جريمة في خيمة السلطان.. هل مات السلطان محمد الفاتح بالسم؟!
في عام 855هـ/1451م توفي السلطان العثماني السادس مراد الثاني، ذلك الرجل الصارم، والمحارب البارع كآبائه وأجداده، الذي تمكن من توسيع نفوذ الدولة العثمانية في الأناضول والبلقان، وأيضا الرجل العابد الناسك الذي تنازل عن العرش في أواخر عمره لابنه السلطان اليافع محمد الثاني (الفاتح)، على أن الأخطار الصليبية المتجمعة في البلقان والتي باتت تشكل تهديدا للدولة اضطرته للعودة إلى منصب السلطنة من جديد وقيادة الجيوش، ليبقى في ذلك المنصب الخطر حتى وفاته.
وفي ذلك العام اعتلى العرش ابنه وولي عهده السلطان الشاب ابن العشرين عاما محمد الثاني، وهو الذي شاهد بطولات والده وحروبه على جبهتَي الأناضول والرومللي، بل ومحاولات والده المتعددة في حصار وضرب القسطنطينية، ولم يمر عامان على ارتقائه السلطنة إلا ومحمد الثاني يقود الجيوش، ويعبر البوسفور بخطة عسكرية بارعة لا تزال كتب التاريخ ومطالعاته تتناولها بعد 800 عام وأكثر من تاريخ المواجهة الإسلامية البيزنطية.
تلا ذلك فتوحات مباغتة وكبيرة في اليونان والبلقان وصربيا والمجر، وحتى إيطاليا التي نجحت قوات الفاتح في العامين الأخيرين من حياته في النزول في جنوبها وهزيمة قواتها، وكانت تنتظر المدد العسكري اللازم للانطلاق صوب روما، إلا أن القدر باغت السلطان الفاتح بالموت وهو في معسكره وبين جنوده في منطقة ليست بعيدة كثيرا عن إسطنبول.
كان موت السلطان محمد الفاتح في شهر صفر من عام 886هـ/مايو 1481م وهو في طريقه لضم إمارة ذو القادر التركمانية التي كانت تحت السيادة المملوكية في الشام ومصر، حيث كان المماليك في زمن السلطان الأشرف قايتباي قد تورّطوا في صراع دائم ومستمر مع العثمانيين الذين قوي نفوذهم وارتفعت كلمتهم في الأناضول والعالم الإسلامي من بعد فتح القسطنطينية، وقد تدخل العثمانيون في زمن السلطان الفاتح في شؤون الإمارات التركمانية التي كانت تتبع المماليك، فكانوا يؤيدون فريقا على حساب آخر، هادفين من وراء ذلك مد نفوذهم وسيادتهم على هذه الأقاليم الوسطى والجنوبية من الأناضول، وطرد المماليك منها.
موت مفاجئ
ولكن شاء الله ألا يتمكن السلطان محمد الفاتح من التقدم لحسم هذه المواجهة العثمانية المملوكية، فمات وهو لا يزال في الـ49 وقيل الـ50 من عمره بعد 30 عاما قضاها في توسيع الدولة العثمانية ومناهضة أعدائها، وانتصارات متلاحقة، وسُمعة عظيمة اكتسبتها بين المسلمين والصليبيين على حد سواء، ولكن اللافت أن المؤرخين اختلفوا في أسباب وتداعيات وفاة السلطان محمد الفاتح، حتى إن بعضهم جزم بوفاته مسموما على يد طبيبه اليهودي الإيطالي الأصل “يعقوب باشا”.
ففي معسكره القريب من القسطنطينية “إسطنبول حاليا” بدأ السلطان يشتكي من آلام في قدميه، بعدما ثبتت إصابته من قبلُ بالنقرس والروماتيزم، ولهذا السبب نزل من على فرسه وبدؤوا يحملونه على عربة مخصصة له، ولهذا السبب تشاور الأطباء في حالته، فاهتدوا إلى ضرورة أن يشرب السلطان الماء بكميات كبيرة، ثم قرروا إعطاءه شرابا مُسكّنا للألم، ولكن لم يُجدِ الأمر نفعا ومات الفاتح على إثر ذلك بصورة درامية سريعة لم يكن يتوقعها أكثر الحاضرين، ولم يُشِر العديد من المؤرخين الكبار، أمثال لطفي باشا وصولاق زاده وغيرهم، إلى أي شيء بخصوص وفاة السلطان الفاتح مسمّما[1].
على أن هناك روايات أخرى تكشف أن ثمة خلافا متصاعدا وكامنا وقع بين رجال حاشية السلطان الفاتح، فقد كان الصدر الأعظم قراماني محمد باشا ناقما وكارها للطبيب الأول يعقوب باشا اليهودي، ولا سيما بعدما أعلن السلطان الفاتح ترفيعه وتعيينه وزيرا، ولهذا السبب قرر قراماني باشا أن يُدخل الأطباء القدامى للسلطان مثل لاري عجمي وغيره ليكونوا على مقربة من السلطان، فقرر هذا الثنائي إعطاءه بعض الأدوية التي بدلا من معالجته أتت بنتائج عكسية سرّعت من تدهور حالة السلطان.
يذهب فريق من المؤرخين إلى أبعد من ذلك، زاعمين أن السلطان محمد الفاتح قُتل بترتيب من صدره الأعظم قراماني محمد باشا والطبيب لاري عجمي، عمدا لأسباب تتعلق بزيادة نفوذ قرماني باشا فيما بعد، لا سيما أن نجلي الفاتح وهما بايزيد الثاني والأمير جم سيتصارعان على تركة والدهما عما قليل وستخلو الساحة للصدر الأعظم.
حملة إيطاليا ويعقوب باشا
على أن فريقا ثالثا من المؤرخين يؤكد أن يعقوب باشا، الطبيب اليهودي ذا الأصول الإيطالية، كان قد تظاهر بالإسلام حين رقّاه السلطان الفاتح إلى رتبة وزير، وأنه كان عميلا للإيطاليين والبنادقة الذين كانوا يتعرضون في ذلك الوقت إلى حملات عسكرية ضخمة من القوات العثمانية المنطلقة من اليونان وألبانيا، فقد تمكن العثمانيون من السيطرة على البحر الأدرياتيكي وجُزره ثم انطلقوا نحو الجنوب الإيطالي لا يقف أمامهم أحد، وكما يقول المؤرخ التركي “يلماز أوزتونا”، فإنه “كان من بين أهداف الفاتح أن يكون إمبراطورا على روما موحّدة (يقصد الدولة الرومانية الشرقية وعاصمتها القسطنطينية، والغربية وعاصمتها روما)”، ومنذ عام 1453 أُطلِق عليه لقب “قيصر روم” (أي إمبراطور روما الشرقية)، ولكي يكون إمبراطورا على روما ويوحّد تاجَي الإمبراطوريتين الموجودتين في أوروبا، وجب عليه فتح إيطاليا وروما[2].
وقد أعد السلطان الفاتح وكبار رجالات دولته خطة كبيرة وميزانية ضخمة لحملة إيطاليا تلك، التي كانت قد بدأت في عامَي 1479 و1480م/884 و885هـ، وتمكنت القوات العثمانية التي بلغت 18 ألف مقاتل من النزول والتقدم في جنوب إيطاليا، وشرعت في الهجوم على القلاع والحاميات العسكرية فيها، ثم هزمت جيوش ملك نابولي حتى استطاعت الاستيلاء على كامل الجنوب الإيطالي، وأصبح الطريق أمامها مفتوحا إلى روما ووسط إيطاليا بحلول خريف عام 1480م، وعند ذلك جاءه خطاب من السلطان محمد الفاتح يأمره فيه بالانتظار حتى ربيع العام التالي للانطلاق معا لإتمام عملية فتح روما[3].
ولكن، كما ذكرنا، انخرط السلطان الفاتح في حربه ضد المماليك، وقرر بدلا من ذلك الانطلاق صوب الأناضول ليوحده تحت راية العثمانيين، ومن ثم ينطلق إلى إيطاليا ليُتمم ما بدأه جديك باشا، قائد حملته على إيطاليا، وثمة رأي آخر يقول بأن وجهة السلطان الفاتح لم تكن معروفة، وأنه كان يُشيع الذهاب صوب الأناضول لمواجهة المماليك من باب الخدعة العسكرية، وهي إستراتيجية قديمة اتبعها كثير من السلاطين العثمانيين من قبل ومن بعد، لا سيما السلطان سليم الأول أثناء حملته العسكرية على الشام ومصر للقضاء على دولة المماليك.
على أي حال، تراجعت حالة السلطان الصحية بصورة سريعة ولافتة، ثم لقي ربه وهو لم يزل قريبا من إسطنبول، ولهذا السبب ربط بعض رجالات الدولة وقادة الإنكشارية بين موت السلطان الفاتح ويعقوب باشا، إيطالي الجنسية، يهودي المعتقد سلفا، وقرروا أنه كان عميلا للإيطاليين، وأنه كان السبب الرئيسي في موت السلطان بالسم، ويعد عاشق باشا زاده -المؤرخ العثماني- على رأس المتفقين مع هذا الطرح [4].
ولكن مؤرخا عثمانيا آخر وهو “عالي” ينفي هذه التهمة ويقول: “عندما أصبح قراماني محمد باشا صدرا أعظم حسده يعقوب باشا، وفي هذه الأثناء ابتُلي السلطان بداء وبيل، وبينما كان يعقوب باشا يداوي السلطان أوصى محمد باشا بالطبيب لاري العجمي الذي بدأ أيضا بمداواة السلطان، ولا شك أن الدواءين سبَّبا -معا- تأثيرا سلبيا، فلم يلبث أن توفي السلطان. وقد كان الطبيب يعقوب سقراط وبقراط زمانه”[5]. وهو بهذا القول يُبرئ ساحة الطبيب يعقوب من جريمة مقتل السلطان الفاتح، ويشيد بمكانته العلمية والطبية.
وبينما يجزم بعض المؤرخين بقتل الإنكشارية ليعقوب باشا عقب موت السلطان محمد الفاتح، ينفي آخرون هذا الخبر، ومنهم أحمد آق قوندوز الذي يقول: “إن بقاء يعقوب باشا واستمراره في وظيفته نفسها في عهد بايزيد الثاني يُضعف هذا الزعم، ومع أن المؤرخ بابنجر يقول بأن يعقوب باشا كان عميلا للبنادقة (الإيطاليين) وجاسوسا لهم، إلا أننا إن تتبعنا الوثائق التاريخية نرى ضعف هذا الاحتمال، ولا شك أن الله وحده هو الذي يعلم الغيب”[6].
على أن المؤرخ “إلبير أورتايلي”، وهو واحد من المهتمين بهذه القضية، يؤكد أن وفاة السلطان محمد الفاتح وهو ابن الـ49 من عمره لهي الحادثة الأكثر جدلا حتى يومنا هذا بين المؤرخين، وأنه (أي أورتايلي) من الفريق الذي يرى أن الطبيب الإيطالي يعقوب باشا قد استغل ثقة السلطان الفاتح فيه، وأنه قتله بالسم إما تحت وقع التهديد من الطليان والبنادقة، وإما بدافع الطمع والجشع، وأن الخطأ الوحيد الذي وقع فيه السلطان الفاتح -الذي عادة لم يكن يثق في أحد بصورة مطلقة- أنه ألقى ثقته كلية في حجر هذا الطبيب المعالج.
منجزات مهمة
توفي السلطان محمد الفاتح بعد منجزات ضخمة على صعيد الدولة العثمانية إقليميا وعالميا، فقد تمكن من فتح القسطنطينية وممالك طرابزون البيزنطية وصربيا والبوسنة وألبانيا ومعظم مناطق الأناضول الداخلية ومناطق شاسعة من البلقان في اليونان والمجر وجنوب إيطاليا التي استعادها الإيطاليون بعد وفاته مباشرة، فضلا عن حصاره المستمر لجزيرة رودس قُبيل وفاته والذي أتمه حفيده سليمان القانوني فيما بعد.
ولم يكن السلطان الفاتح صاحب خبرة ومهارة فقط في الأعمال العسكرية والسياسية، وإنما برع أيضا في تنظيم الشؤون الإدارية للدولة العثمانية، فكما يقول المؤرخ محمد فريد: ” كانت مهارة هذا السلطان في الأعمال المدنية تعادل خبرته في الأعمال الحربية، فإليه ينسب ترتيب الحكومة على نظامات جديدة، فسمّى نفس الحكومة العثمانية بالباب العالي وجعل لها أربعة أركان، وهي الوزير وقاضي عسكر والدفتردار (وتعادل اختصاصاته اختصاصات ناظر [وزير] المالية الآن)، والرابع يُسمى نيشانجي (وهو عبارة عن كاتب سر السلطان). ثم بعد امتداد سلطة الدولة العلية في جهة أوروبا جعل لها قاضي عسكر مخصوصا اسمه قاضي عسكر الروملي وقاضي عسكر آخر للأناضول”[7].
ولم تتوقف إصلاحات الفاتح عند هذا الجانب، فقد كان الأسبق زمنا من حفيده سليمان القانوني بمأسسة القانون المدني والمؤسسة العسكرية، حيث “رتّب وظائف الجند، فجعل للانكشارية رئيسا مخصوصا (أغا) وناطَه بأشغال الضبط والربط بمدينة القسطنطينية، ورئيسا آخر للطوبجية، وثالثا لما يختص بذخائر ومؤنة الجيوش. وكذلك وضع ترتيبا لداخليته الخصوصية وأهم أعماله المدنية ترتيب وظائف القضاء من أكبر وظيفة وهي قضاء الروملي إلى أقل وظيفة. ووضع أول مبادئ القانون المدني وقانون العقوبات، فأبدل العقوبات البدنية، أي السن بالسن والعين بالعين، وجعل عوضها الغرامات النقدية بكيفية واضحة أتمّها السلطان سليمان القانوني”[8] فيما بعد.
وهكذا كانت ولا تزال وفاة السلطان الأشهر محمد الفاتح واحدة من أكثر القضايا التاريخية جدلا بين الباحثين والمؤرخين، وحتى يكشف التاريخ لنا عن وثائقه وخباياه ستظل هذه الحادثة محل نقاش وتداول لا يتوقف.
———————————————————————————————-
المصادر
[1] • آق قوندوز: الدولة العثمانية المجهولة، ص151.
[2] يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية 1/174.
[3] خليل إينالجيك: تاريخ الدولة العثمانية ص48.
[4] تاريخ عاشق باشا، ص190، 192.
[5] آق قوندوز، نقلا عن عالي “كنه الأخبار”، الدولة العثمانية المجهولة ص152.
[6] آق قوندوز: السابق ص151.
[7] محمد فريد: تاريخ الدولة العلية ص177.
[8] محمد فريد: السابق ص177، 178.