عمارة لا تشبهنا.. كيف تؤثر فينا المدن الحديثة التي تبدو متطابقة؟
تبدو مدن اليوم متشابهة إلى حدٍّ كبير، يزيد من تشابهها تلك العلامات التجارية المنتشرة في كل المدن تقريبا؛ ماكدونالدز (McDonald’s) وستاربكس (Starbucks) وغيرها، إنه ما يطلق عليه عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي مارك أوجيه اسم “لا مكان”، إذ لا بصمات تاريخية تحملها المدن، ولا هوية بعينها تُفصِح عنها المباني الشاهقة ذات الواجهات الزجاجية في أغلبها، فأنى لك أن تعرف أين التقطت هذه الصورة أو أين جرى تصوير ذلك الفيلم؟ (1)
إنها المدن الحديثة التي يقطن سكانها في مبانٍ لا تجمعهم على ما يبدو، إنها تفصلهم في الحقيقة عن تفاصيل مدينتهم؛ عن المناخ والثقافة المحلية والقيم وأمور أخرى، كان بوسعنا فيما مضى مثلا من خلال جولة في مدينة القاهرة التاريخية التعرف على شكل حياة سكانها، تحكي ذلك الشوارع الضيقة والمنازل الواسعة، أما اليوم فما الذي يمكن أن تحكيه المدن عنا؟ وما الذي تمنحه لنا؟
ما نحتاج إليه حقيقة من العمارة
عندما نبني المدينة فإننا في الحقيقة نبني الطبائع، نبني الشخصية والأخلاق. (2) تثري العمارة الجيدة حياتنا اليومية بطرق لا يمكننا توقعها، ويساهم المكان الذي نعيش فيه في تشكيل شخصيتنا. فالإضاءة الوافرة والتهوية التي يكملها الاستخدام الأمثل للمساحات تعزز الشعور الإيجابي لدينا، فتتحسن إنتاجيتنا وترتفع الروح المعنوية، وفي المقابل يمكن أن يؤدي ضعف التهوية ونقص الضوء الطبيعي إلى نقص كبير في الطاقة والإنتاجية. (3)
قبل الميلاد كتب المعماري الروماني ماركو فيتروفيو أن العمارة العظيمة يجب أن تتسم بثلاثة عناصر أساسية: “الأساس، والقوة، والفرح”، كان يعني بالأساس أن يقوم المبنى بوظيفته التي يحتاج إليها الناس، وبالقوة أن يحمي قاطنيه، وبالفرح لمحة الجمال التي تميز تصميمه. (4)
إن أفضل التصاميم المعمارية هي تلك التي تنجح في دمج الجماليات والوظائف، يكتب عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا الفرنسي كلود ليفي شتراوس في كتاب “مداريات حزينة” عن مفهومه حول العمارة قائلا: “الإنسان يأوي إلى العمران ليسكن فيه ويضمن له حاجته المادية والجمالية”، مثلما يأوي إلى اللغة ليسكن فيها ويضمن حاجته التواصلية والرمزية، ومثلما نسكن في لغاتنا ونستأمنها على أفكارنا ومعتقداتنا، فإن العمارة تشبه المعاني التي يستخدمها الناس لإضفاء شكل على تجاربهم وخبراتهم في بناء العالم. (5)
عمق تأثير العمارة يجعلها فنا وعلما في آنٍ واحد، ترتكز على علم النفس وعلم الاجتماع والاقتصاد والسياسة، وتتطلب وقتا طويلا لفهم المجتمع والبيئة، يرصد المعماريون احتياجاتنا من العمارة، ولديهم طريقتهم في تصميم المدن بما يلبيها. (6) كانت هذه هي الفلسفة التي اعتنقها المعماري المصري حسن فتحي حين ربط العمارة بحياة الناس وجعلها أداة للعدالة الاجتماعية، فأسس عمارة الفقراء، تتضح الفكرة أكثر بالعودة إلى التاريخ، والنظر في العمارة الشاهدة عليه. (7)
شوارع المدينة العربية
كان بوسع زائر بغداد وفاس والقاهرة والقيروان في العصور الوسطى إدراك هوية عمرانية للمدينة العربية، وربما يعبر عن ذلك أيضا ما بقي من تلك المدن حتى اليوم، إذ تعكس حقا حياة الناس فيها، ورؤيتهم لقيم الجمال والأخلاق؛ حيث المسجد الجامع في قلب المدينة، بما يمثله من رمز للعبادة، وسلطة للعلم والمعرفة، وتنتشر حوله الشوارع والأزقة التي تُفضي إلى مبانٍ مختلفة؛ البيوت والأسواق، وتنتهي بأسوار تحوط ذلك كله، تقف عالية لتُحصِّن المدينة من الغزاة. (8)
أما البيوت فالفراغ من الداخل يمنح أهل الدار هواء نقيا، ويسمح لأشعة الشمس الدافئة بالتسلل إلى قلب البيت، الشبابيك تطل على الداخل، بينما تطل على الشوارع الضيقة في الخارج المشربيات، تقوم بدورها في كشف الشارع للقاطنين في البيوت، وتحفظ نساءه عن أعين الغرباء، وتؤدي العمارة هنا دورها الوظيفي في هذا النظام الاجتماعي، دون أن ينقصها الجمال المعماري المميز، الذي نعرفه في بيوت الأحياء القديمة المجاورة للجامع الأزهر والحسين والسيدة زينب. (9)
هذا ما تخبرك به جولة في أحد شوارع القاهرة الإسلامية إذن، لكنك حين تنعطف عبر شوارع أخرى لم تعد بعيدة عنها تجد العمارات الشاهقة المتشابهة، وتتساءل ما الذي تحكيه عن قاطني المدينة اليوم؟
“كل مَن فيها يركض، لكن لا أحد يعرف إلى أين أو إلى متى، تشبه خلية النحل وتشبه المقبرة”.
(مدن الملح)
في رواية “مدن الملح”، يحكي الروائي السعودي عبد الرحمن منيف كيف تحولت حران من قرية ساحلية صغيرة للصيادين والمسافرين العائدين إلى مدينة صناعية نفطية “لم تعد لأحد”، “أصبح الناس فيها بلا ملامح، إنهم كل الأجناس ولا جنس لهم، إنهم كل البشر ولا إنسان”، وفي رواية “قالت ضحى” يصف الكاتب المصري بهاء طاهر الأمر نفسه على لسان بطلة الرواية، كيف أن المدن العربية تواصل خوض قفزات معمارية لم يستعد لها سكانها، ويشعرون بالغربة فيها، وهي ليست وحدها في ذلك، إنها تحمل ما يبدو طابعا عالميا للمدن اليوم. (10)
لماذا تتشابه المدن الحديثة؟
لطالما كانت العمارة أثرا شاهدا على ما جرى عبر التاريخ، تعكس قوة الدول والحضارات، وتحمل أيضا جزءا من ثقافة وقيم المجتمع، لكنها لم تعد كذلك اليوم، يعرض المهندس المعماري والمخطط فيشان تشاكرابارتي في حديث في مؤتمر “تيد” (TED) ست صور مختلفة لمدن حول أنحاء العالم، مشيرا إلى عدم امتلاك أيٍّ منها روحا تميزها وتكشف عن المكان الذي بُنيت فيه.
يفسر فيشان تلك الرغبة في بناء مدن متشابهة بالزحف المتواصل لمئات الآلاف من الضواحي والأرياف نحو المدن، مع التكلفة العالية للبنية التحتية للمباني، يبدو الحل في توزيعها على وحدات سكنية أكثر فتنخفض التكلفة عموما، لذا تنتشر المباني السكنية الكبيرة في المدن.
ويرصد فيشان ذلك الفرق الذي يتجلى في سلوك السكان وعلاقاتهم، قبل عقود كانت المباني تضم نحو 10 شقق، وكان الدرج أو المصعد مساحة دافئة للالتقاء بالجيران وتفقد أحوالهم، لكن مباني اليوم تضم عشرات الشقق والممرات التي لا تربط سكانها بقدر ما تفصلهم، مع ما تُحدثه من ضجيج بارد لا يفسره أحد، يباعد بين السكان ويزيد من شعورهم بعدم الاندماج مع محيطهم. (11)
في ظل الطلب المتصاعد على الشقق السكنية، ومع نقص الأراضي القابلة للتطوير، وارتفاع تكاليف الأرض والمواد والعمالة، والحاجة الماسة إلى إيجاد أماكن أكثر بأسعار معقولة للعيش فيها، تتخلى العمارة عن استجابتها للسياق المحلي لتقدم مباني متشابهة، بسعر أقل.
لكن هذا ليس السبب الوحيد، فالرغبة في الحد من التكلفة تمتد لتُقصي المعماريين وتعهد بالتصميم للمقاولين أحيانا، وتعاد التصميمات ذاتها أحيانا أخرى، ويستعان في التصميم بالحاسوب، تراجع دور المهندس المعماري إذن في محاولة للوصول بالتكاليف إلى أدنى حد ممكن، لتنتزع الجماليات من الصورة وتصبح رفاهية. (12) يعلق الكاتب الأميركي مايكل باجليا في مقال له حول ما تشهده مدينة دنفر في ولاية كولورادو بالولايات المتحدة من تغير معماري بأن المباني الشاهقة التي تخترق وسط المدينة تُغرق دنفر “في بحر من القمامة المعمارية”. (13)
تحمل مدن اليوم طابعا متشابها لا تخطئه العين إذن، طريقة التصميم نفسها تتشابه سواء كنا في أرض عربية أو هندية أو صينية، ويُسوَّق لها بالطريقة ذاتها أيضا، وإن ذكر المعلنون أحيانا كلمات عن الثقافة المحلية أو التقاليد، لكنها في النهاية تحمل الطابع نفسه، شقق راقية وأماكن حضرية حديثة، لا يزال الكثير منها خاليا، لكن المتوقع أن يمتلئ بسكانه خلال سنوات، وعلى ما يبدو فإن تأثير ذلك لن يكون بسيطا. (14)
أمراض المدن الحديثة
تتبع دراسة نشرتها مجلة “عمران” عام 2016 بعنوان “المدينة العربية الحديثة.. قراءة سوسيو لسانية في أعراض مرض التمدن” الأعراض المصاحبة لدخول الإنسان العربي لزمن “المدينة الحديثة”، وتقف عند مفهوم “أمراض التمدن”، الذي يعني أمراض الإنسان “المقهور” في المدينة الحديثة، إذ صارت حياته مجالا يستغله ويستثمره “رأس المال المتوحش”، إنها أمراض التلوث بأنواعه، السمعي والبصري وحتى “أمراض السياسة والاقتصاد التي تباشر القضاء على مصالحه”.
وفق الدراسة فإن إنسان المدينة الحديثة اليوم “بات أشبه ما يكون بكائن مفترس في حديقة حيوان تضم الناس داخـل أقفاص حديدية ضيقة”، إنه ذاته ما يخبرنا به ديزموند موريس في كتابه “حديقة الحيوان البشرية” (Zoo Human The)، مشيرا إلى السلوك العدواني والجنسي والأنانية والأبوية المتسلطة التي تظهر تحت ضغوط الحياة الحضرية التي يرزح الإنسان تحتها، مؤكدا أن التكدس السكاني يُفقد الإنسان شعوره بالحرية والخصوصية فيتحول من إنسان مسالم إلى عدواني وأناني. (15)
“تقف الأبنية الأسمنتية متراصفة متلاصقة، تدبر حيلة للخروج من المصير المحتوم، تقف كالأصدقاء في محنة جنبا إلى جنب، تهمس ليلا فيما بينها عن مخاطر هذه المدينة”. (16)
__________________________________
المصادر
- WHY EVERY CITY FEELS THE SAME NOW
- مجلة عمران للعلوم الاجتماعية والإنسانية – عدد 16
- Modern Architecture: The Importance of Good and Aesthetic Architectural Designs
- La importancia de la arquitectura
- مجلة عمران للعلوم الاجتماعية والإنسانية – عدد 16
- How Does Architecture Impact Society? A High-Level Look
- WHY EVERY CITY FEELS THE SAME NOW
- مجلة عمران للعلوم الاجتماعية والإنسانية – عدد 16
- متاهة القبح في مصر: عقل المقاول وعقل المعماري
- مدن العرب في رواياتهم
- An architect explains why so many cities now look depressingly similar
- Why do all new apartment buildings look the same?
- Denver Is Drowning in Awful Architecture: Here Are the Hateful Eight
- Where are the world’s newest cities … and why do they all look the same?
- مجلة عمران للعلوم الاجتماعية والإنسانية – عدد 16
- مدينة العصافير المُقيَّدة -زياد توبة