العقيدة الألفية.. إسرائيل بين يهود معادين ومسيحيين داعمين | سياسة
يؤمن كثير من الغربيين أن سويسرا نجت من الحربين العالميتين بسبب احتضانها للمؤتمر الصهيوني الأول، وأن الولايات المتحدة إذا تخلت عن إسرائيل فسيلغي الله مكانتها، وأن سبب إعصار كاترينا هو انسحاب دولة الاحتلال من قطاع غرة عام 2005.
إنها تصورات وتنبؤات يغذيها مذهب يدين به كثير من المسيحيين اليوم يسمى “العقيدة الألفية”، وهو الذي يمثل الرافعة الأولى لذلك الشغف الغربي الكبير بإسرائيل.
فلا يمكن للمصالح السياسية ولا للمشتركات الثقافية أن تفسر لوحدها هذا الدعم المطلق الذي تحظى به إسرائيل في الدوائر الغربية، التي تدوس أحيانا على مصالح أوطانها وعلى القوانين والقيم إرضاء لإسرائيل.
العقيدة الألفية
يذكر بعض دارسي التاريخ المسيحي أن العقيدة الألفية أو الإيمان بالعصر الألفي ظهرت منذ القرن الخامس، لكن الكنيسة تصدت لها واعتبرتها بدعة تكرس مفهوما أرضيا ماديا مفرطا للنصوص المسيحية.
ومع ذلك لم تنطمس هذه العقيدة وظلت حاضرة لتنمو أكثر بين الطوائف الإنجيلية في إنجلترا خلال القرن الـ18، قبل تصديرها إلى الولايات المتحدة لتصبح العقيدة المسيحية الغالبة هناك.
ويعتبر الباحث الأميركي في تاريخ الكنيسة الدكتور تيموثي بي ويبر في دراسة نشرها عام 1998 تحت عنوان “كيف أصبح الإنجيليون أفضل صديق لإسرائيل” أن العقيدة الألفية تطورت وتجذرت ضمن نظرية معقدة لتفسير ما يسمى الكتاب المقدس عرفت باسم التدبيرية، وضعها في القرن الـ19 الإنجليزي جون نيلسون داربي، ويقسم بموجبها الكتاب المقدس وتاريخ البشرية إلى فترات أو “تدبيرات”.
وتقوم نظرية العقيدة الألفية على مزاعم أن اليهود لما رفضوا يسوع أوقف الله الساعة النبوية لبعض الوقت، ولذلك فإن تاريخ الكنيسة بأكمله يقع في فراغ نبوي يسميه التدبيريون “القوس الكبير”، بحسب ويبر.
لكن وفقا لهؤلاء، فإن الله سيهتم مرة أخرى باليهود، لتأتي عودة يسوع إلى الكنيسة وتبدأ الساعة النبوية من جديد ويؤسس يسوع حكمه ليمتد ألف سنة، ومن هنا جاء مفهوم الألفية.
وبحسب هذه النظرية ستتحول الأمة اليهودية إلى المسيحية وسيصاحب ذلك ما يسمى بالعبادة اللاوية بذبائحها في الهيكل الذي سيعاد بناؤه.
ويرى ويبر أن التدبيرية الألفية لقيت هي الأخرى معارضة واسعة في الوسط المسيحي بداية أمرها، لكنها من خلال المؤتمرات والدعم الإعلامي انتشرت خصوصا في الأوساط الأقل تعلما، كما شاعت تنبؤاتها بخصوص نهاية الزمن.
اختطاف اليهود
وتكشف دراسة أخرى بعنوان “لماذا يدعم الإنجيليون إسرائيل؟” -شارك فيها أساتذة من جامعات متعددة ونشرتها جامعة كامبريدج عام 2020- جوانب أخرى من العقيدة الألفية التي يقتدي بها الإنجيليون، حيث يزعمون أن المجيء الثاني للمسيح حدث وشيك لكنه سيتم على عدة مراحل.
ففي المرحلة الأولى، سيظهر المسيح في السماء ولن ينزل إلى الأرض، وفي السماء سيلتقي -حسب زعمهم- بالمؤمنين الحقيقيين، أولئك الذين “ولدوا من جديد” بإيمانهم بالمسيح كمخلص لهم، في إشارة إلى اليهود.
ويعرف هذا الفعل في مزاعم الألفيين باسم “الاختطاف”، حيث يتم جذب هؤلاء المؤمنين بأعجوبة إلى يسوع من الأرض، بينما سيبعث المؤمنون الحقيقيون الذين ماتوا قبل ظهور المسيح من بين الأموات ويلتحقون بيسوع.
لكن دراسة كامبريدج تلفت الانتباه إلى أن العقيدة الألفية مناقضة لمعتقدات الكنيسة بشقيها الكاثوليكي والبروتستانتي.
فالألفيون يبنون عقيدتهم على أن اليهود هم شعب الله المختار، وهو ما يعارض “لاهوت الاستبدال” الراسخ منذ القدم في العقيدة المسيحية، الذي يعتبر أن اليهود فقدوا خيريتهم بعد رفضهم للمسيح، وبالتالي فإن الله قد انتهى من الشعب اليهودي، وانتقلت كل وعوده بالخير لإسرائيل إلى الكنيسة، حسب ما يسمى لاهوت الاستبدال.
دور الأقليات البروتستانتية
يعتبر المؤرخ السويسري جان فرانسوا ماير في دراسة نشرها عام 2013 تحت عنوان “إسرائيل: دولة القانون الإلهي أو أمة أخرى بين الأمم؟” أن الأقليات البروتستانتية، وخصوصا الأنجلوسكسونية الألفية لعبت دورا كبيرا في الدعاية والتحضير والتنفيذ للقرار البريطاني المعروف بوعد بلفور الذي تم إعلانه عام 1917 والمتعلق بإنشاء “وطن قومي” لليهود في فلسطين.
كما قامت هذه المنظمات بدور أكبر في ما تحقق من تبني الولايات المتحدة الأميركية لهذا القرار ودعمها المطلق لاحقا لإسرائيل.
ففي إنجلترا انتشرت في القرنين الـ18 والـ19 مذكرات وكتيبات تقترح عمليات توطين اليهود في فلسطين، ولاقت تلك الاقتراحات دعما كبيرا نظرا لانتشار العقيدة الألفية في الحيز الإنجليزي حينها.
ويرى ماير أنه لا يمكن استيعاب تطور الصهيونية بسرعة ولا قيام إسرائيل في حد ذاته إلا من خلال الأخذ بعين الاعتبار وجود هذا التيار القوي المسيطر داخل المسيحية الأنجلوسكسونية على وجه الخصوص.
جهود الكنيسة الإنجيلية في إنشاء إسرائيل
في عام 1839 أرسلت الجمعية العامة لكنيسة أسكتلندا مذكرات إلى ملوك أوروبا بشأن إعادة اليهود إلى فلسطين ورد فيها “نحن على يقين من صدق الوعد الإلهي بأن البركة السماوية تحل على أولئك الذين يأتون لمساعدة شعب الله”.
وفي العام نفسه، بدأت الصحافة الإنجليزية حملة كبيرة مدعومة من وزارة الخارجية لتشجيع فكرة الاستيطان اليهودي في فلسطين.
وفي عام 1840 أرسل القس الإنجليزي جوزيف سميث رسائل ليهود أوروبا وحوض البحر الأبيض المتوسط كتب فيها “في رأينا، لقد حان وقت بداية عودة اليهود إلى الأراضي المقدسة”، كما أرسل أورسون هايد مبعوثا عنه إلى القدس في 24 أكتوبر/تشرين الأول 1841، ومن هناك أعلن باسمه “هنا يجتمع بقية يهوذا المشتتة حسب نبوءات القديسين”.
وفي أغسطس/آب 1866 قام جورج آدامز رئيس طائفة أميركية من طوائف الألفية تدعى المورمونية بزيارة إلى فلسطين ومعه أكثر من 150 من أتباعه بهدف إنشاء مستوطنة قرب يافا، وقد حظيت تلك التجربة باهتمام بعض الأوساط اليهودية.
وشجع هنري دونان مؤسس الصليب الأحمر على إنشاء مستعمرات يهودية في فلسطين لإقامة دولة عبرية. كما لعب قسيس السفارة البريطانية في فيينا ويليام هيشلر دورا محوريا في تهجير اليهود إلى فلسطين، حيث قدم دعما كبيرا لمؤسس الصهيونية ثيودور هرتزل وسهل له عقد المؤتمر التأسيسي للصهيونية في بازل عام 1897.
كما شكلت مؤتمرات ألبيري بارك السنوية (1826-1830) نقطة التقاء للعديد من أبناء العقيدة الألفية البريطانية، وكان هدف تلك المؤتمرات التنظير والتخطيط لتهجير اليهود إلى فلسطين.
وتشكلت في أميركا هيئة تسمى “مؤسسة معبد القدس” تجمع التبرعات لمساعدة اليهود على بناء هيكلهم المزعوم، وقد جمعت بالفعل ملايين الدولارات لهذا الغرض.
متحابان متباغضان
يعتبر المؤرخ السويسري ماير أن هناك غموضا مستمرا في العلاقات بين إسرائيل وداعميها من المسيحيين، فالسيناريو الأخروي الذين يؤمن به الألفيون يشمل تحولا شاملا للإسرائيليين نحو المسيحية، بينما يرى اليهود أن خلاصهم في الاستمرار في يهوديتهم.
وحسب الباحثين، فإن الروابط المتميزة بين الإنجيليين الألفيين وإسرائيل تبدو متناقضة، فالأولون يظهرون دعما غير مشروط لها مع أنهم يعتبرون اليهود “ناقصي الإيمان”، لأنهم لم يقبلوا المسيح وأنهم سيواجهون الدمار إذا لم يتحولوا إلى المسيحية.
من جانبهم، يقبل اليهود دعم المسيحيين بل ويتملقون المسؤولين عنهم -وخاصة الأميركيين-، لكنهم يبذلون قصارى جهدهم لمحاربة المسيحية والحد من الأنشطة التبشيرية في إسرائيل.
نبوءات كاذبة
بحسب الباحث ويبر، فإن الألفيين التدبيريين فسروا كل الأحداث الأخيرة لصالح تنبؤاتهم، فحتى هتلر والنازيين كانوا بالنسبة لهم “تدبيرا” من الله لزيادة تطلع اليهود إلى وطن خاص بهم في فلسطين، أما إعلان دولة إسرائيل عام 1948 فهو “علامة العلامات”.
وجاءت حرب الأيام الستة 1967 وتوسع الاحتلال الإسرائيلي، فازدادت مزاعم التدبيريين رسوخا بقرب تحقق تنبؤاتهم، وانتشرت الكتابات الداعمة لذلك.
فقد زعم الواعظ الإنجيلي الأميركي هال ليندسي في كتابه الأكثر مبيعا “عذاب كوكبنا القديم” الصادر عام 1970 -الذي بيع منه أكثر من 10 ملايين نسخة- أن المجيء الثاني ليسوع المسيح سوف يحدث في غضون 40 عاما من تأسيس دولة إسرائيل، وكان متأكدا أنه ليس سوى تنبؤ كاذب، تماما كما تنبأ ألفيون من قبله بأن الحروب الصليبية في القرن الـ11 هي مقدمة لتحقيق نبوءاتهم.
وقد أصدر ليندسي كتابا آخر مطلع الثمانينيات بعنوان “العد التنازلي لهرمجدون” عرض فيه رؤية يمينية تربط بين الدور القيادي للولايات المتحدة ومساعدة إسرائيل.
وصدرت السلسلة الروائية “خطوة للخلف” (Left Behind) -المكونة من 16 رواية دينية وتعتبر الأكثر مبيعا- فكانت بمثابة دعاية مبطنة لإسرائيل وعلاقتها بتحقيق النبوءات المسيحية.
وحسب دراسة كامبريدج، فإن هذه الأعمال روجت لدور محوري يلعبه اليهود والكيان في أحداث نهاية العالم، كما أسهمت في تعزيز الدعم الإنجيلي لإسرائيل وأفرزت جيلا جديدا من المؤمنين بما يسمى العقيدة الألفية.
بركات إسرائيل وغضب الله
يتفق الدارسون على أن السياسيين الإنجيليين يعتبرون دعمهم لإسرائيل تنفيذا لأمر الرب، وعندهم نصوص يزعمون من خلالها أن “الله قال لإسرائيل سأبارك مباركيك وألعن لاعنيك”، لذا يدعمون ما تقوم به من احتلال ومجازر خوفا من غضب الله وبحثا عن بركاتها.
وتلعب النخب الغربية دورا كبيرا في ترسيخ هذه الاعتقادات رغم طابعها الخرافي، فقد ألف الكاتب الإنجيلي كلارك كتابا بعنوان “حلفاء من أجل هرمجدون” اعتبر فيه أنه: “إذا تخلت أميركا عن إسرائيل فسوف يلغي الله مكانة أميركا كأمة مفضلة إلهيا”.
كما أعد صحفي أميركي يدعى كونيغ تحقيقا زعم فيها أن هناك ارتباطا بين الضغط الأميركي على إسرائيل لتقديم تنازلات إقليمية والكوارث الطبيعية في الولايات المتحدة، وزعم أنه في غضون كل 24 ساعة من قيام أي رئيس أميركي بالضغط على إسرائيل، تحدث كارثة طبيعية، فيضانات أو أعاصير أو حرائق غابات أو زلازل أو هجوم إرهابي في الولايات المتحدة.
وتورد دراسة كامبريدج أن هذا التفكير دفع بعض الإنجيليين إلى القول إن انسحاب إسرائيل من قطاع غرة عام 2005 وإخلاء مستوطنة غوش قطيف جلب لأميركا إعصار كاترينا وما نجم عنه من دمار.
ولا تتوقف مزاعم الإنجيليين عند هذا الحد، فبعضهم يعتقد أن سويسرا نجت من الحربين العالميتين بسبب احتضانها للمؤتمر الصهيوني الأول الذي كان النواة لتشكيل إسرائيل.
“لغز إسرائيل” المثير
وفي السياق ذاته يتحدث المؤرخ السويسري ماير عما يسميه لغز إسرائيل المثير وغير القابل للحل، فمن يقف ضد إسرائيل يقف ضد الله، كما صرح القس جيري فالويل، أحد قادة الأصوليين المسيحيين في أميركا لصحيفة التايمز عام 1985.
وفي المقابل يصرح الحاخام الناطق باسم اليهود المتشددين المناهضين للصهيونية لصحيفة تريبيون لوماتان عام 1975 بأنه “حتى لو قبل العرب في نهاية المطاف وجود دولة إسرائيل، فإننا سنبقى معارضين لهذه الدولة المهرطقة”.
وهناك حركات يهودية بعضها تحول إلى أحزاب، مثل أغودات إسرائيل وناتوري كارتا، ما زالت تعارض قيام دولة إسرائيل وتعتبره كفرا بالمعتقدات اليهودية، وترى أن الصهيونية ترتدي بهرج اليهودية لكنها غير ذلك، بل هي مسيحية زائفة تمثل تمردا على الله.
وهكذا يرى ماير أن وجود مسيحيين أكثر صهيونية من الإسرائيليين أنفسهم ووجود يهود يتفوقون على الفلسطينيين في معاداتهم للصهيونية يكفي لخلط القضية، لكنه يكشف مدى تعقيد المشكلة التي يفرضها وجود إسرائيل، ومدى التشابك القوي بين السياسة والدين في هذه القضية، ويضعنا من جديد أمام “لغز إسرائيل” المحير وغير القابل للحل.
الألفيون وراء الدعم الأميركي
ونظرا لأصوله الإنجليزية الغالبة، تأثر الشعب الأميركي بالعقيدة الألفية التي تولى الإنجليز ابتداعها أو إحياءها في القرن الـ18 ونقلوها إلى مستعمرتهم أميركا.
وقد شدد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال زيارته الأخيرة للولايات المتحدة على التحالف العميق بين إسرائيل والمجتمع المسيحي الإنجيلي.
وقال خلال اجتماع مع قادة إنجيليين بارزين من بينهم القس جون هاجي مؤسس منظمة “مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل” في واشنطن “ليس لدينا أصدقاء أفضل منكم، وأقول هذا من القلب لمعرفتي بمدى التزامكم العميق وقوتكم في الدفاع عن إسرائيل”.
ويتجلى عمق هذه العلاقة في أن الخطاب الذي ألقاه نتنياهو خلال الزيارة أمام الكونغرس وسط هالة من التصفيق المتواصل هو خطابه الرابع من نوعه، وهي سابقة في تاريخ الكونغرس تعكس قوة المعتقدات الدينية التي ترفد الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل، الذي يتبوأ أحيانا الأولوية على مصالح الولايات المتحدة نفسها، ولا يلقي بالا لاعتبارات القانون الدولي ولا لحقوق الملايين من الفلسطينيين.
تنبؤات تناقض العدالة
يرى ويبر أن قراءة الإنجيليين لكل ما يتعلق بالوضع المعقد في الشرق الأوسط من خلال تنبؤات العقيدة الألفية أفقدتهم القدرة على تحليل الأحداث بموضوعية وأخلاقية، ولذلك يترددون في إدانة احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية.
ويخلص إلى أن هؤلاء الإنجيليين بحاجة إلى إعادة النظر في مواقفهم، متسائلا: “هل إيمانهم بتلك النبوءات يخولهم ترك قضايا الخير والشر جانبا ونسيان فكرة العدالة؟”.