لماذا يستخدم معظم الناس عيونهم اليسرى مع أيديهم اليمنى؟ | علوم
يتمتع البشر بمستويات عالية من التحيز في استخدام اليد اليمنى (حوالي 90% من البشر)، لكن دراسة جديدة نشرتها دورية “ساينتفيك ريبورتس”، كشفت عن تحيزات أخرى في المجال البصري، تجعلهم أميل لاستخدام العين اليسرى.
وشملت الدراسة أكثر من 1600 شخص من مختلف الأعمار والأعراق، خضعوا لاختبارين، أحدهما لتقييم مدى استخدام إحدى اليدين، والآخر لتحديد انحياز المجال البصري.
وتضمن الاختبار الأول لوحة بها ثقوب ملونة بألوان مختلفة، ومنح المشاركون في الاختبار مجموعة من الأوتاد الملونة بنفس ألوان الثقوب، وطلب منهم بسرعة ودقة وضع كل وتد ملون في الثقب الذي يحمل اللون نفسه.
ويقيس هذا الاختبار مدى سرعة المشاركين ودقتهم في مطابقة جميع الأوتاد بالفتحات المقابلة، وتحديد اليد التي يفضل المشارك استخدامها للمهمة (اليسار أو اليمين)، ومدى قوة هذا التفضيل (خفيف، متوسط، أو قوي).
أما الاختبار الثاني، فهو عبارة عن شاشة يظهر عليها سلسلة من الوجوه، وتظهر بعضها على الجانب الأيسر من الشاشة، والأخرى على الجانب الأيمن، ويظهر كل وجه عاطفة معينة مثل الغضب أو المفاجأة.
ويحتاج المشارك إلى التعرف بسرعة على المشاعر التي يظهرها كل وجه، بحيث إذا تمكنوا من التعرف على المشاعر بشكل أسرع وأكثر دقة عندما تظهر الوجوه على الجانب الأيسر، فهذا يعني أن لديهم انحيازا للمجال البصري الأيسر، ويستخدم الباحثون هذه المعلومات لتصنيف انحياز المجال البصري للمشاركين ودمجه مع ملف تعريف استخدام إحدى اليدين لفهم ملف تعريف التحيز العام الخاص بالمشارك.
4 فئات للبشر
وبناء على نتائج استخدام إحدى اليدين وتحيز المجال البصري، تم تجميع المشاركين في 4 فئات، هي
- التحيز القياسي (تفضيل اليد اليمنى، والانحياز للمجال البصري الأيسر).
- الانحياز الأيمن المزدحم (تفضيل اليد اليمنى، والانحياز للمجال البصري الأيمن).
- الانحياز الأيسر المزدحم (تفضيل اليد اليسرى، والانحياز للمجال البصري الأيسر).
- الانحياز المعكوس (تفضيل اليد اليسرى، والانحياز للمجال البصري الأيمن).
وبعد هذا التصنيف، أكمل المشاركون استطلاعا لتقييم مهاراتهم الاجتماعية، ووجد الباحثون أن لدى معظم المشاركين (53%) تحيزا قياسيا، وكان لديهم مهارات اجتماعية وإدراكية مميزة، لكنهم لم يظهروا مزايا اجتماعية، تفوق أولئك الذين لديهم تحيزات مزدحمة، ولكن أفاد المشاركون ذوو التحيز العكسي (12%) بدرجات مهارات اجتماعية وإدراكية أقل.
وسبق وتناولت دراسات عديدة كلا التحيزين على حدة (تحيز اليدين وتحيز العينين)، منها دراسة سويدية نشرتها دورية “سيمتري” (Symmetry) في أبريل/نيسان 2023، حيث حاولت البحث عن السبب في تفضيل اليد اليمنى، فأرجعت ذلك إلى تطور هذا الخيار مع الجنس البشري منذ أجدادنا الأوائل الذي فضلوا استخدام اليد اليمنى في القتال، حيث منحهم ذلك خطرا أقل للإصابة بجرح مميت، وميزة قتالية.
وتطرقت دراسة نشرتها دورية “ترانسكشين أون إنتليجنت فيكلز” في أكتوبر/تشرين الأول 2023، إلى حوادث السيارات وعلاقتها بانحياز النظر إلى اليسار، وأوصت بضرورة تطوير تمارين واختبارات خاصة بكل تحيز للعينين.
تحيزات في عالم الحيوان
وبسبب هذه الدراسات وغيرها، اعتقد العلماء أن التحيزات من هذا النوع تعد فريدة من نوعها بالنسبة للبشر، لكن الأبحاث التي أجريت على الحيوانات على مدى العقود العديدة الماضية، والتي نشر أغلبها في دورية ” أنيمال بيهافير”، أظهرت تحيزات سلوكية في جميع فروع شجرة الحياة الفقارية.
ومن الأمثلة الشهيرة، أن الكتاكيت تُظهر تفضيلا لاستخدام عين واحدة في نقر الطعام، مما يساعدها على التمييز بين الحبوب والحصى بشكل أكثر فعالية، وتستخدم الكتاكيت أيضا عينا واحدة لمراقبة الحيوانات المفترسة، وأولئك الذين لديهم هذا التحيز هم أقل عرضة للأكل، مقارنة بأولئك الذين ليس لديهم تفضيل محدد للعين.
وتظهر الأسماك سلوكا متحيزا من نوع آخر، يتضمن السباحة في نفس اتجاه بقية المجموعة، ويساعد هذا السلوك في تخفيف خطر اكتشاف أي سمكة واصطيادها من قبل حيوان مفترس.
وتشير الأبحاث التي تناولت سلوك التحيز الحيواني إلى أن تحيزات نصف الكرة المخية تطورت لأنها تسمح لجانبي الدماغ بالتحكم في السلوك المختلف بشكل متزامن، كما أنها تحمي الحيوانات من أن تصبح مشوشة، لأنه إذا كان لدى كلا جانبي الدماغ سيطرة متساوية على الوظائف الحيوية، فقد يوجهان الجسم في الوقت نفسه لتنفيذ استجابات غير متوافقة.
سلوك مشابه.. أغراض مختلفة
ولكن على الرغم من وجود التحيزات نفسها لدى البشر والحيوانات، كانت هناك اختلافات بينهما أكدتها نتائج الدراسة الجديدة.
وتشرح أستاذ الإدراك المقارن في جامعة “ساسكس” البريطانية جيليان فوريستر، والباحث الرئيسي بالدراسة، هذه الاختلافات في مقال نشرته بموقع “ذا كونفرسيشن”، وتمثلت في عدة عناصر هي:
- درجة تعقيد التحيزات
التحيزات البشرية أكثر تعقيدا، ويمكن أن تؤثر على مجموعة واسعة من السلوكيات، بما في ذلك التفاعلات الاجتماعية والمهام المعرفية، فعلى سبيل المثال، لا يستخدم البشر التحيزات اليدوية والبصرية فقط في المهام الجسدية، ولكن أيضا لتفسير الإشارات والعواطف الاجتماعية.
وتركز التحيزات الحيوانية في المقابل، على المهام المتعلقة بالبقاء على قيد الحياة، فعلى سبيل المثال، يساعد تفضيل عين الكتكوت على التمييز بين الطعام والخطر، مما يؤثر بشكل مباشر على بقائه على قيد الحياة.
- الآثار الاجتماعية
وجدت الدراسة أن توافق التحيزات مع الآخرين يمكن أن يؤثر على المهارات الاجتماعية، فعلى سبيل المثال، كان أولئك الذين لديهم انحياز معكوس (اليد اليسرى، اليد اليمنى) أكثر عرضة للإبلاغ عن الصعوبات الاجتماعية.
ويؤدي توافق التحيزات مع المجموعة في الحيوانات، إلى تعزيز السلوكيات التعاونية والحماية من الحيوانات المفترسة، فعلى سبيل المثال، فإن سباحة الأسماك في الاتجاه نفسه تقلل من خطر تعرضها للهجوم من قبل حيوان مفترس.
- التنوع والقدرة على التكيف
يظهر البشر درجة أعلى من التنوع في تحيزاتهم، حيث يكون لدى بعض الأفراد تحيزات قوية أو معتدلة أو ضعيفة، ويمكن أن يؤثر هذا التنوع على الأداء والتفاعلات الاجتماعية بشكل مختلف بين الأفراد، بينما تميل التحيزات الحيوانية إلى أن تكون أكثر اتساقا داخل النوع الواحد، وتتوافق مع السلوكيات المهمة لبقائها.
- رابعا: تأثير قوة التحيز
كشفت الدراسة أن الأشخاص ذوي التحيزات المعتدلة كان أداؤهم أفضل في المهام من أولئك الذين لديهم تحيزات قوية أو ضعيفة للغاية، مما يشير إلى أن التحيزات المتطرفة في قوة التحيز قد تحد من مرونة الأداء.
بينما في الحيوانات، يؤدي وجود التحيز (بغض النظر عن القوة) إلى تحسين الكفاءة في مهام البقاء، مثل العثور على الطعام أو تجنب الحيوانات المفترسة.
فحص مبكر .. تطوير تدخلات جديدة
والاستفادة المنتظرة من كشف تفاصيل التحيزات السلوكية المتأصلة في دماغنا، هي معرفة تأثيرها على وظائفنا اليومية وتفاعلاتنا الاجتماعية.
وتخطط فوريستر وزملاؤها للتحقيق فيما إذا كانت ملفات تعريف التحيز التي رصدتها الدراسة، يمكن أن تكون بمثابة علامات خطر مبكرة لبعض الأمراض العصبية، مما قد يؤدي إلى فحص مبكر وتطوير تدخلات جديدة.
ويتوقع خالد عبد العال، استشاري أمراض المخ والأعصاب بوزارة الصحة المصرية، أن يسعى الباحثون في الدراسات اللاحقة إلى الإجابة عن مجموعة من التساؤلات، حتى تكون صور التحيز المرصودة بالدراسة مفيدة في الفحص المبكر للأمراض، وتطوير تدخلات جديدة.
ومن أبرز تلك التساؤلات التي أشار إليها عبد العال في تصريحات هاتفية مع “الجزيرة نت” هي: في أي عمر يصبح التحيز مستقرا بدرجة كافية لاستخدامه في الفحص المبكر؟ وكيف تختلف وظائف نصف الكرة المخية لدى الأفراد ذوي التحيزات المعكوسة، مقارنة بأولئك الذين لديهم تحيزات قياسية أو مزدحمة؟ وهل تنطبق صور التحيز المرصودة بالدراسة عالميا على مختلف الأعراق والخلفيات الثقافية؟ وما أنواع التدخلات العلاجية التي يمكن تصميمها بناء على هذه الصور للتحيز؟