المفكر السنغالي سعيد باه: طوفان الأقصى بداية تحطيم وعد بلفور | سياسة
قال المفكر السنغالي الدكتور محمد سعيد باه إن معركة الطوفان -مهما كانت نتيجتها المباشرة- فهي بداية النهاية لأخطر حلم غربي في شطر قلب العالم الإسلامي بزرع جسم مسرطن فيه، وإنها بداية تحطيم وعد بلفور.
وأوضح أن “ما يحدث في غزة ليس استهدافا للفلسطينيين فقط، بل هو استهداف للإنسان في بشريته وتاريخه وقيمه”، وأن “ما يحدث في فلسطين من جانب آخر هو افتقاد الأمل في بقاء أو صلاحية منظومة القيم التي تواضع عليها البشر عبر التاريخ”.
وأضاف المفكر السنغالي أنه ليس من بين ساكنة الأرض من هو أليق بالإحساس بما يكابده الشعب الفلسطيني من صنوف الظلم وأنواع القهر، ولا أحق بمؤازرة صموده من الأفارقة، لأنهم تجرعوا طيلة 3 قرون عجاف كؤوس الاحتلال البغيض مترعة.
وذكر سعيد باه أن التحول السياسي السلس الذي وقع في بلاده يوم 24 فبراير/شباط 2024 هو نتيجة لتراكمات الفعل السياسي الهادئ والموزون بدءا من عام 1980، وأن “الاحتلال الفرنسي للسنغال قد انتهى في جزئه الأول”، وأن “الجزء الثاني المتمثل في بعدي الاحتلال الاقتصادي وفرض النموذج الثقافي.. آخذ في التآكل”.
لكنه أبدى تخوفه من “أن يحدث في المنطقة ما أسميه “شرق أوسطة غرب أفريقيا” من خلال إحداث طفرة تنموية شكلية (طرق مرصوفة، فنادق بنجوم لا رقم لها، نمط للعيش رغيد…) كل ذلك لتمرير عملية النهب للثروات وبأشكال مستحدثة”.
يذكر أن الدكتور محمد سعيد باه متخصص في الفكر الإسلامي والحضارة، ويصنف ضمن الإصلاحيين، ودرّس في عدد من الجامعات والمعاهد، وهو عضو الأمانة العامة لمنتدى كوالالمبور للفكر والحضارة (حاليا)، وعضو الأمانة العامة للائتلاف العالمي لنصرة القدس وفلسطين (حاليا)، ومؤسس والكاتب العام لاتحاد المنظمات الطلابية للمدارس الإسلامية في السنغال، وعضو مؤسس والأمين العام للمنتدى الإسلامي للتنمية والتربية في السنغال، وعضو مؤسس في حركة الإصلاح للتنمية الاجتماعية في السنغال (حزب سياسي سنغالي).
ولسعيد باه ما يناهز 100 مقال وبحث علمي، بالإضافة إلى العديد من الكتب، ومن أهمها: “دولة الأئمة في “فُوتَ تور” (1776-1881م).. تجربة إسلامية على ضفاف نهر السنغال”، و”التيار الإصلاحي الإسلامي في السنغال.. ظروف النشأة وآليات التطور (نظرة من الداخل)”، و”النقد الذاتي” (مع مجموعة من المفكرين)، و”المغامرة الغامضة” (ترجمة لأهم رواية إسلامية من الفرنسية إلى العربية، نشرت ضمن سلسلة إبداعات عالمية في الكويت).
فإلى نص الحوار:
-
بوصفكم أحد المفكرين الأفارقة، كيف تنظرون لما يقوم به المحتل الإسرائيلي من جرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني عامة وسكان قطاع غزة خاصة؟
ننظر، في إفريقيا عموما وخاصة في غرب إفريقيا، إلى ما تقوم به آلة الدمار المجنونة، التي تفتك بالإنسان وتحطّم كل ما حول الإنسان، ننظر إلى هذا كله بقدر كبير من الغضب العارم والخوف من المستقبل كذلك.
نشعر بهذا المزيج، ليس لأن الصهاينة يرتكبون أبشع الجرائم في فلسطين فحسب، فهذا من طبيعة القوم، لأن معتقداتهم وتصوراتهم للحياة أسست على ركيزتي الكراهية واحتقار الآخر، وبالتالي فإن هذا السلوك الهمجي مما تعود الناس عليه منهم.
إنما نشعر بالخوف وبالغضب، الذي ينتاب إفريقيا اليوم من أقصاها إلى أقصاها، لأن العالم واقف يتفرج على واحد من أبشع المشاهد في التاريخ الإنساني وأشدها إيلاما، بل وصلت المأساة إلى قيام بعض ذوي القربى بالمساعدة والمساهمة في هذه الجريمة التاريخية النكراء.
ولذلك ننظر إلى ما يحدث هناك بأنه استهداف الفلسطينيين في المقام الأول، لكنه في النهاية استهداف للإنسان في بشريته وفي تاريخه وفي قيمه، لأن معنى ما يحدث في فلسطين من جانب آخر هو افتقاد الأمل في بقاء أو صلاحية منظومة القيم التي تواضع عليها البشر عبر التاريخ.
-
انضمت العديد من البلدان الأفريقية للدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، لكننا لم نر تحركات شعبية موازية، لماذا؟
أولا، نثمن كثيرا ما قامت به جمهورية جنوب أفريقيا، وهي تعرف مرارة الظلم، لمحاصرة الكيان الغاصب قانونيا وسياسيا بهذا الحشد من الأدلة القاطعة، نيابة عن كل الأفارقة الشرفاء الذين يناصرون الشعب الفلسطيني العزيز في جهاده وكفاحه ضد المحتل الغاصب، ونيابة عن كل أحرار العالم، كما نشكر كل الدول والمؤسسات الأفريقية وغيرها والتي انضمت إلى هذه الهبّة الإنسانية، وآزرت هذه المبادرة التاريخية، التي تعتبر من أكثر الضربات التي انهالت على الصهاينة إيجاعا وتعرية.
أما ما يظهر من التقاعس لدى الشعوب الأفريقية، من تخوم الصحراء إلى شطآن البحر الأحمر، فالأمر خلاف ذلك، في الواقع هناك تحرك، وثمة تعبئة بل نشاهد موجة عارمة من الكراهية ضد الصهاينة، ومثلها من التعاطف المتنامي مع الشعب الفلسطيني ومع التيار المقاوم، لكن لظروف معروفة ومقبولة فإن التمظهر لم يأخذ الشكل الذي نراه في بعض الساحات العالمية مشرقا ومغربا.
من هذه العوامل المقيّدة خضوع بعض الأنظمة الأفريقية للاختراق الصهيوني، وإن بدرجة أقل مما وقع في معظم دول العالم العربي، ثمة عنصر آخر معيق للتعبير الشعبي يتمثل في تراجع الدعم العربي للفلسطينيين، وهو ما يستغله المُغْرضون ليحاججوا بالقول: لا تكونوا ملكيين أكثر من الملوك!
-
ما الذي يمكن أن تفعله البلدان الأفريقية لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي المباشر للأرض والشعب الفلسطينيين أكثر من رفع دعوى في المحكمة الدولية؟
ليس من بين ساكنة هذه الأرض من هو أليق بالإحساس بما يكابده الشعب الفلسطيني من صنوف الظلم وأنواع القهر، ولا أحق بمؤازرة صمود الشعب الفلسطيني وجهاده من الأفارقة، لأنهم تجرعوا طيلة ثلاثة قرون عجاف كؤوس الاحتلال البغيض مترعة.
قبل عرض بعض ما يملكونه من خيارات، يجب التأكيد على محورية العمل في الميدان القانوني، الذي يبقى أحد الحبال التي كان الصهاينة يتمسكون بها، لمحاصرة الجناة ومحاكمتهم وإيقاع الجزاء الأوفى عليهم.
-
أليس الضرر الذي لحق الفلسطينيين في صراعهم الوجودي ضد عدوهم متأتّيا من سوء توظيف العامل القانوني في كل المحافل الدولية؟
يملك الأفارقة عدة خيارات وجملة آليات لمواجهة الاحتلال للأرض والتنكيل بالشعب الفلسطيني، منها الوزن الاقتصادي والضغط السياسي والحصار الإعلامي وقبل ذلك وبعده القطيعة الدبلوماسية.
لكن كل هذا العمل يحتاج إلى توفير شروط موضوعية، من أهمها المزيد من التفعيل لصناعة رأي عام عن القضية الفلسطينية، تبدأ بكسر الرواية الصهيونية وتفنيد ونقض سردياتهم المضلِّلة، وذلك كله من خلال إعادة تشكيل الرأي العام الأفريقي فيما يخص الرواية التاريخية الصحيحة لمسيرة الشعب الفلسطيني وكفاحه ضد المحتل الغاصب، وهنا يأتي دور التيار الإسلامي الأفريقي في بذل مزيد من الجهد لتحشيد القوى الحية لتصطف إلى جانب الفلسطينيين، وبذلك يتغير كثير من المعادلات بخصوص مناصرة فلسطين في القارة.
-
شهدنا تحولا في السنغال بفوز المعارضة بالانتخابات، كيف نجحت المعارضة السنغالية في ذلك؟
التحول السياسي السلس الذي وقع في السنغال عشية الرابع والعشرين من شهر فبراير/شباط 2024م قد يكون مفاجئا للمراقب غير المتمرس على التعامل مع الحالة السنغالية، لكننا حين نراقب المشهد العام في السنغال عن كثب، سنجده نتيجة تراكمات للفعل السياسي الهادئ والموزون بدءا من عام 1980م حين تسلّم الرئيس السنغالي الأسبق السيد/عبد جوف مقاليد الحكم من يد أول رئيس للسنغال لوبولد سيدا سنغور، بمنتهى السلاسة.
ومنذ ذلك التاريخ، تكرس الخيار الديمقراطي المتمثل في التداول السلمي للسلطة من أعلى هرمها إلى قاعدة الخيار السياسي المتمثلة في البلديات، مما يجعل السنغال من الدول القلائل في العالم التي لديها ثلاثة رؤساء على قيد الحياة وصلوا إلى هرم السلطة السياسية ونزلوا منها عبر صناديق الاقتراع.
لكن هذه الممارسة السياسية، التي وصفت بالراقية حضاريا، لم تك لتتم لولا توافقات اجتماعية وسياسية بين القوى السياسية الفاعلة في السنغال، أصبحت اليوم جزءا من الثقافة السياسية لدى السنغاليين، وهذا الأمر الذي مكّن السنغاليين من تجاوز كثير من المطبّات بما فيها تلك التي سبقت الاستحقاقات الرئاسية الأخيرة حين بلغت الأوضاع درجة عالية من الاحتقان.
إذا، لا تعود أسباب النجاح في تجنب حافة الهاوية إلى المعارضة السياسية، بقدر ما يرجع ذلك إلى ثقافة وتقاليد راسخة في المجتمع السنغالي، ركيزتها الأولى الجنوح إلى خيار السلم والتوافق حول القضايا المصيرية، الناتج عن وجود نقاط التقاء متعددة بين مختلف مكونات الشعب، إلى جانب تمازج اجتماعي يصون الناس من التصدع، وفوق ذلك نجد العامل الرئيس المتمثل في البعد الإسلامي الذي يشكل لحمة اجتماعية تمكّن من التماسك الوطني على نطاق عريض.
-
هل يمكن للسنغال أن تتخلص من الاستعمار الفرنسي غير المباشر؟ وعلى ماذا تعول لتحقيق ذلك؟
لا بد لكل غاز ولو عُمّر ألف سنة من أن يرحل، ولا مندوحة لكل محتل، مهما كان بشعا وشديد الفتك، أن يغادر يوما ما، والتاريخ مليء بالشواهد التي تؤكد هذه القاعدة المطّردة، وعليه فإن الاحتلال الفرنسي للسنغال قد انتهى في جزئه الأول، وها هو الجزء الثاني، المتمثل في بعدي الاحتلال الاقتصادي وفرض النموذج الثقافي، على طبقة محدودة جدا من الشعب، ومن خلال اللغة الفرنسية، آخذ في التآكل.
أما إذا نظرنا إلى الموضوع من زاوية الواقع، وما يعتمل فيه من حوادث ومتغيرات، فسنرى بوضح أن الوجود الفرنسي في حالة انحسار، كما تقول مؤشرات عديدة، منها كون فرنسا دولة مأزومة في الداخل، وبالتالي يتراجع نفوذها عالميا.
والعامل الثاني نجده في ارتفاع منسوب الوعي لدى الشعب السنغالي عموما، ولدى الأجيال الصاعدة خصوصا، وهو ما يعكسه ارتفاع نبرة المطالبة باسترداد السيادة الاقتصادية والثقافية، من خلال شعار: “ارحلي فرنسا” الذي أصبح اليوم أنشودة الشارع وشعار المرحلة.
الأجيال من القيادات السياسية والثقافية والاقتصادية التي تهيمن على المشهد العام بالدول الأفريقية والتي تتميز بولائها المطلق للدول الغربية قد انقرضت على وجه التقريب، وهذا أمر يمثل فرصة جيدة لإحداث تغييرات في العديد من الدول الأفريقية
وعليه، فإن السنغال تعوّل من أجل التخلص، مما تبقى من النفوذ الفرنسي اقتصاديا وثقافيا، بعد التخلص من النفوذ السياسي، حيث لم تعد فرنسا تستطيع فرض خياراتها السياسية، على جملة من العوامل، نختار منها ثلاثة فقط لدلالتها:
- أولا: كون الأجيال الحالية لا تخضع شعوريا لتأثيرات النموذج الفرنسي، ولا تنبهر بنمطها بعد بطلان سحر التفوق الزائف، وخاصة فيما يتعلق في النظرة إلى الحياة عموما وفيما يتعلق بالقيم الحضارية.
- ثانيا: وجود خيارات في المجالين الاقتصادي والثقافي أمام السنغاليين، يتيح لهم مساحة كبيرة للمناورة خلاف ما كان عليه الوضع.
- ثالثا: نجاح التيار الإسلامي الإصلاحي، خلال ستين سنة الماضية، في فضح النموذج الغربي عموما، والفرنسي على وجه الخصوص، وكسر هالة التفوّق التي ظلت تحيط نفسها بها، وهو خطاب وجد أصداءه حتى داخل أوساط التيار المتفرنس والمتشرّب القيم العلمانية المعادية للدين والمكرّسة للنموذج المصادم له.
-
ما الدروس والعبر التي يمكن للشعوب المسلمة والعربية أن تستفيد منها من تجربة السنغال؟ أو كيف يمكن للمعارضة في البلدان العربية أن تفوز بالانتخابات اعتمادا على التجربة السنغالية؟
يلاحظ أن النموذج السنغالي، في التعاطي مع إشكالية التداول السلمي للسلطة، وبصورة مرنة ربما تصل إلى ممارسة السياسة بقدر معتبر من الرقي الحضاري، قد اجتذب أنظار العالم مشرقا ومغربا، لكن دويه في أصقاع العالم الإسلامي أوقع بكثير، وذلك لسببين:
- تعطش الشعوب في هذا الجزء من العالم المنكوب إلى هذا اللون من الحريات والممارسات التي تتيح اختيار السلطان بمختلف مستوياته على صيغة التراضي الجمعي ووفق تعاقد شرعي مشروع يعكس واقع المجتمع ومتطلباته وتطلعاته.
- ثانيهما المسحة الإسلامية التي لوحظت على هذه التجربة، اعتمادا على كون بعض القيادات السياسية الجديدة ذا خلفية إسلامية وعلى حجم المساهمة التي قدمها التيار الشبابي الإسلامي في نجاح التجربة الجديدة.
أما كيف يمكن استلهام هذا النموذج وتطبيقاته في البلدان العربية فإن القضية تحتاج إلى إمعان النظر ومراعاة الخصوصيات.
أنا من الموقنين بأن الهبة التي شهدتها البلدان العربية، وتعارف الناس على توصيفها بأنها ربيع عربي، والتي انطلقت أواخر عام 2010م، بأنها موجة وستأتي موجات أخرى مترادفة أو متلاحقة واحدة تلو أخرى، ولا اعتبار لعامل الزمن في هذا.
الشارع أصبح يلعب دور المعارضة السياسية التقليدية، التي كانت تعبر عنها التشكيلات والتحالفات والأحزاب السياسية بمختلف مرجعياتها، ومن ثم فإن من يحسن فهم هذه المعطيات الجديدة ويتقن التعاطي معها سينجح في إدارة معركة التحولات السياسية القادمة
إن اهتمام الشعوب بالظواهر الإيجابية التي تحدث في العالم، وخاصة في هذا الحيز المتطرف من العالم الإسلامي، لدليل ساطع على أن الرغبة الدافعة موجودة لدى الشعوب الإسلامية، وهذا ما يتطلب من حملة ألوية الإصلاح في العالم العربي أن يدرسوا بعناية وبعمق ما يحدث في مناطق أخرى قريبة أو بعيدة منه للاستئناس وللاستلهام، وعلى رأس تلك الظواهر التجربة السنغالية.
الملاحظة الأخيرة في هذا المجال، فنصيحة أقدمها لحملة المشروع الإصلاحي الإسلامي في العالم العربي، وأدعوهم إلى مراجعة شاملة ومستوعبة وجادة للمرتكزات الفكرية لمشروعهم الإصلاحي، وهو ما يفرض عليهم أن يقوموا بقراءة جديدة للمجتمعات التي يتحركون فيها، وإلى فقه المتغيرات الاجتماعية والثقافية التي حدثت في واقع هذه الشعوب، وكل ذلك دون أن يتنكروا لتجربتهم التاريخية ودون أن يتنازلوا عن مبادئهم المؤسسة.
-
في المقابل شهدنا انقلابات أو ثورة على الحكومات في كل مالي والنيجر وبوركينا فاسو وهي دول كانت مرتبطة بفرنسا، ما المنطلقات أو الخلفيات التي قادت إلى تلك الثورات أو الانقلابات؟
ما يحدث في هذه البلدان من تطورات عاصفة وأحداث مؤلمة يمكن إرجاعه إلى 3 عوامل جوهرية:
- إفرازات للدور التخريبي الذي مارسه الاحتلال الفرنسي، لما قبل ولما بعد الاستقلال، ونتيجة طبيعية لما زرعه من قنابل الفتن الموقوتة، بحيث تنفجر بالتوقيت الذي يناسبهم ويحدث الأثر المطلوب، وبطبيعة الحال جاءت النتيجة هشاشة في بنية الدول وتزعزع مؤسساتها.
- تفاقم الأزمات المتتالية من لحظة الاستقلال إلى هذه اللحظة، حيث لم تنعم الشعوب في هذه البلدان بلحظة راحة، بل تحولت أحلامها في الاستقرار الاجتماعي وآمالها في النهضة والعمران إلى سلسلة من الكوارث الماحقة وكوابيس متجددة.
- بدء أمارات سريان الوعي ورفض الهيمنة الأجنبية، والتوق إلى التحرر من القبضة الحديدية في كافة شرائح المجتمعات ووصل إلى الثكنات العسكرية.
بكل هذه الأسباب مجتمعة وغيرها، يمكن فهم استمرار دوامة الانقلابات، وإن كنا نشم هذه المرة نفَسا جديدا، مما يجعل مآلات هذا التيار وما سيعقبه من تحركات مجتمعية في اتجاه جديد، قد يكون من ثمراته تحول محمود ضمن سياق التحولات البنيوية التي تجتاز المنطقة حاليا.
-
هل العمل السياسي العسكري كفيل بأن يحدث تغييرات وتجديدا في بنية الدولة الأفريقية بحيث تتخلص من الاستعمار غير المباشر بدل أن تقع فيه مرة أخرى؟ بمعنى آخر هل تتخلص بعض البلدان الأفريقية من استعمار غربي لتدخل في استعمار روسي أو صيني؟
نعم، يمكننا القول بأن هذا الخطر قائم، لأن أي خيار إستراتيجي للنهوض يراهن على الدعم الخارجي يشكل خطرا، كما نجد ذلك في النموذج الصيني، الذي لا يقل خطرا، على المدى البعيد، على مستقبل الشعوب، وعلى القرار السيادي للدول الأفريقية. لتفادي الوقوع في هذا المنزلق، يجب ألا يعتبر هذا الخيار إستراتيجيا بل يجب التركيز على الشراكة المؤسسة على الاختيار والقبول والرفض وفق المصالح.
لكن يجب أن نؤكد بأنه يمكن للفعل السياسي الحقيقي الهادف والصادق، سواء نعتناه مدنيا أم وضعنا عليه لافتة عسكرية، أن يمكّن من إحداث اختراقات حتى في الواقع المتأزم، مثل الذي تعيشه الشعوب العربية والإسلامية في عمومها، لكن ذلك يتطلب الوفاء باشتراطات منهجية، منها القدرة على فهم وحسن التعامل مع العقلية الجديدة، التي تسري اليوم في صفوف الشباب، الذين يمثلون العمود الفقري لأي مشروع تغيير إيجابي، ثمة حتمية إعادة صياغة الرؤى السياسية بما يتواءم، ليس وفق مقاسات الواقع فقط، وإنما بما يتواءم مع توقعات المستقبل ومتطلباته، ثمة التناقضات الجوهرية المنتشرة في المجتمعات العربية من حيث التصورات العقدية ومن حيث مدى قابلية تلقي المؤثرات الخارجية والانفعال بها.
أنا من الموقنين بأن الهبة التي شهدتها البلدان العربية، وتعارف الناس على توصيفها بأنها ربيع عربي، والتي انطلقت أواخر عام 2010م، بأنها موجة وستأتي موجات أخرى مترادفة أو متلاحقة واحدة تلو أخرى، ولا اعتبار لعامل الزمن في هذا
يحسن أن نشير هنا إلى أننا خدعنا كثيرا من قبل الغرب حين سوّقوا لنا المنظومة الديمقراطية بأنها الحل السحري لما تعانيه شعوبنا من اختلالات في مجال ضبط السلطة واختيار السلطان، في جميع مستوياته وصيانة كل ذلك ضمن جوامع مشتركة يتم التوافق عليها.
بالمقابل عملوا بكل ما أوتوا، من بأس شديد، لتكريس مفاهيم فاسدة في مجال الحكامة، ومكّنوا أناسا في غاية الفساد، من الإمساك بزمام الأمور، وانتهى الأمر إلى كوارث متجددة في ديارنا، ها هي شعوبنا تدفع أثمانا باهظة جرّاء انتشار هذا المنكر.
-
هل يشكل ما حدث في أفريقيا من انقلابات وتطورات سياسية واقتصادية في هذا البلد أو ذاك مؤشرا على أن القارة السمراء بدأت تشق طريقها نحو تحقيق مصالحها ومصالح شعوبها؟
ما حدث ويحدث في القارة الأفريقية من تطورات سياسية واقتصادية عاصفة تعتبر في عمومها مؤشرات جيدة لسبر مدى عمق تأثيرات هذه الأحداث، وتدل على أن تحولا ما قادم، وقد يكون فعلا في صالح الشعوب إذا نظرنا إلى الموضوع من زاوية جملة من العوامل.
من أهم هذه العوامل، دائرة الوعي التي تنداح باستمرار إلى جانب فهم التحديات وانتشار المعلومة على نطاق واسع، الأمر الذي قد يدعم تيار الوعي وحسن التعامل مع القضايا الكبيرة، انطلاقا من المصالح الذاتية، مما يعني استحالة امتطاء الشعوب وإيجاد فجوات بينها وبين الطليعة الحاكمة، ما وقع في النيجر بخصوص اليورانيوم وفي السنغال، بحيث لا يشارك الفرنسيون لا في استخراج ولا في بيع النفط والغاز، وفى مالي من إلغاء اتفاقيات ومعاهدات…، كل ذلك مؤشرات يجب قراءتها بعناية.
-
ما أبرز الأدوار التي تقوم بها القيادات والشعوب الأفريقية فيما يجري من تحولات في أفريقيا؟
هنا ظاهرة لافتة، يجب أن نتوقف عندها، وهي أن الأجيال من القيادات السياسية والثقافية والاقتصادية التي تهيمن على المشهد العام في معظم الدول الأفريقية والتي تتميز بولائها المطلق للدول الغربية قد انقرضت على وجه التقريب، ما يجعل بروز جيل كامل من القياديين أقل تأثرا بالنموذج الغربي، بالنسبة لهذه التحولات، هو الذي يمسك اليوم بمقاليد الأمور، في المجال السياسي خاصة، وهذا أمر يمثل فرصة جيدة لإحداث تغييرات بنية في العديد من الدول الأفريقية.
كما أرى أن ثمة عدة عوامل تكمن وراء موجة التحولات هذه، وتتمثل أساسا في القطاع الشبابي الذي يتمركز اليوم في قلب المعترك السياسي وفق معادلات جديدة، من أهمها أن الشارع هو الذي أصبح يلعب دور المعارضة السياسية التقليدية، التي كانت تعبر عنها التشكيلات والتحالفات والأحزاب السياسية بمختلف مرجعياتها، ومن ثم فإن من يحسن الفهم هذه المعطيات الجديدة ويتقن التعاطي معها، هو الذي سينجح في إدارة معركة التحولات السياسية القادمة، وهذا البعد هو الذي فهمه بصورة جيدة، بعض القيادة السياسية الشابة في السنغال، وقد يحدث مثل ذلك في دول قريبة من السنغال في مستقبل قريب.
-
هناك توجه غربي وآسيوي وعربي للتعاون مع بلدان أفريقية، هل نحن أمام ولادة جديدة لأفريقيا بوصفها نموذجا للخروج من التخلف نحو التطور من خلال الذات، أم أمام انتفاضة تعقبها استمرارية للواقع السابق؟
أشرنا فيما سبق إلى وجود خيارات أمام القيادات والشعوب الأفريقية فيما يتعلق بالعلاقات الاقتصادية التي ظلت مسارا مغلقا يهمن عليها الغربيون ويفرضون شروطهم، بالإضافة إلى كونها متكأً للعلاقات السياسية وغيرها.
في السياق الحالي يمكن أن يلاحظ المراقب للأوضاع في القارة أن تحولا ما بدأ يحدث، بل يتنامى بسرعة، ونشير إلى بروز قوى جديدة تتعامل مع دول أفريقية وفق نمط جديد للشراكة يغاير تماما ما ظلت عليه العلاقة بين أفريقيا وبين الدول الغربية.
أي خيار إستراتيجي للنهوض يراهن على الدعم الخارجي يشكل خطرا، كما نجد ذلك في النموذج الصيني الذي لا يقل خطرا -على المدى البعيد- على مستقبل الشعوب وعلى القرار السيادي للدول الأفريقية
-
هنا السؤال الجوهري: هل يمكن لهذه العلاقة أن تخلص الدول الأفريقية من التبعية للدول الغربية في المجال الاقتصادي خصوصا، دون أن تقع في براثن دول أخرى ذات مطامع لا تقل خطورة؟
يمكن وفق مقاربة واقعية ووفق المسار الذي تتخذه العلاقات الجديدة، مع تعدد الشركاء، نظن أن التجربة الجديدة التي تجرى في القارة قد تكون مغايرة لما اعتدنا عليه، مع ذلك لدي تخوفات من أن يحدث في المنطقة ما أسميه “شرق أوسطة غرب أفريقيا” من خلال إحداث طفرة تنموية شكلية (طرق مرصوفة، فنادق بنجوم لا رقم لها، نمط للعيش رغيد…) كل ذلك لتمرير عملية النهب للثروات وبأشكال مستحدثة، وإن كان يطمئنني أن الأوضاع قد اختلفت وأن الظروف قد تغايرت.
أما الذي يرعبني في الحقيقة فيتمثل في النبرة السيئة التي أسمعها، بين فينة وأخرى، كما تعكس ذلك تصريحات موثّقة لجنرالات ولصانعي السياسة في الغرب، تهدد باللجوء إلى القوة، خلال 10 سنوات القادمة، للجم الذين يحاولون كسر نير التبعية، وبالتالي العودة بالأمور إلى المربع الأول.
-
ما المجالات التي ترى أنه يمكن للمفكرين والمثقفين العرب والأفارقة التعاون فيها؟ ولماذا لا نرى مؤسسات وهيئات إقليمية تخدم مصالح الطرفين القريبة والبعيدة؟
لا أظن أن المفكرين والمثقفين، في مختلف قارات العالم، من الذين ينطلقون من خلفيات فكرية غير متجانسة، يملكون ما لدى المفكرين الأفارقة والعرب من جوامع مشتركة، يكفينا التداخل القاري بحيث نجد الطائفتين في قارتين متجاورتين ما يجعل أواصر التمازج تتعدد من تاريخ ولغة وخلفيات حضارية وعقدية، مع استحضار أن اللغة العربية أفريقية ومرسّمة داخل أعلى المنتديات الأفريقية.
لكن المؤسف أن خصوم الطائفتين قد نجحوا في وضع متاريس عالية بينهما حتى يكاد التعارف بينهما يتم عبر لغة وثقافة المحتل أكثر مما يحدث عبر التحاور المباشر.
لحسن التعاطي مع هذه المعضلة، بعد تعثر جهود الكيانات الثقافية والروابط الأدبية الرسمية، التي تم تفريغها من أي محتوى أو تكبيلها، أميل إلى الدعوة إلى استحداث أنماط جديدة للتفاعل، تكون قادرة على كسر الجليد والاستجابة لمتطلبات الجانبين في الخطو نحو الآخر، في حب وثقة قد يفضيان إلى الأنس والتفاخر.
من حيث المجالات يمكننا أن نشير إلى التعليم باعتباره أوسع وأفعل، لكن شرط أن يكون ذلك من منظور جديد مطور من النوع الذي يصنع الإنسان ويوفر له أدوات المزاحمة الحضارية. ثمة أيضا مطلب وجوب طرح مشاريع لخدمة اللغة الغربية واللغات الإسلامية التي تعتبر رديفة لها، كما يكمن العمل في مشاريع تدور حول فكر النهضة واشتراطاتها الجوهرية. ولبناء هذه الجسور الفكرية والثقافية، يجب التحلق حول عدد من موائد التحاور.
أحب أن أكمل هذه النقطة بتوجيه دعوة حارة، عبر هذا المنبر ذي الصوت الجهوري (الجزيرة نت)، إلى أصحاب رؤوس الأموال، من مؤسسات وأفراد، للتوجه إلى أفريقيا عموما وإلى غرب أفريقيا خصوصا، حيث الفرص الذهبية للاستثمار المجدي، وأن يزاحموا غيرهم من الذين يتهاطلون اليوم على المنطقة، إذا فعلوا ذلك سيكونون قد خدموا مشروع نهضة الأمة من أوسع أبوابها.
-
نختم بمعركة الطوفان الأقصى، وما قراءتكم لهذه المعركة من حيث المنطلقات والسياق والمآلات؟
إن الحديث عن هذا الحدث الضخم، الذي تنداح دائرته عبر العالم، ألا وهو “معركة طوفان الأقصى”، وتداعياته على الصعيدين الداخلي والخارجي، أمر محبّب إلى النفس وقد يحتاج، في المستقبل القريب، إلى دراسات معمقة وفحوصات دقيقة لسبر أغواره.
بعد تقليب النظر في هذه الواقعة “طوفان الأقصى”، من المنظورين التاريخي والروحي، أرى أن أدق توصيف لها أنها جرعة من الفعل الحضاري، بصيغة وآليات غير معتادة، وهذا البعد في الواقعة هو الذي جعل العدو يحتار في التعامل معها ولم يسعفه شيء من التدابير، التي كان يراهن عليها في صراعاته الوجودية، معنا، وبالتالي لجأ إلى مخزونه من ركام الكراهية ليندفع في مغامرة حاولت من خلالها شطب غزة وجودا وتاريخا، هيهات، هيهات.
من سنن الله في تبديل الأحوال وقوع أحداث متناثرة في حياة البشر، تبدو ضئيلة الحجم في الوهلة الأولى، لا يشعر بما يمكن أن يترتب عليها من تداعيات حتى الذين باشروا الحدث، كما هي حال ذلك الرهط من الشباب الذين عبروا الحدود وبأدوات بسيطة، لكن في أيادٍ غير راعشة، فجر ذلك اليوم الذي انضاف إلى أيام الله التي ستسطّر يومياتها في أجلى صحف التاريخ البشري.
نصيحة أقدمها لحملة المشروع الإصلاحي الإسلامي في العالم العربي، أدعوهم إلى مراجعة شاملة ومستوعبة وجادة للمرتكزات الفكرية لمشروعهم الإصلاحي، وهو ما يفرض عليهم أن يقوموا بقراءة جديدة للمجتمعات التي يتحركون فيها
المنطلق، ما جرى ثمار من ثمرات تجديد الجهاد لقهر العدو الصائل بأدق وأوضح صوره.
السياق هو الذي يشخصه القرآن بهذه العبارة “حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس”.
أما المآلات، فمعركة الطوفان -مهما كانت النتيجة المباشرة لها- فإنها بداية النهاية لأخطر حلم غربي في شطر قلب العالم الإسلامي بزرع جسم مسرطن فيه، إنه بداية تحطيم وعد بلفور.
يجب أن نستحضر، في النهاية، أن الطوفان سنة إلهية كونية خاصة، له وظائفه الخاصة، لا ينطلق إلا حين يصل مستوى الفساد إلى أعلى نقطة، يأتي لكنس درَن الأرض ولا يذر على الأرض ديارا، ويأتي لاستئناف دورة جديدة للحياة لا مكان في قيادتها للفسقة.