الصحفي في السينما المصرية.. كاشف الفساد الباحث عن المتاعب | فن
في القطار من القاهرة إلى الإسكندرية، تتخفى الصحفية “سوسن” (آثار الحكيم) خلف نظارة شمس سميكة، تراقب من بعيد السيناريست الفاشل “رامي قشوع” (ممدوح عبد العليم) ولقاءه الإرهابي “مجدي” (أحمد بدير)، وتسجل ملاحظاتها على جهاز تسجيل صغير، معتقدة أنه سبق صحفي خطير. لكن سرعان ما تتطور الأحداث وتجد الصحفية الشابة نفسها في مواجهة الموت مع رامي، إذ يصوّب الإرهابي مسدسه نحو رأسها، ويأمرها بالقفز من القطار.
جاء ذلك في فيلم “بطل من ورق” (1988) للمخرج نادر جلال. ومع أن الفيلم قدّم صورة الصحفية سوسن بصورة هزلية تماما، فإنه يبقى واحدا من أهم أفلام السينما المصرية في رسم صورة إيجابية لدور الصحفي في كشف الحقيقة، على الرغم من تورّطه في مأزق تقديم صورة الصحفي الباحث عن “السبق” المهني، أيا كانت الظروف. والسبق هنا يتمثل في كشف الستار عن سلسلة من الجرائم التي يرتكبها مختل نفسيا، وتهدد أمن المجتمع.
السبق الصحفي
هذا السبق يختلف بالتأكيد عن السبق الذي يبحث عنه عبد الحليم حافظ وعبد السلام النابلسي في “يوم من عمري” (1961)، إذ يقدمان دور الصحفيين المكلفين من جانب رئيس التحرير (محمود المليجي) بالحصول على السبق بأي طريقة، حتى وإن كان عبر الغش والغدر، وهو ما يستجيب له الصحفيان الفقيران، أملا بسداد ديونهما. وتأتي لهما فرصة العمر على طبق من ذهب، إذ يتعرفان على ابنة المليونير (زبيدة ثروت) التي سرعان ما يقع حافظ في حبها. ويدفعه الحب -وليس الأمانة المهنية- إلى رفض نشر تحقيقه، فيتسلل مع صديقه لسرقة الصور من المطبعة قبل النشر.
وعلى الرغم من أن الفيلم يعد من أهم أفلام العندليب الأسمر الكلاسيكية، التي عادة ما تمزج الكوميديا والرومانسية، فلا يمكن نزعه من سياقه التاريخي في ذروة عصر الرئيس جمال عبد الناصر، إثر تأميم الصحافة التي صارت واحدة من أدوات السلطة للتحكم بالرأي العام. ولا يجد الفيلم أي مشكلة في ذكر اسم جريدة “أخبار اليوم” مباشرة على عكس الأفلام الأخرى.
الصحافة والسلطة
في فيلم “زوجة رجل مهم” (1987)، نرى مواجهة لا تنسى بين ضابط أمن الدولة أحمد زكي والكاتب الصحفي الذي اعتقله عقب انتفاضة يناير/كانون الثاني 1977 واتهمه بالشيوعية، يجمعهما مقهى بالصدفة بعدما خسر الضابط منصبه وصار بلا سلطة. يسأله الصحفي إذا كان عمله في القبض على الصحفيين هو خدمة البلد؟ وما اللذة الغريبة التي يشعر بها إذا لفق التهم لهؤلاء الباحثين عن الحقيقة؟!
هذه المواجهة بين الصحافة والسلطة تتكرر في أفلام السبعينيات، من انتقاد عهد الرئيس أنور السادات إلى فضح جرائم السلطة في عهد جمال عبد الناصر، في فيلم “زائر الفجر” (1973) الذي منع من العرض، إذ تُعتَقل الصحفية نادية الشريف (ماجدة الخطيب) بسبب مواقفها السياسية، وتتعرض لتعذيب قاسٍ، ما يتسبب بإصابتها بأزمة قلبية حادة، وتدفع حياتها ثمنا لمهنتها.
خلال الستينيات من القرن الماضي، حيث عبد الناصر يؤمم الصحافة ويعتقل صحفيي المعارضة ويكمّم الأفواه، نرى صورة الصحفي المشوّهة في “اللص والكلاب” (1962) عن رواية نجيب محفوظ، حيث كمال الشناوي في شخصية رؤوف علوان، صحفي بلا مبادئ يتحالف مع السلطة ويخون صديقه.
أفلام حرب أكتوبر
في السبعينيات، يقدم يوسف شاهين فيلمه “العصفور” (1972) عن رؤيته لواقع مصر بعد نكسة يونيو/حزيران 1967، ويربط أسباب النكسة بالفساد. وهو الفيلم الذي منع من العرض في مصر قبل “حرب أكتوبر” (1973)، وسمح بعرضه عقب ذلك.
في “العصفور” نرى صلاح قابيل في دور الصحفي الشريف يوسف ينشر تحقيقاته عن الفساد، ويكشف الحقيقة عن عصابة تسرق أحد مصانع القطاع العام في أسيوط. المصنع بدأ إنشاؤه قبل 6 سنوات ولم يكتمل بناؤه حتى الآن، بسبب سرقة معداته، بينما البلد تستعد لمعركة مصيرية ضد العدو الإسرائيلي.
في كتابه “الفيلم السياسي في السينما المصرية”، يرصد محمود قاسم تكرّر نموذج الصحفي صاحب الدور السياسي في الأفلام التي أنتجت عن “حرب أكتوبر”، في “العمر لحظة” (1987) -كتبه يوسف السباعي- حيث تسافر الصحفية نعمت (ماجدة) لزيارة الجرحى على الجبهة وتقترب من المقاتلين وتحل مشكلاتهم.
وفي “أبناء الصمت” (1974)، تعترض الصحفية الشابة على مواقف رئيس التحرير السلبية، فيدافع عن نفسه متحدثا عن معاناته من الاعتقال في السجن السياسي، مستنكرا “لا أحد يتذكر لي ذلك، الجميع يظنونني نبيا؟ وينتقدونني ويتطاولون، لا يعرف عذاب المعتقل، إلا من تعرّض له”.
ويرى قاسم أن الفيلمين بمثابة إدانة للصحفيين الكبار، الذين يبدون بالغي السلبية تجاه ما يحدث، ويكتبون الشعارات، لكننا نرى الصحفيين الشبان أكثر حماسة لمناصرة الجنود في الجبهة.
الصحفي والعدالة
قدم عادل إمام أحد أهم شخصيات الصحفي في السينما المصرية في فيلم “الغول” (1983)، سيناريو وحيد حامد وإخراج سمير سيف. صحفي شاب متواضع الحال يكتب أخبار الفن، ويصف ما يكتبه بأنه “كلام فارغ”، لكنه ينتفض للدفاع عن حق عامل حانة فقير قتله ابن رجل أعمال شهير. لا تربط الصحفي أي علاقة بالضحية، لكنه يريد فقط أن يعود الحق لأصحابه وتتحقق العدالة.
للأسف ينتهي الفيلم بمحاكمة ظالمة، ويحصل القاتل على البراءة، وتتم إدانة الصحفي بإزعاج القاضي، ليقرر عادل أنه سيحقق العدالة بيده، ويقتل رجل الأعمال بيديه. هكذا تتحقق العدالة. وهو السؤال الذي شغل وحيد حامد في أفلامه في تلك الفترة، وكان “الغول” رسالته لكشف الفساد في ظل سياسة الانفتاح في عهد الرئيس أنور السادات، حتى أن الرقابة الحكومية رأت أن الفيلم “يقلب الطبقات الاجتماعية على بعضها، وضد النظام القائم في البلاد”.
التسعينيات وحرية الصحافة
كانت التسعينيات أكثر العقود اهتماما بصورة الصحفي في السينما المصرية، لعل ذلك تزامن مع حرية نسبية للتعبير في العقد الثاني من عهد حسني مبارك، إذ انتشرت الصحف المعارضة، وانطلقت الفضائيات مع هامش معين من الحرية.
قدمت نجمة شباك التذاكر حينها نبيلة عبيد فيلم “قضية سميحة بدران” (1996)، ولعبت دور صحفية شجاعة تخوض بنفسها مغامرات الكشف عن الفساد.
بالغ الفيلم في تقديم صورة الصحفية الخارقة، التي لا يمكن إجبارها على السكوت أبدًا، بداية بمحاولات اغتيالها وتفجير سيارتها وخطف شقيقها، فكل شيء يهون أمام كشف الحقيقة، إلا أنه -وعلى الرغم من كل المبالغات- يبقى مهما في ترسيخ صورة الصحفي الشريف المجتهد والمغامر.
في فيلم “اغتيال” (1996)، يقدم أشرف عبد الباقي الصحفي الذي يطارد الأحداث، محاولا إثبات براءة الدكتورة ندى (نادية الجندي) من تهمة القتل. ويحمل أشرف كاميرته ويهتف، كلما شكك أحد في أهميته، أنه يمثل “السلطة الرابعة” (الصحافة)، وتكون كاميرته دليلا يقدمه للشرطة لإثبات براءة ندى.
حظر النشر
في العام ذاته قدم وحيد حامد وشريف عرفة وعادل إمام فيلم “النوم في العسل”، ونرى فيه الصحفية المبتدئة المتحمّسة سلمى (شيرين سيف النصر) التي تتحالف مع ضابط المباحث العميد مجدي للبحث في ظاهرة غامضة تطال المواطنين في أرجاء القاهرة والجيزة. في البداية ينصحها الضابط بألا تخاطر بمستقبلها بنشر خبر لا يثبت صحته، لكنه لاحقا يواجه محاولات السلطة إنكار ما يجري، فيلجأ إلى الصحفية ويشجعها “الحقيقة قدامك.. يلا (هيا) انشريها… شوفي أي طريقة توصّلي بيها (بها) الحقيقة للناس”.
تحاول الصحفية إقناع رئيس التحرير بالنشر، تخبره أنه إذا رفض النشر فستنشره الصحف الأخرى. يقرر أن ينشر الموضوع بالتلميح والإثارة والغموض وخفة الدم، ما يعكس واقع الصحافة في التسعينيات، حيث المجال مفتوح نسبيا لصحف قومية ومعارضة ومنافسة كبيرة في تناول القضايا التي تهم الرأي العام، لكنّ قرارا يصدر بحظر النشر يشعل الأحداث، حتى الصحافة تصبح عاجزة عن إيصال الحقيقة إلى الشعب، فيكون الحل الوحيد هو الثورة.
سينما الألفية
من الكوميديا السياسية إلى الكوميديا الخالصة، في مطلع الألفية الثالثة، يقدم محمد هنيدي وحنان ترك فيلم “جاءنا البيان التالي” (2001)، ويخوض المذيعان الشابان مغامرة صحفية جريئة يتقمص فيها هنيدي شخصيات مختلفة من المتأخر عقليا إلى فتاة الليل، من أجل كشف حقيقة تهديد صحفي شهير وقضية فساد في أحد مصانع الألبان.
كما قدم الفيلم صورة مشرّفة للمذيعة (حنان ترك) التي ترفض بإصرار بيع مبادئها، وترفض تغيير محتوى تقرير تلفزيوني أعدته عن ليلة رأس السنة، بينما يقرر هنيدي الرضوخ لأوامر رئيس القناة.
وفي “احكي يا شهرزاد” (2009) يقدم وحيد حامد ويسري نصر الله فيلمهما عن القمع، نقترب من علاقة زوجية شائكة بين صحفي شاب شديد الطموح يضع عينيه على منصب رئيس التحرير، ومذيعة شابة تقدم حكايات النساء في برنامجها التلفزيوني، وكيف يمكن للأول أن يضحي بمبادئه من أجل المنصب، بينما تصمد الثانية حتى النهاية.
في فيلم “السفارة في العمارة” (2010)، كتبه الكاتب الصحفي يوسف معاطي، نرى نموذج الصحفي المعارض الذي يحضر جلسات اللهو مع عادل إمام الذي يجد نفسه متورطا في نضال وطني ضد السفارة الإسرائيلية، ويشجعه الصحفي على الثبات في موقفه، فهو صحفي معارض يعمل في جريدة “لا”، التي يعرّفها إمام بأنها “جريدة لا يعجبها شيء”، في إشارة إلى آخر سنوات عهد مبارك، والذي كان يسمح بهامش من حرية التعبير والصحف المعارضة التي يتيح لها أن تعارضه من دون أن تتجاوز الخطوط الحمر.
وخلال العقد الأخير، يمكن الإشارة إلى دورين مهمين للصحفي في الأفلام المصرية، أولهما دور روبي في فيلم “عيار ناري” (2018)، المتهم بتقديم صورة سلبية عن شهداء ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011. الصحفية هنا تبحث عن سر مقتل شاب سجل كشهيد من ثوار يناير، بينما الطبيب الشرعي يشكك في الرواية.
وعلى الرغم من الإنتاج الضخم والإخراج المبهر في فيلم “الممر”، لمؤلفه ومخرجه شريف عرفة، نرى صورة ساذجة للصحفي الحربي “إحسان” (أحمد رزق)، الذي يرافق القوات المسلحة المصرية في عملية عسكرية خطيرة خلف خطوط العدو الإسرائيلي خلال حرب الاستنزاف عقب نكسة يونيو/حزيران 1967.
يقدم رزق صورة بالغة السطحية للصحفي، الذي “يتطهّر” من الأخبار التافهة التي كان يقدمها في الصحافة ليصبح صحفيا “وطنيا” يغطي المعارك الحربية، لكنه يظهر دائما جبانا خائفا، يسأل أسئلة تافهة لا تعبر عن صحفي يخوض هذه المهمة الباسلة.
ويبدو أن صحفي سينما الثمانينيات والتسعينيات الباحث عن المغامرة أو كشف الفساد أو السبق الصحفي، لم يعد له وجود على شاشة السينما المصرية، كما اختفى تقريبا من الواقع.