Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
خبر عاجل

كيف أرخ الشعر لحقبة الجاهلية ووقائعها وحركة المجتمع فيها؟ | ثقافة


الشعر من أهم مصادر التأريخ لدى العرب، فقد حفظ لنا كثيرا من أخبار الوقائع والأحداث وكثيرا من التفاصيل التي لم تصل إلينا بغيره، ولا عجب، فالشعر ديوان العرب، وسجلهم ومحل فخرهم، وهو الذاكرة النابضة بكل جميل عاشوه، والمحملة بكل أسى عاينوه، فهو عند ابن خلدون في مقدمته “من بين الكلام كان شريفا عند العرب. ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم وشاهد صوابهم وخطئهم، وأصلا يرجعون إليه في الكثير من علومهم وحكمهم، وكانت ملكته مستحكمة فيهم شأن الملكات كلها”.

وهو بهذا المعنى يلتقي مع التاريخ الذي يمثل أيام الناس وأخبارهم وعلومهم في المعنى والغاية، فالشعر العربي وثيقة من الوثائق التاريخية المهمة التي حفظت التحولات الفكرية والحضارية والسياسية والاقتصادية للقبائل العربية، لا سيما في فترة ما قبل الإسلام في العصر الجاهلي، فالتدوين فعليا بدأ في القرن الهجري الثاني، وما قبل ذلك من أحداث نقل شفاهة، وكان الشعر العربي أهم وثيقة تاريخية نقلت دقائق الأحداث وأيام العرب.

ما بين الشعر والتأريخ

في الشعر يبوح الشعراء بما يجول في عقولهم من أفكار وما يعتمل في صدورهم من مشاعر، فيحملون الكلمة عبء البوح والانفعال والإعلان عن اتخاذ الموقف، ويخاطبون الآخر بهدف الإخبار في أحيان، وإحداث الانفعال والتأثير في أحيان أخرى.

وحين يخبر الشاعر عن واقعة لها ما لها في نفسه نراه يروي لنا دقائقها ويصور لنا تفاصيلها حتى ينقلنا على أثير الكلم إلى واقع متخيل يعرض على أذهاننا ما عايشه أو سمعه فتوثق منه، لنشعر بأنفسنا كأننا نعاين ما جرى بقوة الخيال المدعوم بدقائق الوصف والتصوير، ومن هنا توطدت علاقة الشعر بالتأريخ، فصار الشعر كالإعلام للتاريخ، يحفز خيالات المتلقين ليخبرهم بما غاب ذكره عن وثائق التاريخ الأخرى، أو ليكمل رسم صورة لم تكتمل، أو ليضفي لمساته العذبة على الصور الجامدة التي نقلت الأحداث من دون ما كان يلفها من انفعال أو عاطفة، فلغة الشعر مهما حملت من نقل تاريخي لا بد أن تشعر القارئ بما تحمله القصائد من مشاعر المبدع الذي روى ما جرى بأسلوبه الشعري الخاص.

بل إن الشاعر عندما يقوم بتأريخ حدث ما من الأحداث الكبيرة التي يعاينها أو يعيشها قد يكون أوثق من المؤرخ الذي يمارس الرواية المجردة، فالشاعر بطبعه يركز على التفاصيل فينقلها بطريقة تصويرية ترسخ في الأذهان، كما أن الشاعر المؤرخ يحلل الحدث ويفسره ويعلله في شعره، وهذا يضفي على الرواية إضاءات متباينة من زوايا مختلفة تسهم في فهم الصورة الكلية والتفصيلية، كما أن الشعر التأريخي يمتاز بعلو موثوقيته لأنه يغدو رواية عامة يتناقلها الناس بأعداد واسعة تضفي على الإسناد التاريخي مصداقية إضافية.

وإن أردنا الحديث عن تأريخ الشعر لحياة العرب قبل الإسلام فمن نافلة القول أن نذكر أن تلك الحقبة تعرف بكثرة الحروب والسجالات، وقد كان للشعر أثر كبير في نقل الوقائع والأيام والأحداث وإعادة صياغتها وفقا لرؤية الشاعر وموقفه آنذاك، ومن الطبيعي أن يزدهر الشعر في حياة القبائل العربية في زمن الحروب، فبعضه يقال بهدف التحفيز والتشجيع واستجلاب الهمم ونخوة الرجال، وبعضه يقال بهدف التثبيط والحط من شأن الخصم في عيون المقاتلين، وتقرير ذلك لدى مقاتلي الخصم ليشعروا بالوهن والخوف، ويشكوا في قدرتهم على مجاراة من يواجهون في الحروب.

أما القبائل المسالمة التي لم تخض حروبا كثيرة ولم تعش صراعات تذكر فقد خفت وتيرة الأشعار فيها وقل شعراؤها، كقريش مثلا التي كانت تعيش في سلام يتناغم مع مكانتها وسيادتها لمكة المكرمة، قبلة الحجيج العرب الذين لا يرغبون بالدخول في أي صراع، فسدانة البيت العتيق وفرت لقريش الأمان والسلام، مما أدى إلى ازدهار التجارة فيها، فعاشت أمنا عريضا، وبهذا منّ الله عليها كما جاء في كتابه الكريم أنه أطعمها من جوع وآمنها من خوف، وهذا كله أدى بالضرورة إلى قلة حظها من الشعراء تماشيا مع قلة ما خاضته من حروب وعاشته من صراعات، وعن ذلك يقول ابن سلام الجمحي: “وإنما كان يكثر الشعر بالحروب التي بين الأحياء، نحو حرب الأوس والخزرج، أو قوم يغيرون ويغار عليهم، والذي قلل شعر قريش أنه لم يكن بينهم نائرة، ولم يحاربوا”.

حرب البسوس في الشعر العربي

أما عن التأريخ التطبيقي في الشعر العربي لحقبة الجاهلية فإن حرب البسوس تعد من أشهر الحروب التي خلدها التاريخ، وكان للشعر العربي فضل كبير في نقل كثير من دقائقها وتفاصيلها، فقد قامت بين قبيلتي تغلب وبكر بن وائل ودامت نحو 40 سنة، وراح من جرائها خلق كثير حتى كادت القبيلتان تفنيان بعضهما.

وأصل الحكاية باختصار أن كليب بن وائل التغلبي قتل ناقة البسوس، سعاد بنت منقذ بن تميم، خالة جساس بن مرة البكري، ويقال إنه قتل فصيل ناقة البسوس، وذلك لأنها وردت في إبل مرة والد جساس من دون إذن كليب، وهو آنذاك ملك مستحكم لا يبت بأمر في إقليمه مهما صغر من دون إذن منه، حتى ضاق به أهله وأبناء عمومته والأقارب قبل الأباعد، فقتله جساس في ساعة جدال وغضب، فقامت قيامة تغلب وانبرى المهلهل بن أبي ربيعة المعروف بالزير سالم للأخذ بثأر أخيه كليب من بني مرة وبني بكر كلهم.

وما يعنينا حقيقة ليس أصل الحكاية وتفصيلاتها، بل ما ورثته لنا من أشعار كثيرة تروي أحداث القصة وتحمل ما وازاها من مشاعر مختلطة، فترى شعراء بني تغلب وبني بكر وغيرهم من شعراء القبائل الذين عاصروا الحادثة والحرب الممتدة يصورون ما جرى بعيون مختلفة وزوايا متغايرة، فتجد نفسك متخبطا بين التعاطف مع المهلهل الذي يريد أن يثأر لأخيه، وبين جساس الذي تمرد على ظلم ابن عمه وتعنته، ثم تنظر إلى الحكاية بامتداد الزمن وهي ترتسم بأشعار وأقوال اللاحقين الذين حللوا شخصية الملك العربي (كليب) وقرروا أسباب تعنته النفسية والاجتماعية، ونظروا إلى شخصية جساس التي رسمها شعراء قبله فوجدوا فيه العربي الأصيل الذي أجار ضيفه وثار لحميته ونهض فأخطأ حين أصاب.

رواية الشعر العربي لحرب البسوس

كانت البسوس شاعرة من شعراء الجاهلية، ويذكر أن الناقة التي قتلها كليب كانت لجار البسوس سعد بن شمس، وحين رأت البسوس ما أوقعه كليب بالناقة، وهي في جوار ابن أختها جساس بن مرة، صاحت وتفجعت: “واذلاه واغربتاه”، وأنشدت أبياتا تسميها العرب بأبيات الفناء لما تسببت به من حرب فتحت باب الفتنة بين أبناء العمومة فأفنتهم وأهلكتهم، حتى صارت البسوس مثلا للشؤم، إذ يقال في أمثال العرب “أشأم من البسوس”. وقد حشدت البسوس في أبيات الفناء ما يثير جساسا ويحضه على مواجهة كليب الذي لم يعبأ بحرمة الجار ولم يحفظ لأبناء عمومته كرامتهم، بل أخذته العزة بنفسه كل مأخذ، إذ أنشدت:

لعمرك لو أصبحت في دار منقذ
لما ضيم سعد وهو جار لأبياتي

ولكنني أصبحت في دار غربة
متى يعد فيها الذئب يعد على شاتي

فيا سعد لا تغرر بنفسك وارتحل
فإنك في قوم عن الجار أموات

ودونك أذوادي فإني عنهم
لراحلة لا يفقدوني بنياتي

ويقال في تسمية هذه الأبيات “الموثبات” أيضا، فقد أوغرت الصدور وهيجت نزعة الثأر والانتقام، وفتحت أبواب جهنم بحرب لم تبق ولم تذر، فتأثير الكلمة لدى العرب أوسع مما يمكن للمرء تصوره، فكيف بها إذا كانت شعرا؟ وكيف بها إذا كانت من امرأة تستصرخ وتستغيث؟

وهذه الأبيات تؤرخ بدقة شرارة الانفجار الكبير لحرب دامت عقودا من الدم المراق والأحقاد المتبادلة، وهكذا يظهر لنا أن الشعر يحمل ما لا تحمله الأخبار من حروف صارخة ومشاعر متوثبة وعواطف ملتهبة، وإن كان التاريخ نقلا موضوعيا للحدث، فإن الشعر يضفي عليه اللمسة الإنسانية، وينقل تغيرات النفس وما يخالطها في ظل السياق الاجتماعي الذي يمثل الحاضن الثقافي للواقعة.

فبالنظر إلى أشعار المهلهل بن أبي ربيعة في رثاء أخيه كليب تستشعر صدق الحرف وحرقة القلب، لا سيما أن مهلهلا لم يكن يوافق أخاه فيما يذهب إليه كليب من تثبيت حدود الملك وترسيخ قواعد التعامل معه بما لم يعتده العرب من قبل، وبما لا يوافق طبيعة حياتهم ولا يروق لأخلاقهم وفطرتهم في العيش الذي اعتادوه، فجاء مقتل كليب في لحظة نفسية قاسية لدى المهلهل، إذ شعر أنه خذل أخاه قبل مماته، ولن يفعل ذلك بعد مماته، ولو كلفه أن يطيح بكل ما ألفه من أخلاق التعامل مع أبناء العمومة وأبناء العشيرة والقبيلة نفسها، فنجد المهلهل في شعره باكيا أخاه بكاء مريرا، متوعدا بالثأر والانتقام له، مؤرخا للحادثة، ناقلا مرحلة مفصلية من مراحل تلك الحرب:

إن في الصدر من كليب شجونا

هاجسات نكأن منه الجراحا

أنكرتني حليلتي إذ رأتني

كاسف اللون لا أطيق المزاحا

يا خليلي ناديا لي كليبا

واعلما أنه ملاق كفاحا

يا خليلي ناديا لي كليبا

قبل أن تبصر العيون الصباحا

ويح أمي وويحها لقتيل

من بني تغلب وويحا وواحا

يا قتيلا نماه فرع كريم

فقده قد أشاب مني المساحا

كيف أسلو عن البكاء وقومي

قد تفانوا فكيف أرجو الفلاحا

يعد حزن المهلهل على مقتل أخيه كليب أيقونة عربية خالصة في الشعر العربي، وكذلك ثأره وانتقامه، ويقال إن كليبا ترك للمهلهل وصية يحثه فيها على الثأر له، وكان قد كتبها بدمه على صخرة في الموقع الذي غدر به جساس فيه ورماه بسهم أو رمح توسط ظهره، فصار ثأر المهلهل لأخيه بعد هذه الوصية مضاعفا بحمل الأمانة وتحقيق الوصية، فيجيء رد سالم في قصيدة أخرى متوجعا ومتوعدا مهددا في الوقت نفسه:

كليب لا خير في الدنيا ومن فيها

إن أنت خليتها في من يخليها

كليب أي فتى عز ومكرمة

تحت السفاسف إذ يعلوك سافيها

نعى النعاة كليبا لي فقلت لهم

مادت بنا الأرض أم مادت رواسيها

ليت السماء على من تحتها وقعت

وحالت الأرض فانجابت بمن فيها

لا أصلح الله منا من يصالحكم

ما لاحت الشمس في أعلى مجاريها

وعن توثيق جموح المهلهل في النيل من قاتل أخيه وإغراقه في الثأر، وكأنه وجد لنفسه سببا يحيا لأجله، تراه ينشد واصفا نفسه وروح القبيلة كلها بين يدي الصراع الشرس والقتال المرير:

لما نعى الناعي كليبا أظلمت

شمس النهار فما تريد طلوعا

قتلوا كليبا ثم قالوا أرتعوا

كذبوا لقد منعوا الجياد رتوعا

كلا وأنصاب لنا عادية

معبودة قد قطعت تقطيعا

حتى أبيد قبيلة وقبيلة

وقبيلة وقبيلتين جميعا

وتذوق حتفا آل بكر كلها

ونهد منها سمكها المرفوعا

حتى نرى أوصالهم وجماجما

منهم عليها الخامعات وقوعا

ونرى سباع الطير تنقر أعينا

وتجر أعضاء لهم وضلوعا

والمشرفية لا تعرج عنهم

ضربا يقد مغافرا ودروعا

إن في تتبع أشعار العرب ما يعكس لنا صورة مكتملة عن المجتمع العربي آنذاك، بحلوه ومره، وجماله وقبحه، وحنوه وقسوته، فالقارئ للشعر العربي القديم ما قبل الإسلام يكون فكرة شاملة عن طبيعة المجتمع في العصر الجاهلي وطبيعة أفراده.

من أين للتاريخ أن يحفظ حكاية حرب البسوس وأمثالها لولا ما جاء عنها وحولها في الشعر العربي؟ فالتأليف والتدوين لم يكن حاضرا في ذلك الوقت، وكانت طبيعة الإنسان العربي حينها مولعة بالرواية والمشافهة، أو لنقل إنها لم تعرف سبيلا غيرها لنقل الأحداث، فكان الشعر بذلك لسهولة حفظه وتداوله خير وسيلة لحفظ الأحداث بغض النظر عن محاكمتها من جهة الدقة والصدق والكذب، غير أنها في كثير من الأحيان تتطابق مع غيرها من المصادر التاريخية الأخرى، وتزيد عليها، وفي أحيان أخرى لا بد من النظر إليها بحذر وبعين الشك والريبة، فالشعر لا يسلم من تداخلات النفس وأهواء الشعراء وأغراضهم، وخاصة في غرضي المدح والهجاء.

عند اعتماد الشعر بوصفه وثيقة تاريخية فإنه لا يقتصر على الشعر الفصيح، ولا يمكن أن تحاكم الأشعار فنيا فحسب، ولا بد من الحذر في قضية الموثوقية، فالتزيد في التاريخ وتشويه الحقائق عن طريق الشعر وارد، رغم صعوبته لكنه ليس مستحيلا.

ومن الأحداث البارزة التي يؤرخ لها الشعر الجاهلي في تفاصيل هذه الحرب ومراحلها ما جرى مع الحارث بن عباد عندما أﺭﺳﻞ ﺍﺑﻨﻪ بجيرا بهدف الإصلاح ﺑﻴﻦ ﺑﻜﺮ ﻭﺗﻐﻠﺐ، فقتله ﺍﻟﻤﻬﻠﻬﻞ وقال: “ﺑﺆ ﺑﺸﺴﻊ ﻧﻌﻞ ﻛﻠﻴﺐ”، فلما بلغ ابن عباد خبر مقتل ابنه قال قصيدته الشهيرة “قربا مربط النعامة مني”، والنعامة اسم فرسه، إذ أرخ في هذه القصيدة للحادثة كلها، بقلب الوالد المفجوع الموتور:

يا بجير الخيرات لا صلح حتى

نملأ البيد من رؤوس الرجال

 

أصبحت وائل تعج من الحر

ب عجيج الجمال بالأثقال

 

لم أكن من جناتها علم الله

وإني لحرها اليوم صالي

 

قد تجنبت وائلا كي يفيقوا

فأبت تغلب علي اعتزالي

 

وأشابوا ذؤابتي ببجير

قتلوه ظلما بغير قتال

 

قتلوه بشسع نعل كليب

إن قتل الكريم بالشسع غالي

 

يا بني تغلب خذوا الحذر إنا

قد شربنا بكأس موت زلال

 

يا بني تغلب قتلتم قتيلا

ما سمعنا بمثله في الخوالي

 

قربا مربط النعامة مني

لقحت حرب وائل عن حيال

 

قربا مربط النعامة مني

ليس قولي يراد لكن فعالي

 

قربا مربط النعامة مني

جد نوح النساء بالإعوال

 

قربا مربط النعامة مني

لاعتناق الأبطال بالأبطال

 

قربا مربط النعامة مني

لكريم متوج بالجمال

 

قربا مربط النعامة مني

لا نبيع الرجال بيع النعال

 

الشعر الجاهلي مؤرخا حركة المجتمع

يبقى الشعر الجاهلي أحد أهم المصادر التاريخية التي تؤرخ لقرنين أو 3 من الزمن، إذ يتزامن ذلك مع توقف النقوش القديمة، لذلك يكاد يكون الشعر الجاهلي المصدر الوحيد الذي يؤرخ لتلك الفترة في جزيرة العرب قبل الإسلام، وبالنظر إلى شعر عنترة بن شداد تحديدا نجد أنه خير من أرخ لحروب القبائل ووقائعها في أشعاره آنذاك، كما صور لنا المجتمع وما ساد فيه من فخر بالقبيلة وافتخار بالنفس، وما يعليه من مكارم الأخلاق كالشجاعة والحلم وإغاثة الملهوف، وما ينأى عنه من إهانة وغدر وخيانة، وما يحض عليه من أنفة وإغاثة للملهوف، وما يبرأ منه من مثالب الأخلاق ومساوئها.

كما نجد في أشعار عنترة كثيرا من أسماء القبائل التي تناحرت، وأسماء الأيام والحروب التي وقعت، كحرب داحس والغبراء بين قبيلتي عبس وذبيان، وسببها كان رهانا على سباق جرى بين حصان يسمى داحسا وفرس تسمى الغبراء، وكان الرهان بين سيد بني عبس قيس بن زهير وسيد بني فزارة حذيفة بن بدر، ونتيجة الغش والغدر من جهة حذيفة قامت قيامة القبيلتين واقتتلتا نحو 40 عاما، وخلفت لنا هذه الحرب كغيرها ملاحم وقصائد خالدة، ففي ديوان عنترة كثير من ملامح تلك الحرب، تفرد بوصفها وجعل منها سلما ليرقى في ميداني الشعر والفروسية على حد سواء، فلننظر إلى قوله الآتي ذاكرا أسماء الأماكن التي جرت فيها بعض الوقائع فعرفت بها:

فسلي لكيما تخبري بفعائلي

وسلي الملوك وطيئ الأجيال

وسلي عشائر ضبة إذ أسلمت

بكر حلائلها ورهط عقال

وبني صباح قد تركنا منهم

جزرا بذات الرمث فوق أثال

زيدا وسودا والمقطع أقصدت

أرماحنا ومجاشع بن هلال

من مثل قومي حين يختلف القنا

وإذا تزل قوائم الأبطال

نلحظ أن عنترة يذكر في أشعاره كثيرا من أسماء القبائل والأيام والأشخاص، وهو بذلك يعكس تحركات قبيلته عبس، ويعطي صورة واسعة عن حياتها وعلاقاتها السياسية آنذاك، وكذلك حروبها وصراعاتها وامتداداتها في الجزيرة العربية.

وكما يؤرخ الشعر الجاهلي لأيام العرب وحروبها وتشابك العلاقات بين قبائلها، فإنه يؤرخ للقيم الإنسانية الحاضرة في ذلك الوقت أيضا، ليعطينا صورة مفصلة عن تناقضات المجتمع العربي الذي جمع في الآن نفسه بين الظلم المتعاظم والقيم العالية والأخلاق السامية، كالحرب والقتال نصرة لحظ النفس، وإجارة الضعيف الملهوف ونصرة المظلوم، ومن تلك الحوادث التي يؤرخها الشعر الجاهلي ما يقوله عمرو بن كلثوم:

ألم تشكر لنا أبناء تيم

وإخوتها اللهازم والقعور

بأنا نحن أحمينا حماهم

وأنكرنا وليس لهم نكير

ونحن ليالي الأفهار فيهم

يشد بها الأقدة والحصور

كشفنا الخوف والسعيات عنهم

فكيف يغرهم منا الغرور

ومن ذلك أيضا تأريخ زهير بن أبي سلمى لحادثة الصلح الشهيرة بين عبس وذبيان، التي سعى فيها هرم بن سنان مع الحارث بن عوف، وتحملا ديات القتلى ونشرا السلام في غطفان، مما دعا زهير بن أبي سلمى ليمدح هذين العظيمين على ما قاما به من جهود لتوطيد دعائم السلم في الجزيرة العربية، وأرخ للحادثة قائلا:

يمينا لنعم السيدان وجدتما

على كل حال من سحيل ومبرم

تداركتما عبسا وذبيان بعدما

تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم

وقد قلتما إن ندرك السلم واسعا

بمال ومعروف من القول نسلم

فأصبحتما منها على خير موطن

بعيدين فيها من عقوق ومأثم

عظيمين في عليا معد هديتما

ومن يستبح كنزا من المجد يعظم

وهكذا يحدثنا التاريخ بمصادره المتعددة عن واقعة ما فينقل لنا خبرها نقلا مباشرا، غير أن الشعر لا يكتفي بذلك، فالشاعر حين ينقل لنا حادثة ويعمل على تأريخها من حيث لم يقصد، ينقلنا بشعره إلى عالمها الداخلي ويصورها كما تناهت إلى نفسه هو، ويحملها مشاعر من كانوا فيها وفقا لرؤيته، فإن كان التاريخ نقلا للأحداث المهمة والوقائع العظيمة بين الأجيال، فإن ما نقل عن طريق الشعر هو روح الأحداث وحضورها في نفس الإنسان آنذاك.

الشعر وجه من وجوه الحضارات الإنسانية، يحمل ثقافاتها ويطوي في ثناياه عوالمها الداخلية فكرا وعاطفة، وقد حاز مكانة مهمة في مصادر التأريخ للفترة التي سبقت الإسلام، فصور ووصف وأبان، وحدد ملامح الهوية العربية وسلط الضوء على وقائع ما كنا لنسمع عنها لولا ما قيل عنها في الشعر العربي، فصار الشعر بذلك معززا للهوية ورافدا للتاريخ ومعادلا للثقافة، تتوارثه الأجيال فيزدهي ويعلو على مر السنين والأيام بوصفه حاملا للتراث وحافظا للانتماء وشاهدا على الإنسان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى