بايدن “الصهيوني”.. ماذا يتوقع من الوساطة الأميركية لوقف العدوان على غزة؟ | سياسة
يثير الإعلان المتكرر من قبل الرئيس الأميركي جو بايدن بأنه “شخص صهيوني” التساؤل عن شكل الوساطة التي يمكن أن يقوم بها صهيوني بين الاحتلال والمقاومة في فلسطين، في الوقت الذي تنخرط فيه إدارته بالحرب على قطاع غزة عسكريا وسياسيا وإعلاميا.
وتزداد المفارقة غرابةً بتراكم الشواهد على افتقاد الدور الأميركي إلى النزاهة والحياد، كما وصفته حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وإيران وكثير من المحللين والمراقبين.
بينما يثير ذلك التساؤلات أيضا عن إمكانية توصل هذه الوساطة إلى نتيجة في الأفق المنظور، في حال استمر إطارها الحالي الذي تقوم فيه الإدارة الأميركية بدور مركزي.
موقف المقومة
تظهر تصريحات كل من حماس وحزب الله وإيران فقدانهم الثقة بأي دور نزيه للولايات المتحدة في الوساطة لوقف الحرب على القطاع المحاصر.
فقد اتهم القيادي بحركة حماس أسامة حمدان -في تصريحات للجزيرة- كلا من وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بـ”الخداع والكذب وشراء الوقت للاستمرار بالإبادة الجماعية في قطاع غزة” وذلك من خلال الادعاء بأن هناك تقدما في المفاوضات وأن إسرائيل توافق على الاقتراب من مضمون مبادرات الوسطاء.
ويشرح ذلك قيادي آخر في حماس هو باسم نعيم -في تصريح لوكالة أسوشيتد برس يوم 21 أغسطس/آب 2024- بقوله إن المقترح الأميركي الجديد “تبنى عدة مطالب جديدة من نتنياهو، بما في ذلك بقاء القوات الإسرائيلية في رفح وفيلادلفيا ونتساريم، وتفتيش الفلسطينيين النازحين العائدين إلى شمال غزة”.
ويشير نعيم إلى أن الاقتراح يتضمن أيضًا تغييرات غير محددة لتبادل الأسرى الإسرائيليين مقابل الفلسطينيين، ولا يضمن بقاء وقف إطلاق النار قائمًا أثناء المفاوضات بشأن الانتقال من المرحلة الأولى من الصفقة إلى المرحلة الثانية.
في حين تتضمن الإصدارات السابقة من خطة وقف إطلاق النار بندا ينص على أن تتضمن المرحلة الثانية وقف إطلاق نار دائما وانسحابا كاملا للقوات الإسرائيلية من غزة.
ويأتي ذلك في وقت تشيع الإدارة الأميركية أجواءً من التفاؤل دون تقديم أي دلائل على وجود اقتراب الموقف الإسرائيلي من عروض وقف الحرب السابقة، وهذا من خلال التصريحات العلنية والتسريبات إلى وسائل الإعلام.
كما نقل موقع أكسيوس عن مسؤولين أميركيين بتاريخ 16 أغسطس/آب 2024 من أن بعض التقدم تحقق خلال اليوم الأول من الجولة الأخيرة من المفاوضات في الدوحة.
ويعزز رواية حركة حماس الموقف الذي نقلته أسوشيتد برس في تقريرها عن مسؤول مصري -لديه معرفة مباشرة بالمفاوضات- يوضح أن اقتراح “جسر الهوة بين الطرفين” يتضمن تنفيذ المرحلة الأولى من الصفقة، والتي تقضي بـ”إطلاق سراح حماس للأسرى المدنيين”. ثم تتفاوض الأطراف خلال المرحلة الأولى على المرحلتين الثانية والثالثة دون “ضمانات” لحماس من إسرائيل أو الوسطاء.
ويقول المسؤول المصري “الأميركيون يعرضون وعودًا وليس ضمانات، ولن تقبل حماس هذا، لأنه يعني عمليًا أن حماس ستفرج عن الأسرى المدنيين مقابل توقف القتال لمدة 6 أسابيع دون ضمانات لوقف إطلاق النار الدائم عن طريق التفاوض”.
ويشير إلى أن الاقتراح لا ينص بوضوح على أن إسرائيل ستسحب قواتها من ممرين إستراتيجيين في غزة، هما ممر فيلادلفيا على طول حدود غزة مع مصر، وممر نتساريم من الشرق إلى الغرب عبر المنطقة، ويضيف المسؤول المصري “إسرائيل تعرض تقليص قواتها في ممر فيلادلفيا مع وعود بالانسحاب من المنطقة، وهذا غير مقبول بالنسبة لنا وبالطبع بالنسبة لحماس”.
وتعليقا على ذلك، يصف المتحدث باسم الحرس الثوري الإيراني علي نائيني الوساطة الأميركية بأنها “منافقة”. ونقلت قناة التلفزيون الإيرانية في 20 أغسطس/آب الماضي عنه قوله “لا نعتقد أن الأميركيين يريدون السلام ووقف إطلاق النار، وإن ما يفعلونه في الأساس لعبة سياسية”.
الإسرائيليون متفاجئون!
ويبلغ من مستوى تكشّف انحياز الموقف الأميركي إلى مواقف رئيس الوزراء الإسرائيلي أنه يثير رفض مسؤولين إسرائيليين يسعون للتوصل إلى اتفاق لإعادة أسراهم في غزة. فوفقا لما نقلته صحيفة يديعوت أحرونوت بتاريخ 21 أغسطس/آب، فإن مصادر إسرائيلية مطلعة اتهمت وزير الخارجية الأميركي بإفساد مفاوضات وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وتقول إنه أطلق عليها “حكم الإعدام”.
وتنقل الصحيفة عن مصادر -وصفتها بالمطلعة دون تسميتها- قولها إن “بلينكن ارتكب خطأ خطيرا للغاية بقوله إن نتنياهو قبِل المقترح الأميركي، والكرة الآن في ملعب حماس” وتعتبر أن وزير الخارجية الأميركي “خرّب بشكل خطير المفاوضات، وارتكب خطأ خطيرا للغاية، وهذا يدل على السذاجة وعدم الفهم”.
وتوضح المصادر أن بلينكن “بث تفاؤلاً لاعتبارات سياسية أميركية داخلية، حتى يسير مؤتمر الحزب الديمقراطي في شيكاغو بسلاسة”.
وتستدرك “لكن كبار المسؤولين في فريق التفاوض الإسرائيلي الذين استمعوا إلى مؤتمره الصحفي أرادوا تبديد هذه التكهنات، بعد أن أصدر بلينكن حكم الإعدام على الصفقة وانحاز إلى نتنياهو وقدم له هدية”.
وتشدد على أنه “لا اتفاق ولا قمة إذا استمر الإصرار الإسرائيلي على نشر قوات على طول محور فيلادلفيا” على الحدود بين غزة ومصر.
وتقول المصادر ذاتها إن “ما يعنيه كلام بلينكن أن الولايات المتحدة تقدم الدعم لنتنياهو لبقاء قوات الجيش الإسرائيلي في فيلادلفيا، بينما يرفض المصريون وحماس ذلك”.
وتؤكد أن التوقعات كانت أن بلينكن “سيدعو إسرائيل وحماس إلى التحلي بالمرونة” لكنه بدلا من ذلك “احتضن نتنياهو ونأى عن حماس”.
وسبق أن قال بلينكن عقب لقائه نتنياهو في إسرائيل -ضمن الجولة التي قادته أيضا إلى مصر وقطر- إن نتنياهو وافق على مقترح الصفقة، محملا المسؤولية لحماس في إفشال المفاوضات.
وساطة على إيقاع الانتخابات
وفي تحليله للموقف الأميركي، يرى أستاذ التاريخ في جامعة صابنجي التركية آدم ماكونيل أن “إدارة بايدن تواجه الجناح التقدمي في الحزب الديمقراطي الذي يريد إنهاء المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل”.
ويوضح ماكونيل أن هذه الإدارة سعت منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى تقديم مظهر يقوم على موقفين متناقضين بشكل أساسي. فمن ناحية، فيقدم مسؤولوها الولايات المتحدة كوسيط قادر على إيجاد أرضية مشتركة بين حماس والحكومة الإسرائيلية، وقد يوجه بايدن انتقادات “خفيفة” للعنف المفرط الذي تطلقه إسرائيل ضد سكان غزة.
ومن جهة ثانية، في الوقت الذي تعطي الأولوية لتعزيز فرص فوز المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس بالانتخابات الرئاسية نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، لا تخفي إدارة بايدن -التي لا تريد إغضاب اللوبي الصهيوني وتدرك مدى تأثيره على مسار الانتخابات- الإعلان عن استمرار تقديم المساعدات العسكرية لإسرائيل.
وببساطة، منعت ردود الفعل الانتخابية المحتملة -ولا تزال تمنع- تطبيق أي ضغوط جدية على حكومة نتنياهو، وحقيقة فإن ملف المساعدات العسكرية يمثل النفوذ الجاد الوحيد الذي تتمتع به هذه الإدارة ضد القيادة الإسرائيلية.
وفي ضوء الحقائق المذكورة أعلاه، فإن المراقب المحايد -وفقا لمقال ماكونيل في وكالة الأناضول- قد يجد أن الادعاء بأن واشنطن قد تعمل وسيطا بين الجانبين “سخيف بشكل واضح” فلا يستطيع أي مسؤول أميركي حالي يتمتع بقدرة كبيرة على اتخاذ القرارات -على حسب قوله- أن يتحمل سياسياً التبعات الانتخابية لاتخاذ إجراءات ذات مغزى لكبح جماح القيادة الإسرائيلية.
ولذلك فبعد 10 أشهر من “التظاهر بالنزاهة” يتخلص بلينكن مؤخراً من المزاعم الضعيفة المتبقية بالحياد أو النزاهة، ويركز على الضغط على حماس لقبول مقترحات وقف إطلاق النار الحالية التي تعد تراجعا عن المواقف الأميركية والإسرائيلية السابقة. والحقيقة الأساسية هي أن الساسة الأميركيين لا يستطيعون ولن يتمكنوا من حمل الحكومة الإسرائيلية على تبني موقف تفاوضي عقلاني.
ويؤكد ذلك أحدث تصريح صدر عن هاريس -في مقابلة مع شبكة “سي إن إن” يوم 30 أغسطس/آب، بشأن إمداد دولة الاحتلال بالأسلحة- إذ تكرر دعمها بما وصفته “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” وتجيب بـ”لا” عن سؤال عما إذا كانت ستعلق تسليم الأسلحة لإسرائيل في حال فوزها بالانتخابات الرئاسية. ولا تشير إلى أي تغيير في سياسة بايدن بهذا الشأن.
وفي حديث لصحيفة غلوبال تايمز، يقول الأستاذ بجامعة فودان في شنغهاي شين يي إن الشرق الأوسط بحاجة إلى تغيير الدور السلبي الذي تلعبه الولايات المتحدة. وبدلاً من حل المشكلة، فإنها عادة ما تختلقها، ثم تصوغ سياسة تستند إلى مصالحها واحتياجاتها “وتتخذ من أرواح ورفاهية الناس بالشرق الأوسط أداة لتعزيز هيمنتها”.
ويشير شين يي إلى أن “جميع الأطراف في الشرق الأوسط تعرف نوايا الولايات المتحدة جيدًا، لكن لم يكن لديهم خيارات أخرى من قبل”.
دوافع صهيونية
غير أن الدوافع الانتخابية لوحدها قد لا تكفي لتفسير هذا الاندفاع الأميركي لتغطية تعنّت الحكومة الإسرائيلية التفاوضي وتراجعها عن مواقفها السابقة، رغم ما في ذلك من تهديد لاستقرار الشرق الأوسط والعالم وبالتالي للمصالح الحيوية الأميركية.
وقد يكون الأمر متأثرا أيضا بالعوامل الذاتية لدى الرئيس الأميركي وبعض أركان إدارته، إذ كان بايدن أول رئيس أميركي يصف نفسه بأنه صهيوني، وهو الأمر الذي يعدّه جزءا من هويته منذ زيارته دولة الاحتلال عام 1973، ولقائه رئيسة الحكومة غولدا مائير، الذي وصفه بأنه أحد أهم اللقاءات في حياته.
وحينها، يعود السيناتور الشاب بايدن، من إسرائيل، متحمسا للغاية لدرجة أنه أعلن نفسه “صهيونيا” وظل يكرر ذلك علنا، موضحا كل مرة أنه “ليس من الضروري أن تكون يهوديا لكي تكون صهيونيا”.
وعام 1982 دعم بايدن حكومة مناحيم بيغن في غزوها لبنان، رغم سقوط الكثير من المدنيين، ووصل به الحماس لدرجة أن بيغن هو الذي اضطر أن يخفف من غلوه، مذكرا بايدن بأن أي طرف محارب مطالب بالحفاظ على النساء والأطفال!
وبهذا، يتضح أن سلوك الولايات المتحدة في الوساطة لا ينفصل عن مسار انخراطها عسكريا وأمنيا وسياسيا في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، من خلال توفير الأجواء السياسية التي تمكن إسرائيل من استعادة الردع وإيقاع أكبر ضرر ممكن بمقاومة الشعب الفلسطيني، مع تقليل التداعيات السياسية والعسكرية المترتبة على دولة الاحتلال جرّاء جرائمها بالقطاع.
وبذلك فإن الخلافات بين الإدارتين الأميركية والإسرائيلية لا تعدو كونها تباينات في تقدير مصلحة المشروع الاستعماري المشترك بين الطرفين وهو “الصهيونية” وأن هذه الخلافات لا ترقى إلى مستوى إعاقة المسار الأميركي الثابت الساعي إلى تصفية القضية الفلسطينية لصالح ترتيب هيكل سياسي وأمني واقتصادي إقليمي يحمي مصالح الاحتلال والولايات المتحدة.
بينما يتم توظيف هذه التباينات للسيطرة على مسار الوساطة السياسية بين المقاومة والاحتلال، ومنع أي أطراف غير مرغوب بها أميركيا من الدخول على خط الوساطة.
وفي حال كهذه، لا يجدر انتظار وصول الوساطة بشكلها الحالي إلى تسويات تحقق الحد الأدنى من مطالب الطرف الفلسطيني، وهو ما يعني أن وقف الحرب يتطلب إطار وساطة مختلفا يمكن أن يشكل ضمانة ويقدم مواقف متوازنة قد تفضي إلى وقف المذبحة المستمرة منذ شهور.
وإلى ذلك الحين، فلا قيمة للوعود الأميركية بوقف الحرب ما لم تدخل عوامل ضغط جديدة تجبر إدارة بايدن على الضغط الجدي على الاحتلال لوقف عدوانه المستمر على القطاع المحاصر.