الجذور والهجرة والقيم في رواية إليف شافاق “جزيرة الأشجار المفقودة” | آراء
تمثل الكاتبة إليف شافاق، ذات الأصول التركية، نموذجا فريدا من نوعه في الإبداع الروائي، وقد استطاعت بفضل هذا النموذج أن تلج مضمار العالمية من بابه الواسع، فتسجل اسمها ضمن قائمة أكثر الكتاب المعاصرين شهرة، حتى إن رواياتها أصبحت تترجم إلى عشرات اللغات فتُقرأ في الشرق والغرب على السواء. وقد أصبحت بعض هذه الروايات -مثل قواعد العشق الأربعون أو بنات حواء الثلاث، أو الفتى المتيم والمعلم- تجري على ألسن المهتمين بالأدب في سياقات لسنية وثقافية مختلفة.
وإليف شافاق تسهم، بفضل إبداعها في مجال الأدب، في إيقاظ اهتمام القراء عبر العالم بالتراث التركي الإسلامي، وفي فتح باب العالمية في وجه هذا التراث وحمله إلى آفاق جديدة أوسع من آفاق الثقافة الإسلامية اليوم، وهي تظل مشدودة إليه، يستوطن ذاكرتها، فتفيء إليه وهي في عالم الهجرة بحثا عن الذات والمعنى.
هذه الرواية، في الحقيقة، هي انعكاس لمعاناة إليف شافاق نفسها ولوضع التمزّق الذي تعيشه بين عالمين
وتجلي لنا “جزيرة الأشجار المفقودة” (The Island of Missing Trees)، رواية شافاق الأخيرة، طبيعة العلاقة التي تجمع الكاتبة بالعالم الأصلي الذي تنحدر منه. فالحاصل أن شافاق لا تستعير خصوصية أسلوبها في الكتابة من النطق باسم هذا العالم الذي يظل حيا في مخيلتها فحسب، بل تزيد على ذلك بأنها تحاول أن ترسم له أفقا قيميا جديدا، شأنها في ذلك شأن كل مهاجر ينأى عن وطنه الأم يَوَدّ لو كان بمقدوره أن يستنبت قيم أجداده في منظومة بلدان الهجرة القيمية، ولو كان بمقدوره كذلك استنبات قيم مجتمع الهجرة في فضائه القيمي الموروث.
الهوية والقيم بين الجذور والهجرة
تعكس “جزيرة الأشجار المفقودة” معاناة الإنسان حين يكون مُوزَّع المُيول بين عالمين مختلفين، عالم الجذور الذي ينحصر عن النظر ليسكن القلب والنفس والذاكرة حتى يكاد يتحول إلى مجرد فكرة غامضة، وعالم الهجرة والمنفى والتيه، عالم الحقائق المحسوسة الملموسة.
هذه الرواية، في الحقيقة، هي انعكاس لمعاناة إليف شافاق نفسها ولوضع التمزّق الذي تعيشه بين عالمين. فالقارئ المتتبع لأعمال شافاق الإبداعية يدرك أن هذه الرواية بالتحديد هي تتويج لمسار طويل من البحث عن صيغ التوفيق بين التراث والحداثة، بين الأصالة والمعاصرة، بين الشرق الروحاني الساحر والغرب المادي العقلاني، بين منظومة قيمية محافظة وأخرى ليبرالية.
لا يخفى اهتمام شافاق بالتراث الصوفي ومحاولتها توظيف بلاغة التصوف لطمس معالم الاختلاف والخلاف بين عالمين متنافرين، طلبا لتحقيق الانتساب المزدوج إليهما معا. فهي تريد أن تكون امرأة ذات هوية مركبة، امرأة تركية شرقية مسلمة محافظة، وأوروبية غربية علمانية ليبرالية، الأمر الذي يقتضي الإفصاحُ عنه لغةً غير لغة الوضوح العقدي. وقد ذهبت شافاق مذهبا بعيدا في توسلها بلغة الغموض والرمز الصوفيين في روايتها هاته، حتى إنها ألغت الحدود الفاصلة بين الهويات، واستوت عندها كل القيم. وبهذا أنزلت نفسها مكانة صارت عندها وكأنها مثقفة “بلا قضية”، همها الإبداع من أجل الإبداع، دفعا لحيرة السؤال.
تقول شافاق في معرض وصفها لحال التمزق الذي تعيشه “إيدا”، بطلة روايتها المراهقة الحائرة، إن “كل واحد منهما، أي الأسقف والإمام، كان يحاول إقناعها باعتناق ديانته والاصطفاف إلى جانبه. إلا أنها، وكما صار يبدو لها كل مرة بوضوح أكثر، اختارت الفراغ والعدم، تحتجب وراءهما عن الآخرين، كمن يختبئ وراء صَدفة خفيفة تحيط به من كل جانب. وبعد أن أطلقت صرختها المدوية داخل الفصل الدراسي أثناء الدرس الأخير، شعرت بشيء من السمو، وكأنها لم تكن قط حبيسة حدود جسدها”.
تصرخ إيدا لتتحرر من حالة الحيرة والقلق التي ورَّثَها إياها أبوها اليوناني المسيحي وأمها التركية المسلمة. بقدر ما اجتهدا الوالدان في قطع صلاتها بجذور هويتها القبرصية المُمزّقة، بقدر ما عجزت عن أن تَثْبُت على هوية في بيئتها اللندنية.
كل شيء في رواية شافاق يدور حول التسامي. فكما تحاول إيدا أن تسمو بصراخها عن حدود الواقع المادي، وهي تفتقر إلى جذور، حاول أبوها وأمها من قبلها أن يسمُوَا بحبهما عن واقع الصراع الطائفي الدائرة رحاه في قبرص بين اليونانيين والأتراك. هذا على أن مقابل هذا التسامي هناك تمسك بالجذور وسعي لغرسها في تربة غير تربتها الأصلية. فأبو إيدا، الخبير بعالم النبات، جاء من قبرص بفروع من شجرة تين ليدفنها في حديقة المنزل بشمال لندن، وصار يتعهدها حتى تتأصل وتكبر. حين تسأله ابنته: “لماذا تتحدث دائما إلى شجرة التين؟” يجيبها: “إنها تحسن الإصغاء”، وهو يعلم أن الأشجار هي مخزن الأسرار، وأن شجرة التين التي حملها معه قد تبوح في يوم من الأيام بما صمت عنه هو وزوجته أمام ابنتيهما.
شافاق اجتهدت كي توسع الفضاء الروائي حتى يستوعب أسئلة العصر الحارقة، مثل سؤال البيئة وسؤال القيم الجديدة التي هي محط خلاف بين الثقافة الغربية والثقافة الإسلامية اليوم، وعلى رأسها قيم الأسرة.
الشجرة الناطقة بالأسرار
لعل أفضل ما في رواية شافاق “جزيرة الأشجار المفقودة” هو إعارة شجرة التين صوتا يُمكِّنها من التحدث، مثلها مثل باقي شخوص الرواية. فبهذا استطاعت الروائية أن تأتي بسردية جديدة تُنبِّه إلى وجود الطبيعة وجودا حقيقيا لا يختلف ولا يقل أهمية عن وجود الإنسان.
فللأشجار لغة مقررة تتخاطب بها فيما بينها ومع العالم المحيط بها، غير أننا لا نفقه ما تقول. حين دفن كوستاس أبو إيدا شجرة التين كما دأب أن يفعل مع دخول موسم البرد، طمأنها قائلا: “سآتي لأتحدث إليك كل يوم.. لن تشعري بالوحدة”. وتقول الشجرة في نبرة ملؤها التأسف على جهل الإنسان: “كم تمنيت لو أخبرته أن مفهوم الوحدة بدعة بشرية. الأشجار لا تعرف الوحدة أبدا. يتوهم البشر أنهم يعرفون على وجه اليقين أين ينتهي وجودهم ليبدأ وجود الآخرين”.
ليس كلام شجرة التين في “جزيرة الأشجار المفقودة” مجرد ضرب من الهذيان الرومانسي الفارغ؛ بل هو كلام ينبئ عن جهد بحثي كبير ومعرفة عميقة بخصائص الطبيعة. تقول الشجرة في معرض شجبها لجهل الإنسان بالشجر: “أظن أن البشر يتحاشون عمدا معرفة المزيد عنا، فقد يكمن السبب في كونهم، في الأصل، متوجسين مما قد يكتشفونه. فهل يهمهم، على سبيل المثال، أن يعرفوا أنه بإمكان الأشجار أن تتكيف مع محيطها فتغير سلوكها لبلوغ مقاصد معينة، وأنه، إذا صح هذا الأمر، فقد لا يعتمد المرء بالضرورة على الدماغ حتى يكون ذكيا؟”. من يقرأ كتاب “الشعور والمعرفة” (Feeling and Knowing: Making Minds Conscious) لصاحبه أنتوني دامسيوس، مثلا، يدرك كيف أن شافاق تستعير لغة العلم ونتائج الأبحاث العلمية وتفاصيل النقاش الدائر في الفضاء الفلسفي وهي تتحدث على لسان شجرة التين لتبرز كيف كان الإنسان ظلوما جهولا.
خلاصة القول في الرّاوي والرّواية
لا شك في أن إليف شافاق قد أبانت في روايتها “جزيرة الأشجار المفقودة” عن غزارة أدب وعلم، وأنها قد وضعت أصلا في السرد لم تُسبَق إليه بإعارتها شجرة التين صوتا ينطق باسم الطبيعة. فقد استطاعت بذلك أن ترسخ معاني لطيفة تذكر القارئ بحجم الإنسان الطبيعي في هذا الوجود. ولعل مما يزيد إحساسنا بهذا الحجم قوة هو خاتمة الرواية الباهتة؛ فالظن عندنا هو أن الرّاوِية تعمدت بهذه الخاتمة التأكيد على أن قصة الإنسان ليست القصة المحورية في هذا الكون، بقدر ما هي تفصيل صغير من تفاصيله.
لم تتوسل شافاق بالسرد لأجل السرد فقط، بل لأجل صياغة إشكاليات ذات طبيعة فلسفية، الإشكاليات التي تؤرق الإنسان على الحدود بين الأحياز الثقافية المختلفة، وعلى رأسها إشكالية الجذور. تجابهنا رواية “جزيرة الأشجار المفقودة” بسؤال محوري، ألا وهو: “هل الجذور تُحمل ويمكن نقلها من مكان إلى مكان آخر؟ ومتى يمكن أن تثمر؟”.
كما أن شافاق اجتهدت كي توسع الفضاء الروائي حتى يستوعب أسئلة العصر الحارقة، مثل سؤال البيئة وسؤال القيم الجديدة التي هي محط خلاف بين الثقافة الغربية والثقافة الإسلامية اليوم، وعلى رأسها قيم الأسرة. وإذا صح القول بأن التوفيق كان حليفها في إثارة هذه الأسئلة، فلا يقل صحة أنها كانت أميل إلى تشرب قيم الأقليات كما يتحدد مدلولها في الثقافة الغربية اليوم.
وعلى الرغم من حسن البيان وبراعة الصنعة التي ميزت “جزيرة الأشجار المفقودة”، فإن الرواية، في اعتقادنا، تصب في ترسيخ منهجية مهيمنة في التعامل مع قضية البيئة، منهجية تطمس معالم الحدود بين الذوات بطريقة تدخل الجميع في شكل من أشكال وحدة الوجود، فتطمس بذلك معالم الفرق بين الحق والباطل والخير والشر، الأمر الذي يُعفي المسؤولين الحقيقيين عن تدمير البيئة، على سبيل المثال، من تحمل مسؤوليتهم.
وإذا صح أن الشجر يستطيع أن يبوح لنا بالأسرار، فلا يقل صحة أنه ينطق بلسان من يستنطقه، وإليف شافاق اختارت، وهي تحاول أن ترسم أفقا قيميا جديدا، أن تستنطقه بلسان الأقليات من المنفى، لا بلسان الأغلبية من الداخل.