Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
خبر عاجل

القتل الجماعي.. كيف نفهم السلوك الإجرامي الأكثر رعبا بالعالم؟ | سكون


في صباح يوم 20 أبريل/نيسان 1999، تحول اليوم الدراسي العادي في مدرسة كولومبين الثانوية بولاية كولورادو إلى كابوس. تردد صدى الطلقات النارية والانفجارات في أروقة المدرسة، حيث اقتحم طالبان مسلحان، هما إريك هاريس وديلان كليبولد، مبنى المدرسة حاملين أسلحة وقنابل يدوية، ليشنوا إحدى أكثر الهجمات دموية في تاريخ الولايات المتحدة على مؤسسة تعليمية.

ديلان وهاريس منفذّا عملية القتل الجماعي في مذبحة مدرسة كولومباين الثانوية وقد اختارا بعناية مكان المذبحة وهي كافتيريا المدرسة حيث يتناول الطلبة الطعام (غيتي إيميجز)

بدأ الهجوم حوالي الساعة 11:19 صباحًا عندما دخل هاريس وكليبولد إلى كافتيريا المدرسة، المكان الذي اختاراه بعناية لتنفيذ خطتهما المروعة. في غضون دقائق، بدآ إطلاق النار بشكل عشوائي؛ مما أسفر عن مقتل معلّم و12 طالبًا، وإصابة 21 آخرين. استمر الهجوم مدة 47 دقيقة، وكان مسرح الجريمة في فوضى تامة، حيث كان الطلاب والمعلمون يحاولون الهرب للنجاة بأرواحهم.

أثارت هذه الجريمة صدمة عميقة في المجتمع الأميركي، خاصة مع عدد الضحايا المرتفع. من بين القتلى طلاب تتراوح أعمارهم بين 14 و18 عامًا، ومعلم كان يحاول إنقاذ حياة الطلاب. وعقب الهجوم، امتلأت المدرسة بالذعر والأسى، وكان التأثير النفسي في الناجين وأسر الضحايا هائلًا.

تبين فيما بعد أن هاريس وكليبولد كانا قد خططا لهذا الهجوم منذ أكثر من عام. فمن خلال يومياتهما ورسائلهما الإلكترونية، ظهر أنهما كانا يشعران بغضب واستياء عميقين من المجتمع ومن زملائهما في المدرسة وقد أظهرت يومياتهم الشخصية ولعًا خاصًّا بتشارلز داروين ونظرية التطوّر. كان هاريس وكليبولد قد اعتبرا أنفسهما منبوذين، وكانت لديهما رغبة في الانتقام من العالم الذي شعرا بأنه أساء إليهما وأهانهما ولم يُقدّر “تطوّرهما العقلي وذكائهما ومستواهما الحضاري المتقدّم”، خِلافًا لـ “الكائنات الدنيا الأكثر تخلّفًا التي يعترف بها النظام الحالي ويحتفي بقدراتها”.

لاحقًا، كشفت التحقيقات أن هاريس وكليبولد لم يتبنيا أي أيديولوجية دينية معينة، بل على العكس، كانت لديهما نزعة تمرّدية ضد جميع الأديان والمؤسسات الاجتماعية. وقد أعربا في كتاباتهما عن كراهيتهما للعالم ورغبتهما في تدميره، واستخدما لغة مليئة بالكراهية والعنف، وكانا مهووسين بفكرة “الثورة” ضد النظام الاجتماعي السائد.

أدى هجوم كولومبين إلى إعادة النظر في العديد من السياسات المتعلقة بالأمن في المدارس، وأثار نقاشات واسعة حول تأثير الألعاب العنيفة والأفلام والموسيقى في الشباب، كما سلط الضوء على قضايا الصحة النفسية وأهمية رصد ومساعدة الشباب الذين يظهرون علامات على الاكتئاب أو العدوانية.

ألغاز القتل الجماعي

تُعد ظاهرة القتل الجماعي (Mass Shooting) من أكثر الظواهر العنيفة والمأساوية التي تشهدها المجتمعات الحديثة، وهي حوادث تتكرر في مختلف أنحاء العالم، وتثير معها تساؤلات عميقة حول الأسباب النفسية والاجتماعية التي تقود الأفراد إلى ارتكاب مثل هذه الأعمال العنيفة. وتُعرّف ظاهرة القتل الجماعي بأنّها عملية قتل أربعة أشخاص أو أكثر في حادثة واحدة أو في سلسلة من الأحداث المتصلة زمانيًّا ومكانيًّا، وعادة ما تنطوي على استخدام الأسلحة النارية.

من سِمات هذه الحوادث أنها تترك صدمة عميقة في المجتمع، وبالتغطية الإعلامية الواسعة التي تتبعها، أو ما يسمّيه علماء الاجتماع بالذُعر الأخلاقي (Moral Panic) وهو الشعور الكثيف بالخوف الناجم عن حادثة تجعل المجتمع يتخيّل أنّ رفاهية المجتمع وسلامته مُهدّدتان بِشرّ حقيقي لا يمكن تجاهله أو تجنّبه.

على المستوى السيكولوجي والمَرض النفسي، تشير الدراسات إلى أن العديد من مرتكبي القتل الجماعي يعانون من اضطرابات شخصية، مثل اضطراب الشخصية النرجسية أو اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع (Antisocial Personality Disorder). هؤلاء الأفراد غالبًا ما يظهرون نقصًا في التعاطف مع الآخرين، وميلًا نحو العدوانية، ورغبة في السيطرة والقوة.

وتشير بعض الأبحاث إلى وجود ارتباط بين القتل الجماعي وبعض الأمراض النفسية، مثل الفصام (Schizophrenia) والاكتئاب الشديد (Major Depression). وعلى الرغم من أن معظم الأشخاص الذين يعانون من هذه الأمراض لا يميلون إلى العنف، فإن عدم التشخيص أو العلاج المناسب يمكن أن يزيد من خطر السلوك العنيف.

وقد يكون للضغوط النفسية الحادّة والتوتر المزمن دور في ارتكاب جريمة القتل الجماعي، أي أنهما من العوامل المحفزة لارتكاب أعمال عنف جماعية؛ فالأفراد الذين يمرون بتجارب حياتية مؤلمة أو يشعرون بالفشل الاجتماعي أو المهني قد يجدون في العنف وسيلة للتعبير عن إحباطهم وغضبهم. إذ تُعتبر نظرية الإحباط والعدوان (Frustration-Aggression Theory) إحدى النظريات الكلاسيكية في تفسير السلوك العدواني.

تُشير هذه النظرية إلى أن الإحباط يحدث عندما يُمنع الشخص من تحقيق هدف معين؛ مما يؤدي إلى توليد مشاعر عدوانية. هذه المشاعر قد تتجلى في سلوكيات عنيفة مثل القتل الجماعي. بحسب هذه النظرية، يمكن أن يؤدي الإحباط المزمن، مثل الفشل المهني أو العلاقات الشخصية الفاشلة، إلى تراكم العدوان وتفجره في شكل عنف شديد.

حين نتخيّل الحياة اليومية للأفراد، والضغوط اليومية التي يمرّون بها، إضافة إلى الأزمات الشخصية المتمثّلة بحوادث الإفلاس والإقالة الفُجائية من الوظيفة أو الانفصال العاطفي المُدمّر وغيرها من التقلّبات الحياتية المأساوية؛ يمكن أن نفهم أنّ الأفراد في كثير من الأحيان يتصرّفون تحت وطأة الشعور العالي بالإجهاد والأسى واليأس الذي يدفعهم نحو حافة الانهيار.

تعطينا نظرية تفريغ الإجهاد المنبثقة من نظرية الإحباط والعدوان مدخلًا نظريًّا لفهم نقطة الانهيار. فالأفراد الذين يعانون من مستويات عالية من الإجهاد المزمن قد يستخدمون العنف وسيلةً لتخفيف التوتّر الحادّ والنوعي في حياتهم. يمكن أن يؤدي التراكم المستمر للإجهاد إلى نقطة انهيار، حيث يشعر الفرد بأنه مضطر إلى التصرف بعنف للتفريغ والتخفيف من الضغط. ومن المعروف أنّ العديد من مرتكبي القتل الجماعي لديهم تاريخ من الصدمات النفسية والإحباطات المتكررة.

لكنّ العوامل النفسية وحدها قد تختزل كل الحكاية وقد تحرمنا النظر إلى العوامل الأخرى المتداخلة في السلوكيات الإجرامية كحوادث القتل الجماعي. يقدم النموذج البيولوجي النفسي الاجتماعي (Biopsychosocial Model) تفسيرًا شاملًا للسلوك الإجرامي من خلال النظر إلى العوامل البيولوجية (مثل الوراثة والتغيرات الكيميائية في الدماغ)، والنفسية (مثل الاضطرابات العقلية والشخصية)، والاجتماعية (مثل البيئة الاجتماعية والعلاقات الشخصية).

وفقًا لهذا النموذج، يمكن أن تكون حوادث القتل الجماعي ناتجة عن تفاعل معقد بين هذه العوامل. على سبيل المثال، قد يعاني بعض الأفراد من اضطرابات نفسية مثل الفصام أو اضطراب الشخصية الحدية؛ مما يزيد من احتمال ارتكابهم لأفعال عنيفة.

تتطلّب ظاهرة القتل الجماعي نهجًا متعدّد الجوانب يأخذ في الاعتبار العوامل النفسية، البيولوجية، والاجتماعية. وقد أجريت دراسة شهيرة بواسطة عالم النفس البارز آلبرت باندورا وزملائه، فأظهرت أن التعرّض المستمرّ لمشاهد العنف والقتل والعدوان في وسائل الإعلام يمكن أن يؤدي إلى زيادة العدوانية لدى الأفراد؛ مما يدعم نظرية التعلم الاجتماعي في تفسير القتل الجماعي، وهو ما يُسمّيه باندورا التعلّم عن طريق الملاحظة والمحاكاة والاستدخال الإدراكي الاجتماعي للسلوكيات.

وقد يرجع نموذج التعلّم بالملاحظة إلى مراحل قبل المشاهدة والتعرّض المرئي في الإعلام لمشاهد العنف، إذ رأى ألبرت باندورا صاحب نظرية التعلم الاجتماعي أنّه عند مشاهدة الأفراد لنماذج عدوانية في بيئتهم، سواء كانت حقيقية أو عبر وسائل الإعلام، فإنهم قد يتعلّمون أنّ العنف وسيلة مقبولة لحل النزاعات أو التعبير عن الإحباط. وبهذا يُمكن أن يساهم التعرض المستمر للعنف في وسائل الإعلام أو في البيئة الاجتماعية في تشكيل سلوكيات عنيفة مثل القتل الجماعي.

كيف يحوّل أقصى اليمين الكراهية إلى جرائم قتل؟

في يوم 15 مارس/آذار 2019، شهدت مدينة كرايستشيرش في نيوزيلندا واحدة من أكثر الهجمات الإرهابية دموية في تاريخ البلاد، عندما استهدف إرهابي مسلح مسجدين؛ مما أسفر عن مقتل 51 شخصًا وإصابة 40 آخرين بجروح بالغة. هذا الهجوم الصادم لم يكن مجرد عمل عنف عشوائي، بل كان فعلًا مدروسًا ومحسوبًا نابعًا من أيدولوجية متطرفة.

وقع الهجوم على مسجد النور ومسجد لينوود خلال صلاة الجمعة، وهي من أكثر الأوقات ازدحامًا في الأسبوع لدى المسلمين. بدأ برينتون تارانت، الإرهابي الأسترالي البالغ من العمر 28 عامًا، هجومه حوالي الساعة 1:40 بعد الظهر، عندما دخل مسجد النور مسلحًا بأسلحة نصف آلية، وبدأ إطلاق النار بشكل عشوائي على المصلين. بعد ذلك، انتقل تارانت إلى مسجد لينوود، حيث كرر نفس الفعل الدموي. الهجوم كان مخططًا له بعناية، حيث قام تارانت ببث جريمته مباشرة على موقع فيسبوك باستخدام كاميرا مثبتة على خوذته، مما أضفى بعدًا جديدًا من الرعب والبشاعة على جريمته. استمرت المذبحة حوالي 17 دقيقة قبل أن تتمكن الشرطة من القبض عليه.

أسفر الهجوم عن مقتل 51 شخصًا، تتراوح أعمارهم بين 3 و77 عامًا، وإصابة 40 آخرين. كان بين الضحايا أطفال وشباب ومسنّون، مما يعكس الطبيعة العشوائية والوحشية للهجوم. تضرر المجتمع المسلم في نيوزيلندا بشكل كبير، وامتدت آثار الهجوم إلى المجتمعات الإسلامية في العالم.

تُظهر الدراسات أن الأفراد الذين يتبعون تفسيرات دينية متطرفة يميلون إلى رؤية العالم بشكل ثنائي: خير وشر، نحن وهم. هذا النمط من التفكير يمكن أن يسهل تبرير العنف ضد أولئك الذين يُعتبرون “أعداءً” إضافة إلى مستويات أخرى من الإدراك، إذ تشير الأبحاث أيضًا إلى أن الشعور بالقمع أو الظلم الديني يمكن أن يدفع بعض الأفراد إلى استخدام العنف وسيلةً للردّ أو للبحث عن العدالة.

لكنّ هذه المحدّدات ليست حِكرًا على المعتقدات الدينية، بل تشمل أيضًا المعتقدات الأيدولوجية الصارمة. يمكن أن توفّر الأيديولوجيات المتطرفة للأفراد إطارًا فكريًّا يبرّر استخدام العنف لتحقيق أهداف سياسية أو اجتماعية. يمكن لهذه الأيديولوجيات أن تغذي الشعور بالظلم والغضب وتوجِد “أعداء” يستحقون العقاب في نظر المعتنقين لها. علاوة على ذلك، يمكن أن تسهم الخطابات التحريضية في زيادة تطرف الأفراد وتحفيزهم على اتخاذ إجراءات عنيفة.

برينتون تارانت كان يتّبع أيديولوجية تفوق العرق الأبيض وكان متأثرًا بنظريات المؤامرة التي تروج لفكرة “الإحلال العظيم”، وهي نظرية زائفة تدعي أن السكان البيض يتم استبدالهم عمدًا بالمهاجرين غير البيض من خلال سياسات الهجرة والاندماج. في بيان طويل نشره على الإنترنت قبل الهجوم، أوضح تارانت دوافعه وأفكاره المتطرفة. أشار إلى الهجمات الإرهابية السابقة في أوروبا بوصفها مصدر إلهام له، وأعرب عن كراهيته العميقة للمهاجرين والمسلمين.

CHRISTCHURCH, NEW ZEALAND - AUGUST 24: Christchurch mosque gunman Brenton Tarrant is seen during his sentencing hearing at Christchurch High Court on August 24, 2020 in Christchurch, New Zealand. Brenton Harrison Tarrant was found guilty of 92 charges relating to New Zealand's worst mass shooting in history. The Australian was charged with 51 counts of murder and 40 of attempted murder as well as a engaging in a Terrorist Act after opening fire at Al Noor Mosque and the Linwood Islamic Centre in Christchurch on Friday, 15 March 2019. 50 people were killed, and dozens were injured while another man died later in hospital. (Photo by John Kirk-Anderson - Pool/Getty Images)
أعلن تارانت بوضوح عن كراهيته للأديان، وخاصة الإسلام، في تصريحاته التي أدلى بها في بيانه وفي المحكمة (غيتي إيميجز)

أثناء محاكمته، أبدى تارانت عدم ندمه على ما فعل، مؤكدًا أنه أراد بث الخوف وإرسال رسالة إلى المسلمين والمهاجرين. كانت تصريحاته تعكس عقلية مشوهة مملوءة بالكراهية والعنف، مما أثار استياءً وغضبًا عالميًّا. وقد أعلن تارانت بوضوح عن كراهيته للأديان، وخاصة الإسلام، في تصريحاته التي أدلى بها في بيانه وفي المحكمة. لم يكن تارانت ملحدًا بالمعنى التقليدي، بل كان معاديًا للدين بصفة عامة، معتبرًا الأديان عائقًا أمام تحقيق أيديولوجيته العنصرية المتطرفة.

أدى الهجوم إلى استجابة سريعة من الحكومة النيوزيلندية، حيث اتخذت رئيسة الوزراء جاسيندا أرديرن خطوات جذرية لحظر الأسلحة نصف الآلية والمعدلة في البلاد. كما تم تعزيز الجهود لمكافحة التطرف عبر الإنترنت، حيث تم الضغط على شركات التواصل الاجتماعي لتحسين آليات الرقابة على المحتوى الإرهابي.

رغم الفظائع التي ارتكبها، لم يكن تارانت وحيدًا في معتقداته. عدد من الشخصيات الإعلامية والسياسية من أقصى اليمين أبدت تعاطفًا غير مباشر مع مواقفه، وإن لم يعلنوا دعمهم الصريح لفعله. أثارت هذه المواقف انتقادات واسعة النطاق وأدت إلى نقاشات مكثفة حول تأثير الخطاب السياسي والإعلامي في تشجيع التطرف. كانت كانديس أوينز (Candace Owens) إحدى الشخصيات التي أثارت الجدل بعد الهجوم.

في بيان نشره على الإنترنت، أشار برينتون تارانت إلى كانديس أوينز باعتبارها مُلهِمة له؛ مما أدى إلى جدل واسع حول تأثير خطاباتها المتشددة ضد الهجرة والإسلام. أوينز نفت بشدة أي علاقة لها بالهجوم وأكدت أنها لم تدع قط إلى العنف. وكذلك أثبتت تقارير وجود علاقة بين أفكار تارنات وخطابات أليكس جونز (Alex Jones) الشخصية الإعلامية المعروفة بترويج نظريات المؤامرة، وقد تعرّض جونز لانتقادات بسبب تصريحاته السابقة المناهضة للإسلام والمهاجرين، التي اعتُبرت مناخًا مشجعًا للأيديولوجيات المتطرفة.

تؤدي الأيديولوجيات السياسية والاجتماعية دورًا كبيرًا في حوادث القتل الجماعي، إذ يمكن للأيديولوجيات المتطرفة، سواء كانت يمينية أو يسارية، أن تكون محفزًا قويًّا للعنف. حوادث مثل تفجير أوكلاهوما سيتي عام 1995، حيث قام تيموثي ماكفي بتفجير مبنى فيدرالي؛ مما أدى إلى مقتل 168 شخصًا، تُظهر كيف يمكن للأيديولوجيات المتطرفة أن تدفع الأفراد إلى ارتكاب أعمال عنف جماعي. ماكفي كان متأثرًا بأيديولوجيات متطرفة ومعارضًا للحكومة الأميركية.

علاقة متوتّرة مع الدّين: كيف تتولد حوادث القتل الجماعي من كراهية الأديان؟

في صباح يوم 16 أبريل/نيسان 2007، استيقظت جامعة فرجينيا للتكنولوجيا على إحدى أسوأ الحوادث المروعة في تاريخ الولايات المتحدة الحديث. في غضون ساعات قليلة، تحولت الجامعة إلى مسرحٍ لجريمة قتل جماعي أسفرت عن مقتل 32 شخصًا وإصابة 17 آخرين، على يد طالب واحد مسلح بحقد وكراهية دفينة.

بدأت الأحداث المأساوية حوالي الساعة 7:15 صباحًا عندما فتح سيونغ هوي تشو، الطالب البالغ من العمر 23 عامًا، النار بداية في قاعة النوم؛ مما أدى إلى مقتل طالبة وطالب وإصابة عدد آخر. وبعد هذه الواقعة الأولى، عاد تشو إلى غرفته، وقام بتغيير ملابسه وتسجيل مقاطع فيديو، ثم عاود الهجوم مرة أخرى بعد ساعتين. عند الساعة 9:40 صباحًا، توجه تشو إلى قاعة أخرى، حيث بدأ إطلاق النار بشكل عشوائي في الفصول الدراسية والممرات، مستخدمًا مسدسين نصف أوتوماتيكيين. استمر إطلاق النار حوالي 10 دقائق، مخلفًا وراءه عشرات القتلى والجرحى، ثم أنهى القاتل حياته بإطلاق النار على نفسه.

نجم عن الهجوم مقتل 32 شخصًا، معظمهم من الطلاب، وإصابة 17 آخرين بجروح متفاوتة. كان الضحايا من خلفيات وأعمار مختلفة، لكنهم كانوا جميعًا جزءًا من مجتمع الجامعة الذي تعرض لصدمة كبيرة جراء هذا الهجوم الوحشي، وقد تراوحت أعمار الضحايا بين 18 و76 عامًا، وشملت القائمة طلابًا وأساتذة وأفرادًا من طاقم الجامعة.

تشو، وهو طالب في قسم اللغة الإنجليزية، كان معروفًا بأنه شخص منعزل ويميل إلى التصرفات “الغريبة” بحسب وصف أقرانه. قبل الهجوم بساعات، أرسل تشو حزمة تحتوي على مقاطع فيديو ورسائل مكتوبة إلى شبكة “NBC News”، عبر فيها عن غضبه واستيائه من المجتمع بشكل عام. في هذه التسجيلات، وجّه تشو اتهامات لاذعة إلى الأغنياء وأولئك الذين وصفهم بأنهم متعجرفون، مبررًا جريمته بأنها انتقام للضعفاء والمضطهدين.

لاحقًا، أظهرت التحقيقات أن تشو كان يعاني من اضطرابات نفسية شديدة، بينها الاكتئاب، وكان قد تلقى علاجًا نفسيًّا في سنوات سابقة. لكن، رغم معرفته بهذه المشكلات، لم تتخذ الجامعة أو السلطات أي إجراءات فعالة لمراقبته أو مساعدته. كانت حالة تشو النفسية هي العامل الرئيسي وراء الهجوم، حيث لم يتمكن من التعامل مع ضغوط الحياة والدراسة؛ مما دفعه إلى اتخاذ هذه الخطوة المأساوية.

لم يكن لتشو أي انتماء ديني معروف، فقد نشأ في عائلة متدّينة مسيحية ترتاد الكنيسة بانتظام، لكنّ تشو نفسه كانت له علاقة متوتّرة ومشوّهة بالإيمان، إذ أظهرت تحقيقات لاحقة وتصريحاته المكتوبة والفيديوهات التي أرسلها أنه كان يتبنى موقفًا عدائيًّا من الأديان بشكل عام. وقد وصف نفسه بأنه “شهيد” وأعرب عن شعوره بالاستياء والغضب من المجتمع والدّين، مشيرًا إلى أنه يرى في الدين أحد أسباب معاناته واضطهاده الشخصي.

عبر تقصّي تصريحات عديدة، ظهر أنّ تشو يحمل حنقًا وسخطًا شديدين على إيمان والديه المسيحيين، ومن الواضح أنّ علاقته بالدّين متوتّرة، إذ نجده تارة ينتفض غاضبًا من إيمان والديه وتديّنهم، وفي الوقت نفسه يصف نفسه بأنّه أشبه بالمسيح، لأنه يموتُ فداءً للمقهورين والضعفاء.

أعماق الظلام: لماذا تبقى حوادث القتل الجماعي لغزًا معقدًا؟

تؤدي المعتقدات الدينية، والإلحادية، والأيديولوجية دورًا كبيرًا في توجيه سلوك الأفراد وتحديد نظرتهم إلى العالم. في بعض الحالات، يمكن لهذه المعتقدات أن تساهم في تبرير أو تحفيز حوادث القتل الجماعي، خاصة عندما يتم تفسيرها أو استخدامها بطرق متطرفة. من المهم فهم هذه الديناميكيات والعمل على معالجتها من خلال تعزيز الحوار والتفاهم بين الثقافات والمجتمعات المختلفة، وتقليل التهميش والعزلة الاجتماعية، وتعزيز القوانين والسياسات التي تحد من انتشار الأيديولوجيات المتطرفة والعنيفة.

تُعتبر ظاهرة القتل الجماعي موضوعًا مركبًا ومعقدًا يجذب اهتمام الباحثين في علم النفس الجنائي والطب النفسي الجنائي. على مر السنين، تم تطوير العديد من النظريات لتقديم تفسيرات أكثر خصوصية ودقة لهذه الظاهرة. هنا نستعرض بعض النظريات والمفاهيم الحديثة التي تتناول ظاهرة القتل الجماعي بشكل مخصص.

اقترحت الباحثة في حقل الجريمة والسلوك الإجرامي جيليان بيترسون (Jillian Peterson) وزملاؤها أن التعرض المستمر للعنف، سواء في المنزل أو المدرسة أو من خلال وسائل الإعلام، يمكن أن يؤدي إلى تراكم مشاعر العدوان والإحباط. يتسبب هذا التراكم في تجاوز “نقطة الانهيار” عند بعض الأفراد؛ مما يدفعهم إلى تنفيذ أعمال قتل جماعي لتفريغ العنف المكبوت. تشير هذه النظرية إلى أهمية التفاعلات البيئية والاجتماعية في تشكيل سلوكيات الأفراد، وتؤكد أن الوقاية من العنف يجب أن تشمل تقليل التعرض للعنف في جميع جوانب الحياة.

وتشير الأدلة إلى أنّ ظاهرة القتل الجماعي، ليست مسألة الطب النفسي فحسب وليست حكرًا على علم نفس الجريمة، بل إنّ مسؤوليات ضبطها مرهونة كثيرًا بالسياسات العامّة للدولة وأحوال المجتمع، ومن هنا تشير الدراسات إلى أنّ التحكّم الصارم في الوصول إلى الأسلحة النارية يمكن أن يُقلّل بشكل كبير من حوادث القتل الجماعي. يمكن تحقيق ذلك من خلال تشديد قوانين حمل الأسلحة، وزيادة فحوص خلفيات الأفراد الراغبين في شراء الأسلحة، وتقييد الوصول إلى الأسلحة ذات الطابع الهجومي.

وإضافة إلى هذا كلّه يُمكن لتعزيز الدعم الاجتماعي أن يكون وسيلة فعالة للحد من حدوث القتل الجماعي. من خلال بناء شبكات دعم قوية في المجتمعات والمدارس وأماكن العمل، يمكن تقليل الشعور بالانعزال والوحدة الذي قد يدفع بعض الأفراد إلى ارتكاب أعمال عنف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى