الحل في لبنان لن يأتي من البوابة الفرنسية | سياسة
سلّم لبنان متأخرًا ردّه الإيجابي على الورقة الفرنسية التي سُلّمت قبل مدة من سفارة فرنسا في لبنان، فلم يأتِ الرد اللبناني بالجديد، بل أكّد الكلام المتكرر بالتزام لبنان بالقرارات الدولية وعلى رأسها الـ 1701، شريطة أن يكون مقرونًا بالتزام إسرائيلي كذلك.
وكعادة اللبنانيين في تعبئة الوقت، سارعت كلّ الأطراف للتهليل بالدور الفرنسي، وإمكانية أن ينسحب على تجديد السعي لحلحلة مشاكل لبنان كافةً، وعلى رأسها انتظام المؤسسات انطلاقًا من انتخاب رئيس للجمهورية.
لكن فرنسا التي تداولتها كتب التاريخ اللبناني والتي صنعت على عينها والتي صورت الأم الحنون، وأنها الحامي لمصلحة اللبنانيين، والساهرة على حل أزماتهم، وتكوين تطورهم، لم تعكس هذه الصورة في السنوات الفائتة. فقد ظهر أنّ “حنّية” الأم” امتزجت، بل طغت عليها المصلحة، وتحكمت بقراراتها، وهو ما يجب التذكير به على الدوام؛ لعدم السير دون وعي وراء رعاة نسلّم مسبقًا بأنهم يتكلمون ويتحركون لمصلحة لبنان، بينما الواقع في مكان آخر.
بُعيد انفجار مرفأ بيروت ظهرت فرنسا على الساحة اللبنانية بقوة بوجه استعماري، فجال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في بيروت للاطمئنان على “الرعية المصابة”. خرج بعدها الرئيس ماكرون ليقول: “لن أتساهل مع هذه الطبقة السياسية في لبنان،” ويعطي المؤشرات المتعددة على أنه سيقضي على الطبقة اللبنانية الفاسدة.
الاستثمارات الفرنسية الإستراتيجية تأتي بإطلاقها عام 2022 برنامجًا لتقديم المنح الدراسية لمدة ثلاث وعشر سنوات ليتابع الطلاب المختارون دراستهم في جامعات فرنسا العريقة، وبذلك يكون تفكير الشركة إستراتيجيًا بتأهيل كوادر لشركاتها يحملون العلم الذي تريد، والأهم من ذلك الذهنية والثقافة والأهداف والجنسية الفرنسية
لكن الخطاب الانتخابي من الرئيس ماكرون سرعان ما نفته المصلحة، ورأينا تفاوضه مع هذه الطبقة، وعلى رأسها حزب الله، حتى وصل للميل لمرشح حزب الله الرئاسي النائب السابق سليمان فرنجية. منذ أن خسرت فرنسا نفوذها العالمي، وهي مستمرة في تلقي الضربات، وكان آخرها في أفريقيا الغنية المستغلَّة، لذا تحاول في المقابل التعويض في أي مكان، وعلى رأسه لبنان.
تحاول فرنسا وضع لبنان ضمن سلّتها التفاوضية، وأن يشكل لها خطَّ تواصل مع إيران عبر حزب الله؛ لتقدم نفسها بأنها المحاور الغربي لإيران، ولكنها لم تستطع أن تخفي مصالحها الاقتصادية في لبنان، وكذلك مع إيران وحزب الله. ففي لعبة نفط الشرق الأوسط – وفي إطار التنافس مع تركيا على الحدود البحرية النفطية- تحاول التأكيد أنّ لبنان من حصتها، فهي الحاضرة عبر توتال في كونسورتيوم نفط لبنان، كما أن التفاوض مع حزب الله وإيران فتح الباب أمام توتال نفسها؛ لتوقيع اتفاق للطاقة مع العراق بقيمة 27 مليار دولار العام الماضي.
في الداخل اللبناني، لم تكتفِ فرنسا بالنفط عبر توتال، بل حضرت مجموعة «CMA CGM» الفرنسية بقوّة حتى تحولت إلى “دولة داخل الدولة”. فقد فاخرَ عدد من وسائل الإعلام اللبنانية بعدد مَن توظفهم الشركات الفرنسية بقيادة «CMA CGM» والذين بلغوا 6300 مواطن لبناني. وإن كان جانب الإطراء موجودًا بتوظيف اللبنانيين، فإن الأرقام تظهر حجم المصلحة الفرنسية المستجدّة في لبنان.
فقد أظهر مسح أجرته وزارة الاقتصاد والمالية والصناعة والسيادة الرقمية الفرنسية أن الشركات الفرنسية تتوزع في مختلف القطاعات اللبنانية على الشكل التالي: 22% في قطاع الخدمات، 12% في قطاع الطاقة، 10% في قطاع البناء، 10% أخرى في قطاع الأغذية الزراعية، 8% في القطاع الرقمي، 6% في قطاع النقل، 6% في قطاع التمويل، 4% في كل من قطاعات الأدوية ومستحضرات التجميل والهندسة، و14% المتبقية في قطاعات أخرى من الاقتصاد، دون أن ننسى احتلال لبنان الصغير المرتبةَ الثالثة من حيث الأسواق المستقبِلة للصادرات الفرنسية في منطقة الشرق الأدنى والأوسط بقيمة بلغت 400 مليون دولار في عام 2022.
طبعًا الأمر ليس بعيدًا عن السياسة، فليس مصادفة أن توقع مجموعة «CMA CGM» عقدًا عقب انفجار المرفأ لتشغيل محطة الحاويات فيه بقيمة 33 مليون دولار ضمن عقد مدّته عشر سنوات كنتيجة للحراك الفرنسي لمساعدة لبنان!
تحولت مجموعة «CMA CGM» إلى أُخطبوط حقيقي في لبنان منذ عام 2019 وبدفع من السياسة الفرنسية، حيث رافق رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي للشركة رودولف سعادة، الرئيسَ ماكرون في زيارته إلى لبنان عقب انفجار مرفأ بيروت؛ لتبدأ بعدها مرحلة توغل سعادة في مختلف القطاعات مدفوعًا من الظهير السياسي والواقع المأساوي اللبناني، فيشتري شركات برمّتها بأسعار متدنية.
فمجموعة «CMA CGM» تدير اليوم محطات الحاويات في مرفأَي بيروت وطرابلس، بعد العقد الذي ذكرنا في بيروت، وبعد استحواذها عام 2021 على أسهم شركة Gulftainer لبنان المعنية بحاويات طرابلس لتسيطر فرنسا على نقل لبنان البحري بمرفأَيه الأهمَّين.
النشاط الاستحواذي المستمر حط رحاله عام 2023 في البريد بعقد تلزيم مشبوه من شركة liban post ل Colis Privé وMerit invest العائدتين إلى «CMA CGM» بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وبعقد مشبوه.
في المجال الزراعي والإنتاجي فقد اتجهت عبر شركاتها CEVA Logistic وMerit Holding للاستثمار بالزراعة، واستحوذت على شركة الرفاعي العريقة والرائدة في مجال القهوة والمكسرات تحت وطأة الأزمة اللبنانية التي أجبرت أصحاب الشركة على بيعها بسعر مخفّض.
في مجال التكنولوجيا افتتحت مركزًا رقميًا عام 2019 وسط بيروت باسم The Hub؛ لتلبية احتياجات الشركة الأم الرقمية، وتسعى لتأسيس أكاديميات في المجال.
الاستثمارات الفرنسية الإستراتيجية تأتي بإطلاقها عام 2022 برنامجًا لتقديم المنح الدراسية لمدة ثلاث وعشر سنوات ليتابع الطلاب المختارون دراستهم في جامعات فرنسا العريقة، وبذلك يكون تفكير الشركة إستراتيجيًا بتأهيل كوادر لشركاتها يحملون العلم الذي تريد، والأهم من ذلك الذهنية والثقافة والأهداف والجنسية الفرنسية.
هذا غيض من فيض، واللائحة تطول، ويسمع كل شهر أو شهرين عن استحواذ جديد من الشركة، كان آخره توقيع الشركة منذ بضعة أيام تعهدًا بشراء كامل أسهم Altice Media المقدرة بأكثر من مليار ونصف المليار يورو.
الملاحظ أن الاستثمارات الفرنسية عبر الشركة الأهم تكثفت بشكل كبير بعد زيارة ماكرون، وسعادة المقرب منه إلى لبنان عقب انفجار المرفأ.
من هنا يمكن النظر إلى المواقف الفرنسية في لبنان وفهم طبيعتها التي ترتكز على ركيزتَين أساسيتَين: أولًا، استعادة لبنان كقاعدة نفوذ فرنسية في المتوسط وانطلاقًا منه للدولة المحاذية عبر السيطرة الاقتصادية والتدخل السياسي المباشر، ثانيًا، عبر مد اليد إلى حزب الله ومن خلفه إيران المنتشرة في الشرق الأوسط والعالم ولتسهيل حركتها في الداخل اللبناني، حيث لحزب الله النفوذ الأهم.
إذا وضعنا هذه العدسة عند النظر للمواقف الفرنسية فإنه يمكن فهم كيف تراجع ماكرون عن طرحه تغيير الطبقة السياسية إلى التشارك والاستفادة منها، وكيف تحوّل إلى دعم مرشح حزب الله سليمان فرنجية.
وكيف تحاول التصرف في ملف الجنوب اللبناني اليوم كوسيط بين حليفين لها، ولماذا كثرت مشاكلها مع الدول العربية في اللجنة الخماسية، وحتى كيف أصبح تعاطي حلفاء فرنسا التاريخيين في لبنان والمنطقة معها، وكثُرَ التصويب عليها؛ كون العلاقة السابقة كانت مبنية على التعاون للمصلحة العامة، وإذ بها تتبدل لتصبح طلب التعاون لمصالح فرنسا الدولية والإقليمية.
وهو ما يحوّل فرنسا تدريجيًا، في نظر اللبنانيين حتى، إلى دولة استعمار وهيمنة لا دولة مساعدةٍ وداعمٍ، وسيقوّض مصلحتها كذلك مع الدول العربية التي أصبحت تنظر إليها بعين الريبة؛ نظرًا لتعمّق خط مصالحها مع إيران دون أن ننسى أنها أظهرت رعونة في التعاطي مع الملف اللبناني وتغلّبت عليها القوى اللبنانية.
في المحصلة، من الخطأ التسليم لفرنسا في لبنان كونها الراعي الإيجابي التاريخي؛ لأن المعطيات اليوم تبدلت وأظهرت فرنسا كأحد سماسرة السياسة في لبنان، فبدلًا من إصلاح السياسة اللبنانية، إذ بها تسعد بها وتستثمر بها تعميقًا للفساد والمصلحة الخاصة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.