من ديغول إلى ماكرون.. فرنسا والملف الفلسطيني | سياسة
يبدو أنّ السياسة الفرنسية تتجه، تدريجيًا وبشكلٍ حذر، نحو استعادة مواقفها المتوازنة حيال الأوضاع في الشرق الأوسط والملفّ الفلسطينيّ. فبعدما دعا السفير الفرنسيّ في الأمم المتحدة، نيكولا دو ريفيير، إلى وقف فوري للحرب على غزّة، واصفًا الوضعَ الإنسانيَّ فيها بالكارثي، بادر هذا الأخير بداية الأسبوع الماضي، إلى تقديم مشروع قرار يدعو إلى وقف دائم لإطلاق النار، والتّحضير لمرحلة ما بعد الحرب.
غير أنّ هناك أصواتًا أخرى، تواصلُ انتقاداتها للسياسة الفرنسيّة منذ هجوم السابع من أكتوبر /تشرين الأوّل الماضي، معيبة عليها ما تسمّيه بسياسة “العصا والجزرة والتناقض الصّارخ في المواقف”. ففي الوقت التي ترسل فيه باريس المساعدات الغذائيّة للمنكوبين، تواصل في الآن نفسه تزويد الجيش الإسرائيليّ بالأسلحة.
وتدعو هذه الأصوات إلى تبنِّي مواقف تنسجم مع قيم العدل وحقوق الإنسان التي قامت عليها الجمهورية الفرنسيّة، منبّهة إلى مخاطر الابتعاد عن النهج الدبلوماسيّ المعتاد حيال السلام في المشرق العربي، منذ شارل ديغول، والذي تعزّز أكثر في عهد جاك شيراك.
فكيف تغيّرت العقيدة الدبلوماسية الفرنسية إزاء الأوضاع في الشرق الأوسط، والتي رجحت إلى عهد قريب خيار التوازن، والحكمة وقيم العدل والسلام، لتصطف بشكل واضح إلى جانب الطرف الإسرائيلي؟
فرنسا والسلام في الشرق الأوسط
لنعدْ إلى ستينيات القرن الماضي وحرب الستة أيام التي سجلت منعطفًا بارزًا في الموقف الفرنسي. فأمام تزايد الاعتداءات الإسرائيلية، بادر شارل ديغول في السابع والعشرين من نوفمبر /تشرين الثاني عام 1967، إلى تنظيم لقاء صحفي في باريس انتقدَ فيه إسرائيل بشكل صريح، معتبرًا أن أيّة تسوية للصّراع تمرّ عبر إخلاء الأراضي التي تم الاستيلاء عليها، معلنًا دعمه قرارَ مجلس الأمن رقم 242، الداعي إلى إنهاء الاحتلال العسكري للأراضي الفلسطينية.
لهجة الرئيس الأوّل للجمهورية الخامسة، ذهبت إلى أبعد حدّ حينما صرح قائلًا: “الآن، تنظم إسرائيل عملية الاحتلال على الأراضي التي استولت عليها، وهو ما لا يمكن أن يتم دون قمع، وقهر وطرد. والمقاومة التي برزت تصفها اليوم بالإرهاب”. هذا التصريح عرض ديغول إلى انتقادات شديدة بلغت حدّ اتهامه من قبل البعض بمعاداة السامية.
وفي يونيو/ حزيران، من العام نفسه، ستتّجه باريس، الحليف التاريخي لتل أبيب، إلى تبنّي خطوة أكثر صرامة، تمثّلت في فرض حظر على تزويدها بالأسلحة، بعدما ساعدتها فيما مضى على امتلاك السلاح النوويّ.
في بداية الثمانينيات، سيقومُ الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران بزيارة إلى تل أبيب، هي الأولى من نوعها لرئيس فرنسي، انسجامًا مع تعاطف تاريخي في أوساط الحزب الاشتراكي الفرنسي كان محطّ انتقاد دائم من مفكّرين بارزين، خاصة من احتكّ منهم مع الاستعمار الفرنسي، مثل المناضل التونسي ألبير ميمي، والطبيب الجزائري فرانتس فانون والسياسي المغربي عمر بنجلون. ورغم تأكيد ميتران على متانة “الصداقة الفرنسية الإسرائيلية”، فإن الخط الديغولي ظل ثابتًا لم يتزحزح في نهج السياسة الخارجية الفرنسية.
وبعودة اليمين الفرنسي إلى الحكم، سيقوم الرئيس جاك شيراك آنذاك بزيارة إلى رام الله، في الثالث والعشرين من أكتوبر /تشرين الأول عام 1996، حيث سيلقي خطابًا من أجل السلام يشدّد فيه على أهمية قيام دولة فلسطين. وسيؤكد أمام الزعيم ياسر عرفات وأعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني على عراقة العلاقات بين فرنسا وفلسطين.
وعندما انتقل شيراك في زيارة مماثلة إلى القدس، ثار غاضبًا في وجه رجال الأمن الإسرائيلي، عندما منعوا الفلسطينيين من الاقتراب منه، قائلًا: “ماذا تريدون مني؟ أن أعود إلى طائرتي والرجوع إلى فرنسا؟” شيراك سيدعو حينها إلى إنهاء الاحتلال لما يشكّله من خطورة على فرص التعايش والسلام الدائم في الشرق الأوسط.
غير أن اليمين الفرنسي، الذي ظل ملتزمًا بخط التوازن والحكمة، سيشهد انزياحًا ملحوظًا لصالح الطرف الإسرائيلي على عهد الرئيس السابق نيكولا ساركوزي. فخلال زيارة هذا الأخير في يونيو/حزيران 2008، سيلقي خطابًا أمام الكنيست اعتبره البعض بمثابة قصيدة مدح، يعلن فيه أن “إسرائيل ليست وحدها، وأنّ فرنسا ستكون دائمًا إلى جانبها عندما يكون وجودها مهددًا”.
حزب الجمهوريين، المتأثر بسياسة رئيسه السابق، سيواصل النهج نفسه؛ ليقطع بشكل تام مع الخط الديغولي. بل سيسعى إلى التخلص من صورة “فرنسا الداعمة للفلسطينيين”، وهو ما يحكم إلى اليوم مواقفه المنزاحة بشكل واضح لليمين المتطرف الإسرائيلي.
فرنسوا هولاند وإيمانويل ماكرون، سيواصلان من جهتهما المسار الذي خطّه ساركوزي. بل إن الرئيس الحالي سيسارع إلى زيارة تل أبيب؛ لإعلان الدعم والمساندة المطلقين، عقب هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأوَّل الماضي. وفور عودته سيتزايد الهجوم الإسرائيلي على غزة، وترتكب المزيد من المجازر في حق المدنيين العزل والمرضى والطواقم الطبية في المستشفيات، في ازدراء تام للرأي العام الدولي الغاضب وللمواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
تنظيمات المعارضة
يجدر التذكير أن توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 ساهم إلى حدّ بعيد في تراجع الاهتمام الدولي بالملف الفلسطيني، إذ خفتَ حماس الشعوب ومعظم الداعمين له. وهو وضع ساهمت فيه ظاهرة الإرهاب بتصدرها مشهد الأحداث، حيث باتت أولى الأولويات، خاصة بعد احتلال العراق واندلاع الحرب في سوريا.
غير أن البوصلة ستُعدل من جديد، وسيفهم الرأي العام تدريجيًا، بما فيه الفرنسي، أن السلام الدولي يمر أولًا وأخيرًا عبر المساواة التامة في تطبيق القانون الدولي، ووضع حد لسياسة الكيل بمكيالين. فلا يمكن إدانة نازية هتلر والتغاضي عن غطرسة وجرائم نتنياهو في حق المدنيين.
لقد كان الرأي العام الفرنسيّ إلى عهد قريب غير مبالٍ بما يحدث من حوله، متأثرًا إلى حد كبير بخطاب إعلامي لا ينفكُّ عن إثارة الأحقاد، خاصةً، إزاء الجاليات العربية والمسلمة والمهاجرين الوافدين من أفريقيا. إلا أن هجوم السابع من أكتوبر /تشرين الأول الماضي، وما تلاه من مجازرَ في غزة، سيعيد الملفّ بشكل مكثف إلى واجهة الأحداث، وهو ما يعتبره البعض صحوة لعبت فيها الجالية المسلمة وتيارات اليسار المناضل ومنصات التواصل الاجتماعي دورًا حاسمًا. إذ خرج آلاف الفرنسيين للتظاهر في الشوارع، مندّدين بالعدوان على المدنيين، وداعين إلى وقف فوري لإطلاق النار، الأمر الذي ساهم في الضغط من أجل مراجعة السياسة الرسمية بشكل تدريجي.
إن التنظيمات الفرنسية، التي دعمت ولا تزال، السلام في الشرق الأوسط وحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته، تعد اليوم على رؤوس الأصابع، لكن شعبيتها وتأثيرها يتزايدان يومًا بعد آخر. ويعد الاتحاد اليهودي الفرنسي من أجل السلام (UJFP)، واحدًا من أهم هذه التنظيمات. فمنذ تأسيسه عام 1994، يقدم نفسه كمنظمة “يهودية علمانية، كونية تعارض الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطيني وتدعو إلى سلام عادل ودائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين”.
التنظيمات الحقوقية والسياسية، خاصة أنَّ حزب فرنسا الأبية والحزب الشيوعي الفرنسي وجزءٌ مهمٌّ من البيئيين، لعبت كذلك دورًا ملحوظًا في التحول الذي تشهده الدبلوماسيّة الفرنسية إزاء الملف الفلسطيني.
وتتميز الساحة الفرنسية بغياب تام لتأثير الدبلوماسية العربية على النخب السياسية الفرنسية في هذا الموضوع، باستثناء اجتهاد الدبلوماسية القَطرية في تعديل الكفة، خاصة بعد زيارة الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر لباريس في فبراير/ شباط الماضي، ومباحثاته مع الرئيس إيمانويل ماكرون بشأن موضوع الهدنة والمساعدات الإنسانية كجزء من الدور الفعّال الذي تقوم به قطر في الوساطة بين حركة حماس وإسرائيل.
ورغم المساعي الفرنسيّة الأخيرة المتمثلة في الدعوة إلى وقف دائم لإطلاق النار، وإرسال المساعدات إلى الضحايا في غزة، تدعو المعارضة الفرنسيّة اليوم، وبشكل صارم، إلى وقف جميع مبيعات الأسلحة لإسرائيل على غرار، كندا، وهولندا. وهو موقف عبّر عنه 115 برلمانيًا وبرلمانية في رسالة إلى الرئيس إيمانويل ماكرون، مشدّدين فيها على ما أسموه بـ “خطورة المشاركة في الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني”.
أحد النشطاء الحقوقيين لخّص الدبلوماسية الفرنسية الراهنة بالقول: ” إنها سياسة الطعام والسلاح في الآن نفسه. هذا كل ما في الأمر، وما لم نتوقف عن حظر الأسلحة فلا أهمية للمساعدات الغذائية”.
إنّ حرب الإبادة المتواصلة في غزة باتت نيرانها تمتدّ لتهدّد السلم الداخلي والتعايش المشترك في الكثير من الدول الغربية، خاصة بين مواطنيها اليهود والمُسلمين. ولا يمكن استثناء فرنسا من هذا الخطر المحدق، بحكم احتضانها نسبةً مهمةً من اليهود والمسلمين الذين يتأثرون اليوم بشكل مباشر، بما يحدث في فلسطين، في ظلّ إعلام متحيّز وغير منصف.
لا شيء سيعيد لفرنسا تأثيرها وبريقها غير الوفاء للخطّ المتوازن الذي دأبت عليه في السابق، وشكّل على مدى عقود من الزمن، عقيدة راسخة في ساسيتها الخارجية. فكثيرون يعتبرون اليوم أنّ باريس فقدت قوتها الدبلوماسيّة المعهودة وباتت استقلاليتها في اتخاذ القرار الدولي على المحك، الأمر الذي يبدو جليًا في الحرب على المدنيين في غزة التي تدور رحاها، منذ أشهر عدة، وغيّرت الكثير من معادلات السياسة الدوليّة، حتى الآن.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.