تنحى لا لم يتنح.. حكاية الدمعة الأخيرة في عين جمال عبد الناصر | سياسة
“إنني مقتنع بالأسباب التي بنيت عليها قراري (التنحي)، وفى نفس الوقت فإن صوت جماهير شعبنا بالنسبة لي أمر لا يرد. ولذلك فقد استقر رأيي على أن أبقى في مكاني وفي الموضع الذي يريد الشعب منى أن أبقى فيه، حتى تنتهي الفترة التي نتمكن فيها جميعا من أن نزيل آثار العدوان”.
كان ذلك جزءا من الخطاب الذي حرره الإعلامي الشهير محمد حسنين هيكل بتنسيق مع الرئيس جمال عبد الناصر الذي بادر بإرساله إلى رئيس مجلس الأمة وقتها محمد أنور السادات ليتلوه على الحضور في العاشر من يونيو/حزيران 1967.
كان يفترض أن يتوجه الرئيس إلى مجلس الأمة (البرلمان) ليتحدث مع النواب الذين تجمعوا هناك منذ إعلانه تنحيه، لكن قيادة الحرس الجمهوري منعته من ذلك مؤكدة له أنها لا تستطيع ضمان سلامته بسبب الجماهير الحاشدة التي تملأ الطرقات، والتي لا تزال تتقاطر من قرى مصر ومدنها على القاهرة لمطالبة الرئيس بالبقاء وقيادة البلاد نحو النصر ومحو آثار العدوان.
التنحي
وقبلها بساعات، في يوم التاسع من يونيو/حزيران، كان عبد الناصر قد تحدث في خطاب شهير عن الهزيمة القاسية التي حدثت قبل 4 أيام، وأعلن تنحيه عن الحكم، وخاطب الشعب قائلا “لقد اتخذت قرارا أريدكم جميعا أن تساعدوني عليه: لقد قررت أن أتنحى تماما ونهائيا عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدي واجبى معها كأي مواطن آخر”.
وتابع “إن قوى الاستعمار تتصور أن جمال عبد الناصر هو عدوها، وأريد أن يكون واضحا أمامهم أنها الأمة العربية كلها وليس جمال عبد الناصر”.
لكن الرئيس سرعان ما تراجع عن القرار الذي طالب من الجماهير بمساعدته على تنفيذه، و”استجاب لمطلب الشعب” ببقائه في الحكم، “حتى تنتهي الفترة التي نتمكن فيها جميعا من أن نزيل آثار العدوان”.
وبعد أن أنهى السادات قراءة رسالة الرئيس قام رئيس الوزراء وقتها محمد صدقي سليمان وبعد أن حمد الله، شكر الرئيس على استجابته لرغبة الشعب، كما وقف وكيل مجلس الأمة سيد مرعي وحاول الكلام لكن الدموع غلبته وأغمي عليه.
ثم ما لبث أن قرر المجلس -تحت التصفيق المستمر والرقص فرحا- منح الرئيس عبد الناصر كل صلاحياته ليقوم بالتعبئة الكاملة والشاملة لإعادة البناء العسكري والسياسي للبلاد لمواجهة التحديات.
مسرحية؟
التنحي والتراجع عنه بعد خروج الجماهير الحاشدة إلى الشوارع مطالبة الرئيس بالبقاء في السلطة، لا يزال موضوعا يثير الجدل، بين من يرى أنه كان “مسرحية” رام من خلالها الرئيس استعادة الشرعية الشعبية بعد الهزيمة القاسية في الخامس من يونيو/حزيران، وبين من يؤكد أنها كانت تطورا طبيعيا للأحداث خال من أي تلاعب سياسي.
يقول محمد حسنين هيكل، وكان أحد الأصدقاء المقربين من عبد الناصر ويده الإعلامية الضاربة، إن الرئيس كان صادقا في إصراره على التنحي عن الحكم وتكليف صديقه ورفيقه في “ثورة 23 يوليو” زكريا محيي الدين بتسلم زمام رئاسة الجمهورية.
ويوضح هيكل في كتابه “حرب الثلاثين سنة.. الانفجار 1967″، وفي برنامجه السابق على قناة الجزيرة “مع هيكل”، أن عبد الناصر أخبره أنه مقتنع بضرورة استقالته وتحمله مسؤولية الهزيمة القاسية، وأكد له أنه اتفق مع المشير عبد الحكيم عامر على استقالتهما معا، وتكليف وزير الدفاع وقتها شمس بدران بتولي مسؤولية رئاسة الجمهورية بشكل مؤقت في انتظار ترتيب الأوضاع.
وطلب من هيكل يوم الثامن من يونيو/حزيران تحرير خطاب التنحي، لكن عند مناقشتهما الخطاب صبيحة اليوم الموالي في بيت الرئيس، يقول هيكل إنه تحفظ على اسم شمس بدران، وذلك باعتباره أحد رموز “النكسة”، واقترح على عبد الناصر التفكير في بديل آخر، وليكن هو أقدم الأعضاء بالضباط الأحرار الذين لا يزالون في دائرة السلطة، ولم يكن سوى زكريا محيي الدين.
“لازم أمشي”
ويصر هيكل على أن عبد الناصر كان لا ينفك يردد عبارة “لازم أمشي”، في إشارة إلى أنه لا بد أن يستقيل متحملا مسؤولية الهزيمة، وذلك رغم أن المقربين منه رفضوا بشدة فكرة التنحي عندما علموا بها حتى قبل أن تذاع.
ويلخص هيكل أسباب تراجع عبد الناصر عن التنحي في الحرص على ضبط المشهد الداخلي واستيعاب غضب الجماهير والشارع الذي يغلي، وتفادي حدوث شرخ في المنطقة العربية التي سارع بعض حكامها للتواصل مع مكتب عبد الناصر لثنيه عن التنحي.
وذلك إلى جانب تفادي إحداث جرح غائر آخر في معنويات الضباط والجنود المصريين والسوريين الذين كانوا لا يزالون يقاتلون في سيناء والجولان. وبحسب هيكل، فإن قيادات أجنبية هي الأخرى تواصلت مع سفراء مصريين، مظهرة بشكل أو بآخر رغبتها في أن يتجاوز الرئيس المصري المحنة الحالية، ويبقى في مكانه لتحقيق الأفضل لشعبه.
ويوضح هيكل أن لحظات صدق نية عبد الناصر بلغت حد الطلب من هيكل متابعة المهام نفسها مع الرئيس القادم، زكريا محيي الدين، وعندما مد يده مودعا هيكل -صديقه- قبيل إلقاء الخطاب مع بداية مساء العاشر من يونيو/حزيران، لاحت دمعة في عين الرئيس، يقول هيكل في كتابه إنه لاحظها وسرعان ما التفت كيلا يرى الرئيس دمعة في عينيه هو الآخر.
أمر مدبر
لكن على عكس هذه اللوحة التي رسمها هيكل، شدد بعض قادة “ثورة 23 يوليو”، ومقربون من الرئيس عبد الناصر على أن قرار التنحي كان مجرد لعبة سياسية أخيرة اضطر الرئيس للتشبث بها لاستعادة شرعية ضاعت مع النصر الساحق الذي حققته إسرائيل منذ الساعات الأولى من صبيحة الخامس من يونيو/حزيران.
وأكد المعارضون أن إصرار عبد الناصر في خطابه على الحديث عن “استعداده لتحمل المسؤولية كلها”، يوضح بجلاء أنه ينفي كونه المسؤول الرئيسي عن الهزيمة، على عكس ما يورده أنصار الرئيس.
يحكي عبد اللطيف البغدادي -عضو مجلس قيادة الثورة وأحد أبرز قادة الضباط الأحرار- في الجزء الثاني من مذكراته أنه توقع هو وبعض زملائه أن تبدأ المسيرات الشعبية بعد انتهاء الرئيس من إلقاء خطاب التنحي، وهو ما حدث فعلا.
وتابع أنه شاهد تحركات من شباب حزب الاتحاد الاشتراكي -حزب النظام- في الحافلات التي جهزت لهذا الغرض برغم الظلام المخيم على العاصمة التي منعت فيه الإنارة ليلا لتجنب القصف الإسرائيلي.
ويوضح البغدادي أنه ومن معه استنتجوا أن “الأمر مدبر ومرتب من قبل”، بحيث تتحرك المنظمات التابعة للاتحاد الاشتراكي وتحشد الجماهير للمطالبة ببقاء الرئيس بمجرد انتهائه من إعلان تنحيه.
انطلقت التحركات في القاهرة ابتداء، ثم سرعان ما بدأت الأنباء تأتي من الأقاليم بأن حشودا هائلة خرجت للشوارع، وهي على استعداد للانتقال للعاصمة للمشاركة في هذا الحشد الجماهيري الكبير.
“الحج” نحو القاهرة
ويشرح اللواء جمال حماد، كاتب أول بيان لانقلاب 23 يوليو/تموز وأحد أبرز قادة الضباط الأحرار، أن السلطات في القاهرة اتصلت به -وكان وقتها محافظا لكفر الشيخ- ولما علمت منه أن الناس محتشدة في الشارع غاضبة مما جرى، طلبت منه توفير وسائل نقل عمومية وإرسالهم للقاهرة للمشاركة في المظاهرات الحاشدة.
ففعل ما أمر به، لكن هو لم يذهب معهم، وهو ما عرضه للمساءلة والمحاسبة لاحقا، بحسب ما أكده هو في حواره مع الجزيرة في برنامج “شاهد على العصر”. وزاد أن كل المحافظين طلب منهم ذلك، ثم انتقلوا مع الجماهير الغاضبة إلى القاهرة، ليشارك الجميع في مظاهرات اليوم الخامس بعد الهزيمة، للمطالبة ببقاء عبد الناصر رئيسا للبلاد.
وعلق حسن إبراهيم -أحد الضباط الأحرار ومن أقرب أصدقاء عبد الناصر- على ما جرى بأنها خطة محبوكة “رسمها عبد الناصر بذكاء شديد”. وزاد أن “من يدرس سيكولوجية الجماهير يعرف أنها عندما تجتاز محنة من المحن وتختلط في أذهانها الأمور، فإنها لا تعرف ماذا تفعل، ولذلك فهي تندفع وراء مفجر يفجرها ويوجهها الوجهة التي يريدها”.
وأوضح حسن إبراهيم، في شهادته لسامي جوهر “الصامتون يتكلمون” أن عبد الناصر “استغل مشاعر الناس في ذلك اليوم، وأعد لهم مجموعة من الشباب وزعهم على مختلف أنحاء القاهرة، حددت لهم ساعة الصفر للتحرك، وهي لحظة إعلانه تنحيه عن الحكم، وبطبيعة الحال ستندفع خلفهم بقية الجماهير، وهذا ما حدث”.
الغريب أن المشير عبد الحكيم عامر، حاول هو الآخر بعد إعلان عبد الناصر تنحيه عن الحكم، أن يتوجه إلى مقر الإذاعة لإعلان اعتزاله السلطة، لكنه مُنع من ذلك.
وأورد سامي جوهر رواية محمد عبد الرحمن السكرتير الصحفي للمشير عامر، قال فيها إن عامر كان متوجها فعلا صوب الإذاعة لإعلان استقالته، لكن في الطريق أقنعه الفريق الذي كان معه بالعدول عن ذلك لاحتمال منعه، فاقتنع بكلامهم وتوجه معهم إلى منزل وزير الدفاع شمس بدران، ومن هناك بعث بنص الاستقالة لتُتلى في النشرة الإخبارية لكنهم رفضوا إذاعتها.
مما اضطر مكتب عامر لإرسالها لوكالات الأنباء التي سارعت لنشرها، ووافقوا لاحقا على بثها عبر أثير الإذاعة المصرية.
لكن الأحداث تطورت بشكل متسارع، إذ “أعادت” الحشود عبد الناصر إلى الحكم في مثل هذا اليوم من عام 1967، في حين بقي المشير في حكم المستقيل، مما دفع بكبار قادة الجيش المقربين منه للمطالبة بعودته هو الآخر، ودخل الطرفان في لعبة صراع على السلطة انتهت باعتقال المقربين من عامر الذين كانوا يخططون لتنفيذ انقلاب، وسيطرة عبد الناصر على السلطة السياسية والعسكرية، وأسدل الستار على هذا المشهد بـ”انتحار” المشير.