10 أطفال بغزة يفقدون أعضاء بجسدهم يوميا.. كيف نفهم معاناة البتر النفسية؟ | سكون
تخيّل أن تستيقظ يومًا لتجد نفسك دون ذراع أو ساق. إن تلك اللحظة الأولى التي تدرك فيها فقدان جزء من جسدك تكون مليئة بالارتباك والذعر. فالشخص المبتور يتعرض لصدمة نفسية هائلة، حيث تتغير حياته جذريا، ليس لأنه فقد عضوًا أو صار ناقصًا لطرف، فهذه خسارة جزئية، كما أن المسألة ليست مسألة آلام جسدية تحيط بالعضو المبتور، ولكنّ الألم المستمر ألمٌ وجداني ونفسي عميق، لأنّ الإنسان حين يدرك خسارته لشيء لا يُمكن استرجاعه، يدرك بشكلٍ عميق موتَه الرمزي، أو بالأحرى الموتَ المعنوي لذاته القديمة كما اعتاد أن تكون.
إن المعاناة الناتجة عن بتر الأعضاء تختلف بشكل كبير عن أي تجربة مؤلمة أخرى، فالبتر لا يعني فقط فقدان جزء من الجسم، بل هو فقدان جزء من الذات والهوية. الأشخاص المبتورون يشعرون أنهم فقدوا جزءًا من قدرتهم على الاعتماد على أنفسهم، وهذا الشعور بفقدان السيطرة يصبح جزءًا من حياتهم اليومية، مما يعمّق من معاناتهم النفسية.
منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول وحتى نهاية ديسمبر/كانون الأول 2023، أحصت جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني نحو 12 ألف شخص، بينهم قرابة 5000 طفل، فقدوا طرفًا أو أكثر نتيجة الحرب. وبإمكاننا التنبّؤ بتضاعف هذه الأرقام التي تعبّر عن آخر تحديث إحصائي متوفّر لدينا حتى اللحظة، رغم مرور 8 أشهر على هذه الإحصائية، إذ لم تتمكن الجمعية من تحديث هذه الأرقام بفعل الدمار الهائل الذي أصاب القطاع الصحي في غزة.
يُعطينا المشهد في غزة أكثر من مجرّد أرقام، فلكل “رقم” قصة وحكاية وحياة. أما القصة التي نقلتها “وول ستريت جورنال” عن إبراهيم الرّاعي، الشاب الذي لطالما أحبّ كرة القدم وكان يحلم بأن يصبح لاعبا محترفا.. ذلك الحلم لم يفارقه حتى عندما فَقَدَ ساقه في إحدى الغارات الجوية. بعد خضوعه لعدة عمليات جراحية، تمكّن الأطباء من إغلاق الجرح، لكنه لم يحصل على طرف اصطناعي. وبدلاً من ذلك، أصبح يستخدم العكازات، ويمارس تمارين بسيطة باستخدام كرة القدم التي كانت حلمه قبل الإصابة.
يرى إبراهيم أن روحه -مع كلّ ما مرّ به- “لم تُكسر”.. يحتفظ بقميصيْ كرة القدم اللذين تمكّنت عائلته من إنقاذهما من منزلهما المدمر. عندما يرتدي إبراهيم أحد القميصين، يشعر كأنّ جزءًا من حلمه لا يزال حيًّا في داخله. وعلى الرغم من أنه لم يعد قادرًا على الركض مثل السابق، فإنه لا يزال يحاول التمرن واللعب بكرة القدم بين الحين والآخر، وكأنه يُثبت للعالم ولذاته أن الروح القوية لا يمكن أن تُكسر بسهولة، حتى عندما يُفقد الجسد.
بشكلٍ عام، يؤدّي البتر إلى اضطرابات نفسية معقدة تشمل الاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، صحيح أن الاستجابة النفسية للأفراد تختلف من شخص لآخر، إلا أن ثمة حالات شائعة يتسم بها الأشخاص الذين بُترت أحد أعضائهم. يعيش الأشخاص المبتورون حالة من الذكريات المؤلمة المتكررة والكوابيس المرتبطة بالحادث، ويعاني هؤلاء، غالبا، من مشاعر فرط التنبّه والتأهب الشديد والخوف من المستقبل، مما يصعّب عليهم التكيف مع حياتهم اليومية الجديدة، وهو ما سنستكشفه بشكلٍ مُوسّع في هذا المقال.
النظر في المرآة.. التذكير اليومي بخسارتك الأبدية
عندما ينظر الشخص إلى نفسه في المرآة بعد تجربة بتر أو إصابة حرق، تتجاوز هذه اللحظة مجرد انعكاس صورته. إنها لحظة تمتزج فيها صورة الذات بتحطّم آمالها واستيعاب حدودها وآلامها. ينظر البشر إلى المرآة غالبًا لثلاثة دوافع رئيسية: الدافع الأبرز يتمثّل في التحقّق من مظهرهم الخارجيّ وملابسهم وتصفيف شعرهم، بينما يتمثل الثاني في الرعاية الذاتية أو العناية بالجسد. أما الدافع الثالث وراء نظر البشر في المرآة فيتجسد في مفهوم “الفضول” أو الرغبة العميقة بالاطّلاع على المظهر لأسباب نفسية مختلفة، كالتحقّق من مدى الكفاءة الجسدية، أو التأكد من جمال الشخص واكتماله ونحو ذلك.
تعطينا تجارب مرضى الحروق واستئصال الأعضاء -كاستئصال الثدي مثلا- تجارب مشابهة لما يمرّ به ذوو الأعضاء المبتورة. تعرض دراسات عدّة تجربة النساء المريضات بمرض جلدي مُشوّه، أو اللاتي خضعن لعملية استئصال الثدي؛ عند رؤية أنفسهن في المرآة.
وفي التفاصيل الدقيقة الموصلة إلى لحظة النظر هذه، تمرّ المرأة بثلاث مراحل رئيسية: الاستعداد أو قرارها بأنّها تريد رؤية نفسها في المرآة، ومن ثمّ تأتي مرحلة النظر ورؤية الذات بالهيئة الجديدة، لتنتهي هذه الخطوة بإقرار الذات بأنّها اكتفت من النظر في المرآة واستوعبت التشوّه الحاصل. هذه المراحل أو اللحظات تحمل في طياتها مشاعر متضاربة تتراوح بين الفضول لمعرفة المظهر الجديد، والرغبة في استيعاب التغيّرات الهائلة في صورة المرء عن نفسه، وصولا إلى مرحلة الموافقة التي تتأرجح بين الإنكار والأمل والرضى.
إنّ أصعب الأوقات وأكثرها إيلامًا في حياة الشخص المبتور هو اللحظة التي يضطر فيها لمواجهة صورته في المرآة بعد العملية. هذه التجربة ليست مواجهة جسدية فقط، بل هي مواجهة لكل التغييرات النفسية والاجتماعية التي ترافق فقدان الطرف. وقد أشارت دراسة شهيرة بعنوان “تجربة النظر في المرآة عقب بتر الأطراف”، إلى أنّ الأشخاص الذين فقدوا أطرافهم يمرّون بأربع مراحل رئيسية خلال تجربتهم مع المرآة: الصدمة، التألم، التعرف على الذات، وقبول الواقع الجديد.
تبدأ رحلة معاينة الجسد الجديد في المرآة بصدمة قوية تُصيب الشخص عند رؤيته لأول مرة وهو يحاول أن يستوعب أنّ جزءًا من جسده قد باتَ مفقودًا. يصف أحد المشاركين في الدراسة شعوره بأنّه كان “لا يشعر بأيّ شيء” عند النظر لأول مرة في المرآة، وأنه استغرق وقتًا طويلا قبل أن يفهم أنّ ما يراه أمامه هي صورته الجديدة، ليُصاب عقب هذا الإدراك بالأسى الشديد والشعور بانعدام الأمل عقب إدراكه ما فقده.
المرحلة التالية بعد مرحلة الصدمة هي مرحلة الألم، حيث يشعر الشخص بالانزعاج والتشوّه والاكتئاب، بل قد يشعر أحيانًا بالاشمئزاز عند رؤية جسده بتفاصيله الجديدة. في هذه المرحلة، تجتاح الشخصَ مشاعرُ عارمة بالحزن العميق وفقدان الأمل، خاصةً عندما يكون المشهد الأول للمرآة في مكان عام أو أثناء جلسة علاج طبيعي عقب البتر، مما يزيد من حدّة الصدمة والألم.
مع مرور الوقت، تبدأ مرحلة التعرّف على الذات، حيث يبدأ الشخص في محاولة التكيف مع صورته الجديدة. في هذه المرحلة، تكون المرايا الصغيرة والمحمولة مفيدة لمراقبة مكان الجرح والتأكد من عدم حدوث أيّ تهيّج أو عدوى، بينما تكون المرايا الكبيرة ضرورية لرؤية الجسد بأكمله وفهم التغييرات التي طرأت عليه كإدراك كُلّي للصورة الجديدة للجسد المُشوّه. هذه المرحلة تحتاج إلى شجاعة كبيرة لأنّ الشخص بحاجة إلى رؤية الجسد بوضوح والتأمّل الهادئ وعدم إشاحة النظر، من أجل استيعاب أفضل للواقع الجديد.
أخيرًا، تأتي مرحلة القبول التي تتطلب سنوات من التكيّف مع الهوية الجديدة. في هذه المرحلة، يبدأ الشخص في تقبل الجسد المبتور كجزء من ذاته، والتأقلم مع الحياة بوجود الطرف المفقود. يشير المشاركون في الدراسة إلى أن التكيف مع الذات الجديدة قد يستغرق سنوات، وأنه يكون مصحوبًا بفترات من الشك واليأس بين الحين والآخر.
وبالرغم من أنّ النظر في المرآة بعد بتر الطرف يمثل جحيمًا للكثيرين، فإنه خطوة أساسية في رحلة التكيّف مع الهوية الجديدة. يخبرنا أحد المشاركين في الدراسة ممّن بُترت أطرافهم: “أعلم أنّه قد لا يكون شيئًا مُحبّبًا للكثيرين، لكن كلما أسرعت بالتعوّد (على النظر في مرآة كبيرة)، تمكّنت من التغلب على آلامك بشكلٍ أسرع”. بهذا المعنى، تساعد مواجهة الصورة في المرآة الشخصَ على التعامل مع الواقع وتقبّل التغيّرات الكبرى التي طرأت على جسده، مما يفتح الباب لمرحلة جديدة من الحياة يتعلم فيها الشخص كيف يعيش بشكل كامل رغم فقدان جزء من جسده.
يلعب الدعم النفسي والاجتماعي دورًا كبيرًا في مساعدة الشخص المبتور على تجاوز هذه المراحل. من هنا، يشير البحث إلى أهمية تقديم الدعم العاطفي من قبل العائلة والأصدقاء والمجتمع الطبي، وتوفير بيئة آمنة تتيح للشخص مواجهة مشاعره والتعبير عنها بحرية، وبالأخصّ الاستياء والجزع الفعليّ الذي لا ينبغي إنكاره ولا تجاهله، دون أن يُلام الشخص على مشاعره وإفصاحه عن مدى سخطه واستيائه تجاه جسده وحياته التي تغيّرت رأسًا على عقب.
وفي بُعد آخر، يمثل الدين عاملا مؤثرا في قبول الفرد لواقعه الجديد لتمثّله مفاهيم مثل التسليم بقضاء الله وقدره، والصبر على المصائب، وانتظار الآجر من الله.
أبرز الآلام النفسية التي تعقب عملية بتر الأعضاء
“في البداية، لم أكن أنظر إلى نفسي في المرآة.. كنتُ خائفا من رؤية شكلي الحقيقي”
– تعبير لأحد المبحوثين في دراسة بعنوان “تجربة النظر في المرآة لمبتوري الأطراف”
أحد الأعراض المصاحبة لعملية بتر الأعضاء وقطع الأطراف، ظاهرة طبّية شهيرة وغريبة تُسمّى الألم الشبحي. يظهر هذا الألم كواحد من التحديات النفسية الخاصة التي يعاني منها الأشخاص المبتورون. والألم الشبحي هو شعور بالألم في الطرف المفقود وكأنه لا يزال موجودًا، مما يزيد من حدّة التجربة النفسية ويجعلها أكثر تعقيدًا. هذا النوع من الألم يصعب فهمُه على الآخرين، مما يزيد من عزلة الشخص المبتور ويجعله يشعر بعدم القدرة على التواصل مع محيطه بشكل طبيعي.
هناك أيضًا “الإحساس الشبحي” بالأطراف المبتورة، وهو الشعور بأنّ الطرف المبتور ما يزال موجودًا، بل ويتحرّك ويُمكن تحريكه، وهو شعور شائع جدًا بحيث يمكن اعتباره ظاهرة عالمية عقب عمليات البتر الطبية والجراحية. لاحقًا وتدريجيًا، يميل الإحساس الشبحي إلى التلاشي بسرعة في كثير من الأحيان، لذلك لا يستمر سوى عدد قليل من الأفراد في إدراك أطرافهم المبتورة وكأنّها لا تزال موجودة ونشطة بعد عام واحد من الجراحة. ومن الشائع أن يستمرّ العديد ممّن تعرّضوا لبتر الأعضاء، بالشعور بالحكّة في منطقة العضو المبتور من حين لآخر، وأحيانًا يتصاحب هذا الشعور مع تحفيز الأطراف السليمة واستثارتها حسّيًا.
ومن المثير للاهتمام أنّ الأطباء لم يلحظوا تجربة الإحساس الشبحي أو الأطراف الوهمية لدى أولئك الذين ولدوا ناقصي أحد الأطراف منذ البداية، وكذلك الحال لدى أولئك الذين عانوا من فقدان أحد الأطراف في سنّ مبكرة جدًا. أما أولئك الذين تعرّضوا للبتر بعد مضي سنوات جيّدة من حياتهم فكثيرًا ما يختبرون هذه التجربة، بل إنّ بعضهم قد يختبر هذا الإحساس المُتوهَم حتى بعد 10 أو 15 سنة من عملية البتر، على شكل حكة متقطعة. ومن الغريب أيضًا، وممّا يؤكد الجانب النفسي للإحساس الشبحي أنّ البعض يقول بأنّ الحكة تزول في حال قيام الشخص بخدش وحكّ الطرف الاصطناعي البديل للعضو المبتور.
من منظور نفسي وفي سياق الاضطرابات النفسية، يُمكن أن تؤدي تجربة البتر، خاصة إذا كانت نتيجة لحادث مؤلم أو صدمة جسدية شديدة، إلى اضطراب ما بعد الصدمة. يعاني المصابون من ذكريات مؤلمة وكوابيس متكررة تجعلهم يسترجعون وبشكل قهريّ وغير إرادي؛ تجربة البتر مرارًا وتكرارًا. ويحدث على المدى الطويل أن يُصاب العديد من الأشخاص الذين تعرضوا للبتر بحالات اكتئاب شديدة. تتراوح أعراض الاكتئاب بين الشعور بالحزن العميق وفقدان الاهتمام بالأشياء التي كانوا يستمتعون بها سابقًا، مما قد يؤثر بشكل كبير على حياتهم اليومية وعلاقاتهم الاجتماعية. كما تشير الدراسات إلى أن الأشخاص المبتورين غالبًا ما يواجهون مستويات عالية من القلق والتوتر، سواء بسبب الألم المستمر أو بسبب القلق من نظرة المجتمع إليهم. وقد يتفاقم هذا القلق إذا شعر الشخص بعدم القدرة على التكيف مع الحالة الجديدة.
هويّة جديدة.. أن تُضطر لإعادة تعريف نفسك
كان صباح الأول من مارس حافلاً بالدماء والرعب بالنسبة لصابر علي أبو جبّة، الشاب الذي لم تتجاوز سنّه الحادية والعشرين. بينما كان يسوق عربته التي يجرها حمار، ضربت قذيفة ساقيْه، لتقتلع اليسرى على الفور، وتترك اليمنى ممزقة ومليئة بالشظايا المعدنية، بحسب التفاصيل التي روتها صحيفة نيويورك تايمز.
يقول صابر وهو يرقد على سريره بمستشفى شهداء الأقصى في دير البلح، حيث يرتفع جذع ساقه المبتور على وسادة: “أخشى أن أفقد ساقي الثانية”. إنّه خوف عميق يتخلل كلماته ويظهر في عينيه المتعبتين. لا يُفكّر صابر إلا في مستقبله المجهول، في تلك الفتاة التي قد ترغب في الارتباط بشاب فقد ساقيه، وفي كيفية العمل وكسب لقمة العيش في ظل هذا الوضع.. “ما زلت في بداية حياتي، أشعر بحزن شديد على ما حدث لي.. لقد فقدت قدميّ”، يقول بحزن.
من جهة سيكولوجية، وبعد عملية البتر، يواجه الفرد تغيرات جذرية في تصوره لنفسه ومستقبله. تتطلب هذه التجربة من الشخص التعامل مع فقدان الوظيفة الجسدية والقدرة على الاعتماد على الذات، مما يؤثر على شعوره بالكفاءة والاستقلالية. يحتاج الأفراد إلى التكيف مع استخدام الأطراف الاصطناعية وإعادة تعلم كيفية أداء الأنشطة اليومية. يشعر البعض أن مستقبلهم قد تضاءل، وأنهم فقدوا القدرة على تحقيق العديد من أهدافهم السابقة. ولهذا قد يشعر الأشخاص المبتورون بأنهم لم يعودوا كما كانوا من قبل، مما يؤدي إلى تدني احترام الذات والشعور بالانفصال عن هويتهم السابقة.
إذا أخذنا هذه المعطيات بعين الاعتبار، يمكننا أن نفهم ما تتميز به معاناة البتر عن غيرها من الآلام الجسدية. تتطلّب عملية البتر من الفرد إعادة بناء تصوره لذاته وهويته، ذلك أن فقد الشخص جزءاً أساسياً من جسده، يؤثّر على صورة جسده ورؤيته لنفسه ككائن متكامل. والألم المزمن، بما فيه الألم الشبحي في الطرف المبتور، يزيد من صعوبة هذه التجربة ويجعلها مختلفة عن أي تجربة مؤلمة أخرى. كما يؤثر البتر مباشرةً على القدرات الوظيفية للمرء وشعوره بالكفاءة الذاتية، مما يعيد تشكيل حياته اليومية ويهدم طموحاته المستقبلية بشكلٍ مفاجئ وعنيف.
تتأثر الهوية الاجتماعية للشخص المبتور تأثرًا كبيرًا بالتفاعلات اليومية والمواقف الاجتماعية. يشعر العديد من المبتورين بالحاجة إلى إخفاء أطرافهم الاصطناعية، أو تجنب الحديث عنها، في محاولة للحفاظ على صورة ذاتية طبيعية أمام الآخرين. مع الوقت، يبدأ الشخص في تقبل وضعه الجديد، ويدرك أن قوته تأتي من قبول هذا التغيير والتكيف معه.
في الحياة اليومية، يواجه الأشخاص مبتورو الأعضاء تحديات مستمرة في إعادة بناء هويتهم.. يبدأ هذا بإعادة تعلّم القيام بالأنشطة البسيطة بطريقة جديدة، سواء عند ارتداء الملابس، أو التحرك في المنزل، أو استخدام الأطراف الاصطناعية. هذه التحديات تفرض على الشخص المبتور أن يجد طرقًا جديدة للتعامل مع العالم من حوله، مما يعزز شعوره بالاستقلالية ويعيد بناء ثقته بنفسه. ومن خلال الدعم النفسي والاجتماعي المناسب، يمكن للشخص المبتور أن يتعلم التكيف مع هذه التغيرات وبناء هوية جديدة قائمة على قبول الذات واستغلال القدرات الجديدة التي يكتسبها. وتُعد جلسات العلاج النفسي الجماعي والفردي، ودعم الأصدقاء والعائلة، والمشاركة في مجموعات دعم الأشخاص المبتورين؛ من العوامل الحيوية التي تساهم في تسهيل هذه العملية.
ما الذي يخفف المعاناة النفسية لتجربة البتر؟
التكيف النفسي بعد عملية البتر يتأثر بالعمر بشكل كبير. وبحسب الدراسات، فإنّ الأطفال الذين يولدون بدون أحد الأطراف يتكيفون بشكل جيد، لأنهم يتعلمون استخدام قدراتهم المتبقية منذ سنّ مبكرة، في مرحلة تتمتّع عقولهم فيها بالمرونة وتشهد وصلاتهم العصبية مرونةً عصبية عالية وهم في مرحلة النمو. الأطفال في سن المدرسة يتكيفون بشكل جيد مع التعطّل الوظيفي لأدائهم نتيجة فقدان أطرافهم، لكنهم حسّاسون بشكلٍ حرج تجاه قبول أو رفض الأقران. أما في مرحلة المراهقة، فيشكل البتر تهديدًا كبيرًا لهويتهم الجنسية الناشئة، كما عبّرت عن ذلك فتاة تبلغ من العمر 13 عامًا، حين قالت عند قطع أطرافها كما وثّقت ذلك إحدى الدراسات: “لن ينظر إليّ أيُّ فتى بعد الآن”. أمّا كبار السن، فقد يواجهون صعوبة أكبر في التكيف بسبب تدهور الصحة، والعزلة الاجتماعية، والضغوط المالية، والقيود المهنية، التي تتكاتف جميعها لتلقي بأعبائها على الشخص المبتور الأعضاء.
يلعب نمط الشخصية دورًا حاسمًا في التكيف النفسي بعد البتر، فالأفراد الذين يستثمرون كثيرًا في مظهرهم وقوتهم الجسدية يعانون بشكل أكبر من فقدان أحد الأطراف، حيث يرونه اعتداءً على كرامتهم وقيمتهم الذاتية. وعلى العكس من ذلك، قد يجد الأفراد الذين يعتمدون على الآخرين ارتياحًا في الدور المرضي. كما أن الأشخاص الذين لديهم تاريخ مرضي من الاكتئاب هم أكثر عرضة للاضطراب النفسي بعد البتر.
كذلك، يلعب الوضع الاقتصادي والاجتماعي دورًا مهمًا في تجربة البتر، فالأفراد الذين يعتمدون على مهاراتهم الجسدية لكسب لقمة العيش هم أكثر عرضة للتأثر السلبي بفقدان الأطراف. في المقابل، يمكن لأولئك الذين يمتلكون مجموعة واسعة من المهارات، أو الذين لا يعتمد عملهم الأساسي على الطرف المفقود، أن يواجهوا صعوبات نفسية أقل
وفي الوقت نفسه، لا يمكن أن نغفل أثر الدعم الاجتماعي والنفسي الذي له تأثير كبير على التكيف النفسي بعد البتر، فالأفراد الذين يتمتعون بنظام اجتماعي داعم وقوي، مثل الأزواج أو العائلات المتماسكة والممتدة، يتكيفون بشكل أفضل مع فقدان الأطراف، بالإضافة إلى وجودهم مع زملاء يعانون مثل ظروفهم، فدعم الأقران مهمٌّ بشكل خاص للأطفال والمراهقين.
كما يظهر في مقاطع مرئية عديدة وردت من قطاع غزة، عن دور الدين في تعزية المصاب بما أصابه، وتذكير المجتمع من حوله بأهمية استحضار مفاهيم الصبر عند البلاء ووعد المصاب بالأجر والثواب.
من جهة أخرى، يلعب سبب البتر دورًا كبيرًا في التكيف النفسي، ففقدان الأطراف نتيجة للإصابات الحربية كان محور العديد من الدراسات القديمة، ولكن في الوقت الحاضر، غالبًا ما يحدث البتر نتيجة لأمراض مزمنة مثل السكري وأمراض الأوعية الدموية. والأفراد الذين يختارون البتر كإجراء علاجي للسرطان، على سبيل المثال، يميلون إلى التكيف بشكل أفضل لأنهم يدركون الفوائد الصحية المحتملة.
التحضير الجيد قبل الجراحة يسهم في تقليل التوتر والقلق بعد البتر، وهي ظروف قد لا تكون متاحة دائمًا في ظل الحروب والقصف المتواصل كما يحدث في قطاع غزة، ولكنّ الدراسات تُشير بشكلٍ عام إلى أنّ الأفراد الذين يتلقّون معلومات واضحة حول الجراحة وعملية التأهيل يُظهرون تكيفًا نفسيًا أفضل، مقارنةً بأولئك الذين يفتقرون إلى هذا التحضير. وعلى أيّة حال، فإنّ التكيف مع البتر يتطلب نهجًا متعدد التخصصات يشمل الأطباء والممرضات والمعالجين الطبيعيين والاجتماعيين والنفسيين. هذا النهج يزيد من فرص النجاح في عملية التأهيل، ويسهم في تقليل مدة البقاء في المستشفى، وزيادة فعالية التأهيل على المدى الطويل.
عن التحطيم الممنهج لطاقات المجتمع وعوامل النهوض
بحسب منظمة “أنقذوا الطفل”، وحتى مطلع عام 2024، يفقد 10 أطفال يوميًا إحدى الساقين أو كلتيهما بفعل الحرب والقصف الإسرائيلي على قطاع غزة، وهذا رقم مُرعب إذا ما تخيّلنا شكل المجتمع الغزّي عقب انتهاء الحرب، وأن الإحصائية كانت متحفّظة ولم تأخذ بعين الاعتبار الارتفاع الجنوني في هذه المعدلات والذي يحدث بين الحين والآخر حين يستهدف جيش الاحتلال الإسرائيلي منطقة ما -على وجه الخصوص- بقصف كثيف وتفجيرات متتالية. وهذا تحديدًا ما يدفعنا للتفكير في شكل الهندسة المجتمعية التي يدفع باتجاهها الاحتلال الإسرائيلي، لا من جهة الإصابات الطبّية فحسب، بل أيضا من جهة انعكاسات هذه الإصابات على الأوضاع الاقتصادية والحالة الإنتاجية وآمال الشباب والأطفال ومستقبلهم.
على سبيل المثال، يُمكن التفكير في النفقات العلاجية لمبتوري الأعضاء عبر النظر إلى شقّين: أولهما، التكاليف والنفقات الخاصّة بعمليات البتر والعناية الطبّية المصاحبة لها، إذ يتطلب علاج وإعادة تأهيل مبتوري الأطراف تكاليف طبية مباشرة كبيرة، تشمل النفقات الجراحية، والإقامة في المستشفيات، والأطراف الصناعية، والرعاية اللاحقة، والعلاج الطبيعي. على سبيل المثال، أفادت دراسة نشرتها مجلة “جراحة العظام والمفاصل”، أن تكلفة العناية مدى الحياة لمبتور الأطراف الأحادي الجانب تقدر بنحو 510 آلاف دولار في الولايات المتحدة.
والثاني، المتابعة الطبّية طويلة المدى، فغالبًا ما يحتاج مبتورو الأطراف إلى رعاية طبية طويلة الأمد، تشمل الفحوصات الدورية، واستبدال الأطراف الاصطناعية، وإدارة الحالات المرتبطة مثل الألم الوهمي. وقد أشارت دراسة في مجلة “الإعاقة وإعادة التأهيل” إلى التكلفة العالية للرعاية المستمرة للأطراف الاصطناعية، حيث تحتاج إلى الاستبدال كل 3-5 سنوات.
يمكن أن يكون للتأثير الاقتصادي للبتر تأثير كبير على الناتج المحلي الإجمالي، إذ بحسب دراسة في مجلة “لانسيت” حول التأثير الاقتصادي للبتر المرتبط بمرض السكري في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط، فإن عمليات البتر وحدها قد تقلّل الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تصل إلى 1% بسبب فقدان الإنتاجية وتكاليف الرعاية الصحية.
وتتأثر الصناعات التي تعتمد بشكل كبير على العمل اليدوي بشدة من انتشار حالات البتر، فمثلا، يمكن أن تعاني الاقتصادات الزراعية من خسائر كبيرة في الإنتاجية إذا كانت نسبة كبيرة من القوى العاملة عاجزة. وأشار تقرير لمنظمة العمل الدولية إلى أن الخسائر الإنتاجية المرتبطة بالإعاقة قد تشكل ما يصل إلى 7% من الناتج المحلي الإجمالي في بعض الدول النامية.
تلقائيًا، تقلّ مشاركة مبتوري الأطراف في القوى العاملة عمومًا بسبب القيود الجسدية والعوائق المجتمعية. ووفقًا لتقرير صادر عن البنك الدولي، فإن معدل توظيف الأشخاص ذوي الإعاقة، بمن فيهم مبتورو الأطراف، أقل بكثير من الأفراد غير المعاقين، مما يُسهم في تقليل إنتاجية القوى العاملة. وغالبًا ما يؤثّر بتر الأعضاء وقطع الأطراف على قطاعات إنتاجية بعينها، خاصّة في القطاعات التي تتطلب جهدًا بدنيًا مثل التصنيع والزراعة والبناء، مما يؤدي إلى عدم تطابق في أسواق العمل واستخدام غير فعّال لرأس المال البشري.
ثمّة أمثلة تاريخية عديدة لشكل المجتمع الذي يتشكّل عقب عمليات بتر جماعية نتيجة ظرف قاهر مثل الحرب. وتعتبر كمبوديا من بين أعلى نسب مبتوري الأطراف بسبب الألغام الأرضية، حيث يُقدر عددهم في البلاد بما يزيد عن 40 ألفا بفعل وجود الألغام الأرضية التي لا تؤدّي فقط إلى إعاقات جسدية، ولكنها تُقيد أيضًا نشاط استخدام الأراضي، مما يؤثّر على الإنتاجية الزراعية والتنمية الريفية.
غالبًا ما يواجه مبتورو الأطراف وصمة اجتماعية وتمييزًا، مما قد يعيق اندماجهم في القوى العاملة والمجتمع. ويزيد هذا الاستبعاد الاجتماعي من العيوب الاقتصادية، ويحدّ من الفرص التعليمية والتدريب المهني. لكنّ توفّر الأنظمة المجتمعية والمؤسساتية الداعمة والفعالة، بما فيها التدريب المهني وأماكن العمل الميسرة والسياسات الشاملة، يلعب دورًا جوهريًا في تخفيف التأثيرات الاقتصادية للبتر وانعكاساتها السلبية، فالدول التي لديها أنظمة دعم قوية تميل إلى تحقيق نتائج اقتصادية أفضل عند عنايتها ورعايتها بمبتوري الأطراف واحتياجاتهم، وتوفير البنى التحتية اللازمة لخدمتهم وتفعيل إمكانياتهم وطاقاتهم.