مدرستي حلوة بين جدران أو في خيمة.. كيف بدأت الدراسة في حوز المغرب؟ | سياسة
“منبت الأحرار، مشرق الأنوار،…”، أصوات الأطفال بدأت تصل بسيطة قوية مرددة النشيد الوطني من داخل هذه المدرسة القروية النائية بقرية ماريغا بوسط جبال الحوز في هذا الصباح المشمس الجميل، مدشنة بداية عام دراسي جديد.
أصدقاء لهم لقوا حتفهم في الزلزال الذي ضرب المنطقة قبل عام، وهذه المدرسة الصغيرة كانت قد دُمرت بدورها مثلما دُمرت غيرها من الوحدات المدرسية المنكوبة، ودرس الأطفال العام الماضي في خيام نصبت وجهزت لهذا الغرض حتى لا يضيع عام دراسي عليهم.
وحكى لنا القرويون هنا أنه بفضل جهود عدد من الجمعيات الخيرية التي نسقت مع وزارة التعليم والهيئات الرسمية، رُممت العديد من المدارس في هذه المناطق النائية، وقُدمت مساعدات لتيسير تمدرس التلاميذ، وإنجاح العملية التعليمية.
مدرسة ماريغا الابتدائية كانت من المدارس المحظوظة التي حظيت بالترميم لقربها من الطريق القروية البسيطة، وهي تمتد على مساحة ضيقة بما سمحت به تضاريس هذه المنطقة الجبلية، وتضم قاعات دراسية صغيرة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، وقاعة سكنية ضيقة مخصصة لمعلميْن، وتتوسطها شجيرات صغيرة متناثرة هنا وهناك.
فيما نصبت خارج سور المدرسة حمامات -مسبقة الصنع تتألف من هياكل تصنع وتنتج بحسب الطلب- مخصصة للتلاميذ.
حركة دؤوبة
حركة دؤوبة على باب المدرسة، الآباء والأمهات المنتشرون في ربوع هذه القرية الوادعة يأتون تباعا لتسجيل أطفالهم برغم ظروف الحياة القاسية.
يوضح لنا عبد الله، من سكان ماريغا، أنه حرص على تسجيل أطفاله في المدرسة وأكد أن عملية التسجيل تمر في ظروف سهلة وجيدة، وعبر عن سعادته بترميمها لتصبح صالحة لاستقبال فلذات أكبادهم.
بالنسبة للقرويين استمرار أطفالهم في أسلاك الدراسة مسألة لا جدال فيها، وذلك على أمل أن يأتي ذلك اليوم الذي سيكبر فيه هؤلاء الأطفال ويتخرجون ويعملون ويجتهدون في رد الجميل لآبائهم ولمنطقتهم.
ولسان حال الأطفال وآبائهم في هذا اليوم يبدو وكأنه يقول “مدرستي حلوة سواء كانت بين جدران أو داخل خيمة”.
الموظفون هنا رفضوا الحديث إلينا بحجة ضرورة انتظار موافقة رسمية من الإدارة، غير أن أحد المطلعين على أحوال المدرسة أخبرنا أن بداية العام الدراسي وإن كانت تمر في ظروف عادية وبشكل جيد، إلا أن هناك تحديات عديدة لابد من الوقوف عندها لإنجاح العملية التعليمية بهذه المناطق التي ضربها الزلزال ودمر منازل وموارد عيش القرويين.
فإلى جانب ضرورة توفير وسائل التدريس للأطر التعليمية، أهم تلك المشاكل بحسب مصدرنا -الذي فضل عدم ذكر اسمه- هي إقدام الحكومة على وقف مشروع “مليون محفظة” الذي كان يستفيد منه محدودو الدخل خلال السنوات الماضية، وتعويضه بدعم مالي مباشر.
وكان المشروع يوفر محفظة لكل تلميذ تضم كل مستلزمات الدراسة من كتب ودفاتر وأقلام وغيرها مما يحتاجه الطلاب في المناطق القروية.
لكن هذا العام، سيقدم -بدلا من تلك المحفظة- دعم مالي مباشر للأسر عن كل تلميذ، حدد في 200 درهم (20 دولارا) لتلميذ المستوى الابتدائي والإعدادي والثانوي، فيما ستمنح 300 درهم (30 دولارا) لطالب الثانوي التأهيلي. وسيصرف الدعم مرة واحد مع بداية العام الدارسي في سبتمبر/أيلول، وهو دعم مستقل عن الدعم المالي الاجتماعي المباشر الذي يقدم للأسر الفقيرة في المناطق القروية.
ضربة قاسية
“توقف مشروع مليون محفظة ضربة قاسية للأسر التي كانت قد ارتاحت من التفكير في توفير اللوازم المدرسية”، يتابع محدثنا الذي أكد أن المشكلة تكمن في أن الأسر ملزمة الآن بالسفر من خيامها وبيوتها بالأماكن القروية إلى المراكز الحضرية القريبة لشراء مستلزمات الدراسة.
وذلك يعني طبعا مصاريف إضافية كانوا في غنى عنها، ولا يستطيعون الآن توفيرها اللهم إلا إذا كانوا سيأخذون مصاريف التنقل من المال المخصص أصلا لشراء تلك المستلزمات الدراسية.
وأكد لنا قرويون هذه الحقيقة، مبرزين أن مشروع “مليون محفظة” كان مشروع مهما وحيويا بالنسبة لسكان القرى النائية، وخاصة تلك التي ضربها الزلزال ودمر منازلها وطرقها، وها هي طيلة عام كامل تحاول الانبعاث من تحت الركام.
كم هي محظوظة إذن مدرسة ماريغا -برغم المشاكل العديدة المرتبطة بوسائل التعليم- لقربها من الطريق القروية البسيطة، وكم هم محظوظون -برغم ظروفهم الصعبة- القرويون القريبون من هنا، لأن الأوضاع بالنسبة للقرى المنتشرة هنالك في أعالي الجبال، لا يمكن وصفها إلا بالظروف المستحيلة.
هناك في إغيل -عين الزلزال مثلا- لم ترمم الوحدة المدرسية بعد، وفي إمزوزيت وتينزرت وغيرهما من الدواوير(القرى الصغيرة) نفس المشكلة مستمرة، إذ ما تزال الخيمة الكبيرة التي تتوسط الدوار هي ما يلفت الانتباه، وهي خيمة وضعت مؤقتا لاحتضان تلاميذ القرية في المستوى الابتدائي فقط، لكيلا يضيع عليهم العام الدراسي.
والآن وبرغم مرور عام كامل على الزلزال، ما تزال الدواوير المشتتة هناك وهنالك في قمم جبال الأطلس، محرومة من وحدات دراسية تحتضن أطفالهم الصغار، بحيث لا يضطرون -كما يفعلون الآن يوميا- إلى قطع بضع كيلومترات جيئة وذهابا في تضاريس جبلية قاسية للتنقل للوحدة المدرسية الأقرب إليهم.
تحديات
وهنا تتفجر مشكلة أخرى تعرقل المسار الدراسي بكامله لطلاب المرحلة الثانوية، وقد توقفه نهائيا وخاصة بالنسبة الفتيات.
يشرح لنا الشاب عبد الصادق تاغم رئيس جمعية “آيور أغزان تاغم” بدوار تيبيضرت قرب مدينة تحناوت هذه المعضلة قائلا إن المدشر (قرية صغيرة) يتوفر على وحدة مدرسية للمستوى الابتدائي فقط، ويضطرون حاليا لنقل نحو 36 تلميذا بالمرحلة الإعدادية إلى مدرسة يتوفر فيها المستوى الإعدادي ببلدة إسني القريبة.
وذلك يكلفهم شهريا نحو 70 درهما (نحو 3 دولارات ونصف) للتلميذ الواحد، حيث يوفر المجلس الإقليمي سيارة التنقل المدرسي، ومصاريف البنزين.
علما أن مشاكل التمويل مستمرة في ظل وجود مسطرة قانونية لضمان ترشيد التسيير، لكنها تستنزف نصيبا كبيرا من الميزانية الذي يفترض أن يخصص لتمويل التنقل لتلاميذ الدوار، وإصلاح السيارة في حالة الأعطاب.
فعندما تتعطل سيارة التنقل، يتعطل المسار الدراسي لتلاميذ دوار تيبيضرت والدواوير المشتتة المحيطة به، إذ أن مصير تنقلهم مرتبط بها، والأسر لا تستطيع توفير بدائل.
الشويطر وآه من الشويطر
ويعترف بعض الآباء الذين تحدثنا إليهم بأن المشكلة أكبر بالنسبة للفتيات في المرحلة الثانوية، حيث اضطر بعضهن للتوقف عن الدراسة لغياب مستوى المرحلة الثانوية في تحناوت أو إسني المدينتين الصغيرتين القريبتين من دواويرهم.
يؤكد لنا القرويون الذين تحدثنا إليهم أن الوزارة المعنية فتحت المجال لتدريس الفتيات في المرحلة الثانوية بمدينة بعيدة عنهم هي الشويطر التي تقع بين مدينتي مراكش وآيت ورير، ووفرت لهم داخليات للعيش فيها ولا يزورون عائلاتهم إلا أيام العطل الرسمية.
“برغم المجهودات الرسمية المبذولة لضمان استمرار تعليم بناتنا، لكننا نريد من المسؤولين توفير وحدات مدرسية قريبة منا”، يشرح لنا أحد الآباء الأمر بمرارة كانت واضحة في صوته مضيفا “هذا وضع يستحيل علينا قبوله”.
فهناك، في الشويطر، تقضي الفتيات شهورا بالداخلية التي تتوفر فيها الشروط الضرورية لمتابعة الدراسة، لكن برغم ذلك، هذا وضع يصعب على الأسر تقبله بسبب التقاليد والقيود الاجتماعية، حيث يفضل البعض أن توقف البنت مسارها الدراسي وتجلس في البيت تساعد في تدبير شؤون الأسرة في انتظار أن تتزوج وتبني أسرتها، على أن تدرس بعيدا عن حضن الأسرة.
وتؤكد وزارة التعليم من جهتها أنها عززت الفضاءات الخاصة بالإيواء، بإحداث 15 داخلية جديدة بالوسط القروي، ليبلغ عدد الداخليات على المستوى الوطني 1103 داخلية، 68% منها بالوسط القروي.
الحل سهل
يؤكد لنا عبد الصادق ومعه أولياء الأمور الذين تجمعوا حولنا أن الحل سهل وبإمكان المسؤولين المساعدة على تحقيقه، وذلك بالعمل على توفير أماكن لمتابعة الدراسة الثانوية سواء بتحناوت أو إسني.
ويشرح لنا رئيس جمعية “آيور أغزان تاغم” أن جمعيته مستعدة لتوقيع اتفاقية تعاون مع جمعية أخرى بمدينة مولاي إبراهيم القريبة من دوارهم، لتيسير وصول التلاميذ إلى مدينة تحناوت التي تضم مدرسة ثانوية بإمكانها احتضان أطفالهم.
فتلك الجمعية لديها سيارة تنقل التلاميذ من مولاي ابراهيم إلى تحناوت، وتمر على دوار تيبيضرت، وبإمكانها نقل تلاميذ المرحلة الثانوية هناك إلى تحناوت في حال أعطت الوزارة الضوء الأخضر لذلك، لكن الأهالي هنا ما يزالون ينتظرون ذلك الضوء لعله يسعدهم ذات يوم.
خلال وجودنا ببلدة ماريغا، بدت هناك في أعلى أحد الجبال نقاط بيضاء علمنا أنها بضعة خيام نصبت لاحتضان الأهالي الذين هدم الزلزال بيوتهم، والخيمة الكبرى هي وحدة مدرسية لاستقبال أطفال الدوار. عندما بحثنا عن اسم الدوار عرفنا أن الأمر يتعلق بدوار تينزرت.
“تينزرت؟”.. ابتسمنا أنا ومرافقي وقد رسمت علامة استفهام على وجهينا: “هل حقا مر عام كامل على زيارتنا للدوار الذي مسحه زلزال القرن من الخريطة، ترى كيف هي تلك الوجوه الطيبة الآن؟”.