الحياة كما يرويها النازحون في الخيام شمال قطاع غزة | سياسة
غزة- كل الحوائط التي كانت تؤوي الغزي هدّتها إسرائيل، وكدّ عمره تبخّر، وخياراته في النزوح إلى بيوت يألفها صارت معدومة، فلم يبق له إلا غرفة في مركز إيواء أو مدرسة، أو مساحة من أرضها لينصب عليها خيمة.
ورغم أن أهل غزة لا يبحثون عن الاستقرار بقدر ما يرنون إلى الأمان، وإلى مكان لا يقترب فيه الموتُ منهم، ولا تقع عليه قنابل إسرائيل، إلا أن المراكز والمدارس أيضا أصبحت هدفا إسرائيليا. ومع كل هذا لا يبرحها الفلسطينيون، فلا بديل.
تجولت الجزيرة نت بين أزقة خيام إحدى مراكز النزوح شمال قطاع غزة، واستمعت لأصوات أمهات النازحين فيها وهن يحاولن تدبير شؤون حياتهن اليومية، وإلى نظرات الأطفال وكلماتهم بعد أن حرموا من ما يسد رمقهم من طعام، أو من لباس أو أحذية.
خيام تختزل البيوت
في واحد من أكبر مراكز الإيواء في جباليا شمال قطاع غزة، على الجهة اليسرى منه مدرسة جباليا، وفي الجهة المقابلة لها خيام ممتدة بلا حدود بسبب امتلاء المدرسة عن بكرة أبيها، مشيدةٌ بالنايلون الذي مددته حرارة الشمس، وفي أعمق نقطة يقف طابور طويل من النازحين في انتظار دورهم لتعبئة مياه الشرب.
خلال السير في أزقة الخيام، صادفت الجزيرة نت سيدة ممددة على الأرض عند مدخل خيمتها، وقد فتحت في سقفها منفذا ليدخل الهواء منه، وعند سؤالها “كيف حالك يا حجة؟” ردت أم خليل وكأنّ بركانا من القهر انفجر من فمها، وسألت بعد أن عدلت جلستها “هل هذه حياة؟ هل هذه عيشة؟”.
مرت 10 شهور والخيمة هي دار إقامتها، مع ابنتها وزوجتَي ابنَيها الأرملتين وأبنائهن، وتقول: “مقهورة، أتيت الآن من طهور ولد ابنتي الذي أنجبته بعد استشهاد والده، تقطّع قلبي عليه وعلى وحدته!”.
وحين الدخول الخيمة يظهر العجب من قدرة الأمهات على اختزال بيت كاملٍ فيها، يبتكرن في زواياها تفصيلا لكل شيء، هنا يكدسن الفِراش والأغطية، وعلى رفوف مثبتة على أخشاب الخيمة يرتبن الملابس، على الناحية الأخرى أوانٍ سوّدتها نيران الحطب وأذابت قاعدتها، وستائر من قماش تنفذ إلى مرحاض أرضي ودلاء ماء للاستحمام.
الحرارة داخل الخيمة لا تحتمل، خرجنا لاستكمال المقابلة بين الأزقة في الخارج، حيث تجلس عدة نساء على كراسٍ أمام خيامهن ويقلن “خنقنا الحَر”، حتى إنهن يكملن مهامهن في الأزقة الفاصلة بين الخيام، فهذه تقطف أوراق الملوخية من سيقانها، وتلك تغسل ثيابها، وأخرى تسرّح شعر ابنتها، وأحاديثهن لا تتوقف ويغلب عليها البؤس والشقاء كقسمات وجوههن، التي طالبت إحداهن بالتحديق فيها، وقالت: “انظري إلى وجوهنا المحروقة، انظري إلى ملامحنا كيف صارت!”.
تشكو أم مالك من انتشار القوارض والحشرات في الخيام، وتقول للجزيرة نت: “لا أنام الليل وأنا أقتل الصراصير الطيّارة التي تمشي على أجساد أولادي، وأهشّ البعوض الذي يقرصهم”، كما أن الحساسية والأمراض الجلدية المعدية تتفشى بين الأطفال بكثرة، خاصة مع تكدس النفايات وانتشار المياه العادمة في المناطق المحيطة بالخيام.
لا طعام ولا ملابس
قادنا صراخ طفلة إلى خيمة مجاورة، تحملها أمها وتهدهدها وهي تتلوّى بين يديها رافضةً السكون!، استأذنت الجزيرة نت الأم بالدخول وقبل السؤال قالت “طفلتي جائعة، ترفض أكل المعلبات، انظري لجسدها النحيل، عمرها عام ووزنها 5 كيلوغرامات من سوء التغذية”.
تقولها بحنق العاجز: “لا خضار ولا فواكه، لا لحوم أو حتى سيريلاك للأطفال، وإن توفر فلا أملك ثمنه!”، وبدا أن عجز هذه الأم كعجز آلاف الأمهات في غزة، تذوب لحوم أبنائهن أمامهن بدون قدرة على فعل أي شيء.
أما أم حسن التي خسرت من وزنها 24 كيلوغراما من بداية المجاعة، فتقول للجزيرة نت: “منذ سنة ولا شيء يدخل معدتنا سوى المعلبات والدُقّة، لا طاقة لنا حتى على القيام بمهامنا وواجباتنا من قلة التغذية”، أما عن نقص الأدوية والعلاجات اللازمة لهم فتقول: “أنا عندي ضغط وسكر، أدوية الضغط خلصت من البلد، إذا ما متنا من القصف حنموت من المرض”.
تبدو كل عيون الأطفال في هذا المخيم لامعة، تفضحُ رغبتهم في الحديث مع أي زائرٍ يأتيهم من خارجه، اقتربت الجزيرة نت من فرح وسألتها: “الأرض ساخنة، أين حذاؤك يا جميلة؟” ردّت: “ما عندي، مجبورة أمشي حافية”، قاطعتها جدتها لتبرر لنا: “لا مال نشتري فيه أحذية، وإن توفّر فسنشتري فيه طعاما بالتأكيد!”.
“هل تحتاجين حذاء؟” سألتها الجزيرة نت، لم تفكر قبل أن تردّ: “أحتاج أن أرى أبي، لم أره منذ بداية الحرب، حُجز في جنوب القطاع ولم يتمكن من العودة”، وانهارت بالبكاء كأن خزانا من الدموع فاض حتى انفجر، احتضنها جدها قائلا: “معلش يا سيدي، قولي حسبي الله ونعم الوكيل” وهي تردد خلفه، وتمسح دموعها التي روت لنا عن حرب مشتعلة داخلها لا يشعر بنارها سواها.
على باب الخيمة أطفال آخرون بملابس مهترئة، جلهم بأقدامٍ حافية، أجاب أحدهم بمجرد النظر إليه: “إلنا شهريين حافيين، بنتوجّع وبنموت واحنا بنمشي ع الأرض السخنة، بس شو بدنا نعمل؟ لازم نمشّي!”.
وفي خيمة مجاورة طفلة صغيرة تلهو مع جديها، يجلسون على حصيرة أرضية، هرولت الطفلة إلينا حين وقفنا على مدخل الخيمة لاستقبالنا، وخلال حديثها مع الجزيرة نت عرفنا أنها الناجية الوحيدة مع شقيقتها الرضيعة من عائلة غنيم، فقد استشهد والديها وإخوتها السبعة وبقيت الطفلتان مع جدهما.
تقول الجدة: “ما ذنب الطفلة لتعيش يتيمة ووحيدة؟ لماذا قتلوا إخوتها وهم أطفال لا يتجاوز كبيرهم الـ10 سنوات؟”، تقولها وهي تتساءل بكل غضب: “أين أمتنا العربية؟ أين المسلمون؟ نائمون؟ لماذا؟”، وتكمل وشفتاها ترتجفان: “فليبيدونا ليستريحوا منّا ولنستريح نحن من هذه الحياة!”، حياة لا يرون فيها مدعاة للبقاء، أو شيئا واحدا جيّدا ليتمسكوا بها من أجله، كما يقولون.
في دائرة الاستهداف
وبحسب المركز الإعلامي الحكومي، فإن أكثر من مليون و700 ألف نازح في قطاع غزة يرزحون في مراكز الإيواء، بينما يتوزع 200 ألف نازح آخرين بشكل منفرد في أماكن منفصلة غير مراكز الإيواء.
وقال المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة، في مقابلة مع الجزيرة نت، إن “الاحتلال استهدف بشكل مباشر 178 مركزا للإيواء والنزوح، بينها 158 مدرسة، أغلبها تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)”.
وتجاوز عدد الشهداء الذين ارتقوا داخل مراكز الإيواء 1.100 شهيد، معظمهم من الأطفال والنساء، وفق المصدر ذاته.