قبرص وموجات اللجوء بين الترحيب والترحيل | سياسة
مع تواتر نداءات دول العالم لرعياها بتسريع مغادرتهم للبنان، أعلنت قبرص عن استعدادها لأن تصبح ملاذا آمنا لعمليات إجلاء محتملة وواسعة للأجانب من مناطق التوتر في الشرق الأوسط، وهو دور اعتادت الجزيرة المتوسطية تقمصه منذ عقود.
وفي الوقت نفسه، فإن تدهور الوضع الأمني يدفع لأن تتحول قبرص -التي تناهز مساحتها 9 آلاف متر مربع- إلى وجهة رئيسية لعمليات تدفق مكثفة للمهاجرين الفارين من شبح الحرب والأزمة الاقتصادية، بحثا عن فرص للاستقرار في هذا البلد الصغير أو العبور لإحدى دول التكتل الأوروبي الغني.
ولكن، تاريخ قبرص مع أزمة اللاجئين على أراضيها يضعنا أمام التساؤل: إلى أي مدى يمكن أن تنجح الجزيرة في الموازنة بين تعهداتها اللوجيستية والتزاماتها الإنسانية؟
خطط الحكومة للإيواء والترحيل
في مايو/أيار الماضي، كشف وزير الخارجية القبرصي كونستانتينوس كومبوس -في بيان مكتوب- خطط الحكومة المتعلقة بعمليات الاستقبال والإيواء والترحيل، وتستند هذه الاستراتيجية إلى خطتين:
وهي التي تحدد إجراءات استقبال وإيواء وإعادة مواطني دول ثالثة ممن يغادرون مناطق الأزمات، إذ أكد كومبوس لوكالة الأنباء القبرصية أن “قبرص جاهزة لتنفيذ خطة إستيا”، مضيفا أنه تم اتخاذ جميع التدابير اللازمة في حال إجلاء المواطنين من لبنان بسبب الوضع في الشرق الأوسط.
وتشمل الاستعدادات تجهيز أسرّة في المدارس بمدينة لارنكا، ومرافق النظافة وتوفير السكن المؤقت إلى حين مغادرة الوافدين الى بلدانهم الأصلية.
مع ذلك سيتعين على السلطات التعامل مع أي حالات طارئة غير متوقعة يفرضها تطور الأوضاع في المنطقة. وفي هذا الشأن أوضح الوزير في تصريحاته “نحن ننتظر لنرى كيف ستتطور الأمور، وسنتحرك وفقا لذلك”.
- خطة نافكراتيس
تتعلق تلك الخطة بترحيل مواطني دول الاتحاد الأوروبي والدول الأخرى من لبنان، أو إدارة تدفق اللاجئين عبر البحر إلى قبرص.
وتشير كيلي بيتيلو الخبيرة في قضايا الهجرة بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية التابع للاتحاد الأوروبي، في حديثها للجزيرة نت، إلى أن بيان السلطات في قبرص يشير إلى استقبال الفارين من الحرب مؤقتا، بهدف إعادتهم إلى وطنهم.
ويستهدف هذا الدعم في الغالب المدنيين الموجودين حاليا في لبنان من دول أخرى في الاتحاد الأوروبي مثل ألمانيا، أو من كندا للفرار إلى قبرص مؤقتا.
وتضيف الخبيرة “هذا جزء من خطة عمل وطنية لإدارة عمليات إجلاء طارئة لمدنيين قادمين من الدول المجاورة مؤقتا، بهدف إعادتهم إلى وطنهم”.
ولا تمثل قبرص حلا لعمليات إجلاء آمنة فقط، فهي تلعب دورا لوجيستيا مهما لحركة الطيران المتجهة خاصة إلى إسرائيل، بعد قرار عدة شركات طيران عالمية إلغاء رحلاتها إلى هناك بسبب الوضع الأمني.
وهو ما أدى إلى تحول المطارات القبرصية إلى منطقة إجلاء معاكسة، حيث تتولى الطائرات المدنية الإسرائيلية نقل الإسرائيليين من قبرص إلى إسرائيل.
ومع أهمية الدور الذي تلعبه قبرص، تؤكد الحكومة دائما أنها ملتزمة بلعب دور “الحياد” سياسيا، وأنها لن تكون جزءا من الحرب بل جزءا من الحل. يأتي ذلك ردا على تهديدات صريحة من حزب الله اللبناني في حال تم السماح بانطلاق أعمال عدائية إسرائيلية من أراضي قبرص.
ولكن على أرض الواقع، لن تكون الحلول سهلة أمام حكومة قبرص لإدارة الآثار المترتبة عن عمليات الإجلاء، ومن بينها الهجرة واللجوء.
الأسوأ لم يات بعد
مع بداية العام الجاري 2024، شكت السلطات القبرصية من أزمة متفاقمة لتزايد أعداد طالبي اللجوء الذين جاوز عددهم 25 ألفا، مما أدى إلى انهيار طاقة الاستيعاب القصوى لمراكز الإيواء. وقد وجهت منظمة العفو الدولية انتقادات لسلطات الجزيرة بسبب ظروف الإيواء الشبيهة بالسجون لفترات تصل إلى 18 شهرا.
وكان المهاجرون في السابق يأتون عبر “الخط الأخضر” الذي يفصل قبرص عن الأراضي الخاضعة لتركيا، لكن مع تصاعد التوتر على الحدود اللبنانية الإسرائيلية، زادت وتيرة تدفق السوريون على متن قوارب تنطلق من سواحل لبنان.
وبينما تكافح الجزيرة أصلا من أجل إدارة التدفق المتسارع وغير المتوقع للمهاجرين، يخشى المسؤولون القبارصة من أن الأسوأ لم يأت بعد، في ظل التطورات السياسية والأمنية المتسارعة في المنطقة والتحذيرات الدولية للمدنيين بالمغادرة.
وصرّح رئيس دائرة اللجوء القبرصية أندرياس جورجيادس بأن أعداد السوريين يعد مرتفعا للغاية، وأنه في حال انهيار لبنان فإن البلاد ستواجه أزمة كبيرة.
وفي حين كان يعهد إلى لبنان لعب دور محوري في كبح موجات الهجرة غير النظامية وأنشطة مهربي البشر على سواحلها، فإن الأزمة قد تصبح مضاعفة في ظل مخاطر اندلاع حرب جديدة.
وقدّم الاتحاد الأوروبي بالفعل -تحت ضغوط قبرصية- حزمة مساعدات اقتصادية إلى بيروت بنحو مليار دولار أميركي في مايو/أيار 2024، لكن هذه الخطوة قد تكون بلا جدوى في حال واجهت حكومة لبنان حربا ستدفع إلى تغيير في أوليات تحركها.
ويعتقد لبنان أنه لم يعد قادرا على تحمل عبء اللاجئين السوريين الذين فرّ معظمهم من الحرب منذ عام 2011. ووفقا للسلطات اللبنانية، فإن في بلاد الأرز بالفعل ما يقرب من مليوني سوري، أي ما يعادل قرابة ثلث سكانها.
وبين هؤلاء يعدّ قرابة 805 آلاف فقط مسجلون لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين التي علقت تسجيل السوريين منذ عام 2015 بطلب من بيروت. ويدعو لبنان، الذي يعاني من أزمة اقتصادية منذ عام 2019، المجتمع الدولي إلى نقلهم إلى بلدان أخرى أو المساعدة في عودتهم إلى سوريا.
بلد الطرد
يمثل المهاجرون وطالبو اللجوء في قبرص حوالي 7% من سكان البلاد البالغ عددهم نحو مليون نسمة، وهي أعلى نسبة من بين دول الاتحاد الأوروبي. وتطالب الحكومة باستمرار مؤسسات الاتحاد في بروكسل وشركاءها بدعم أكبر لمواجهة موجات التدفق.
وتوضح الخبيرة كيلي بيتيلو للجزيرة نت أن قبرص أعلنت بالفعل أنها “مستعدة لأن تكون ملاذا آمنا للمدنيين الفارين إذا ما حدثت حرب في الشرق الأوسط. وهذا لا يتعارض مع الجهود التي تبذلها لمنع المهاجرين واللاجئين -ومعظمهم من السوريين- من الوصول إلى البلاد”.
وتتابع الخبيرة في تحليلها أن “الفرق هو أن السوريين سيكونون بوضوح لاجئين قد ينتهي بهم الأمر إلى البقاء إلى أجل غير مسمى بسبب الحرب المستمرة في بلادهم منذ 13 عاما. ومن جهة أخرى، تعرف قبرص أنه سيكون من الصعب إعادتهم إلى وطنهم”.
ومن بين مطالب نيقوسيا العاجلة، مراجعة تصنيف سوريا التي يمثل رعاياها غالبية طالبي اللجوء، باعتبار أجزاء من البلاد جهات آمنة وليست مناطق حرب.
ووفق دراسة أجراها مجلس اللاجئين القبرصي، فإن نسبة رفض طلبات اللجوء ترتفع إلى 93%، وهي النسبة التي تم تسجيلها عام 2022 مقابل أكثر من 22 ألف طلب لجوء.
وإلى حين دراسة المقترح، تتجه السلطات أكثر فأكثر إلى مضاعفة آليات التسريع في عمليات الترحيل. ومنذ نوفمبر/تشرين الثاني 2020، يتم إصدار أمر الطرد تلقائيا عند رفض طلب اللجوء، حتى مع إمكانية الطعن في القرار قانونيا.
وعلى مدى عام 2023 بأكمله، تمت إعادة ما مجموعه 12 ألف و750 مهاجرا إلى بلدانهم الأصلية، خاصة إلى نيجيريا وجمهورية الكونغو الديمقراطية والكاميرون، وفقا لبيانات وزارة الداخلية القبرصية. وكان عدد المرحلين لا يزيد على 7500 شخص في عام 2022 وحوالي 2000 في عام 2021.
وفي خلال الأشهر الأربعة الأولى من عام 2024، طردت قبرص 3300 شخص، مقابل 2348 شخصا في الفترة نفسها من عام 2023.
وتضع هذه البيانات الجزيرة المتوسطية في المرتبة الأولى من بين دول الاتحاد الأوروبي من حيث عمليات الطرد مقارنة بعدد طالبي اللجوء على أراضيها.
لكن ماذا عن اللبنانيين أنفسهم، وهم المهددون بمخاطر الحرب والانهيار الاقتصادي؟
حديقة خلفية
تشكل قبرص في العادة حديقة خلفية لميسوري الحال في لبنان، لكن عمليات التدفق ترتبط كثيرا بالوضع الاقتصادي والأمني المتأرجح في البلاد.
تقدم الجزيرة العضوة في الاتحاد الأوروبي حوافز مهمة تتعلق بالإقامة وإجراءات ميسرة لتأسيس الشركات والاستثمار، فضلا عن التسهيلات في أسواق المال والعقارات لذوي الدخل العالي، وقربها الجغرافي من لبنان، مما يجعلها ذات جاذبية عالية للمستثمرين ورؤوس الأموال اللبنانيين وعائلاتهم.
وفي العام 2019، شهد لبنان أزمة اقتصادية خطيرة صنفها البنك الدولي بين الأسوأ في العالم منذ عام 1850، حيث تدهور سعر صرف الليرة بنسبة تفوق 90%، وفقد كثيرون وظائفهم، كما عجز اللبنانيون عن سحب أموالهم من المصارف بسبب قيود ناتجة عن شح السيولة، وواجهوا ندرة في المواد الأساسية والأدوية، كما غرقت البلاد في الظلام بسبب نفاد الوقود لتشغيل مولدات الطاقة.
وأدت الأزمة مدفوعة بانفجار مرفأ بيروت في أغسطس/آب -والذي خلف أكثر من 200 قتيل و6 آلاف جريح ودمر أجزاء كاملة من العاصمة- إلى احتجاجات شعبية ضد الطبقة السياسية، دفعت الآلاف إلى المغادرة نحو قبرص، الوجهة الأقرب.
وهي ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها اللبنانيون بكثافة إلى قبرص، فخلال الحرب الأهلية (1975-1990)، انتقل عدد كبير منهم إلى الجزيرة، وعاد قسم كبير منهم إلى البلد بعد انتهاء الحرب.
وكذلك خلال حرب يوليو/تموز 2006 بين إسرائيل وحزب الله اللبناني، شكلت قبرص قاعدة خلفية للبنان. فمع إقفال مطار بيروت الذي تعرض لقصف إسرائيلي آنذاك، انطلقت سفن إجلاء من العاصمة اللبنانية ونقلت الرعايا الأجانب إلى الجزيرة ليغادروا بعدها إلى بلدانهم. كما نقلت لبنانيين عاشوا في قبرص لفترة مؤقتة، في انتظار انتهاء الأعمال العسكرية.
لكن الوضع بعد 2019 الذي شمل أزمة اقتصادية طاحنة، غيّر كثيرا من خطط اللبنانيين الذين تدفقوا على الجزيرة بنية الاستقرار ونقل استثماراتهم، ومن غير المتوقع أن يشذ الوافدون الجدد عن هذه القاعدة في حال اندلعت حرب جديدة.