الموسيقى والغناء الحساني.. مزيج أفريقي عربي أمازيغي وعنوان لشاعرية إنسان الصحراء | ثقافة
الرباط – لا تكتمل الحياة الاجتماعية لدى الأهالي الصحراوية إلا بـ3 “جيمات”: الأول هو الجمر في إشارة إلى الشاي ومكانته الأساسية في جلساتهم، الثاني هو “الجر” والمقصود به طول المدة الزمنية لإعداد الشاي وفق طقوس صحراوية خاصة، والجيم الثالث هو الجماعة التي لا تكتمل الجلسة من دونها ومن دون قرض الشعر الحساني والتغني به عبر العزف على آلات موسيقية خاصة، وهو ما يدل على أن حياة الإنسان الصحراوي لا طعم لها إلا بحضور هذه الأشياء الأساسية، حسب الباحث الصحراوي عبد الواهب سيبويه العارف بتفاصيل التاريخ الصحراوي و”مدير مركز البحوث والدراسات بالعيون”.
أحمد السالك علوات، فنان صحراوي شاب، تشرب الموسيقى الحسانية (لون موسيقي شعبي منتشر في مناطق الصحراء) منذ صباه، يفتخر بهذا الانتماء الصحراوي، يؤكد المكانة التي يحتلها الشعر والموسيقى والغناء الحساني في المناطق الجنوبية، ودوره في تهذيب الإنسان الصحراوي المتعلق بالشعر، حيث لا يمكن فصل الشعر الحساني عن الموسيقى الحسانية، لأنهما كل لا يتجزأ ونتيجة طبيعية لعلاقة الإنسان بهذا الفضاء الصحراوي الساحر، وأسلوب حياة، وعنوان لشاعرية إنسان الصحراء.
الانفتاح على إيقاعات العالم
ويضيف السالك رئيس “مجموعة الساقية الحمراء فيزيون” للموسيقى الحسانية المعاصرة في حديث مع الجزيرة نت، أنه يعمل على مزج الكلمة والموسيقى الحسانية بالموسيقى والإيقاعات العالمية من ريكي وبلوز وجاز، حتى يقرب هذه الثقافة للذين يجهلونها وييسر فهمها وتقبلها من طرف المستمعين، ويقول: “منذ تأسيس المجموعة عام 2017 ونحن نجتهد من أجل تقريب موسيقانا وغنائنا إلى العالم، لا سيما أنه ظل لسنوات طوال منحصرا على المجتمع الصحراوي وعلى مجتمع “البيظان” بشكل عام”.
أصدرت مجموعته الموسيقية، التي تضم 8 عازفين، من ضمنهم العازف السنغالي نوكالي كاي فال، ألبومها الأول عام 2019 وحمل عنوان “الساقية الحمراء”، وضم 5 أغان مزجت فيها المجموعة بين الموسيقى الحسانية التقليدية والموسيقى العصرية المغربية، وصدر العمل بدعم من جهة الجنوب بعدما دعا العاهل المغربي الملك محمد السادس إلى تثمين التراث الفني والثقافي الحساني. وفي عام 2022 أصدرت ألبومها الثاني بعنوان “الأرض” (LA TIERRA) الذي تمزج فيه المجموعة بين الإيقاعات الحسانية وموسيقى العالم.
تتميز الموسيقى الحسانية بارتباطها بمقامات وبحور “الهول” وقواعد لا يسمح اختراقها، حيث يعتبر خروج الأغنية عن هذه المقامات خطأ غير مقبول، غير أن مجموعة من الموسيقيين الشباب، سعوا في السنوات الأخيرة إلى تجديد الموسيقى والأغنية الحسانية عبر توظيف آلات غربية مثل الأورغ والكمان والكيتار، حتى لا تظل حبيسة آلة الطبل، سيد الموسيقى الحسانية أو الآلات التقليدية الأخرى، وهذا برأي الفنان أحمد السالك علوات، لا يشوه هذه الموسيقى العريقة، بل يغنيها ويفتح أمامها منافذ للانتشار والعصرنة، للخروج من الطابع الشعبي الذي عرفت به على مر العصور.
من هم الحسانيون؟
هم بنو حسَّان أحد بطون قبيلة “المعقل” العربية، التي عبرت من الجزيرة العربية إلى مصر وأفريقيا مع بني هلال وبني سليم بعد الفتح الإسلامي، وأصلهم حسبما ورد في مقدمة ابن خلدون هو عرب اليمن. لهم عاداتهم وتقاليدهم الخاصة في المأكل والمشرب واللباس والمسكن والاحتفالات الدينية والاجتماعية، كما لهم إبداعاتهم وألعابهم الشعبية، ارتبطوا بالصحراء ولهم علاقة بالترحال والبداوة والحيوان، وعلى الخصوص الإبل.
إنهم مجتمع بدوي يعيش على الطبيعة ولأجلها، يرحبون على اختلاف فئاتهم وشرائحهم بالضيف داخل خيامهم حتى ولو كان من ألد أعدائهم، يتحدثون اللهجة الحسانية ويرتدون لباسهم التقليدي: الملحفة والإزار بالنسبة للنساء، والدراعة واللثام بالنسبة للرجال. كما أنهم دائمو الترحال والتنقل بحثا عن الماء والكلإ لمواشيهم التي تمثل رأسمالهم الحقيقي، كما يقول الباحث الجغرافي الفرنسي روبير كابوت ري.
وتعد الحسانية اللهجة الرسمية التي يتحدث بها بنو حسان، الذين يرتفع نسبهم إلى جعفر بن أبي طالب، وتعرف عند متكلميها بـ”كْلاَمْ لْبِيظَانْ”، وهي من أقدم اللهجات العربية التي يتحدث بها عرب الصحراء الكبرى في عدة دول بشمال وغرب أفريقيا، وهي غنية بالأنماط التعبيرية الشفاهية المتنوعة. إنها عربية ملحونة، كما يقول أستاذ التاريخ المغربي ومنسق ماستر الدراسات الصحراوية بجامعة ابن زهر بأكادير محمد بوزنكاض، تختلف عن اللغة العربية على مستوى الأصوات والبنية والمعجم، استوعبت معجما أمازيغيا مهما، فأصبحت الحسانية مزيجا من العربية والصنهاجية الزناكية التي تتجلى في الإيقاعات والموسيقى وفي المعجم اليدوي والجغرافي للمنطقة.
الشعر الحساني مرآة المجتمع
أما الشعر الحساني فهو لسان أهل الصحراء تم الاعتماد عليه في نقل الأخبار وتسجيل الحوادث والوقائع، حيث لعب دورا كبيرا في تدوين التاريخ وبلورة قيم واهتمامات المجتمع، فكان بذلك الوسيلة الثقافية الشفهية الأكثر انتشارا لتنوير المجتمع وتشكيل الرأي العام، يتناقله الناس ويتغنون به فرادى وجماعات.
يعرف الشاعر وكبير مداحي رسول الله محمد باعيا الشعر الحساني للجزيرة نت، بأنه شعر عربي ولديه كتابة عروضية خاصة ومقامات لا تنفصل عن الموسيقى الحسانية، وهو مرآة للمجتمع يؤرخ لكل شيء، ويوثق فيه الشاعر كل ما رأت عيناه من أرض وحجارة وإنسان، وما عاشه هو وغيره من أحداث ومواقف، ويصفها وصفا دقيقا. ومن الخصائص المميزة للشعر الشعبي الحساني ارتباطه الوثيق بالموسيقى لدرجة أن الحسانيين يطلقون عليه اسم: “لَغْنَ”، وعلى الشاعر اسم: “لَمْغَنِّي” (جمعه امْغَنْيينْ).
ويتميز الشعر الحساني بأغراض المديح، والبكاء على الأطلال، والفخر، والوصف، والغزل، وبمقاماته الخاصة بكل غرض، فمقام الفخر “فاغو” لديه أشعار خاصة، كما يوضح الشاعر محمد باعيا رئيس “مجموعة السلام للأمداح النبوية الشريفة والفلكلور الحساني” التي تأسست عام 2000 بمدينة العيون بهدف توثيق وتثمين هذا التراث وجمع الأشعار القديمة وتوثيقها، ويوضح أنه إذا كان الشعر العربي الفصيح يتوفر على 16 بحرا، فإن البحور الرئيسية للشعر الحساني 8: المزارك، المصارع، إملخ، الواكدي، مريميدة، بوعمران، التيدوم والبث الكبير.
ومن أغراض الشعر الحساني الأساسية: الجايز (الذي لا يمكن تغييره سواء من حيث القافية أو الأشطر)، الحرام (عندما تستعمل كلمة غير حسانية في الشعر الحساني) والواجب (لا يمكن تغييره في الشطرين الأول والثاني وهو نظام يجب احترامه).
ويشير باعيا إلى أن الشعر الحساني المعروف بـ (لَغْنَ) لا ينفصل عن الموسيقى الحسانية (الهول أو لظهور بالتعبير الحساني الأصح)، التي تبدأ بـ5 مقامات، وتختلف مسمياتها حسب المناطق، وهي: مقام “ابن وهيب” ويقال له “اكحل كر”، و”فاغو”، و”الكحال”، و”البياض”، و”البتيت”، وهي مقامات انشقت عنها شبه مقامات أخرى كـ: سيني، والتحرار، والزرك، ولبياض، واللين، والبتيت الناقص والتام. ومنها انشقت مقامات أخرى كالسوداني، والتحزام، وزراك البلاوي، ونياما، وهي كلها تحيل على قياسات موسيقية أفريقية وأمازيغية، التي شكلت روافد أساسية للشعر والموسيقى الحسانية، التي تعتمد على آلات موسيقية تقليدية هي: التيدينيت، الآردين، النيفارة، والطبل.
ولأن الشعر والموسيقى الحسانية تترافق دائما بالرقص، فإن من الرقصات الحسانية الأساسية نذكر: الشرعة، الدبوس، أكصار، الكمبة والكدرة. ومن أهم رواد الموسيقى الحسانية المغربية: الفنان الراحل مولود بلة الجعبة، والفنان الراحل الناجم محمد عمر، والفنان سعيد المامي صاحب الحنجرة الذهبية وأحسن عازف على الناي أو “النيفارة” بالصحراء، الذي قاوم الاستعمار بعزفه الشهير، إضافة إلى أيقونة الفن الصحراوي خسيفة خيت رئيسة أول فرقة موسيقية بالأقاليم الصحراوية.
الموسيقى الحسانية
والموسيقى الحسانية التقليدية أو موسيقى “البيظان” لون فني شعبي منتشر في الأقاليم الصحراوية جنوب المملكة المغربية، تمتد حدوده الجغرافية في منطقة ما يعرف ببلاد “البيظان”، أو ما يعرف الآن بموريتانيا، يرتبط بفئة اجتماعية تحترف هذا الفن وتعتاش منه، هي فئة “إيڭـَّاوَنْ”. فهو يشكل لديهم نزعة تصوُّفية، ويعتبر حضوره أساسيا لإحياء الأعياد والمسامرات الليلية والرقصات الفردية والجماعية وأثناء المناسبات الدينية ومختلف مظاهر الأفراح الاجتماعية كالولادة والختان والزفاف، وما إلى ذلك.
وبحكم البنية الإيقاعية والنغمية لهذه الموسيقى التقليدية الحسانية، فإنها تظل من الوجهة التعبيرية، عبارة عن “ترانيم وأصوات منظمة تنتج عن استعمال مجموعة من الآلات الموسيقية المتنوِّعة تسمَّى “أَژَوَانْ”، وذلك وفق نظام صوتي جمالي غاية في التوليف السمعي المنسجم.
موسيقى تبقى حاضرة باستمرار في ذاكرة ووجدان وحياة إنسان الصحراء ومصاحبة له في كلِّ لحظات وجوده، وفي نبضات قلبه كما في خطواته، بل في الغناء والإنشاد وحكايا الشعر لتصبح هي الأصل والفعل والحركة المتناغمة التي تعطي لوجوده معناه وحضوره الحقيقي”، كما يقول الباحث في التراث الثقافي والجمالي الحساني إبراهيم الحيسن.
ويضيف الحيسن في حديث للجزيرة نت أن الموسيقى التقليدية الحسانية تقوم أساسا على تناغم الإيقاعات. وهذه الإيقاعات أو المقامات التي “يُعزف عليها يسمِّيها أرباب الموسيقى “إيڭـَّاوَنْ” بـ”اظْهُورَتْ الهَوْلْ”، مفردها اظْـهَرْ، وهو حركة مبنية على 3 طرق للغناء، هي: الجَانْبَ لْبَيْظَ/لَبْيَاظْ، يسَمِّيها البعض بالواد الأسود (الوعورة) والجَانبَ لْكَحْلَ/لَكْحَالْ، تُعرف كذلك بالواد الأبيض (الهدوء)، ولَڭـْـنَيْدِيَّ وهي مزيج بين الصنفين المذكورين تتحدَّد بتحديد شَدِّ الأوتار وارتخائها.
ومن أبرز المقامات الموسيقية (اظْهُورْتْ لْهَوْلْ) الشائعة والمتداولة في الموسيقى التقليدية الحسَّانية، يذكر الحيسن: “اظْهَرْ كَرْ، يُقابل الوافر في الشعر العربي الفصيح، واظْهَرْ فَاغُو ثاني اظْهُورَتْ لْهَوْلْ الحسَّاني المرتبط بالحماسة والزهو والإقدام، واظْهَرْ سَنِّيمَة يأتي في السلم الثالث بعد اظْهَرْ فَاغُ، وهو من أصعب المقامات الحسَّانية بفعل فروعه المعقدة. ثم اظْهَرْ بِيڭـِي آخر مقامات لْهَوْلْ الحسَّاني ويعبِّر عن النهاية والختام”.
آلات الموسيقى الحسانية
يعتمد بنو حسان بالأساس في طقوسهم الشعبية الخاصة في مجال العزف وممارسة الغناء والطرب، على استعمال مجموعة من الآلات الإيقاعية والهوائية والوترية التي أبدعوا وتفننوا في صنعها، اعتمادا على سنائد ومواد مستمدة من خامات البيئة الصحراوية، كجلد الأغنام والإبل من الخشب والتراب وغير ذلك كثير، ومن أهم هذه الآلات الموسيقية.
نذكر: الطبل أو “التازُوَّة” الذي يعد من أهم وأقدم الآلات الإيقاعية التي يستعملها المجتمع الحساني على نطاق موسيقي واسع، لاسيما في السماع والمديح والأغاني التقليدية، و”النَّيْفَارَة” وهي آلة الناي الموسيقية الحميمية التي يستأنس بها رعاة الغنم كلما شعروا بالاختناق الذي تولِّده العزلة والفراغ، وآلة التِّيدِينت(مزمار الذكر) المُشَكّلة من طبل قاعدي مغطى بجلد الغنم وعود من الخشب مصنوع من شجر الدوم المعروف في الصحراء بالتيدُومْ، وهذه الآلة خاصة بمجتمع الرجال لها 5 أوتار ناعمة وحساسة عند اللمس كانت تصنع قديما من ذيول الخيل. أما الآن فتصنع من أمعاء الشاة بعد ذبحها.
وخلافا للتِّيدِنِيت، الآلة التي يعزفها الرجال، فإن آلة الأردين، كما جاء في الموقع الإلكتروني لمجلة “الموسيقى العربية” الصادرة عن “المجمع العربي للموسيقى” التابع لجامعة الدول العربية، فهي آلة موسيقية نسائية بامتياز في الموسيقى الحسانية، لا تختلف كثيرا عن آلة التيدنيت الرجالية باستثناء أوتارها التي تنقسم بين الوتر الطويل والوتر القصير، عكس الأوتار الطويلة جميعها في آلة التيدنيت الخاصة بالرجال، وهي آلات إلى جانب آلات أخرى مساعدة أو مكملة في الموسيقى الحسانية كالربابة والناي والمزمار والتي يبقى الطبل فيها روح وجوهر هذا النوع من الموسيقى الساحر والعتيق.
ونضيف إلى ذلك، الڭـَدْرَة المشهورة كثيرا بمنطقة وادي نون وامحاميد الغزلان، وهي آلة موسيقية إيقاعية تتشكَّل، كما يقول الباحث في التراث الأدبي والجمالي الحساني إبراهيم الحيسن، من “مادتين رئيسيتين هما: الطين المفخور-الإناء المدوَّر الذي يشكل القاعدة (المجوفة) والجلد الذي يغطي الفوهة والمثبت بأحبال تمر بالتناوب على كل الفتحات المشقوقة على حواشي الغشاء. يتم الضرب (أو النقر) على الكدرة جلوسا على الركبة باستعمال عودين دقيقين مستقيمين “لَمْغَازَلْ” على إيقاع متحوِّل يخضع لمستوى الأداء وترديد الأنشاد في (رقصة الڭـَدْرَة)”.
كما أدخلت في العصر الحديث آلات أخرى وجدت لنفسها مكانا مهما في الموسيقى الحسانية كآلتي الكيتار العادي والكهربائي، وآلة الأورغ.
الثقافة الحسانية
وفي المجمل، فالثقافة الحسانية هي ثقافة صحراوية موغلة في البداوة، تتمتع من عناصر البداوة بكل ما فيها من أصالة وعمق، رغم لمسات المدنية التي بدأت تغزو الحسانيين في أكثر من منطقة، وهي، كما يقول الشاعر والروائي والباحث في التراث الحساني محمد النعمة بيروك للجزيرة نت، عبارة عن “عادات وتقاليد وفن وأدب تشكل عبر الزمن في رقعة جغرافية تمتد من صحراء المغرب شمالا إلى مالي جنوبا ومن شرق الجزائر شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا.
وهي في المنطقة الشمالية جزء من الفسيفساء المغربية، وتمثل امتدادا طبيعيا للعمق المغربي عبر الصحراء الذي لا يقتصر على ملامح الأرض، بل على كل شيء، فاللباس يتخذ شكلا فضفاضا كلما اتجهنا من الشمال إلى الجنوب، وكذلك الشاي مثلا يزداد حلكة، وكذلك ينفتح اللسان على الحروف النافثة كالذال والثاء والظاء”.
ويضيف بيروك أن من أهم ركائز هذه الثقافة اللهجة الحسانية ذات الجذور العربية، مع خليط من تأثيرات الأمازيغية، والعمق الأفريقي، بالإضافة إلى تأثيرات المستعمرين، كما أن من “أهم معالم الثقافة الحسانية الفنية الغناء الذي يتماهى مع ملمحها الأدبي الأهم وهو الشعر، وطبعا هناك الحكاية الشعبية والمثَل والأحجية، وغير ذلك، لكن العلاقة الجدلية بين الشعر الغنائي، والغناء شعري، تقف على قمة كل ذلك، فالمغني ينشد الأشعار، فيلهم ويلهب قريحة الشاعر الذي يُلقي الڭيفان (بالجيم المصرية) على مسمع المغني، والڭاف يعادل في الشعر العربي النتفة الشعرية، أي بيتين من الشعر، أما الطلعة فقد تعادل قطعة شعر أو قصيدة”.
ويخلص بيروك إلى أن الثقافة الحسانية تحتاج إلى مزيد من الاهتمام والنبش والبحث، وتحتاج بالخصوص إلى التدوين، بسبب شفهيتها التي ظلت لعقود طويلة، وقد بدأت بالفعل بعض المجهودات في إنقاذ الذاكرة الحسانية في الصحراء مثلا، عبر مبادرة وزارة الثقافة المغربية عام 2019، حيث تم جمع أعداد كبيرة من الأشعار والحكايات الشعبية والأمثال والأحاجي، غطت الأقاليم الأربع المكونة للجهة (العيون، وبوجدور، والسمارة، وطرفاية)، وجندت الوزارة لهذا الغرض مجموعة من مثقفي المنطقة الذين تواصلوا مع بعض الشيوخ والمسنات، وتمخض هذا العمل عن كتاب تمت عنونته بـ”الأدب الشعبي الحساني”.
بحوث ودراسات
ناهيك عن بعض الدراسات والأبحاث لباحثين مغاربة أمثال الباحث الموسيقي أحمد عيدون وكتابه الفاخر حول الموسيقى الحسانية باللغتين العربية والفرنسية “أزوان، الموسيقى الحسانية، رحلة في قلب المغرب الصحراوي”، وكتاب الباحثة العزة بيروك حول “الأنماط الغنائية الحسانية في الصحراء”، وكذا كتاب الباحث إبراهيم الحيسن حول “موسيقى الصحراء وطقوس العزف عند “البيظان””، وله أيضا كتاب حول “رقصة الكَدرة- الطقوس والجسد”، إلى جانب كتاب “الكَدرة وأخواتها- دراسة في رقصات الكَدرة وكَنكَا والهرمة” للباحثين بوزيد الغلى واسليمة أمرز وإسماعيل الوعرابي، وكتابات لباحثين موريتانيين أمثال الباحث أحمد ولد أحظانا الذي أصدر مجموعة من الدراسات حول الثقافة الشعبية الحسانية، من مثل “الحسانية: القوم واللسان والثقافة”، و”المتخيل في الحكاية الحسانية: دراسة لسانية أنثروبولوجية رمزية”، و”الموسيقى الموريتانية: الشكل والمصطلح والوظيفة”، و”شعر الحسانية والنفس الملحمي”، والباحث سيمالي ولد همد فال مؤلف كتاب “المحيط في موسيقى شنقيط” ثم “كتاب الأغاني والمغنيين” للباحث المختار ولد حامدين.
هذا إلى جانب كتب مرجعية وتوثيقية أخرى حول الموسيقى الحسّانية التقليدية، نذكر منها كتاب الباحث الفرنسي الراحل ميشيل غينار “الموسيقى-الشرف والمتعة في الصحراء”، والذي تناول فيه جوانب تاريخية واجتماعية من تراث محترفي الموسيقى الحسَّانية. والكتاب هو في الأصل دراسة إثنو- موسيقية وأطروحة دكتوراه منشورة عام 1975، قام بترجمته حديثا محمد ولد تتا تحت عنوان “أزوان الموسيقى، المجد والامتاع لدى البيظان”، صدر عن مركز الدراسات والبحوث حول الغرب الصحراوي في نواكشوط.
مهرجانات
وتجدر الإشارة إلى أن وزارة الثقافة المغربية قامت في السنوات الأخيرة بتثمين التراث الثقافي والفني الحساني، وعملت على جمع وجرد وتوثيق تلك الموسيقى والأشعار تحت إشراف الفنان والباحث الموسيقي أحمد عيدون، كما سهرت على تخصيص مجموعة من المهرجانات للتعريف بهذا اللون الموسيقي في مختلف المدن الجنوبية وإبراز جوانبه الفنية المختلفة، والحفاظ على مجمل التقاليد والعادات والمظاهر المجسدة لها بوصفها أحد مكونات الهوية المغربية الأصيلة، من مثل المهرجان الوطني للأغنية الحسانية الذي نظمت دورته السادسة عشرة بمدينة الداخلة أيام 26 و27 و28 يوليو/تموز، تحت شعار “الأغنية الحسانية، نغم يحكي أصالة التراث المغربي”، بمشاركة 23 فرقة موسيقية من الجهات الجنوبية للمملكة وفرق موسيقية من موريتانيا.
غير أن هذا الاهتمام، مازال محدودا ولا يتعدى المناطق الصحراوية، حسب مجموعة من الفنانين الحسانيين، الذين عابوا على المهرجانات الموسيقية المغربية الكبرى بداخل المغرب، مثل مهرجان “موازين إيقاعات العالم”، عدم استدعائهم للمشاركة فيها والاقتصار على تكرار بعض الأسماء فقط دون الاهتمام بالفن الحساني الأصيل، حيث سبق ودعت “جمعية منار العيون للتراث والطرب الحساني” إدارة مهرجان “موازين” الى إدخال تعديلات على برمجتها للأغنية الحسانية وفق ما يليق بها وينصفها.