صراع الكونغو الديمقراطية يهدد الاستقرار الهش في البحيرات العظمى | سياسة
بغضّ النظر عن الشكوك التي أُثيرت بشأن مصداقيّة نتائج الانتخابات التي جرت مطلع هذا العام وفاز فيها الرئيس “فليكس شيسكيدي” بدورة رئاسية ثانية، فإن نجاح الانتخابات في حد ذاته في بلد مضطرب مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية، يعتبر نصرًا مهمًا للديمقراطية، وتعزيزًا لممارسة سياسية محمودة تقوم على التداول السلمي للسلطة.
تعيش الكونغو الديمقراطية واقعًا محبطًا، يجسد أزمة الدولة الأفريقية الحديثة، والتي بدأت خطأ، وعانت قيادتها ضحالة في الرؤية منعتها من حسن استغلال وإدارة الموارد الهائلة التي تتمتع بها.
فهي بلاد تحمل في باطنها خيرات قلّ أن توجد في دولة أخرى في العالم، ولكن هذا الثراء الداخلي المفرط في باطن الأرض، يقابله فقر مدقع على ظاهر الأرض، يُجسد في لوحة سريالية قول الشاعر العربي:
كالعيس في البيداء يقتلها الظَّما.. والماء فوق ظهورها محمول.
تحتل الكونغو الديمقراطية المرتبة الثانية في القارة من حيث المساحة، بعد الجزائر، والمرتبة الرابعة في القارة من حيث تعداد السكان بعد نيجيريا ومصر وإثيوبيا، ولكنها تتقدم على كل دول القارة من حيث الموارد الطبيعية من معادن ثمينة مثل الكوبالت، حيث تحتكر الكونغو أكثر من نصف إنتاج العالم من هذا المعدن النفيس، والذهب والنحاس. بالإضافة إلى النفط والثروة الغابية الشاسعة والمخزون الهائل من المياه.
كل هذه الثروات يمكن أن تجعل منها واحدة من أغنى وأكثر بلاد العالم رفاهية، ولكن على العكس، تحتل الكونغو الديمقراطية المرتبة الخامسة في قائمة أفقر دول العالم، والسابعة عالميًا من حيث انعدام الأمن، وذلك بسبب تعدد بؤر النزاعات الداخلية والإقليمية، وضعف الدولة المركزية ما أدَّى بدوره إلى تجذر الفساد وسوء الإدارة.
لم يعمر نظام الرئيس كابيلا الأب طويلًا وذلك بسبب تغير التحالفات الإقليمية ومضاعفات الصراع الإثني الدامي في رواندا، والذي أدّى إلى تجدد الحرب الكونغولية مرة ثانية، وراح ضحيتها الرئيس كابيلا نفسه مقتولًا في العام 2001، وتولى ابنه جوزيف كابيلا السلطة
تاريخ من الاضطرابات
تاريخ الكونغو الديمقراطية هو سلسلة من الاضطرابات والنزاعات السياسية والعسكرية المتتالية، والتي يزكّيها البعد الإثني والتباين الفكري الذي أوقدت جذوته دول المركز، أو القوى الكبرى في العالم. وترجع جذور كل هذه الصراعات إلى التنافس الدولي والإقليمي حول الموارد الهائلة لهذا البلد الساحر، الذي أصبح ثراؤه نقمة ولعنة عليه.
لقد كانت حقبة الاستعمار البلجيكي للكونغو واحدة من أسوأ صفحات تاريخ هذا البلد المنكوب، وفي الواقع كانت الكونغو أكثر من مستعمرة، فقد اعتبرها الملك “ليوبولد الثاني” ضيعة خاصة له، وسخر مواردها الهائلة لتعظيم ثروته الشخصية. إلا أن مرحلة ما بعد الاستقلال لم تكن أحسن حالًا، حيث احتدم الصراع بين الشرق والغرب للسيطرة على البلاد، وكان صراعًا بلا رحمة راح ضحيته الثائر الكونغولي المعروف باتريس لوممبا مقتولًا في العام 1961.
دخلت البلاد مرحلة من الاقتتال الداخلي انتهت بصعود الجنرال “موبوتو سيسيكو” للسلطة وحكم البلاد حكمًا مطلقًا استمر لأكثر من ثلاثين عامًا. ومنذ مطلع تسعينيات القرن الماضي ضعفت قبضة نظام “موبوتو” على السلطة، وبدأت الحرب الكونغولية الأولى التي انتهت بإسقاط نظام موبوتو، وتولي لوران كابيلا السلطة في العام 1997.
لم يعمر نظام الرئيس كابيلا الأب طويلًا وذلك بسبب تغير التحالفات الإقليمية ومضاعفات الصراع الإثني الدامي في رواندا، والذي أدّى إلى تجدد الحرب الكونغولية مرة ثانية، وراح ضحيتها الرئيس كابيلا نفسه مقتولًا في العام 2001، وتولى ابنه جوزيف كابيلا السلطة.
استمرت حرب الكونغو الثانية عمليًا حتى العام 2004، حيث أدّت التفاهمات الإقليمية بين دول جوار الكونغو بالذات رواندا وأوغندا وأنغولا إلى توقيع اتفاقية سلام سمحت بتنظيم انتخابات أوصلت جوزيف كابيلا الابن إلى الحكم.
وفي العام 2018 جرت انتخابات أثيرت حول صحتها تساؤلات كثيرة أيضًا، أوصلت الرئيس الحالي فليكس شيسكيدي إلى السلطة، وكانت هي المرة الأولى في تاريخ الكونغو الديمقراطية السياسي، التي يتم فيها نقل السلطة بشكل سلس من رئيس منتخب إلى رئيس منتخب.
عودة إلى جذور الصراع
الصراع الحالي في الكونغو الديمقراطية، والذي تطوّر ليشمل منطقة البحيرات العظمى كلها، يرتبط بشكل وثيق بالحرب الرواندية في العام 1994، والتي عرفت بمجزرة التوتسي، حيث قتل ثوار من الهوتو – في أسوأ موجة انتقام عرقي عرفتها القارة – أكثر من مليون من التوتسي بوحشية قل نظيرها. يضاف إلى هذه الحرب حروب مهمة أخرى، وهي الحرب الأهلية في الجارة بوروندي التي تحكمها أغلبية من الهوتو، وكذلك الحرب الطويلة في أوغندا والتي بدأت منذ رئاسة الجنرال عيدي أمين، وحتى وصول الرئيس الحالي يوري موسيفيني إلى السلطة في العام 1985.
كما أسهمت حروب أخرى في الإقليم بدرجات مختلفة في تأجيج الصراعات في البحيرات العظمى، وهي الحرب الأنغولية والحرب في الجارة أفريقيا الوسطى، والحرب الطويلة في جنوب السودان. كل هذه الحروب المستعرة جعلت من البحيرات العظمى برميل بارود سريع الاشتعال.
أدى انتصار الجبهة الوطنية الرواندية بقيادة الرئيس الحالي “بول كاغامي” وآخرين، في الحرب الرواندية، والسيطرة على العاصمة كيغالي إلى هجرة أكثر من مليون من الهوتو إلى منطقة شرق الكونغو، حيث تمركزوا في ولايتي كيفو الشمالية والجنوبية، وكونوا حركات مسلحة لمهاجمة الجيش الرواندي.
استخدمت هذه الحركات العنف والقوة للسيطرة على مناجم الذهب والألماس والكوبالت وغيرها، وسخرت عائداتها في شراء السلاح، وتسديد فاتورة الحرب الباهظة. وأدت المنافسة والطمع بين القادة والرغبة في السيطرة على الأموال والموارد، إلى تناسل الحركات بشكل لا متناهٍ حتى جاوز عدد الحركات المسلحة في الكونغو المائة حركة.
أنشأت الحركات المسلحة في الكونغو تحالفات سياسية مع دول الإقليم بالذات مع رواندا وكينيا وبدرجة أقل مع أوغندا، ما عكر صفو العلاقات السياسية بين هذه الدول وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
أهم هذه التحالفات هو تحالف حركة إم 23 الكونغولية المسلحة مع جمهورية رواندا، وتعتبر هذه الحركة هي أكبر وأنشط حركة مسلحة حاليًا، وغالبية مقاتليها من التوتسي الكونغوليين، وبسبب ذلك تجد هذه الحركة دعمًا كبيرًا من الحكومة الرواندية.
في الواقع لم يعد دعم الحكومة الرواندية حركةَ إم 23 خافيًا، لدرجة أن فرنسا طلبت رسميًا من الحكومة الرواندية وقف دعمها هذه الحركةَ، كما نددت الحكومة الكونغولية أكثر من مرة بدعم رواندا المستمر هذه الحركة.
أدى هذا الموقف إلى تأزم العلاقات بين رواندا والكونغو الديمقراطية، ووصل إلى مرحلة قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. ونظرًا لنشاط مقاتلي هذه الحركة واستهدافهم المتكرر الجيشَ الكونغولي المثقل بجراحات الحروب الطويلة، فإن العلاقة بين رواندا والكونغو مرشحة لمزيد من التأزم.
يبدو أن غضب الرئيس شيسكيدي من رواندا قد بلغ مداه، لدرجة أنه صرح في إحدى خطبه الانتخابية بأن رواندا إذا واصلت دعم حركة إم 23 الإرهابية فإن الجيش الكونغولي لن يتردد في غزو رواندا.
ربما يكون هذا التصريح الخطير مجرد وعد انتخابي لن ينفذ، وهكذا نأمل، غير أن مثل هذه التصريحات تكشف مدى تدهور العلاقات بين البلدين، وتصب مزيدًا من الزيت على نار العداوة المشتعلة بين الجانبين. ولكن الرئيس شيسكيدي عاد في شهر فبراير/شباط الماضي ليكرر نفس تهديده لرواندا، بعد الهجمات الكبيرة التي شنتها حركة إم 23 على حاميات وتجمعات سكانية في بلاده، ما يشير إلى أن العلاقات بين الكونغو الديمقراطية ورواندا مرشحة لمزيد من التصعيد الذي قد يصل إلى مرحلة المواجهة المسلحة.
أما الجارة كينيا فإن علاقاتها مع الكونغو الديمقراطية مرشحة أيضًا لمزيد من التدهور، عبّرت عنه نيروبي بسحب قواتها المشاركة ضمن القوة الأفريقية لدعم السلام في شرق الكونغو. والعداء بين البلدين تطور نحو الأسوأ عندما سمحت كينيا بعقد اجتماع للمعارضة الكونغولية في العاصمة نيروبي انتهى بالإعلان عن قيام تحالف نهر الكونغو، وهو تحالف سياسي عسكري موجَّه ضد حكومة الرئيس شيسكيدي.
تكشف أهداف التحالف الجديد بشكل واضح أنه يمكن أن يستخدم الخيار العسكري في مواجهة حكومة الرئيس شيسكيدي. وهكذا فإن الرئيس الكونغولي يبدأ ولايته الثانية في ظل تعقيدات داخلية عميقة وعزلة إقليمية بادية للعيان، وأزمات حقيقية تحتاج عود ثقاب واحد لتنفجر في كل الإقليم.
تحديات الإصلاح الاقتصادي
يسعى الرئيس شيسكيدي بشدة إلى إكمال الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية التي بدأها في دورته الأولى؛ بغية معالجة التحديات الداخلية الكبيرة في المجتمع الكونغولي. فقد طبق في الدورة الأولى سياسة مجانية التعليم العام، والحد من الفقر، وتوسيع دائرة الخدمات الأساسية. ولكن هذه الإصلاحات تحتاج إلى موارد كبيرة حتى تثمر، وفي ظل الفساد المستشري في كل مفاصل الدولة سيجد صعوبة كبيرة في توفير الموارد المالية للإصلاح الاجتماعي.
يتبنى الرئيس الكونغولي برنامج إصلاح ونهضة اقتصادية يقوم على محورين مهمين: زيادة الاستثمارات في قطاع المعادن الذي يعتبر الرافعة الأساسية لاقتصاد البلاد.
وفي هذا المجال فقد نجح في نهاية العام الماضي في توقيع اتفاقية مهمة مع دولة الإمارات العربية المتحدة بضخ 1.9 مليار دولار في قطاع التعدين الكونغولي، لتصبح الإمارات هي المستثمر الثاني في مجال المعادن بعد الصين.
ويواصل الرئيس الكونغولي حواره مع الصين الشريك والمستثمر الأكبر وذلك بغية رفع نسبة الدولة من عوائد استثمارات الشركات الصينية في مجال المعادن والتي تزيد عن ستة مليارات دولار. ومن جانب آخر، يواصل الرئيس برنامجه لتطوير وتحديث البنية التحتية في مجال الطرق، لا سيما الطرق التي تربط بلاده بدول الإقليم المتصالحة معه، وهي تنزانيا وأنغولا، وذلك بغية تعزيز التجارة البينية بعد أن أصبحت بلاده العضو السابع في المجموعة الاقتصادية لدول شرق أفريقيا.
ومع كل ذلك يبقى السؤال قائمًا حول نجاعة هذه التدابير في تحقيق غاياتها، وإلى أي مدى تستطيع الديمقراطية الهشة في الكونغو الديمقراطية أن تصمد في مواجهة حركات التمرد المسلحة التي تتناسل كل يوم؟
وإلى أي مدى تستطيع دول الإقليم إصلاح العلاقات المتردية بين الكونغو الديمقراطية ورواندا، لتخفيف غلواء الحركات المسلحة الكونغولية والحيلولة دون أن تتحول منطقة البحيرات العظمى كلها إلى ساحة مواجهة شاملة في منطقة تمثل خاصرة القارة الأفريقية المنكوبة بالنزاعات؟
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.