العقوبات على سوريا.. فاعليتها وتبعاتها وآليات الالتفاف عليها | سياسة
تعرف العقوبات الدولية بأنها تدابير تقييدية تفرضها المنظمات الدولية أو الدول ضد دول أخرى أو جهات غير حكومية أو أفراد يشكل سلوكهم أو سياساتهم انتهاكا للقانون الدولي وحقوق الإنسان أو تهديدا للسلام والأمن العالمي أو الإقليمي.
وتعتبر العقوبات المفروضة على النظام في سوريا، أحد أهم أدوات الضغط المباشر عليه إن لم تكن الأداة الوحيدة حاليا، ومن هنا تأتي أهمية تتبع عمل هذه العقوبات وفعاليتها وطريقة تجاوب الحكومة معها أو الالتفاف عليها، وموقف المعارضة منها، والتبعات والآثار الحقيقية المترتبة عليها في المدى القريب والبعيد.
تمتلك دمشق تاريخا حافلا بالعقوبات، إذ يعتبر النظام في سوريا من أوائل أنظمة الشرق الأوسط التي شملتها العقوبات، إذ تم إدراج البلد ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب في عام 1979، وهي أيضا الدولة الوحيدة التي لا تزال ضمن هذه القائمة منذ هذا التاريخ.
وتنوع الجهات أيضا، حيث تشمل قائمة الدول التي تفرض عقوبات على سوريا حاليا، كلا من الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وتركيا والاتحاد الأوروبي وسويسرا. وبالإضافة إلى العقوبات التي تفرضها الأمم المتحدة ودول أخرى على كيانات وأنشطة تتعامل مع سوريا، وبالتالي فهي تمس سوريا أيضا ولكن بشكل غير مباشر.
ويمكن تمييز فترتين أساسيتين في تاريخ سوريا مع العقوبات: الأولى، ما قبل 2011 -أي ما قبل اندلاع الاحتجاجات- والثانية منذ عام 2011 وما بعد.
قبل عام 2011
خلال الفترة من 1979 وحتى 2011 فرضت عقوبات على سوريا من طرف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ضمن 3 فئات:
- الفئة الأولى: عقوبات فرضتها الولايات المتحدة على سوريا كـ”دولة راعية للإرهاب” عام 1979 بزعم دعمها وعلاقتها بجماعات مثل حزب الله اللبناني، وبسبب الاحتلال العسكري للبنان.
- الفئة الثانية: عقوبات متعلقة بتطوير أسلحة دمار شامل، بسبب سعي سوريا لتطوير برامج للأسلحة الكيميائية والبيولوجية.
- الفئة الثالثة: عقوبات متعلقة بتقويض الاستقرار في المنطقة، حيث اتُهمت سوريا بالتدخل في شؤون لبنان والعراق، وزعزعة استقرار الشرق الأوسط.
وقد جاءت العقوبات الموزعة على هذه الفئات الثلاث إما على شكل عقوبات موجهة بالأساس لأطراف أخرى ولكن جرى توسيعها لتشمل سوريا أو أشخاصا وجهات سورية، أو على شكل عقوبات تستهدف سوريا على وجه الخصوص، وهذه تتضمن:
- العقوبات المرتبطة بقانون محاسبة سوريا والسيادة اللبنانية لعام 2003
سنته الولايات المتحدة، ويفرض عقوبات اقتصادية تتضمن حظرا على معظم الصادرات الأميركية إلى سوريا، ما عدا الطعام والدواء، وحظرا على الشركات الأميركية التي تعمل أو تستثمر في سوريا، وحظرا على سفر الأميركان على متن طائرات سورية، وخفض العلاقات الدبلوماسية، وقيودا على سفر الدبلوماسيين السوريين إلى الولايات المتحدة، ومنع التحويلات للممتلكات السورية.
وقد بدأ تطبيق هذا القانون في مايو/أيار 2004 في فترة جورج بوش الابن. وجددها باراك أوباما في مايو/أيار 2010.
- قرارات تنفيذية رئاسية أميركية أقرّتها وزارة الخزانة الأميركية بناء على القوانين التي يعدها الكونغرس
تسمي مواطنين سوريين وشركات سورية بعينها، وتحظر عليهم النفاذ إلى النظام المالي الأميركي على خلفية تورطهم في أنشطة إرهابية أو القيام بأنشطة تزعزع استقرار العراق أو لبنان، وبنهاية عام 2010 كان هناك حوالي 20 مواطنا سوريا يقع ضمن حزمات العقوبات هذه.
- عقوبات أقرّها القانون الوطني الأميركي عام 2006
وتستهدف تحديدا البنك التجاري في سوريا، إذ يمنع هذا القانون البنوك الأميركية أو فروعها من التعامل مع البنك التجاري السوري.
بعد وصول أوباما للسلطة عام 2009، رفعت إدارته في فبراير/شباط 2010 القيود على سفر المواطنين الأميركيين إلى سوريا والتي كانت مفروضة منذ محاولة الاعتداء على السفارة الأميركية في دمشق في 2006، وقام بتعيين الدبلوماسي روبرت ستيفن فورد كأول سفير أميركي في دمشق منذ 2005.
بعد اندلاع الحراك ضد الأسد في 2011
بعد عام 2011، ومع اندلاع الاحتجاجات في سوريا وتصاعد المواجهة بين المحتجين والحكومة واستخدام القمع، بدأت الولايات المتحدة وجهات أوروبية وعربية بإصدار عقوبات على النظام، توسعت وتعددت أشكالها ونطاق عملها على مر الأعوام، وكان من أبرزها “قانون قيصر” الذي سنته الولايات المتحدة وبدأ العمل به في 2020، و”قانون مكافحة الكبتاغون” 1 و2.
وتأتي تلك العقوبات في سياق الرد على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتكبها النظام والكيانات والأفراد المرتبطون به. وتشمل العقوبات المالية والاقتصادية، وتقييد حركة الأشخاص وعقوبات دبلوماسية.
وتعد كل من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وكندا وسويسرا وأستراليا أبرز الجهات الفاعلة في فرض العقوبات على سوريا، في حين تراجعت جامعة الدول العربية عن معظم العقوبات التي فرضتها على النظام بعد 2011، وتتحضر تركيا بدروها للمصالحة مع النظام والتراجع عن العقوبات التي تفرضها عليه.
وبحسب الورقة البحثية المنشورة في برنامج بحوث النزاع تحت عنوان “فهم أثر العقوبات على الديناميكيات السياسية في سوريا”، فيمكن تقسيم الفاعلين المستهدفين بالعقوبات منذ 2011 إلى مجموعتين رئيسيتين:
- تضم المجموعة الأولى الفاعلين الذين استهدفتهم العقوبات بشكل مباشر وهم: الجهات الأمنية والعسكرية، مؤسسات ومسؤولون حكوميون، قطاع الطاقة، قطاع المصارف، تجار الحرب ومحاسبو النظام، ومؤسسات وأصحاب أعمال دوليون على علاقة مع الحكومة السورية.
- وتضم المجموعة الثانية فاعلين تأثروا بالعقوبات دون استهدافهم بشكل مباشر وهم: المؤسسات الحكومية غير المعاقبة، قطاع الأعمال التقليدي، المجتمع المدني ومؤسساته، إضافة إلى فئة المواطنين العاديين.
كما يمكن تعيين 3 مراحل رئيسية مرت بها العقوبات في سوريا منذ أبريل/نيسان 2011 وذلك وفق الهدف من هذه العقوبات وطبيعة الفاعلين المستهدفين:
بدأت المرحلة الأولى في أواخر أبريل/نيسان 2011 مع مجموعة من العقوبات على عدد محدد من النافذين، وانتهت في أغسطس/آب 2011 عندما بدأت العقوبات تستهدف المقومات الأساسية للاقتصاد السوري. وكان الهدف المعلن لتلك المرحلة، التي استمرت 4 أشهر، هو تغيير سلوك النظام.
أما المرحلة الثانية، بدأت في أغسطس/آب 2011 وانتهت في مايو/أيار 2014 عندما وسعت الولايات المتحدة نطاق عقوباتها لتشمل لاعبين دوليين يعملون مع الحكومة السورية بما في ذلك البنوك والمؤسسات المالية.
وكان الهدف الرئيسي المعلن هو تغيير النظام السوري من خلال تدمير أسسه وموارده الاقتصادية. وقد تسببت بتغييرات جذرية في العلاقات الاقتصادية للحكومة السورية مع الشركاء التجاريين.
أما المرحلة الثالثة، فمازالت مستمرة منذ مايو/أيار 2014 عندما استهدفت الولايات المتحدة بعقوباتها على سوريا المؤسسات المالية في روسيا.
ويبدو أن عقوبات هذه المرحلة تسعى إلى زيادة القدرة التفاوضية للدول الغربية مع حلفاء النظام لتغيير سلوكه، ولكي يكون لهم نفوذ أكبر في سوريا.
وشهدت هذه المرحلة محاولة الولايات المتحدة الأميركية الحد من أنشطة شبكات الأعمال الدولية المرتبطة بأنشطة مع الحكومة السورية، باستخدام تدابير عقابية مثل قانون قيصر.
التفاف النظام على العقوبات
يقول تقرير “مكافحة الفساد” الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إن الرئيس السوري بشار الأسد وعلى غرار أبيه حافظ الأسد قام بشراء الولاء عبر منظومة محكمة من المحسوبية العائلية وجماعات المصالح، يضاف إليها اليوم أمراء المليشيات “الأثرياء الجدد”.
وبحسب مؤشر “مُدرَكات الفساد” الذي يصدر سنوياً فقد حافظت سوريا على موقعها في مؤخرة القائمة على مدى السنوات الماضية، والأمر نفسه بالنسبة لمؤشر “سيادة القانون” نتيجة تعامل النظام مع العائد المرتبط بالبدائل التي تظهر نتيجة العقوبات الاقتصادية وهذه البدائل في غالبها مصادر كسب غير مشروع، حيث تنشط شبكات الفساد.
ففي سعيه لتجاوز تبعات العقوبات والالتفاف عليها، فتح النظام المجال بشكل واسع أمام مجموعة من الأنشطة الاقتصادية غير المضبوطة من قبل مؤسسات الدولة القانونية، التي لا تخضع للضرائب ولا تُراقب من قبل الحكومة ولا تدخل ضمن الناتج القومي الإجمالي.
هذا النوع من “الاقتصادات اللارسمية”، يظهر عادة في الدول التي تعيش حالة من عدم الاستقرار السياسي أو في حالة حرب، وعقوبات اقتصادية، وفي نظم الدول الاستبدادية.
فعلى سبيل المثال، كشفت تسريبات “وثائق بنما” في 2016، لجوء النظام في سوريا للتعامل مع شركات وهمية للالتفاف على العقوبات الدولية التي تستهدفه. بالمقابل تركز سياسات النظام على استخدام العقوبات لإعادة تخصيص الموارد لصالح الحلقة المحيطة به على حساب عموم السوريين، وفي الوقت نفسه لعزل نفسه عن الانتقادات المتعلقة بأدائه السيئ من خلال تحميل العقوبات مسؤولية كل الفشل الاقتصادي والانهيار الذي تعيشه البلاد.
ويمكن القول إن النظام وبالرغم من العقوبات والعزلة الدبلوماسية التي يعيشها، فإنه حافظ على مستويات عالية من الدخل -نسبيا- من خلال:
- تنشيط الاقتصاد اللارسمي (اقتصاد الفساد): استغلال المساعدات الإنسانية، والتهريب وتجارة الممنوعات، توريد السلع والعملة الأجنبية من مناطق خارج سيطرته.
- اتخاذ إجراءات مالية وإدارية قاسية شملت تخفيض الموازنة لأدنى الدرجات.
- استجلاب دعم الحلفاء، ولو كلف الدولة السورية سيادتها على مرافقها وثرواتها.
- استغلال أزمات أو ظروف الدول المجاورة مثل لبنان والعراق والأردن تجاهل العقوبات وخرقها عبر عقد اتفاقيات تبادل تجاري مع دول تشارك النظام نزعته لخرق العقوبات مثل إيران، أو عبر مسار التطبيع العربي.
بشكل عام، لقد نجحت العقوبات في تقليص الموارد المالية للنظام وتقليل مرونته في إجراء المعاملات التجارية والنقدية الخارجية، إلا أنه، وبدلا من تغيير سلوكه، فقد بحثت الحكومة عن موارد وقنوات جديدة وأعاد توزيع الموارد المتاحة من غالبية السوريين لصالح منظومته.
فاعلية العقوبات وتبعاتها
تشير الورقة التي نشرها مركز إدراك للدراسات بعنوان “قدرة النظام على البقاء والاستمرار في ظل العقوبات المفروضة عليه” إلى أنه من الصعب تحديد التبعات الدقيقة للعقوبات، بسبب التداخل الكبير لهذه الآثار مع تبعات سلوك النظام وطريقة إدارتها للمناطق الواقعة تحت سيطرته هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فلا توجد أرقام دقيقة لحجم وطبيعة الدعم الذي يتحصل عليه النظام من الجهات الداعمة له، خصوصا روسيا وإيران.
ولكن ومع استمرار فرض العقوبات، بحسب الورقة، فإن الحديث عن فاعليتها من عدمه وأوجه القصور في تنفيذها يعتبر أحد المواضيع الرائجة اليوم في الشأن السوري، خاصة وأن إصرار النظام على البقاء في السلطة ومواصلة سلوكه إلى توسيع دائرة العقوبات وتفاقم آثارها أدى إلى انخفاض حركة الواردات والصادرات بشكل ملحوظ، وعرقلة عملية إعادة الإعمار، وتقييد واردات الطاقة إلى سوريا بشكل كبير، وانهيار قيمة الليرة السورية إلى مستويات قياسية، وانخفاض وتيرة الإنتاج وتراجع مستويات الدخل السنوي للفرد.
وترى الورقة أن الآثار التي أحدثتها العقوبات في المشهد السوري على أنها غير قابلة للاختفاء بسهولة، فحتى لو تم رفعها بشكل كامل فإن الموارد التي ستتدفق إلى سوريا ستؤدي إلى تفاقم الفساد وتعزيز احتكار النخب الفاسدة والإجرامية للسوق الداخلية.
وتقر الورقة أنه ورغم كل ما سبق، يشار إلى أن النظام نجح في الفترة الماضية -رغم العقوبات المفروضة عليه وغيرها من الضغوطات التي يواجهها على مختلف الأصعدة- في تنفيذ العديد من الخطوات التي أصر على القيام بها، مثل الانتخابات البرلمانية والانتخابات الرئاسية ومحاصرة مناطق الجنوب السوري وفرض تسويات وتعطيل اللجنة الدستورية، وغيرها من الخطوات التي أصر على المضي بها رغم التحذيرات التي أطلقتها جهات دولية مختلفة تحذره فيها من المضي بمخططاته.
لا يعني هذا أنّ على الجهات التي تفرض عقوبات على النظام اليوم أن تتراجع في عملية فرض العقوبات، فأي تراجع أو تهاون في هذا المسار سوف تتم ترجمته من طرف الحكومة إلى نصر وضوء أخضر للمضي قدما في مخططاته لبسط سيطرته على المناطق الخارجة عن السيطرة والفتك بمعارضيه وحاضنتهم الشعبية ومصادرة أموالهم وحرمانهم من حقوقهم، والعودة بسوريا إلى ما قبل 2011.
وعلى العكس تماما، فإن معظم الطروحات المتعلقة بالعقوبات وطريقة عملها تركز على ضرورة تطوير آليات تطبيق هذه العقوبات بحيث تكون أكثر فاعلية في تحقيق أهدافها، مثل ربطها بصورة أوثق مع تطبيق القرار 2254 -الذي يرسم مسار الحل السياسي في سوريا- وطريقة تعاطي النظام معه، وتحديد أهداف عملية تفصيلية قابلة للقياس والتحقق، والتنسيق بين الدول المطبقة للعقوبات، والتعامل مع مشكلة عدم وجود إجماع عالمي على نهج العقوبات، وعلى شكل وطبيعة الإصلاحات السياسية المطلوبة في سوريا.