بالسياسة والسلاح.. رحلة أكراد العراق الوعرة | سياسة
كان الجبل هو الرفيق الأول للأكراد في قصتهم التاريخية، في الدول التي بُعثروا فيها اجتماعيًّا وسياسيًّا بعد اتفاقية “سايكس بيكو” عام 1916. ولمّا أسست الاتفاقية الحدود السياسية -القائمة حتى الآن- بين تركيا وسوريا والعراق وإيران، تجزّأت معها القصة الكردية بين أربع دول، وكان الجبل هو الجامع بينها، وهو المكان الوحيد الذي لم يخن الأكراد، كما يستقرّ في العقلية الجمعيّة الكردية.
لا يزال الأكراد يعيشون أكبر مأساة في تاريخهم، بسبب فشلهم في تأسيس منطقة حكم ذاتي خاصة بهم في تركيا بعد الحرب العالمية الأولى، إذ أعطاهم مصطفى كمال أتاتورك قبل اتفاقية لوزان عام 1923، وعدًا بمنحهم الحكم الذاتي داخل تركيا الجديدة، بشرط الوقوف معه ضد القوى الاستعمارية، وإكمال ما سمّاه حروب الاستقلال.
لكنه، بعد أن ثبّت أركان سلطته وأصبح أقوى من أي وقت مضى، أخذ يتنصل بعد اتفاقية لوزان من وعوده التي قطعها للأكراد. وهو الأمر الذي تسبب في حدوث ثلاثة تمردات كردية مباشرة داخل تركيا (عام 1925 وعام 1926 و1937)، بيد أنه جرى سحق هذه التمردات كلها، عبر استخدام القوة العسكرية المفرطة.
بعد ذلك، عادت القضية الكردية من جديد إلى الجبل؛ الموطن الأصلي للأكراد. ولقد أدركوا مبكرًا في ضوء تجربتهم التاريخية، أن العالم لن يقف مع أي مجموعة اجتماعية أو سياسية تريد أن تنشئ لنفسها دولة، إلا إذا استطاعت أن توجِد نوعًا من العلاقة المصلحية الذرائعية لقضيتها مع القوى الكبرى.
إن تجربة الأكراد التاريخية وخذلانهم المستمر من قبل مختلف القوى: الدولة العثمانية، وبريطانيا، والاتحاد السوفيتي، والولايات المتحدة؛ أضاف بعدًا واقعيًّا لهذه القضية. إذ كانت عملية توزيع القضية بين الدول الأربع، وإعطاء خصوصية ذاتية لشكل النضال ونوعه وآلياته، هو ما تبناه أكراد العراق في مرحلة متقدمة من صراعهم مع بغداد، بمعزل عما يحدث للأكراد في المناطق الأخرى خارج العراق.
ولّدت هذه الرؤية نوعًا من النجاح المتقدم لدى أكراد العراق، لكونهم أصبحوا يعيشون في دولة تعترف بحقوقهم القومية، وضمن إطار إداري وسياسي يراعي خصوصياتهم، أصبح يعرف بشكل رسمي في دستور الدولة بـ”إقليم كردستان العراق”.
بالطبع، لم تأت هذه الاستحقاقات بشكل عفوي أو بمصادفة تاريخية، بل أتت نتيجة صراع مسلح طويل الأمد، امتد منذ عام 1920 ليتوّج عام 2005 بالشكل القانوني القائم في الوقت الحالي. ولعل هذه المرحلة الطويلة والمعقدة، مثلت أكثر الحالات تقدمًا للقضية الكردية، مقارنة بفشل النضال في المناطق الأخرى داخل سوريا وتركيا وإيران.
وانطلاقًا من ذلك، سيركز المقال على تطور القضية الكردية في العراق بعد عام 2003، للإجابة عن تساؤل مركزيّ هو: ماذا حقق الأكراد على المستوى السياسي والاقتصادي العام؟
محطات تاريخيّة سريعة في تطور القضية الكردية
بعد تفكك الدولة العثمانية، وانتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918، مرت القضية الكردية بمراحل مفصلية هامة، بدأت بتخلي بريطانيا عن وعودها وعدم تطبيقها معاهدة سيفر التي وقعت في 10 أغسطس/آب 1919، إذ تضمنت المعاهدة إقامة منطقة حكم ذاتي خاصة بالأكراد ضمن تركيا وإيران وسوريا والعراق. غير أن مصالح بريطانيا مع هذه الدول، كانت أكبر من الوفاء لمجموعة اجتماعية تريد أن تكون لها دولة مستقلة، دون أن تمتلك مقومات تذكر في حينها.
انتكست القضية الكردية بعد ذلك، نتيجة توقيع اتفاقية لوزان عام 1923، التي لم تأتِ بشيء جديد يتعلق بمصير الأكراد في هذه الدول، فدخلت القضية الكردية في منعرجات عديدة، كان أهمها قمع الأكراد في تركيا بين عامي 1923 و1937، وتأسيس دولة مهاباد في إيران عام 1946 التي أسسها القاضي محمد والملا مصطفى البرزاني والد مسعود البرزاني، لكن سرعان ما انهارت هذه الدولة بعد أسابيع قليلة، وأعدم القاضي محمد بأيدي السلطات الإيرانية، وانتقل الملا مصطفى إلى روسيا لاجئًا سياسيًّا.
عاشت القضية الكردية في الجزء العراقي مرحلة أخرى من التعقيدات، وشكّل بيان 11 مارس/آذار 1970 (اتفاقية آذار) انفراجة كبيرة بعد مرحلة عصيبة وطويلة ومعقدة من النضال المسلح، فثبت انتهاء النزاع المسلح بين بغداد والأكراد، وثبت الحق القانوني لأكراد العراق في الحصول على الحكم الذاتي في شمال العراق (في محافظات أربيل ودهوك والسليمانية) ضمن الدولة المركزية العراقية.
بيد أن الأوضاع تدهورت من جديد، نتيجة لحدوث توافقات إقليمية عراقية إيرانية في اتفاقية الجزائر عام 1975، دفعت الدولة العراقية إلى السيطرة عسكريًّا على مناطق شمال العراق، وإنهاء السلطة الإدارية الكردية حينها.
مرّة أخرى، دخلت القضية الكردية مرحلة الصدام المسلح ضمن ما يعرف بـ”الحرب الكردية العراقية الثانية” (1975- . ولاحقًا، استثمر الكرد في تغيرات حصلت في النظام الدولي، لإنشاء إقليم كردي في مناطق شمال العراق، من خلال توفير الدعم والحماية الأميركية المباشرة.
غير أن الصراع هنا لم يعد فقط مع بغداد من أجل الحكم الذاتي، بل تحول إلى صراع كردي داخلي في مناطق شمال العراق، على السلطة السياسية بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني.
إذ استمرت الحرب الأهلية الكردية حتى عام 1998، حينما وقع الحزبان المتصارعان اتفاقية سلام في واشنطن، تعهد فيها الجانب الأميركي بحماية الإقليم من أي اعتداء، لتبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة من الاستقرار النسبي، استمرّت حتى عام 2003؛ العام الذي احتلت فيه أميركا العراق، فتغير النظام السياسي العراقي السابق، وتأسس الدستور العراقي عام 2005، ليتم تثبيت فقرة النظام الفيدرالي رسميًّا في مرحلة مؤقتة، إلى حين إيفاء أميركا بوعد استقلال كردستان.
العلاقة بين بغداد وإقليم كردستان العراق بعد عام 2003
تأسست العلاقة الجديدة بين بغداد وإقليم كردستان العراق بعد عام 2003، وفق السياقات الدستورية والقانونية الرسمية، التي أقرّت في القانون الأساس لإدارة الدولة العراقية عام 2003.
وقد نصّت المادة الرابعة من هذا القانون بشكل صريح على أن نظام الحكم في العراق “جمهوري اتحادي فيدرالي”، تنقسم السلطة فيه بين بغداد وإقليم كردستان ضمن السياقات القانونية. وهو أمر أكده لاحقًا عام 2005 دستور العراق، المعمول به حاليًّا في مادته الأولى، فنصّ على أن جمهورية العراق “دولة اتحادية مستقلة واحدة”، كما فصل الدستور العراقي في المواد من 116 إلى 120 طبيعة الصلاحيات الممنوحة للإقليم.
وتعد المادة 140، من الدستور العراقي النافذ لعام 2005، من العقد الرئيسة في العلاقة بين بغداد والإقليم. وهي من الثوابت الإستراتيجية التي يفاوض عليها الإقليم منذ عام 2003، إذ يطمح من خلالها إلى إدارة مشتركة في المرحلة الانتقالية، للمناطق المتنازع عليها في محافظات نينوى وكركوك وصلاح الدين وديالى، وهي مناطق غنية بالنفط والموارد.
ويطمح الإقليم بعد ذلك إلى إجراء تعداد سكاني في هذه المناطق، ثم إجراء استفتاء مباشر في المرحلة النهائية لتقرير مصيرها؛ إما بإبقائها مع سلطة بغداد الاتحادية وإما بانضمامها إلى إقليم كردستان.
ولعل هذه المادة أكثر المواد تعقيدًا بين بغداد وأربيل، بسبب وجود مناطق جغرافية عديدة مثل كركوك، التي تحتوي على موارد إستراتيجية مهمة كالنفط، إضافة إلى مناطق حدودية مع دول أخرى عديدة، فديالى مع إيران، ونينوى مع سوريا وتركيا.
وقد استخدم الإقليم هذه المادة باحترافية وبراغماتية متقدمة في مفاوضاته مع بغداد، إذ استطاع أن يساومها بشكل مباشر على الموارد في هذه المناطق، مقابل الحصول على بعض المناصب، أو التصويت لصالح قرارات سيادية مهمة، أو حتى تنصيب رؤساء وزراء ووزراء للعراق، نتيجة لتوافقات عديدة في لحظات الانسدادات السياسية مع بغداد.
لذلك، يعتقد قادة الإقليم أن هذه المناطق مهمة جدًّا في تطوير شكل العلاقة مع بغداد، وتحقيق مكتسبات مهمة في مختلف المراحل، لكون هذه المناطق فيها مقاعد نيابية عديدة تعزّز موقف الأكراد سياسيًّا في بغداد، عدا عمّا تقدمه من بعد إستراتيجي كبير لقوة أربيل داخليًّا وخارجيًّا.
وعلى الرغم من تحديد أطر التعامل والصلاحيات الممنوحة للجانبين، فإن العلاقة لا تزال معقدة جدًّا في شكلها وطبيعتها؛ بسبب التدافع السياسي المستمر بين القوى السياسية المركزية الثلاث في العراق: الشيعية والسنية والكردية.
وبعيدًا عن الأطر القانونية التي نظمت العلاقة بين بغداد والإقليم، فإنّ المزاج السياسي الكردي النخبوي كان ينظر دومًا إلى بغداد على أنها مفتاح حل مهم ورئيس في القضية الكردية، وهذا قائم منذ فترة التسعينيات وربما قبلها، وذلك على الرغم من دخول القضية الكردية في صراع مسلح مع بغداد في أكثر من مرحلة.
غير أنه لا يمكن أن يبقى العمل المسلح هو المعيار الرئيس لتثبيت حقوق الأكراد في العراق، بل إن هناك اقتناعًا رئيسًا يسود العقلية الحاكمة داخل إقليم كردستان العراق، وهو عزل ما يحدث في الإقليم الكردي ضمن حدود العراق عن الأحداث الأخرى التي تقع في المناطق الكردية في سوريا وتركيا وإيران.
لهذا، كانت الأحزاب السياسية الكردية حاضرة في بغداد بعد عام 2003 للمشاركة بقوة في بناء العراق الاتحادي الجديد، حتى إن الأحزاب السياسية الكردية أسست مساحة خاصة لها في بغداد، يجري العمل من خلالها حتى الآن تقريبًا، على مستوى الوزارات والمناصب السيادية العليا والمحاصّة السياسية والمكوناتية.
وبالتالي، تمثل بغداد للأحزاب السياسية الكردية عمقًا إستراتيجيًّا مهمًّا، بالرغم من كل المراحل المعقدة السابقة. ومنذ أول انتخابات جرت في العراق عام 2005، وقبلها مع تشكيل مجلس الحكم (الحكومة الانتقالية المؤقتة بعد عام 2003)، يذهب الأكراد في العراق في كل دورة انتخابية إلى بغداد بمقاعد برلمانية شبه مستقرة العدد، وبحصص ثابتة في الحكومة على مستوى الوزارات والمناصب الأخرى، فلم تترك الأحزاب الكردية أي فراغ في بغداد منذ عام 2003 وحتى الآن.
هذا لأن الأحزاب الكردية تعتقد أن ترك الوجود السياسي في بغداد سيؤدي إلى حدوث خلل جسيم في العلاقة معها، ولا سيما أن لدى الإقليم ارتباطات معقدة على مستوى النفط والموازنة المالية المركزية، ويحتاج دومًا للفعل السياسي في بغداد من أجل تأمين مستحقاته، ومن هنا تتضح أهمية الوجود المستمر للأكراد في بغداد كعمق سياسي واقتصادي وإستراتيجي.
ومع ذلك، فمنذ الأسابيع الأولى لاحتلال العراق، كانت السلطة الفيدرالية الكردية في إقليم كردستان، تتخذ قرارات اقتصادية شبه مستقلة عن بغداد، متعلقّة باستخراج ونقل وتسويق وبيع النفط والغاز. وقد أسست لذلك وزارة خاصة باسم وزارة الموارد الطبيعية، تأخذ على عاتقها توقيع اتفاقيات استثمارية مع شركات النقل والاستخراج والتسويق، دون التنسيق مع الحكومة المركزية.
قاد هذا السلوك إلى حدوث خلافات مستمرة منذ عام 2005، فيما يخصّ إقرار قانون النفط والغاز المركزي، الذي يضع النفط والغاز ضمن الموارد السيادية المركزية التي لا يمكن أن تتصرف فيها حكومة الإقليم بمعزل عن بغداد.
لكن هذا القانون، كان وما زال، محطّ جدل كبير بين الجانبين، وخلافات عديدة أهمها تعقيدات تتعلق بالاستحقاقات المالية السنوية، التي يجب أن تؤديها بغداد للإقليم ضمن الموازنة العامة؛ فبسبب رفض الإقليم وضع الحكومة الاتحادية يدها على إدارة ملف نفط وغاز الإقليم، عرقلت الحكومة إرسال مستحقات الإقليم من الموازنة المركزية.
ليس هذا فحسب، بل إن بغداد تطمح لإدارة المعابر الرئيسة بين الإقليم وتركيا وإيران بشكل مباشر. غير أن الإقليم لا يزال يقابل هذه الرغبات بالرفض. لتبقى هذه القضايا، منذ عام 2005 وحتى الآن، من أبرز الملفات التي تشكل محور خلافات الإقليم مع بغداد؛ مما قاد إلى حدوث أزمات اقتصادية مزمنة داخل الإقليم، نتيجة لامتناع بغداد بين الحين والآخر عن دفع مستحقاته الاقتصادية من الموازنة المركزية للدولة العراقية.
وعلى الرغم من هذه الخلافات فإن بغداد لا تتبنى أيًّا من الأعمال التي تنتهجها بعض فصائل المقاومة، في استهداف المطارات ومواقع شركات النفط وبعض المواقع الأخرى داخل الإقليم، التي يقول “محور المقاومة” إنها تابعة للموساد تارةً أو تابعة لأميركا تارةً أخرى.
وفي المقابل، لا يحمّل الإقليم بغداد مسؤولية هذه الاستهدافات، لكونه يعلم جيدًا أن عمليات إطلاق الصواريخ تحدث في مختلف مناطق العراق تجاه المصالح الغربية والأميركية، ولا تستطيع بغداد الحد منها دائمًا.
ولذا، فإن الحديث عن هذه الاستهدافات فيه الكثير من الإشكاليات، أهمها أنها تكون في الكثير من الأحيان بدفع خارجي مباشر من إيران، لغرض استهداف منشآت نفطية أو غازية، أو تحقيق غايات سياسية من خلال الضغط عبر القصف، فإيران هي المصدّر الرئيس للغاز إلى العراق، الذي يستخدمه في توليد جزء كبير من الطاقة الكهربائية عبر محطاته.
وقد قدم إقليم كردستان، في أكثر من مناسبة، عروضًا لتغذية المحطات الكهربائية بشكل مباشر، وهذا بطبيعة الحال يهدد الغاز الإيراني المستورد. لذلك، دائمًا ما تتعرض المنشآت النفطية والغازية والمحطات الكهربائية الموجودة في الإقليم لعمليات قصف مباشرة، من أجل إجباره على التراجع عن هذا الخيار.
هذا من جانب، ومن جانب آخر يستخدم “محور المقاومة” عمليات القصف المباشرة للحصول على مواقف أكثر ليونة من الأكراد في بغداد، فضلًا عن أن هذا الاستهداف فيه أبعاد إقليمية ودولية تتعلق برغبة إيران في إيصال رسالة إلى الجانب الأميركي، بأنها قادرة على استهداف المصالح الأميركية في أي مكان تريد. ودائمًا ما كانت أربيل الحلقة الأضعف في هذا التوازن الإقليمي والدولي، فكلما اشتدت الخلافات بين إيران والولايات المتحدة، كانت تتعرض لوابل من الرشقات الصاروخية، عبر الفصائل العراقيّة المسلّحة المقرّبة من إيران.
إشكاليات في المشهد السياسي الكردستاني
في ظاهر الأمر، يبدو المشهد السياسي الداخلي في الإقليم الكردي بشمال العراق، في حالة استقرار نسبي، تتضح من خلال حالة التقدم العمراني والاستقرار الأمني الكبير للإقليم. بيد أن النظر في التفاصيل سيقودنا إلى العديد من الإشكاليات المعقدة، التي تستمد تغذيتها من تدافع المصالح تارةً، ومن رؤى تاريخية ثأرية بين الأحزاب الرئيسة الحاكمة تارة أخرى، ويمكن تلخيص أهم هذه الإشكاليات على النحو التالي:
إشكالية قضايا الحوكمة والانتقال السياسي
فلا توجد في إقليم كردستان مساحة للديمقراطية، يمكن الحديث عبرها بشفافية عالية عما يجري في الإقليم فعلًا، ولا توجد انتخابات نزيهة بما يكفي للحديث عن تغيير سياسي خارج فكرة الأحزاب المسيطرة على الحكم، وليس هناك إمكانية للوصول إلى البيانات والأرقام الرسمية لعمليات تصدير النفط ولحجم الأرباح في قطاعات الاستثمار العام والكهرباء والغاز والمقاولات والطرق والجسور. هذا فضلًا عن انتشار المحسوبية والعلاقات الشخصية بشكل كبير.
يدار الإقليم فعليًّا بتوافق عشائري عام، إذ تبرز عائلة البرزاني عبر الحزب الديمقراطي الكردستاني في أربيل ودهوك، بينما تدير عائلة الطالباني مساحة اقتصادية وسياسية وأمنية في السليمانية من خلال حزب الاتحاد الوطني، إضافة إلى وجود عوائل أخرى كعائلة شاسوار عبد الواحد المرتبطة بـ”حركة الجيل الجديد”، فضلًا عن “الجماعة الإسلامية” والحركات السياسية الصغيرة الأخرى، مثل “حركة التغيير” و”الحزب الشيوعي الكردستاني”.
هذه التوليفة العشائرية التي تتصدرها عائلة البرزاني والطالباني بالدرجة الأولى، ولّدت تقاسمًا استراتيجيًّا كبيرًا للمناصب الأمنية والاقتصادية والسياسية العليا في الإقليم، إذ تُدوَّر هذه المناصب وتُحصَرُ المقاولات والأعمال التجارية وتصدير النفط والغاز عبر هذه المنظومة العائلية وشركائها المحليين والأجانب فقط، دون وجود بيئة استثمارية حرة فيها حوكمة أو انتقال سياسي وتداول سلمي للسلطة، سواء في إدارة الإقليم الرئيسة أو في إدارة الأحزاب السياسية داخل الإقليم.
وهذه التوازنات ذاتها داخل الإقليم، تجري مراعاتها عند الذهاب إلى بغداد، فتسيطر كذلك الفكرة العشائرية وتدوير المناصب الداخلي على السلوك السياسي الكردي اتجاه الاستحقاقات في الحكومة المركزية، لدرجة أنه لم يقدم أيٌّ من الأحزاب الكردية لبغداد وزيرًا مستقلًّا من خارج منظومة الأحزاب الحاكمة أو من خارج المنظومة العشائرية المتنفذة.
إشكالية فكّ الارتباط القانوني والإداري للسليمانية مع الإقليم وأربيل
تبرز فكرة العودة إلى بغداد وإنهاء الارتباط القانوني والإداري الموجود بين السليمانية وأربيل في تشكيل إقليم كردستان، نتيجة الانزعاج الشعبي الكبير في السليمانية من سلوكيات أربيل؛ معقل الحزب الديمقراطي الكردستاني، وتركيز الإعمار والاستثمار والعلاقات الخارجية فيها مقابل تهميش المواطنين في السليمانية، وكذلك لأسباب مالية وفساد مسؤولي الإقليم السياسيين وتحويله إلى مزارع سياسية عائلية فقط.
لا تبدو فكرة الانفصال هذه قابلة للتنفيذ بسهولة، خاصة في ظل الأوضاع الحالية، على الرغم من العجز الاقتصادي الكبير الذي يواجه الإقليم،. يقف في وجه هذه الفكرة رئيس الجمهورية السابق برهم صالح، وهو أحد القياديين السابقين لحزب الاتحاد الوطني، فلن يسمح بإضاعة مجهود عمره عشرات السنين من العمل كي يصل الإقليم والسليمانية إلى هذا الحد من العلاقة الإدارية. لهذا، من الصعب الحديث عن إمكانية فك الارتباط بين السليمانية وأربيل بشكل كامل.
بيد أن ما هو مطروح الآن، من محاولة لإعادة إحياء اللامركزية الإدارية داخل الإقليم، التي تم إلغاؤها عام 2012 من قبل مجلس وزراء الإقليم؛ قد يعدّ أكثر منطقية من فكرة فكّ الارتباط. وبالفعل، بدأ الاتحاد الوطني الكردستاني التعاون مع الأحزاب المحلية في كردستان، محاولة صناعة رأي عام ضاغط لتطبيق هذا النظام، الذي من شأنه السماح للسليمانية بالحركة بشكل أوسع في علاقاتها الداخلية والخارجية وتقليل التزاماتها مع أربيل.
شكل الصراع الداخلي
ولعل الوقوف بالتفصيل على شكل الصراع الدائر داخل إقليم كردستان، يحتم علينا النظر في طبيعة التفاعل والعلاقة بين أكبر حزبين حاكمين؛ حزب الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، وذلك على مراحل تاريخية مختلفة:
المرحلة الأولى (1975 – 1992): مرت العلاقة بين الجانبين بتذبذبات مختلفة صعودًا ونزولًا، بدأت هذه التذبذبات عام 1975 بعد انشقاق مجموعة من الحزب الديمقراطي الكردستاني لتؤسس لنفسها حزبًا سمّته لاحقًا الاتحاد الوطني الكردستاني، نتيجة لخلافات قيادية وفكرية، ولاعتقاد هذه المجموعة المنشقة أن القضية الكردية تعرضت لفشل كبير بسبب الملا مصطفى البرزاني وأبنائه وعشيرته التي سيطرت على الحزب وتعاونت مع مختلف القوى الداخلية والخارجية على حساب القضية نفسها.
وبالتالي كان لا بد، كما اعتقد الجناح المنشق، من نقل القضية الكردية إلى مستويات فكرية ونضالية أوسع من العشيرة البرزانية، والخروج من إطار العائلة التي كانت في حينه تدير كل شيء تقريبًا.
المرحلة الثانية (1992 – 1998): وهي مرحلة معقدة مرت بها القضية الكردية، شهدت صدامًا مسلحًا عنيفًا مباشرًا بين الحزبين الحاكمين، وكان الاتحاد الوطني الكردستاني فيها على وشك السيطرة على أربيل كلّيًّا لولا تدخل الجيش العراقي السابق وحسم المعركة وطرد الاتحاد الوطني الكردستاني من أربيل، وترسيخ سلطة الحزب الديمقراطي الكردستاني، ومن ثم توقيع “اتفاقية واشنطن” التي رسخت السلام بين الجانبين عام 1998.
المرحلة الثالثة (2003 – 2017): وهي مرحلة تغيير النظام العراقي وبداية عهد جديد بين الجانبين، وقد تُوّجت بإعلان الحكومة المشتركة على مستوى الإقليم وكتابة مسودة دستور، وتقاسم السلطات في بغداد ودخول الفاعل الكردي إلى السياسة العراقية بوصفه متغيرًا مهمًّا وحاسمًا.
لم تشهد هذه الفترة أيّ صدامات مسلحة، بل شهدت خلافات سياسية متفاوتة الحدّة، كان آخرها ما حدث عام 2017 نتيجة لفشل استفتاء الإقليم الذي قاده الحزب الديمقراطي الكردستاني، والذي أدى إلى تقدم القوات الاتحادية نحو محافظة كركوك والسيطرة عليها، بعد أن كانت تحت سيطرة البيشمركة التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني.
المرحلة الرابعة (2017 – حتى الآن): وهي مرحلة ما بعد الاستفتاء، التي سيطرت عليها أجواء الخلافات السياسية الحادة بين الجانبين، حتى وصلت إلى حدّ الاتهام بالخيانة واستحضار الصراعات التاريخية بين الجانبين في فترة التسعينيات التي كان فيها كلّ من الطرفين يستعين بالفاعل الخارجي وببغداد من أجل كسر إرادة الطرف الآخر.
الحاجة إلى الرعاية والاستثمار في الضعف
كانت القضية الكردية في العراق ولا تزال، تعتمد في ديمومتها وتقدم مساراتها على وجود رعاية وعامل خارجي مساند لها، فبعد الخذلان البريطاني للأكراد إثر الحرب العالمية الأولى، ثم دعم روسيا لجهود الملا مصطفى البرزاني، وتعزيز موقفه بعد عام 1958، انتقل الأكراد لتأسيس شبكة علاقات موسعة مع الولايات المتحدة، شملت تعاملًا عسكريًّا وتجاريًّا واستخباريًّا، فضلًا عن التعامل السياسي منذ فترة التسعينيات من القرن المنصرم، إذ يمتلك إقليم كردستان ممثلية خاصة به بمعزل عن وزارة الخارجية العراقية في الولايات المتحدة، كما عمل الإقليم على تشكيل لوبيات سياسية مؤثرة داخل واشنطن، عملت على إعادة تقديم صورة الأكراد من جديد للعقلية الأميركية.
من جهة ثانية، وبالرغم من أن النظرة الأولى إلى واقع وطبيعة العمران في إقليم كردستان العراق تُظهر ما يشهده من تطور في مجالات متعددة، فإن الواقع في ظل اختبارات الأزمات المزمنة يثبت أن الإقليم يعيش حالة من انعدام الشفافية والحوكمة المتقدمة، بسبب السياسات الريعية والعائلية التي يتبعها قادة الإقليم لإدارة إقليمهم المثقل بالأزمات الكردية الداخلية، فضلًا عن محدودية الحلول لدى حكومة الإقليم، وكذلك الديون الخارجية ومستحقات الشركات النفطية وشركات الغاز والكهرباء المتراكمة نتيجة للتمدد في الإنتاج، من أجل زيادة رفاهية الحياة على حساب حجم الموارد وطرائق استثمارها ومستقبلها.
جاءت عملية انهيار أسعار النفط عام 2014، ثم عام 2020، معاكسة تماما لما يطمح إليه الإقليم من تنمية شاملة. إضافة إلى محدودية الحلول التي عقّدت المشهد الكردستاني أكثر فأكثر، إذ لا تستطيع حكومة الإقليم مثلًا المطالبة بحصتها من الاحتياطي النقدي الفيدرالي في البنك المركزي العراقي لحل جزء من أزمتها؛ لكونه يخضع للإدارة السيادية وليس للإقليم صلاحيات بذلك.
كذلك، لا يستطيع الإقليم المطالبة بقروض خارجية من صندوق النقد الدولي أو دول بعينها، لأن ذلك يقع ضمن صلاحيات الحكومة المركزية في بغداد، مما أدى إلى حدوث ليونة أكبر من قبل حكومة الإقليم في تعاملاتها السياسية مع بغداد خلال فترة الأزمات؛ بسبب ارتباط وضع الإقليم الاقتصادي بموازنة العراق المركزية وبما يراه مزاج بغداد العام من تحولات.
ومن الممكن أن يعرّض ذلك الإقليم، لا لابتزازات من بغداد فقط، بل ومن تركيا وأميركا وحتى الصين وروسيا، إذ تستثمر هذه الدول في حالة ضعفه، عبر تقديم بعض المساعدات والمعونات المالية والدعم العام لإنقاذ اقتصاده من الانهيار؛ مما يزيد بُعد الإقليم عن بغداد في حال دعمه من طرف لديه مشاكل مع بغداد أو يرغب في زيادة الضغط عليها.
العلاقات الكردية الأميركية: تحالف في إقليم وعر
بشكل صريح، يكاد يكون الطرف الكردي في العراق أكثر الجهات وضوحًا وقربًا من الإدارة الأميركية، مقارنة بالطرف السني والشيعي، فما تبديه القيادة الكردية في العراق من تعاون إستراتيجي كبير مع المصالح والرغبات الأميركية لا تبديه الأطراف الأخرى، إذ نسج إقليم كردستان العراق علاقات مميزة معها منذ فترة التسعينيات مكنته من أداء دور مهم في السياسة العراقية الداخلية.
بيد أن كل ذلك لم يكن كافيًّا لجعل الولايات المتحدة تُغضِب حلفاءها في بغداد وأنقرة، من أجل تحقيق رغبات أربيل، حين طالب إقليم كردستان العراق بإجراء استفتاء نهاية عام 2017. فهم الكرد في العراق بعد الاستفتاء، أنهم حليف إستراتيجي للولايات المتحدة الأميركية، لكن ليس في كل شيء، غير أن الإشكال يكمن في نظرة الكرد إلى قضية الاستقلال عن العراق على أنها كل شيء، وهو ما قادهم إلى ضرورة مراجعة حقيقية لحجم التعويل والاتكاء الإستراتيجي على الإدارة الأميركية لدعم موقفهم في هذه القضية؛ لذا بدأ الكرد البحث بشكل جديّ عن مناصرين دوليين آخرين لدعم قضيتهم غير الولايات المتحدة الأميركية.
في العموم، تدعم الإدارة الأميركية حكومة الإقليم في مجالات عدة، مقابل مواقف واضحة ومباشرة، إذ ساهمت الولايات المتحدة في دعم جهود قوات البيشمركة الكردية في حربها ضد “تنظيم الدولة الإسلامية” بعد عام 2014، وأمنت لها غطاءً جويًّا حسم الكثير من المعارك ودفع الخطر عن الإقليم، فضلًا عن تدريب القوات الكردية ودعمها المباشر على مستوى التسليح والتعبئة والأموال، التي تراوحت شهريًّا بين 17 و23 مليون دولار بين عامي 2014 و2018.
من جهة أخرى، دائمًا ما يتلقى الإقليم مساعدات ومنح مالية أميركية في مراحل الأزمات المزمنة، تمكنه من إعادة التوازن الداخلي الذي أصبح يعاني من التزعزع نتيجة تذبذب أسعار النفط.
بيد أن كل هذا الدعم يأتي ضمن إطار مشروط، فدائمًا ما كانت رؤية القوى السياسية الكردية تتسق مع ما تريده واشنطن من بغداد، حيث يعمل القادة الكرد في العراق على اختصار الكثير من الخطوات للجانب الأميركي نتيجة سهولة التماهي الكردي مع ما تريده واشنطن من بغداد، سواء على مستوى تشكيل الحكومات المتعاقبة أو فيما يتعلق ببعض القرارات والمواقف، كعدم حضور الكتل السياسية الكردية إلى البرلمان العراقي للتصويت مطلع الربع الأول من عام 2020 على قرار يقضي بإخراج القوات الأميركية من العراق، وبالتالي فشل هذا القرار لكونه اقتصر على بعض الكتل السياسية الشيعية فقط، في ظل مقاطعة سنية كذلك.
وبالرغم من العمق الموجود بين الجانبين في شكل العلاقة وطبيعة التعاون، بدأ الجانب الكردي يبحث عن علاقات دولية وإستراتيجية أخرى خارج الكنف والرؤية الأميركية، إذ إن التقارب الكردي مع الصين وروسيا وفرنسا وألمانيا، بالرغم من أنه محدود وضمن الإطار المقبول أمريكيًّا، فإنه يجب النظر إليه من منطلق تزعزع ثقة الجانب الكردي بواشنطن بعد أحداث استفتاء 2017، الذي لم يفقد قادة الكرد وحدهم الثقة بواشنطن، بل أفقد المجتمع الكردي كذلك هذه الثقة التي كان يراهن عليها طوال السنوات السابقة.
في المحصلة، لا يبدو أن هناك تحولات إستراتيجية في علاقات الجانبين يمكن أن تقود إلى حالة جديدة في الوقت الراهن، فقد فهم الكرد منزلتهم في المدرك الأميركي بعد الاستفتاء، وأن حلم الدولة الكردية غير مفعل حاليًّا في أجندة الإدارة الأميركية؛ لهذا بدأ الكرد التعامل مع هذا الأمر على أنه أمر واقع، مع محاولة الاستفادة قدر الإمكان من الجانب الأميركي على المستوى الإستراتيجي والعسكري والتعبوي، فضلًا عن الاقتصادي.
لا دولة: الثابت في علاقة إيران بكردستان
تشكل العلاقة بين إقليم كردستان العراق وإيران إحدى أعقد الحالات في المنطقة لما فيها من تدافعات تاريخية إيجابًا وسلبًا، فعلى طول الخط، ومنذ عام 1946 حين تأسست أول دولة كردية في مهاباد الإيرانية على يد الملا مصطفى البرزاني والقاضي محمد، وإنهاء إيران هذه الدولة بعد أشهر قليلة بالقوة، يستشعر الأكراد في العراق أخطار الجوار الإيراني الوعر، الذي لا يخفي عداءه المباشر عندما يصرّح الأكراد في العراق برغبتهم في إقامة دولة كردية مستقلة.
وعلى الرغم من ذلك، أتت لغة المصالح التجارية المشتركة بين الجانبين لتلطف الأجواء قليلًا، وتقلل الاحتقان في طبيعة التعاطي مع القضايا المشتركة بين الجانبين، حيث توجد إيران بقوة بصورة غير مباشرة عبر العلاقات السياسية والدبلوماسية داخل السليمانية وحلبجة، معقل حزب الاتحاد الوطني الكردستاني.
كما تتمتع إيران بعلاقات اقتصادية مميزة مع أربيل ودهوك، معقل الحزب الديمقراطي الكردستاني، لكن ضمن إطار الجهود والتعاون الاقتصادي، دون وجود تأثير كبير على مستوى السياسة.
ومن الممكن ملاحظة التأثير الإيراني بشكل مميز في سلوكيات حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وتحديدًا في موقف الحزب الرافض لاستفتاء عام 2017، الذي أصرت أربيل ومسعود البرزاني على إجرائه، إذ كان واضحًا أنه موقف ذو جذور وخلفيات إيرانية.
من جهة ثانية، يؤدي حزب العمال الكردستاني أدوارًا مهمة في السليمانية ومحيط كركوك، ومناطق أخرى داخل السليمانية بسبب وجود تحالف بينه وبين قيادة السليمانية، التي تدعم جهود وأعمال الحزب المضادّة لتركيا. ويأتي هذا التعاون بين السليمانية وحزب العمال، في ظل رؤية إيرانية توظف الحزب من أجل مزاحمة تركيا ومزاحمة أربيل كذلك في مختلف المناطق. بمعنى، أن شبكة التخادم الثلاثية التي ضمت الجانب الإيراني والسليمانية وحزب العمال، تعمل ضدّ شبكة المصالح الأخرى التي نسجتها أربيل سواء مع الجانب التركي أو مع الجانب الأميركي إلى حد ما.
في العموم، يمكن الحديث عن الثابت في موقف إيران من الإقليم، وهو عدم الموافقة على المضي في اتجاه ترسيخ دولة جديدة كردية بمعزل عن العراق. إضافة إلى أن إيران، تنظر إلى إقليم كردستان على أنه سوق مهم لبضائعها بشكل كبير.
كما تحصل إيران على موقف شبه ثابت من كردستان العراق، وتحديدًا من الجناح الكردي في السليمانية (حزب الاتحاد الوطني الكردستاني)، متعلّق بتشكيل الحكومات المتعاقبة في العراق وتمرير بعض القضايا التي تطمح إليها إيران. لهذا، كثيرًا ما تحسب سياسات ومواقف السليمانية على أنها تتماهى مع المصالح الإيرانية بشكل كبير.
العلاقات التركية الكردية: التركيز في الاقتصاد وتجنّب ما سوى ذلك
استطاع نيجيرفان بارزاني، رئيس إقليم كردستان الحالي، أن يخلف برهم صالح في قيادة الملف الكردي العراقي مع الجانب التركي، إذ أوصل علاقات كرد العراق وتحديدًا الحزب الديمقراطي الكردستاني، إلى نوع من البراغماتية المتبادلة بين الجانبين، بما يضمن تحقيق المصالح المشتركة.
وتتميز العلاقات الاقتصادية التركية الكردية، بأنها علاقات متينة بحكم الجوار الجغرافي للجانبين. وعلى الرغم من أن علاقات الجانب الكردي مع تركيا لا تندرج ضمن الإطار الدبلوماسي، إذ إن الإطار الدبلوماسي للعلاقات هو شأن اتحادي سيادي تقوم به بغداد، فإن تركيا تتمتع بعلاقات مميزة اقتصاديًّا مع الإقليم الكردي من منطلق التبعية الاقتصادية، إذ تشير بعض الإحصاءات الحديثة الصادرة عام 2024 إلى أن حجم التبادل التجاري العام الماضي تجاوز 19 مليار دولار، بوجود أكثر من 12 ألف شركة تركية في العراق، أكثر من 50% منها في إقليم كردستان العراق.
ولذلك لا توجد خلافات جوهريّة بين الجانبين، خاصة فيما يتعلق بحجم التبادل واتفاقيات بيع ومرور الغاز والنفط والكهرباء. ولعل أبرز خلاف بينهما، هو طموحات إقليم كردستان العراق التي دائما ما كانت تجابه بموقف تركي صارم، بعدم قبول أي تحركات تتعلق بالاستقلال عن العراق، إذ ترفض تركيا هذه القضية رفضًا قاطعا، بالقدر الذي يجعلها قضيّة أمن قومي بالنسبة لها، إلى درجة أنها قد تدخل في حرب مباشرة مع الإقليم في حال ذهابه بهذا الاتجاه دون التنسيق معها.
إضافة إلى ذلك، تعاني الحكومة التركية من توغل حزب العمال الكردستاني في الكثير من مناطق الإقليم، سواء في محافظة السليمانية ودهوك وأربيل أو في المناطق المتنازع عليها مع الإقليم. إذ يزعج الحزب الأمن القومي التركي بشكل مستمر؛ لهذا دائما ما يقوم الجانب التركي بعمليات مباشرة ضد نشاطاته.
ولعل وجود الحزب في فترات سابقة كان نتيجة قبول سياسي كردي، لكن يبدو أن الأمور الآن خرجت عن سيطرة الإقليم، فلا يستطيع الإقليم خاصة جناح أربيل أن يطلب من الحزب مغادرة أراضي الإقليم؛ لأن الحزب لن يمتثل، فهو يتمتع بشعبية عالية بين الأكراد داخل الإقليم، كما لا يستطيع الإقليم الدخول في مواجهة عسكرية داخلية من أجل الرغبات التركية، ولكنه يكتفي بالتنسيق مع الجانب التركي عند ضرب الأتراك عناصر الحزب.
في العموم، يبدو أن الاقتصاد هو الثابت حتى الآن في العلاقات بين الجانبين، أما الأمن والسياسة والقضايا القومية الأخرى فلا تزال محل خلاف كبير مع الجانب التركي؛ لهذا يقع إقليم كردستان العراق في كماشة الجانب التركي بشكل مباشر وصريح؛ مما يزيد من الهوان الإستراتيجي لأي دولة يمكن أن تظهر مستقبلًا للأكراد، حيث ستكون دولة مخنوقة جغرافيًّا من جميع الجهات تقريبا؛ ولهذا لا يستطيع الجانب الكردي في العراق سوى التماهي مع الرغبات التركية، وهذا الحال سيستمر مستقبلًا سنين عديدة.
ما رؤية إقليم كردستان العراق لتطبيع العلاقات مع إسرائيل؟
من الضروري الانتباه إلى أن القضية الفلسطينية في منظورها العربي، تتخذ من الأساس القومي العروبي والأساس الديني العقائدي مصدرًا رئيسًا تستمد منه المواقف العامة اتجاه إسرائيل وفلسطين، في حين يرى المجتمع الكردي من منظور قومي أنه ليس ثمة تدافع تاريخي بين الأكراد وإسرائيل.
ومع ذلك، فإن جلّ الموقف الكردي الإيجابي من القضية الفلسطينية، يستمد محركاته من الأساس الديني فقط، فالمسلمون الأكراد لديهم موقف المسلمين العرب ذاته من قضية فلسطين، ولكن إذا قارنّا بين عرب العراق وأكراد العراق، فلن نجد الموقف الاجتماعي ذاته.
بيد أن الحس القومي في إقليم كردستان أعلى صوتًا بكثير من الحس الديني الإسلامي؛ لهذا لا يمكن الحديث عن موقف عراقي شامل من إسرائيل، يشمل إقليم كردستان.
ورغم ذلك، فإن الإقليم يحدد موقفه من القضية الفلسطينية في إطار ما تتخذه وزارة الخارجية العراقية من موقف رسمي عام، إذ دفع الإقليم هذه الإشكالية عن نفسه، من خلال إعلانه والتزامه بنص الدستور العراقي الذي يشير إلى أن بغداد هي الطرف الرئيس المسؤول عن علاقات العراق الخارجية.
ومع ذلك، فلا يبدو أن الإقليم ملتزم حرفيًّا بهذا البند، حيث أقام علاقات واسعة مع مختلف دول العالم بمعزل عن بغداد ورغباتها. لكنه فيما يخص إسرائيل، لا يبدو أنه يسعى لإقامة علاقات علنية معها، قد تسيء إلى علاقاته المباشرة مع حلفائه وأصدقائه داخل وخارج العراق.
وبالرغم من اختلاف المنطلقات التي ينطلق منها الإقليم في نظرته إلى إسرائيل مقارنة بالقوى السياسية السنية والشيعية في العراق، فإن قادة الإقليم يعتقدون أنه ليس من الضروري أن تكون هناك علاقات علنية مع إسرائيل في الوقت الحالي، قد تضره ولا تنفعه.
ولعل الإقليم لا يرفض إقامة علاقات مع إسرائيل إن سنحت له الفرصة والظروف في وقت لاحق، مع أن ارتدادات هذا الموقف حاليًّا قد تكون كبيرة على الإقليم داخليًّا، ولا سيما أن هناك محورًا مهمًّا ورئيسًا في العراق وهو “محور المقاومة”، الذي يستهدف كل ما يتعلق بالولايات المتحدة وإسرائيل.
لهذا، ورغم وجود تواصل غير مباشر لإقامة علاقات اقتصادية بين إسرائيل والإقليم، من خلال دول أخرى وسيطة مثل الولايات المتحدة الأميركية، فإن قادة الإقليم يعتقدون أنه ليس من الضروري أن يعلن عن ذلك، فلا يرفض الإقليم العمل مع شركات اقتصادية يملكها رجال أعمال إسرائيليين مثلًا، أو جنسيات أخرى مرتبطة بالمصالح الإسرائيلية، لكنه ليس من السهولة ملاحظة ذلك.
وزد على ذلك، أن بعض المحددات الداخلية الكردية التي تنطلق من منطلق ديني قد تمنع إقامة هذا التواصل. ففي داخل الإقليم، هناك تيار ديني واسع يدعم جهود الإقليم السياسية وهو رافض لإسرائيل، وبالتالي يخشى قادة الإقليم خسارة موقف هذه التيارات داخليًّا إذا أعلنوا علاقاتهم مع إسرائيل.
أكراد العراق بين فعلين
وهكذا، فإن القضية الكردية ما زالت عالقة بين تدافعات الإقليم والمجتمع الدولي، وانعكس ذلك على طبيعة هذه القضية بين البلدان الأربعة الرئيسة: العراق، وسوريا، وتركيا، وإيران. الأمر الذي ولد تفاعلات خاصة داخل العراق، تراوحت بين الفعل المسلح والفعل السياسي.
إن العلاقة بين بغداد وإقليم كردستان، علاقة معقدة تخضع لتوازنات متعددة الأبعاد، إذ يعلو صوت الإقليم في وجه بغداد كلما ارتفعت أسعار النفط العالمية وقلّت الحاجة إلى الجلوس مع بغداد من أجل المفاوضات على حصة الإقليم، وينخفض صوته إذا تراجعت تلك الأسعار، لتصبح أربيل أكثر خضوعًا في تعاملاتها.
ويؤمن قادة الإقليم بأن إعلان الدولة الكردية لا يمكن أن يكون في أربيل، وإنما يجب أن يكون في بغداد. وقد توصّل قادة الإقليم إلى هذا الاقتناع بعد صراع حافل، سياسي وعسكري، كان آخره استفتاء 2017 لاستقلال الإقليم عن العراق، إذ أُنهي هذا الاستفتاء سياسيًّا وقانونيًّا وعسكريًّا؛ مما أعاد أربيل إلى مرحلة معقدة من الخضوع لبغداد بعد فشل سياسة الأمر الواقع، التي طالما استخدمها قادة الإقليم اتجاه بغداد.
فضلا عن وعورة المحيط الإقليمي مقارنة مع بغداد، فالأخيرة كانت هي المعني الأول بالتفاوض مع الإقليم في الاستفتاء وكانت الأكثر سهولة في التعامل، مقابل تهديدات الاجتياح العسكري وقطع العلاقات التجارية مع الإقليم من قبل إيران وتركيا. على إثر ذلك، أدرك الإقليم أن مفتاح الدولة الكردية الذي أصبح بعيد المنال، موجود في بغداد وليس في أربيل.
وقد صارت حالة التهديد الفصائلية المستمرة اتجاه الإقليم (مطارات، شركات نفط وغاز، مواقع عسكرية وقنصليات)، إحدى الإشكاليات المزمنة داخل العراق، لكون عمليات الاستهداف مرتبطة بشكل مباشر بالتصعيد وخفض التصعيد بين الولايات المتحدة وإيران من جهة، وإيران وإسرائيل من جهة أخرى. هذا فضلا عن ارتباط هذا الاستهداف للإقليم بعوامل اقتصادية تخص الأمن القومي الإيراني، متعلّقة بالحدود مع العراق وما تصدره إيران من غاز لتشغيل المحطات الكهربائية العراقية.
تعيش الأحزاب السياسية الكردية حالة متقدمة من الصراع تقف على بعد خطوة واحدة في بعض الأحيان من الصدام الداخلي المسلح. غير أن رؤية رئيس الإقليم السابق ورئيس الحزب الديمقراطي الحالي مسعود البارزاني، تمنع حدوث أي اقتتال كردي مهما كان الثمن، إضافة إلى البراغماتية العالية التي تبديها الأحزاب السياسية الأخرى بعد تعمقها في عالم المصالح والخوف من فقدان المكتسبات والرفاه.
لكن أغلب الاحتقانات الكردية لا يتم تفكيكها، وهي في حالة تراكم مستمر، وقد تنفجر اجتماعيا في أي لحظة بعد رحيل مسعود البارزاني.
في النهاية، أدرك قادة الإقليم، ولا سيما بعد عام 2017، أن الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة لتوفير الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني، قد يكون رهانًا خاسرًا على المستوى البعيد، لكون الولايات المتحدة ليس من بين أجنداتها دعم التوجه الكردي لإقامة دولة في الوقت الحالي، وذلك لمعرفة الجانب الأميركي أن هذه الدولة لا يمكن أن تصمد أسابيع قليلة في ظل وعورة المنطقة الإقليمية، بوجود فاعل إيراني وتركي، قد يقود إلى نسف كل مكتسبات أميركا في الإقليم، التي عملت على تأسيسها سنوات طويلة.