متى بدأ “هوس” الإنسان بالنحافة والحميات الغذائية؟ | أسلوب حياة
تروي الكاتبة الأميركية نعومي وولف في كتابها “أسطورة الجمال” (The Beauty Myth)، كيف ارتفعت معدلات اضطرابات الأكل وتضاعف الإنفاق الاستهلاكي وأصبحت الجراحات التجميلية أسرع التخصصات نموا في العقود الأخيرة، لدرجة أن قرابة 33 ألف امرأة أميركية قلن إنهن يفضلن فقد 10 إلى 15رطلا (6.8 كيلوغرامات) من وزنهن عن تحقيق أي هدف آخر.
كما تؤكد الكاتبة أن المزيد من النساء أصبحن يملكن المال والقوة والنفوذ والاعتراف القانوني أكثر من أي وقت مضى، “إلا أنه من ناحية شعورنا حيال أنفسنا جسديا فقد نكون أسوأ حالا من جداتنا (غير المحرّرات)”.
الحديث عن الرشاقة يبدو حديثا لا ينقطع لفرط ما تنشغل به النساء تحديدا؛ عشرات الأنظمة الغذائية وربما مئات التوصيات للحصول على “الوزن المثالي”، والذي يكون غالبا تحقيق حلم النحافة، كمعيار للجمال في عصرنا الحديث.
لكن متى بدأت النحافة في احتلال ذلك المكان كهدف لأغلب الحميات الغذائية؟ وهل كانت معيارا للصحة أم مقياسا للجمال؟
النظام الغذائي والصحة
ظهرت كلمة “دايت” (النظام الغذائي) منذ آلاف السنين، وتعود أصولها إلى اللغة اليونانية، حين كانت تشير إلى العادات ونمط الحياة بشكل عام، وليس فقط النظام الغذائي كما تحولت الآن.
وكان الطبيب اليوناني أبقراط يشير في نصائحه إلى أن “طعامك يكون دواءك” ولا تزال بعض نصائحه تقدم إرشادات مختلفة لعلاج السمنة، ومن بينها أداء بعض التمارين الشديدة قبل تناول الطعام.
وفق موقع “إل إسبانيول”، اعتقد قدماء اليونانيين أن تناول الكثير من الطعام يمكن أن يتسبب في الإصابة بالأمراض، وقدم الطبيب جالينوس نصائح بطعام أقل وممارسة رياضة الجري لتخفيف الوزن، وشهدت فترة ما قبل الميلاد توصيات مماثلة ونصائح تتعلق بالغذاء، كتلك التي كُتبت على بردية مصرية تشير إلى أن الخضراوات تقوّي القلب وتفيد الجسم أكثر من طبق شهي آخر، وتؤكد أن قطعة صغيرة تكفي.
وكان التركيز حتى ذلك الحين على التأثير الضار للدهون، كما أشار أبقراط مثلا، أما في الفن فظهرت تماثيل النساء في العصور القديمة ممتلئة، في إشارة إلى نموذج الجمال الأنثوي آنذاك.
أما في العصور الوسطى، فارتبطت السمنة برقة وجمال المرأة، كما يشير موقع “لابنغوارديا”، والذي أشار إلى أن أبناء الطبقة المتوسطة كانوا حينها يحصلون بالكاد على ما يقيم أودهم ويسمح لهم بأداء الأعمال اليدوية.
كما يشير موقع هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، إلى أن الفلاحين اتبعوا نظاما غذائيا متوازنا اعتمد على الحبوب، دون أن تتوفر لهم “رفاهية” تناول الدهون. كما لم يكن السكر قد ظهر بعد، في حين توفرت الأغذية المتنوعة على موائد الأثرياء وحدهم.
السكر في المتناول
وفي القرن الـ18 الميلادي، زاد التنوع الغذائي في المجتمع، وأصبح للفقراء القدرة على اتخاذ بعض القرارات حول طعامهم، ولم يعد ذلك “الترف” قاصرا على الأثرياء. كما تضاعف استهلاك السكر، وانخفضت جودة الأنظمة الغذائية من الناحية الصحية، وكثرت توصيات الأطباء بتناول كميات أقل من الطعام، وممارسة الرياضة.
وبحلول القرن الـ19، اتجه المجتمع للاهتمام بالمظهر على حساب القيمة الصحية؛ فأصبحت زيادة الوزن مصدرا للقلق، وظهرت الإعلانات حول علاجات تساعد في نقص الوزن أو تقليل الشهية، وكان لبعضها آثار جانبية خطيرة، كما يشير موقع “بي بي سي”.
بدأ الأمر إذن حين تعددت خيارات الطعام المتاح، فتعرف الإنسان على أثر الغذاء على الجسم والشكل. ومع ظهور آثارها الصحية، لم تعد السمنة تصنف فقط على أنها “مرض” وفق منظمة الصحة العالمية، بل حملت السمنة -وفي المقابل النحافة- مجموعة معقدة من الأفكار والاعتقادات إلى ثقافاتنا.
هوس النحافة
في نهاية القرن الـ19، بدأ مفهوم “السعرات الحرارية” (محتوى الطاقة في الغذاء) يحظى بشعبية كبيرة، واستبعدت بعض الأطعمة من الأنظمة الغذائية لهذا السبب. وفي القرن الـ20، تزايد عدد الأدوية التي تعالج السمنة وتعنى بخفض الشهية، وبدأ تأثير المشاهير من هوليود على الشباب يأخذ شكله في تحويل النحافة إلى هوس.
وفي الستينيات، ظهرت شركات تدعم ذوي الوزن الزائد وتساعدهم في نقص الوزن من خلال الأنظمة الغذائية والمجموعات الداعمة. وبحلول السبعينيات، أصبحت صناعة الأنظمة الغذائية راسخة بالفعل وقدمت باستمرار طرقا جديدة ومتنوعة لتخفيف الوزن، وراجت الكتابات التي تقدم أنظمة غذائية بعضها يسهم في نقص الوزن سريعا دون الاهتمام بالتغذية المتوازنة.
أما في القرن الـ21، فأصبحت النحافة هدفا واضحا. ورغم تزايد معدلات السمنة العالمية -بحيث تضاعفت وفق بيانات منظمة الصحة العالمية 3 أضعاف منذ عام 1975-، فإن الهوس بنقص الوزن يمثل سوقا تقدر بملايين الدولارات، كما يشير موقع “لابنغوارديا”.
ونجحت صناعة الأنظمة الغذائية على مدار العقود الماضية في تحقيق الاستقرار والتكيف وتقديم التنوع في المنتجات والأدوية لتحقيق الهدف: حل سريع لتخفيف الوزن!
“قيد الأنوثة”
وبالعودة إلى كتاب “أسطورة الجمال”، تشير نعومي وولف إلى “سر خفي” يسمم حريات النساء العاملات، يتعلق بمفاهيم الجمال، ويتمثل في هواجس جسدية ورعب من الشيخوخة
وتؤكد الكاتبة الأميركية ميل صور الجمال الأنثوي لـ”القسوة والوحشية” بالتزامن مع تزايد معدل تجاوز النساء لـ”العراقيل المادية والاجتماعية” وانخراطهن في التعليم العالي، ثم في العمل في العقود الماضية.
وتفسر نعومي ما يحدث بأن المجتمع لم يعد يقيس القيمة الاجتماعية للمرأة بناءً على تحقيقها للحياة الأسرية السعيدة، فقامت بالتالي “أسطورة الجمال” بقياس قيمة المرأة من خلال تحقيقها لـ”الجمال الفاضل”، إلى جانب بُعد اقتصادي يزيد من استهلاكيتها.
وترى المؤلفة أن الصورة النموذجية السائدة للجمال، تدمر النساء جسديا وتستفزهن نفسيا، “وإذا ما أرادت النساء التحرر من هذا الثقل فلن يكون الطريق صناديق الاقتراع أو جماعات الضغط، كما حدث في الماضي حين تعلق الأمر بالتعليم أو بالعمل، بل سيكون ببساطة طريقة جديدة للنظر إلى الأمور”.