حين أخمد محمد علي بالحديد والنار ثورة الفلاحين في فلسطين | سياسة
كان من الأهداف الإستراتيجية التي حاولت الدولة العثمانية العمل عليها طوال قرون هو الحفاظ على وحدة الأراضي العربية في إطار هذه الدولة، وكانت فلسطين جزءا لا يتجزأ من هذه الإدارة، بل عمل السلاطين العثمانيون على الحفاظ عليها من خلال العديد من المنجزات العمرانية والأمنية والترتيبات الإدارية التي تجعلها آمنة مطمئنة.
لكن مصر -وهي الجارة الملاصقة لفلسطين- شهدت حدثا مزلزلا في أواخر القرن الـ18 حين احتلها نابليون بونابرت عام 1798، ولمدة 3 سنوات كاملة حرص على تحقيق المطامع الفرنسية المتمثلة في قطع الطريق بين بريطانيا ومستعمرتها الهند، وقطع مصر وبلاد الشام عن الدولة العثمانية لإضعافها وهزيمتها وإسقاطها.
وأدت هذه الأحداث إلى تدخل العثمانيين والبريطانيين وهزيمة الفرنسيين ثم صعود محمد علي باشا لحكم مصر، والذي أدرك من الأحداث السابقة مدى الضعف الذي باتت تعيشه الدولة العثمانية واضطرارها للاستنجاد بالقوى الأوروبية حينئذ.
ولهذا السبب وحين استقر قراره في مصر وثبت حكمه فيها وتمكن من إنشاء جيش وأسطول قويين ثم تدخّل بنجاح في السودان والجزيرة العربية والحرب اليونانية ازدادت قناعته بسهولة تحقيق الاستقلال عن العثمانيين وإنشاء إمبراطوريته الخاصة التي ربما ترث إسطنبول في حكم الأقطار العربية وغير العربية، وكان بعض المستشارين الغربيين -ولا سيما الفرنسيين منهم- يدعمونه في هذا المسعى.
احتلال فلسطين وبلاد الشام
طالب محمد علي باشا مرارا الباب العالي بأن يُمنح حكم بلاد الشام بالإضافة إلى مصر، ولكن إدراك السلطان العثماني في إسطنبول خطورة أحلام وتطلعات والي مصر جعله يتجاهل هذه الطلبات.
سعى محمد علي إلى السيطرة على الشام بالقوة المسلحة لكثرة خيراتها ومواردها الاقتصادية، لإدراكه أن امتلاكها سيجعله سيد الأقطار العربية بعد سيطرته على القدس ودمشق، ومدخلا للسيطرة على الجزيرة العربية فيما بعد، فضلا عن كونها مصدا ومنطقة عازلة ستحميه من السلطان إذا أراد أن يقود جيشا للقضاء عليه.
هذه الأسباب الإستراتيجية التي أدركها محمد علي من خلال خبرته ومن تأمله فيما قام به نابليون من قبله، وكذلك في الوحدة العضوية والتاريخية التي طالما جمعت مصر وبلاد الشام جعلته يأمر ابنه إبراهيم باشا بإعداد جيش كبير للبدء في السيطرة على بلاد الشام، وقد عُرفت هذه الأحداث بالحملة المصرية التي بدأت في عام 1831 وانتهت بعد 10 سنوات كاملة بالهزيمة والانسحاب عام 1841.
استطاعت القوات المصرية في أكتوبر/تشرين الأول 1831 احتلال غزة ويافا وحيفا واقتربت من عكا في نوفمبر/تشرين الثاني.
وفي ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه ضربت الحملة حصارها حول عكا، وأرسل إبراهيم باشا إنذارا إلى والي عكا يطالبه فيها بتسليم القلعة، ونتيجة لرفض عبد الله باشا هذا الإنذار أمر الأول بضرب المدينة بالقنابل من جميع الجهات.
وأمام هذا العصيان الذي بدر من والي مصر سارع السلطان العثماني محمود الثاني إلى إرسال السفراء لينصحوه بالعدول عن الحرب منعا لسفك دماء المسلمين، لكن محمد علي رفض هذه النصائح بحجة أن والي عكا عبد الله باشا الجزار حرض الفلاحين المصريين على الخروج من بلدهم رفضا للتجنيد الإجباري.
كما أنه لن يتخلى عن حربه طالما بقي عبد الله باشا في منصبه، بل وطالب محمد علي بتعيين والٍ آخر حائز على ثقته شخصيا، وبهذا جعل والي مصر نفسه رأسا برأس أمام السلطان العثماني.
وكان من الطبيعي أن يرفض السلطان محمود طلب محمد علي، فأمر الأخير ابنه إبراهيم باشا بمواصلة الحرب والسيطرة على فلسطين وسوريا كلها.
وأمام هذا العناد من والي مصر أصدر السلطان العثماني فتوى بأن الأب وابنه قد خانا الدولة وخرجا عن دين الله، وذلك لاستنفار الأهالي في مصر والشام ضدهما.
وأصدر السلطان فرمانا بعزل محمد علي من منصبه، مما أحدث ضجة داخل الأوساط الشعبية والدينية في مصر بشأن شرعية حكمه.
واجه محمد علي هذه الفتوى والقرارات السلطانية بالعنف والبطش الشديد، فأعدم كل من وصل إلى مسامعه أنه أثار هذه الضجة، ومن بينهم بعض علماء الأزهر.
وبعد مرور أكثر من 6 أشهر على حصار عكا وضربها بالقنابل والمدافع والمتفجرات سقطت المدينة، ثم سارع إبراهيم باشا إلى السيطرة على كامل بلاد الشام الأخرى مثل دمشق وحماة وحمص وحلب، بل واستطاع دخول الأناضول فاستولى على أضنة وقونية وكوتاهية.
ودفع ذلك السلطان العثماني إلى طلب المساعدة من روسيا وإنجلترا وفرنسا، ووقف هؤلاء أمام تقدم محمد علي واتفقوا على عقد صلح كوتاهية في 4 مايو/أيار 1833.
الطريق إلى الثورة
وبموجب هذا الصلح أصبح محمد علي حاكما على مصر والجزيرة العربية والسودان وكريت، فضلا عن بلاد الشام، ورحب أهالي بلاد الشام بالحملة المصرية ظنا منهم أنهم قدموا لمساعدتهم وعونهم ورفع الظلم الواقع عليهم، كما يقول المؤرخ عبد الكريم رافق.
عمل إبراهيم بن محمد علي على إصلاح العديد من الشؤون الإدارية والاقتصادية في فلسطين وسوريا حتى أن سليمان أبو عز الدين في كتابه “إبراهيم باشا في سوريا” يقول “أحدث إبراهيم انقلابا عظيما في الحكم في بلاد الشام، فأدخل أنظمة جديدة في الإدارة والقضاء والمالية والجندية، وأدخل تغييرا خطيرا في النظام الاجتماعي، فأطلق الحرية الدينية ونشر روح الديمقراطية وضرب على أيدي الزعماء الإقطاعيين ونزع السلطة من أيديهم وأنشأ صلات مباشرة بين الشعب وحكامه”.
وفي العامين الأولين من حكم بلاد الشام أعفى محمد علي وإبراهيم أهالي فلسطين وبلاد الشام من كثير من الضرائب والأموال الأميرية، ورفع عنهم سوء المعاملة والابتزاز في التحصيل، ولكن سرعان ما تغيرت هذه السياسة.
وفي عام 1834 أمر محمد علي ولده إبراهيم باشا باحتكار تجارة الحرير، وتجنيد أهل الشام كما فعل مع المصريين، ونزع السلاح واحتكاره بيد السلطة المركزية.
كذلك أمر محمد علي باشا بأخذ ضريبة “الفِردة” من جميع سكان الشام والفلسطينيين من جملتهم، وكان هذا أمرا غريبا أن تؤخذ ضريبة على المسلمين من المسلمين، وهي تشبه الجزية.
ومما يروى عن أحد شهود في الشام تعقيبا على هذا القرار الغريب الذي فرضه محمد علي على السكان المسلمين قوله “ولما سمع المسلمون بهذا الخبر صعب عليهم أكثر من الجميع، لأنه على مر الزمان لم تؤخذ منهم أموال على رؤوسهم”.
وفوق هذا استعمل إبراهيم باشا أهالي فلسطين في أعمال السخرة وبناء الثكنات العسكرية، وحين نُفّذ هذا القرار وأصبح الجميع سواسية أمام محمد علي باشا وابنه وما رافق ذلك من إهانة وجبروت في تنفيذ هذه القرارات أصبح أصحاب الجاه والمكانة الاجتماعية مثل القبائل والمشايخ في نابلس والقدس وغيرها مستائين وناقمين على هذا الاستبداد الذي لم يروه في ظل الولاة العثمانيين.
وفي ظل الظلم والقهر اللذين تعرض لهما الفلسطينيون من السلطات الجديدة التي جاء بها محمد علي وإبراهيم اتفق الجميع على توحيد صفوفهم في رفض هذه القرارات.
وحين علم إبراهيم باشا بهذه المستجدات ذهب إلى القدس مع جيشه وأحاط بها، ودعا الحاكم وشيوخ القبائل المجاورة إلى التحاور، وأعلن هؤلاء رفضهم تسليم سلاحهم، كما أعلنوا رفضهم التجنيد الإجباري، وطالبوا بدفع مقابل مالي نظير الإعفاء.
قهر وبطش
لكن إبراهيم باشا رفض مطالبهم، وأخبرهم أنه ينفذ أوامر والده، فتظاهر الجميع بالانصياع، ولكنهم رفضوا هذه الشروط، ولا سيما بعدما تناهى إلى سمعهم أن الدولة العثمانية تعد جيشا كبيرا لتحرير سوريا من محمد علي وابنه إبراهيم.
وجراء ذلك انتفضت مناطق جبل نابلس والقدس، وتزعّم هذه الثورة الشيخ قاسم الأحمد، وانضم آل غوش من القدس إلى الثورة التي امتدت إلى يافا والخليل والكرك وإلبيرة ورام الله.
وأعلن الجميع العصيان على محمد علي وابنه، وتفجرت معارك دامية في كل هذه المناطق خسرت في بعضها القوات المصرية، في حين نجح إبراهيم في هزيمة ثوار القدس ويافا وعرب البحر الميت، وأمام هذا الاستنزاف أرسل إلى أبيه في مصر يطالبه بإمداده بالعسكر.
وأمام هذه التطورات وسقوط قتلى من الجانبين قرر محمد علي قيادة حملة عسكرية جديدة، فانطلق من الإسكندرية إلى يافا التي نزلها في 29 يونيو/حزيران 1834 ومعه جيش يقدّر بـ15 ألف مقاتل، فضلا عن أسطول ضخم في غزة ويافا.
وحرص محمد علي طوال مدة بقائه في فلسطين على استمالة كبار شيوخ الثوار، ونجح بالترغيب والترهيب في أن يجعل 7 منهم يميلون نحوه، وعلى رأسهم زعيم جبل نابلس الشيخ قاسم الأحمد، وآل أبو غوش، وآل عبد الهادي، وغيرهم.
وقرر محمد علي أن يتنازل عن التجنيد الإجباري والتسامح في العديد من الأمور الأخرى، بل ومنحهم مكافآت مالية.
لكن سرعان ما أعلن أهالي نابلس استمرار ثورتهم ضد الحكم الجائر، وأشعلوا الثورة من جديد، وأخذوا يعقدون الاجتماعات، الأمر الذي جعل إبراهيم يحضر إليهم بعدد كبير من القوات العسكرية وتمكن من هزيمتهم، فأخضع نابلس كاملة ثم أعطى أهلها الأمان.
وبينما أخمد إبراهيم ثورة نابلس اشتعلت ثورة صفد، فأبدى الأمير بشير الشهابي -وهو أحد أمراء جبل لبنان الذين كانوا موالين لمحمد علي باشا في حملته على بلاد الشام ضد الدولة العثمانية- استعداده لوأد ثورة صفد، وبالفعل تعاون معه إبراهيم في إخمادها والقضاء عليها.
واستمرت الثورة تشتعل في بقعة وتخمد في أخرى، وأمام هذه التطورات استخدم إبراهيم باشا السياسة التي استخدمها والده محمد علي باشا، فقرّب إبراهيم إليه العديد من كبار الشيوخ والثوار، مثل آل عبد الهادي وآل أبو غوش، وأخلى سبيل والدهم الذي كان سجينا في عكا، وجعل ابنه الأكبر زعيما على قومه، والابن الثاني متسلما “واليا” على القدس، وجعل الشيخ حسين عميد آل عبد الهادي من رجاله المقربين.
لكن الشيخ قاسم الأحمد -وهو أحد كبار ثوار فلسطين ممن هادنوا محمد علي أولا- عاد وأصر -رغم انفصال كبار المشايخ والقبائل عنه- على استمرار انتفاضته ضد ظلم إبراهيم باشا، ولهذا السبب خسر أهالي نابلس عددا كبيرا من الجنود، وكان إبراهيم يحرق القرى التي يفر أهلها منها.
كان محمد علي باشا يتابع ما يحدث في يافا، وكان يمد إبراهيم وكبار قادته مثل محمد منكلي بك وغيره بما يحتاجونه من تخطيط وسلاح وعسكر.
وحين تمكن إبراهيم أخيرا من قمع الثورة في مناطق الضفة الغربية -ولا سيما في الخليل- واستمالة كثير من رؤوسها واضطراره أكثر الثوار وزعمائهم الباقين إلى الفرار نحو السلط والكرك وتعقبهم قرر محمد علي باشا العودة إلى الإسكندرية.
لم يتوقف إبراهيم عند هذا الحد من القمع، بل أصر على تعقب الثوار الفارين وقتل أشهر زعمائهم، ومنهم قاسم الأحمد الذي أبدى مقاومة عنيفة.
ولجأ إبراهيم إلى تخريب وتدمير ونهب القرى، وأعاد احتلال القدس والخليل وبيت لحم.
في المقابل، أعلنت غزة أيضا الثورة على حكم محمد علي، فأمر إبراهيم باشا بتدمير بيوتها ونهب أموالها ومعاملة أهلها بوحشية.
وأمام هذا البطش الشديد ونهب القرى والأموال والضِياع وإفناء كبار الثوار والمشايخ طلب أهالي القدس والخليل ونابلس العفو والأمان، فأعطاهم إبراهيم بالفعل الأمان مقابل شروطه، إذ قرر تجنيد عدد كبير من أهالي نابلس في الأسطول المصري وفي سلاح المشاة، واعتقل عددا كبيرا منهم حُكم عليهم بالإعدام والنفي، وأصر على تجريد الأهالي من السلاح، واستخدم أقسى العقوبات.
ورغم عدم إخماد الثورة بصورة كلية فإنه كما يقول المؤرخ عارف العارف في كتابه “تاريخ غزة” “ظل النضال قائما بين الثوار الفلسطينيين والجنود المصريين حتى تم لمحمد علي ما أراد، فأسس التجنيد الإجباري ونزع السلاح من الأهلين، وما إن تم له ذلك حتى رجع إلى مصر، وسافر ابنه إبراهيم باشا إلى دمشق”.
استمر حكم محمد علي باشا وابنه إبراهيم لبلاد الشام وفلسطين طوال 10 سنوات، واضطرا أخيرا إلى الخروج من فلسطين بعد انعقاد مؤتمر لندن في عام 1841 الذي شاركت فيه الدولة العثمانية و4 دول أوروبية والإمبراطورية الروسية وبروسيا والمملكة المتحدة والإمبراطورية النمساوية، للحد من توسعات محمد علي باشا، وكانت سببا في تقليص صلاحياته.
تلك 10 سنوات كاملة حُكمت فيها فلسطين بالحديد والنار، وفيها قُمعت ثورتها الكبرى التي عُرفت باسم “ثورة الفلاحين”.