منحوتة ضخمة يزيد طول بعضها على 7.5 أمتار، وعرضها يقارب مترا.
وفي الفترة البيزنطية بنيت كنيسة داخل السور، إلا أنها هُدمت أثناء الغزو الفارسيّ لفلسطين عام 614 م. وبعد الفتح العربيّ الإسلاميّ لفلسطين (عام 636-637م) حظي الحرم الإبراهيميّ باهتمام خاص، وأُقِيم المسجد، وبُنيت المقامات، وفق الوزارة.
وطوال العهدين الأموي والعباسي بقي المسجد الإبراهيمي حتى الحروب الصليبية حين حوّله الصليبيون إلى كاتدرائية لمدة 90 عاما. وعام 1187 استعاده صلاح الدين الأيوبيّ وأعاده لسيرته الأولى.
وبقي المكان على حاله إلى أن دخل الاحتلال الإسرائيلي المنطقة في 8 يونيو/حزيران 1967، وظل المسجد صامدا ضد اقتحامات المستوطنين، حتى عام 1994 حين وقعت مجزرة الحرم الإبراهيمي.
وارتكب المجزرة مستوطن، يوم 25 فبراير/شباط 1994، فقتل 29 فلسطينيا كانوا سجدا في الركعة الثانية من صلاة فجر الجمعة 15 رمضان 1414 هجري.
وبعد المذبحة أغلق الاحتلال المسجد 6 أشهر، ثم قررت لجنة إسرائيلية شكلت للتحقيق بالمجزرة تقسيمه، فاقتطعت أكثر من نصفه وحولته إلى كنيس نصرة للجاني على حساب الضحية.
يُذكر أن المسجد يقع في البلدة القديمة من الخليل الخاضع للسيطرة الإسرائيلية الكاملة وفق اتفاق الخليل عام 1997، بين منظمة التحرير الفلسطينية وتل أبيب.