الإمام المقريزي في الذكرى الـ600 لوفاته.. أرّخ لـ”علمنة” قضائية مملوكية وتتلمذ له الأقباط وألهم تراثه علماء حملة نابليون | تراث
“مصر هي مسقط راسي، وملعب أترابي ومَجْمَع ناسي، ومَغْنَى (= مسكن) عشيرتي وحامَتي (= قرابتي)، وموطن خاصتي وعامتي، وجُؤْجُئي (= صدري) الذي ربَّى جناحي وَكْره، وعشّ مأربي فلا تهوى الأنفس غير ذكره، لا زلتُ مُذْ شَدَوْتُ العلمَ، وآتاني ربي الفطانة والفهم، أرغب في معرفة أخبارها، وأحب الإشراف على الاغتراف من آبارها، وأهوى مسائلة الركبان عن سكان ديارها”!!
بهذه الكلمات عبّر الإمام المؤرخ تقي الدين المقريزي (ت 845هـ/1442م) -في مقدمة كتابه «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار»- عن عميق انتمائه إلى وطنه مصر، وشديد احتفائه بنشأته في حواري مدينته القاهرة ودروبها، وعظيم فضل بلاده عليه في مختلف مراحل سيرته ومسيرته.
وهذه الكلمات تسفر كذلك عن طبيعة المقريزي وطريقته في الكتابة؛ فهو من نوعية العلماء الذي لا يشرعون في التدوين إلا إذا انعقدت صلة بينهم وبين ما يبحثون فيه ويكتبون عنه. ولعل في ذلك تكمن عبقريته لاتصاله الوثيق مع قضاياه البحثية وهمومه المعرفية، وفي الوقت نفسه لا يسمح لعاطفته -في الغالب- بأن تجور على الحقيقة وما تدفع بها من نتائج.
وفي الغالب ترغب هذه الصفوة من العلماء في الانفراد والعزلة مع كُتبها طالبةً معها الأنس وواجدةً فيها الكفاية، وهكذا كانت حياة المقريزي العلمية بعد أن اعتزل العمل الحكومي والنشاط العام، وقرر الانكفاء على مشاريعه العلمية الحافلة في بيته بحارة حارة بَرْجَوَان من حي الجمالية القاهري.
وعزلة المقريزي -أيا كانت أسبابها- سبقتها خبرة عريضة أوثقت صلته بالواقع بكل أبعاده؛ فقد راقب -عبر مناصبه القضائية والإدارية والعلمية وعلاقاته وأسفاره- أحوال العمران والحضارة، وراكم من عصارات التجارب والتأملات ما يؤهله لأن يكون بحق “عمدة المؤرخين” كما وصفه أحد تلامذته المخلصين.
والتاريخ بالنسبة للمقريزي وأضرابه ليس صفحات للنزهة ولا قصصا للسرد ترفيها وتزجية للأوقات، وإنما هو مجال للتأمل باعتباره “ديوان العِبَر” ومخزن “المواعظ والاعتبار”؛ ولذا فهو خير مُعين على تجويد الحياة ومقاومة اليأس بالاستعداد واتخاذ الأسباب الكفيلة بذلك.
وذلك ما فعله المقريزي نفسه في كتابه «إغاثة الأمة» الذي أفرد فيه حيزا واسعا لأخبار المحن والمجاعات، وكان هدفه من ذلك هو إحداث أثر نفسي في القارئ يُبطل عنده الوعي الزائف باستثنائية المحن التي تمرّ بها المجتمعات، ويدفعه إلى التحرر من الانحباس في البلاء المعيش، ويحثه على النظر في دورات الشدة والرخاء الواقعة في الدول عبر التاريخ. وبذلك حرر ما يُعرف بـ “الآفات السماوية” من الإسار الحصري للعامل القَدَري المغلّف بالتواكلية والسلبية الإنسانية، وجعلها في مرمى السُّنن والتدبير والإدارة البشرية الكفؤة التي تدافع الأقدار بالأقدار.
لكن أي أيام تلك التي عاشها المقريزي؟ وفي أي “قاهرة” كان يحيا ابنُ حارة بَرْجَوَان العريقة؟ الإجابة كما يقدمه صاحبنا: هي القاهرة الآفلة بعد ازدهار، والغائبة بعد حضور، وانهيار الحواضر الكبرى والعواصم لا يعني تهدُّم جدرانها بتوالي الضربات القواصم، ولكنها تموت حين ينهار بناؤها الأخلاقي، ويتحلل قوامُها المجتمعي، وينحدر نظامها السياسي على النحو الذي صوّر به المقريزي النخبةَ العسكرية المملوكية في عصره التي كانت تحيا أسوأ أطوارها!
فقاهرة المماليك كانت تتصف بـ”القابلية للأفول” في زمن المقريزي، وعندما يعيش مؤرخ مثله زمن المحن والفتن المؤذنة بالتقهقر والانهيار، جراء فساد وسطوة الحكم العسكري؛ يصبح سؤال العلل والأسباب حاضرا في كل ما يكتبه، جليا فيما يختاره أو يدعه من أخبار ووقائع ومعطيات تاريخية. وعندما يكتب المقريزي عن أيامه التي يعيشها بكل ذلك الوضوح فكأنه يودِعها أمانة في حافظة المستقبل، تنبيها للأجيال القادمة وتبصيرا لها بقطعيات سُنن التاريخ و”طبائع العمران”.
وتقي الدين محدِّث موّثق للآثار ومؤرّخ ممحّص للأخبار، وهو ربيب “المدرسة الخلدونية التاريخية” التي تأسست في القاهرة، وأينعت أفنان دوحتها الوارفة -كما سنرى- بأقلام أعلام من المؤرخين العظام، وهي مدرسة تعليل وتحليل للحدث التاريخي، عبر منهج بحثي يهتم بالأثر الاجتماعي والاقتصادي للخبر والرواية، ولا يقنع بالوقوف على أطلال السياسة ليكتفي بالتساؤل عن أحوال الحاكمين!
وهكذا كان المقريزي -في مختلف كتاباته- السالكَ الأكبرَ للنهج الخلدوني في الكتابة التاريخية، والشارحَ المكين لنظرياته والمطبق الأمين لقواعده، الآخذَ على عاتقه تحويل منهج شيخه إلى منتَج عملي في دراسة التاريخ برؤى عمرانية، بل إن كتابه «إغاثة الأمة» لا يَبعُد أن يكون كتبه تحت إشراف شيخه نفسه.
وإطلاق وصف “الشارح” على المقريزي لا يعني تقليلا من منزلته أو تأخيرا في رتبته بين المؤرخين العظام، بل لعله يفيد العكس تماما؛ فلولا الشراح المخضرمون للمدارس والمذاهب والنظريات لباتت أفكار منشئيها باردة ممتنعة على الفهم والتطبيق، فضلا عن أنّ المقريزي كان شارحا بإحسان الإبداع لا مستظهرا قانعا بالاتباع.
وبالعودة إلى حضور مصر في مشاريع المقريزي التاريخية؛ فإن واقع هذه المشاريع يقضي بأن غالبية مصنفات المقريزي الموسوعية في التاريخ إنما كانت عن مصر إنسانا وسلطانا وعمرانا؛ فقد كتب المقريزي عن الإنسان المصري كيف ما كان: سنيا وشيعيا، قبطيا ويهوديا، فلاحا وصانعا، سلطانا وفقيها، موظفا وتاجرا، وكان شديد الاحتفاء بالوطن، جريء النقد للمواطن، وثيق الحب للمحروسة عميق التشاؤم بمصيرها.
لقد كان المقريزي مستوعبا لكل أبعاد الشخصية المصرية وتنوعاتها، فكان للأقباط حضورهم الخاص في كتاباته بما يكافئ مكانتهم وتأثيرهم في التاريخ المصري قبل الإسلام وبعده، فجاء حديثه عنهم ملمًّا بتاريخهم وتعاليمهم إلماما جعله في حياته مرجعا موثوقا في شؤونهم عقائدَ وعوائدَ، فكان يُرجَع إليه في ذلك للتعلم والإفادة حتى من أعيان الأقباط أنفسهم.
وقد انفردت بحوث المقريزي بدراسات ضافية عن تاريخ الفاطميين دعوةً ودولةً؛ فرصد تفاصيل ذلك التاريخ بأوفى ما يكون الرصد ووثّقه بأتم التوثيق، وبذلك حاز الأسبقية -بين المؤرخين- في إدخال هذا التاريخ الحافل بالأفكار والنُّظُم والأحداث ضمن حلقات التاريخ الإسلامي العام ولاسيما ما يخص منه مصر، ووضْعه تحت أشعة النقاش النزيه دون مجاملة أو ميل على حساب الحقيقة.
ومما يتعلق بذلك التاريخ مسألة تخصّ شخصية المقريزي وعائلته، وهي “نسبه الفاطمي”؛ فقد توصلت هذه المقالة -انطلاقا مما كتبه هو نفسه- إلى أنه لم يَنسب نفسه صراحة إلى الفاطميين، ولم يُورد أي تفاصيل كاشفة عن أصوله البعيدة بعد جَدّه العاشر، وأن دعوى هذا الانتساب مرتبطة بالرأي الذي أيده المقريزي والقاضي بإثبات نسب الفاطميين إلى آل البيت. على أن المقالة لم تخلُ من استدراك يصحِّح بعض ما أورده بعض كبار الأئمة في هذا الموضوع، مبرهنةً على أن الجَدّ الذي روَوْا انتسابه إليه لم يعقِّب ذريةً بالمطلق؛ بحسب ما أثبته المقريزي ذاتُه في أحد كتبه!!
بقيت نقطة مهمة مما تتحفنا به كتابات المقريزي فيما هو من صميم قضايا واقعنا المعاصر؛ وهي تلك التي تتعلق بكشفه لجذور الاختراقات التشريعية والقانونية الدخيلة ممثلة في إدراج القانون المغولي في بنية النظام القضائي الإسلامي أيام دولة المماليك بمصر والشام، مقدِّما بذلك ما يمكن اعتباره تأريخا نادرا لـ”علمنة قضائية” مبكرة في تاريخنا، وتحليليا معرفيا رصينا يصلح للاسترشاد به في تفكيك الاختراقات التشريعية الغربية المعاصرة لنظامنا القضائي، والتي وقعت عبر نفس المسارين اللذين تحدث عنهما المقريزي، وهما: القضاء المختلط والنخبة المنحازة للدخيل الوافد!
إن هذه المقالة تتوخى استحضار أبرز معالم حياة المقريزي -شخصًا ونَصًّا- في هذه اللحظة التاريخية التي تظللنا فيها الذكرى الستمئة لوفاته، لا لتأبين شخصه أو تبيين فضله ولكن ردًّا للاعتبار إلى مدرسة فذة في الكتابة التاريخية وطريقتها الفريدة في “المواعظ والاعتبار”، واستلهاما لمنهجها العلمي في “إغاثة الأمة” في لحظة تتقاطع فيها آلامنا بين الأمس واليوم.. وتتطابق آمالنا بين اليوم والغد!!
نشأة خاصة
وُلد أحمد بن علي المقريزي سنة 766هـ/1365م في حارة بَرْجَوَان الراقيةِ أيامَها بالقاهرة المملوكية، ونشأ في عائلة أمدنا بسلسلة نسبها الكامل -في ترجمته لوالده من كتابه ‘السلوك‘- فعرّفنا عبرها بنفسه قائلا إنه: أحمد بن “علاء الدين علي بن محيي الدين عبد القادر بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن تميم بن عبد الصمد بن أبي الحسن بن عبد الصمد بن تميم المقريزي”.
وعن أصل نسبة “المقريزي” الغريبة التي اشتهر بها صاحبنا؛ يفيدنا صديقه الوفيُّ له الإمامُ ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) في كتابه ‘المجمع المؤسس للمعجم المفهرس‘- بأنها “نسبة إلى حارة المقارزة ببعلبك، نزل بها جَدُّه الأعلى: إبراهيم بن محمد”.
وإلى جده المحدِّث محيي الدين عبد القادر بن محمد (ت 733هـ/1333م) تعود المكانة العلمية التي اشتهرت بها أسرة المقريزي، ولعله كان أول أفرادها انتقالا من بعلبك إلى دمشق التي أصبحت مستقرا للعائلة، وذلك بعد أن “جَدَّ في الطلب [للعلوم] واعتنى بالفن (= علم الحديث)…، وقرأ بنفسه وسَمِع [الحديثَ] ببعلبك ودمشق وحمص وحلب ومصر والإسكندرية، وغيرها من البلاد”؛ طبقا لابن حجر العسقلاني في ‘الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة‘.
وقد مكّنه هذا التحصيل العلمي الواسع من تبوؤ مكانة علية في الجماعة العلمية في الشام ومصر، فكان حسب حفيده المقريزي “فقيها حنبليا محدِّثا جليلا…، وحدَّث وكتب بخطه كثيرا وقرأ كثيرا، وقدِم القاهرة وعُدَّ من أعيان الفقهاء المحدِّثين”، وذلك بعد أن رسّخ قدمه في الساحة العلمية الدمشقية التي اشتهرت آنذاك بريادتها في مدارس الحديث النبوي التي رسّخت وجود الحنابلة في الشام، وكان السلطان نور الدين محمود زنكي (ت 569هـ/1173م) أول من استحدثها، فالمقريزي يخبرنا بأنه “أول من بنى دار حديث على وجه الأرض الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق”.
ومن أبرز تلامذة المقريزي الجد الإمامان عَلَم الدين البِرْزالي (ت 739هـ/1338م) وشمس الدين الذهبي (ت 748هـ/1347م) الذي ترجم له -في كتابه ‘المعجم المختص بالمحدثين‘- مصرِّحا بأخذه عنه وإفادته منه؛ فقال إنه “الشيخ الفقيه المحدث العالم محيي الدين البعلبكي المقريزي الحنبلي…، وحصَّل ونَسَخَ كُتُبًا مفيدة، وله مشاركة في علوم الإسلام، وله مسجد ومشيخة الحديث بالبهائية (= مدرسة بدمشق) وغير ذلك. علَّقت (= نقلتُ/لخّصتُ) عنه فوائدَ”.
وعلى خُطى الجَدّ العلمية سار ابنُه -وهو الوالد المباشر لصاحبنا- علاءُ الدين علي بن عبد القادر (ت 786هـ/1384م) الذي وُلد في دمشق فنشأ فيها وطلب العلم، ثم جاء إلى القاهرة فاستوطنها “وولِيَ بها بعض ولايات من متعلقات القضاة”؛ وفقا لابن حجر في ‘الدرر الكامنة‘. أما المقريزي الابن فقد ذكر -في كتابه ‘السلوك‘- أن والده “باشر التوقيع السلطاني وعدة وظائف، وكان الأغلب عليه صناعة كتابة الإنشاء والحساب، مع دِين متين وعقل راجح رصين”!!
وفيما يخصّ موضوعنا من سيرة المقريزي الوالد؛ فإن الأهم من تلك الوظائف والأبقى أثرا هو أنه تعرّف -أثناء إقامته في القاهرة- على أحد أعلام الحياة العلمية والأدبية، وهو الإمام شمس الدين محمد بن عبد الرحمن ابن أبي الحسن الزُّمُرُّدي الحنفي المعروف بابن الصائغ (ت 776هـ/1374م)، الذي كان “قاضي العسكر مفتي دار العدل أحد الفقهاء الحنفية وشيخ العربية والأدب”؛ طبقا لسبطه المقريزي المؤرخ في كتابه ‘السلوك‘، الذي يسجل أن جده هذا تقلد سنة 764هـ/1363م وظيفة “إفتاء دار العدل، وهو أول حنفي ولي إفتاء دار العدل”، ويصفه بأنه كان “من الأفراد في أمور الدين والدنيا”!!
وقد تزوج علاءُ الدين المقريزي -في سنة 765هـ/1364م- بأسماء بنت شمس الدين ابن الصائغ (توفيت 800هـ/1397م)، التي يبدو أنها كانت على حظ مقدَّر من العلم والثقافة الأدبية على غرار النساء العالمات في حضارتنا الإسلامية؛ فقد ترجم لها ابن حجر -في ‘الدرر الكامنة‘- فقال إنها “كانت عاقلة فاضلة دينة، عَمِلَ لها ولدُها الشيخ تقي الدين ترجمةً جيدة، وحدَّث عنها وعن أبيها بشيء من شعره”.
وترجمة ابنها لها -التي أشار إليها ابن حجر- موجودة في الجزء الأول من كتابه «درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة»، وقد وصفها بأنها “ما كان في عصرها مثلها”! كما ذكرها أيضا في كتابه ‘السلوك‘ راويًّا عنها بعض سماعاتها من والدها، فقال: “ولقد سمعتُ أمي أسماء ابنة محمد بن عبد الرحمن ابن الصايغ الحنفي… إلخ”!
أنجب الوالدان العالمان صاحبَنا المقريزي فاعتنيا بتعليمه وتربيته في منزل جَدّه بحارة بَرْجَوَان في حي الجمالية بمدينة القاهرة. وكان جدّه لأمه “فاضلا بارعا، حسن النظم والنثر، كثير الاستحضار، قوي البادِرة (= البديهة)، دمث الأخلاق”؛ حسب ابن حجر في كتابه ‘إنباء الغُمر‘. كما يذكر عنه -في ‘الدرر الكامنة‘- أنه “كان ملازما للاشتغال (= التدريس) كثير المعاشرة للرؤساء” من الأمراء وأعيان رجال الدولة.
نبوغ مبكر
ويبدو أن مؤلفات الجَد -التي تغلب عليها المصنفات اللغوية- كانت فواتحَ ما قرأه المقريزي في أوائل رحلته التعليمية؛ تلك الرحلة التي يلخص لنا معالم حصادها (علوما وأعلاما) تلميذُه المخلص المؤرخ ابن تَغْري بَرْدي (ت 874هـ/1469م) -في كتابه ‘المنهل الصافي‘- فيقول إنه “تفقّه على مذهب الحنفية وهو مذهب جده العلامة شمس الدين محمد بن الصائغ، ثم تحوَّل شافعيا بعد مدة طويلة لسبب من الأسباب ذكَرَه لي…، وبَرَعَ وصَنَّف التصانيف المفيدة النافعة الجامعة لكل علم، وكان ضابطا مؤرخا مفنّناً محدِّثا”.
ولئن كان ابن تَغْري بَرْدي -وهو من مشاهير فئة المماليك العلماء– لم يفصح عن سبب تحوُّل شيخه المقريزي عن مذهب جده الحنفي إلى الشافعية، مما يدل على نبوغ مبكر واستقلالية علمية؛ فإن صديقه ابن حجر أرجعه إلى سببين: ذاتي وموضوعي، وإن عبّر عنهما بصورة مجملة إن لم تكن غامضة، فقال -في ‘المجمع المؤسس‘- إن تقي الدين “لما تيقَّظ ونَبُهَ تحوَّل شافعيا”، وذكر -في ‘الدرر الكامنة‘- أنه كان “محبًّا لأهل السُّنة يميل إلى الحديث والعمل به حتى نُسِب إلى [مذهب] الظاهر”، وهو يقصد “المذهب الظاهري” في الفقه.
ولعل النزعة الظاهرية لدى المقريزي سبقت انتماءه إلى المذهب الشافعي، وهو ما يذكّر بالعلاقة الوطيدة بين المذهبين حتى إن الانتماء لأحدهما كان يقود أحيانا إلى اعتناق الآخر، كما حصل مع أبرز عَلَمين من رجال الظاهرية تأثر بهما المقريزي، وهما الإمام الأندلسيان أبو محمد ابن حزم الظاهري (ت 456هـ/1065م) وأبو حيّان الغرناطي (ت 745هـ/1344م)، فأولهما كان شافعيا قبل ظاهريته، والثاني كان ظاهريا قبل شافعيته!!
ويحدد لنا الإمام السخاوي (ت 902هـ/1494م) -في كتابه ‘الضوء اللامع‘- السن التي تحول فيها المقريزي عن مذهب جده ابن الصائغ قائلا: “لما ترعرع -وذلك بعد موت والده في سنة ست وثمانين (= 786هـ/1384م) وهو حينئذ قد جاز العشرين- تحوَّل شافعيا واستقرّ عليه أمرُه”.
ورغم تصريح زملاء المقريزي وتلامذته بانتقاله إلى الشافعية؛ فإن المؤرخ عبد الباسط ابن شاهين المَلَطي (ت 920هـ/1514م) يرى أنه ظل يزاوج بين الشافعية والظاهرية في الانتماء المذهبي، فقد وصفه -في كتابه ‘نيل الأمل‘- بأنه “الحنفي ثم الشافعي، بل الظاهري فيما قيل عنه وما يُشعر من عباراته وإشاراته”!! بل إن باحثا معاصرا مثل المستشرق الألماني رودولف شتروتمان (ت 1380هـ/1960م) لاحظ شيوع نزعته الظاهرية في عموم مصنفاته فقال إن “المقريزي يكتب بروح ظاهرية”؛ طبقا لما جاء في مادة كتبها شتروتمان عن “الظاهرية” في الكتاب الاستشراقي الجماعي ‘موجز دائرة المعارف الإسلامية‘.
وقد ربط مترجِمو المقريزي بين شغفه بعلم الحديث والميل إلى المذهب الظاهري، إلى درجة ما نلاحظه -في تصانيفه- من نقله الآراء الفقهية لهذا المذهب والثناء العظيم على رجالاته في عصره، وكذا ورد في كتبه احتفاء جليّ بسيرة ومسيرة الإمام ابن تيمية (ت 728هـ/1328م)، حتى إنه احتذى حذوَه في كنيته “أبو العباس” وفي لقبه العلمائي “تقي الدين”. هذا مع ما أظهره المقريزي من أسف عميق على ضياع مؤلفات هذا الإمام باعتباره “وارث علم النبوة”؛ فقال -ضمن ترجمته له في ‘المُقفَّى‘- إن كُتُب ابن تيمية “أكثر ما يوجد منها الآن بأيدي الناس قليل من كثير، فإنه أُحرِق منها شيء كثير، ولا قوة إلا بالله”!!
وتلك كلها قرائن تشير إلى أن تحوُّله من الحنفية إلى الشافعية مرتبط أكثر بميوله الأثرية التي يظهر أنه وجد تلبية لها في المذهب الشافعي. ولا يغيب عن البال هنا أن المذهب الشافعي عُرف بإسهامه التوفيقي بين مذهب أهل النظر (الحنفي وهو مذهب عائلة أمه) ومذهب أهل الأثر (الحنبلي وهو مذهب عائلة أبيه)، وكأن المقريزي آثر أن يتخذ لنفسه مذهبا وسطا لا ينحاز فيه مذهبيا إلى أحد فرعيْ عائلته! وإن كان تلميذه ابن تَغْري بَرْدي يسجل عليه -في ‘المنهل الصافي‘- أنه “كان كثير التعصب على السادة الحنفية وغيرهم لميله إلى مذهب الظاهر”!!
على أنه لا يمكن استبعادُ عاملٍ كثيرا ما كان له اعتباره في ظاهرة “التحول المذهبي” التي شاعت قبل بين العلماء عصر المقريزي ثم بلغت أوْجَها فيه؛ ألا وهو عامل طلب النفاذ إلى الوظائف الدينية الكبرى بمصر والشام، التي كان علماء الشافعية يحظوْن بأولوية التوظيف فيها طوال عهود الدولة الأيوبية ووريثتها المملوكية.
لكن المقريزي مع ذلك التحول يبدو أنه ظل يقدم أهل الحديث والأثر حتى عُدّ في أصحاب مذهب الظاهر، رغم أنه “كان لا يَعْرِفُه”؛ وفقا للسخاوي الذي يبدو أنه حوّر عبارة شيخه ابن حجر في هذا المقام، وهي قوله إن المقريزي “كان يُتَّهم بمذهب ابن حزم ولكنه كان لا يُعْرَف به”! والفرق جليّ بين العبارتين، ويبدو أن المقريزي كان يخفي علاقته بالظاهرية -وهو مذهب مسخوط على أهله- كما أخفى انتماءه الفاطمي، والدافع الظرفي وراء الموقفيْن واحد وواضح!
وبكل حال؛ فإن هذه التركيبة -التي صاغت الشخصية المعرفية للمقريزي- كانت قابلة للتحقق كما نجده في شخصيات ترجم لها هو نفسه، ولعل نموذجها الأوضح هو الإمام أبو حيان الغرناطي الذي وصفه المقريزي -في كتابه ‘المقفَّى الكبير‘- بأنه “كان ظاهري المذهب، متعصبا لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، مائلا إلى مذهب الإمام الشافعي، معظِّما لتقي الدين أحمد بن تيمية مصوِّبا لرأيه”!!
فهذا الوصف المعرفي المذهبي التركيبي ينطبق تماما -في الواقع- على المقريزي نفسه، لاسيما أن أبا حيان كان شيخا لجده ابن الصايغ، ويبدو أن المقريزي تأثر أيضا بمصنَّفٍ لأبي حيان جاء في سرده لمؤلفاته، وهو كتاب: “الأنور الأجْلَي في اختصار «المُحَلّى»” في فقه الظاهريّة لابن حزم”.
انتماء فاطمي؟
تلك كلمة عن الانتماء العائلي الضيق للمقريزي؛ أما عن الاعتزاء النَّسَبي الأبعد والأوسع نطاقا فهو ذاك الذي يمتُّ به مؤرخنا إلى البيت الهاشمي من بوابة الفرع العَلَوي في نسخته الممثَّلة بالسلالة الفاطمية الشيعية التي حكمت مصر طوال قرنين ونصف قرن، رغم أنه عادةً “لا يميل المؤرخون السُّنّة -بشكل عام- للفاطميين، فلا نكاد نجد بينهم -فيما عدا المقريزي وابن خلدون (ت 808هـ/1406م)- من يُقِرُّ بصحة نَسَبهم العلوي”؛ وفقا للمستشرق جورج مارسيه G. Marcais (ت 1382هـ/1962م) في بحثه المنشور عن الفاطميين في كتاب ‘موجز دائرة المعارف الإسلامية‘.
وإذا كان جليا في كتب المقريزي أنه لم يَنسب نفسه صراحة إلى الفاطميين، ولم يُورد أي تفاصيل كاشفة عن أصوله البعيدة، ولا عن مسار أسرته عبر الأجيال، ولا يتجاوز في حلقات سلسلة نسبه جَدَّه العاشر عبد الصمد بن تميم؛ فإن روايات بعض الثقات من معاصريه الواردة عن نسبه تذكر أن “تميمًا” هذا هو: تميم بن المعزّ لدين الله (ت 374هـ/985م) الذي يُعدّ رابع الخلفاء الفاطميين، وأول خلفائهم في مصر ومؤسس عاصمتها الفاطمية القاهرة، ويحظى في كتب المقريزي بقدر من التبجيل إذ يلقبه -في ‘السلوك‘- بـ”أمير المؤمنين الإمام المعز لدين الله أبو تميم مَعَدّ الفاطمي”.
وبالنسبة للمؤرخين ففيهم من ينقل عن المقريزي انتسابه إلى الفاطميين، ومنهم من يتحفظ بشأن ذلك. ومن الفريق الأول صديقه الحافظ ابن حجر العسقلاني الذي يروي عنه “أن أباه ذَكَر له أنه من ذرية تميم بن المعز باني القاهرة”، ولكن العسقلاني يستدرك معلِّلا سكوت المقريزي عن إثبات هذا النسب في مصنفاته بأنه كان “لا يُظْهِر ذلك إلا لمَنْ يَثِق به” من مقربيه!!
واللافت أن بعض المترجمين له يصفونه بـ”العُبَيْدي” نسبةً له إلى عُبيد الله المهدي (ت 322هـ/934م) مؤسس الدولة الفاطمية في الغرب الإسلامي، والذي يَعُدُّه الفاطميون أولَ خلفائهم. والنسبة بـ”العُبَيْدي” هذه يستخدمها بعض نُفاة صحة النسب العلوي عن الفاطميين. وكذلك تحضر عند بعض من يتهم المقريزي بالانحياز إليهم في مؤلفاته، وأشهرُهم السخاوي وعبد الباسط المَلَطي، والعجيب أن أيا من الفريقين لم يقطع بصحة نسبه إلى عُبيد الله المهدي رغم نسبتهم إياه إليه!!
ثم إننا نجد أن أقرب مؤرخيْن إلى المقريزي -وهما صديقه المخلص ابن حجر وتلميذه المقرَّب ابن تَغْري بَرْدي- يكتفيان بذكر الترجمة دون أي نسبة تكشف هويته العائلية، ولم يضيفا في عمود نَسَبه ما لم يضفه المقريزي إلى نفسه.
وقد تجنب ابن تَغْري بَرْدي التطرق إلى مسألة النسب الفاطمي عندما ترجم له في كتابه «المنهل الصافي»، لكنه استدرك ذلك في مؤلَّفه «النجوم الزاهرة» الذي صنّفه بعد “المنهل”؛ حيث قال: “وأمْلَى عليّ نسبَه الناصريُّ محمدُ ابنُ أخيه (= ناصر الدين محمد بن محمد بن علي المقريزي المتوفى بعد 845هـ/1442م) -بعد موته- إلى أن رفعه إلى علي بن أبي طالب (ت 40هـ/661م) رضي الله عنه من طريق الخلفاء الفاطميين”.
وهو ما سبقه إليه ابن حجر عندما أورد -ضمن ترجمته للمقريزي في ‘إنباء الغمر‘- مستمسكَ ذلك الانتساب نقلا عن أخي المقريزي بلا واسطة؛ فقال: “وذكر لي ناصر الدين أخوه أنه بحث عن مستند أخيه تقي الدين في الانتساب إلى العُبَيْديين، [فـ]ـذَكَر له أنه دخل مع والده جامع الحاكم [بالقاهرة]، فقال له وهو معه في وسط الجامع: يا ولدي! هذا جامع جَدّك”!!
ويضيف ابن حجر واقعة أخرى كان فيها شاهدا على وجود مَنْ يثبت النسب الفاطمي للمقريزي بمحضره، بقدر ما كان شاهدا أيضا على تحفُّظ صديقه عن كشف ذلك وتأكيده للعامة؛ فيقول: “وقد رأيتُ بعض المكيين قَرَأ عليه (= المقريزي) شيئا من تصانيفه، فكَتَبَ في أوله نَسَبَه إلى تميم ابن المعزّ بن المنصور بن القائم بن المهدي عُبيد الله القائم بالمغرب قبل الثلاثمئة، والمعزّ هو الذي بُنيتْ له القاهرة، وهو أول من ملك من العُبيديين؛ فالله أعلم. ثم إنه (= المقريزي) كَشَطَ ما كتبه ذلك المكي من أول المجلد، وكان في تصانيفه لا يتجاوز في نسبه عبد الصمد بن تميم”.
وفي ترجمته لوالد المقريزي؛ قال ابن حجر في ‘الدرر الكامنة‘: “وأخبرتُه (= المقريزي) أني رأيتُ في ترجمة جَدِّه عبد القادر -بخط الشيخ تقي الدين ابن رافع (= محمد بن هِجْرِس بن رافع السَّلَامي المتوفى 774هـ/1372م)- أنه أنصاريُّ [النَّسَب]، فلم يلتفت إلى ذلك”! وأكد نسبته الأنصارية أيضا في كتابه ‘المجمع المؤسس‘: “وقرأتُ بخط الشيخ تقي الدين ابن رافع في ترجمة عبد القادر (= جد المقريزي) وقد نَسَبَه أنصاريا”.
استدراك وتصحيح
إن المستند الوحيد -لدى مؤرخي عصر المقريزي الثقات- في قضية إثبات نسبه الفاطمي هو كلام والده المنقول عنه مباشرة، أو عبر أخيه بلا واسطة كما لدى ابن حجر، أو بواسطة ابن أخيه كما عند ابن تَغْري بَرْدي. وكذلك حديثهم أن المقريزي كان يكتم ذلك النسب ولا يبوح به إلا في الدوائر الضيقة من اللصيقين به، وكما قال السخاوي فإنه “لم يكن يتجاوز -في تصانيفه في سياق نسبه- [جَدَّه] عبدَ الصمد بن تميم، وإن أظهر زيادة على ذلك فلِمَنْ يَثِقُ به” من خُلَصاء الخُلطاء.
ورغم أن أصحاب هذه النقول أعلام ثقات فإن القول بهذا الانتساب الفاطمي لم يكن مقنعا لأولئك المؤرخين، ولاسيما إذا تضارب مع شواهد أخرى، بل إنه يبدو مستغرَبا أن يعزوَ ابن حجر إلى المقريزي القولَ بأنه من ذرية تميم بن المعز لدين الله، وذلك لسبب بسيط أورده المقريزي نفسه حينما قال -في كتابه ‘المُقَفَّي الكبير‘- إن هذا الجَد المزعوم لم يكن له نسل ولا ولد بشهادة والده المعزّ.
فقد “كان الذي دعا المعزَّ إلى خلع تميم من [ولاية] العهد أنه رأى أنه لا يُعَقِّبُ” ذريةً بالمطلق!! وقد توفي تميم هذا وعمره 38 سنة حسبما يخبرنا به قاضي القضاة شمس الدين ابن خلّكان (ت 681هـ/1282م) ضمن ترجمته له في ‘وفيات الأعيان‘. والعجيب أن المترجِمين للمقريزي -من القدامى والمعاصرين- لم ينتبهوا إلى هذا النص الذي أورده المقريزي نفسه في أهم كتبه التراجمية، والقاطع بالنفي الضمني لانتسابه إلى تميم بن المعز كما تفيده نقول صديقه ابن حجر على مكانته وجلالته.
وثمة رأي آخر في نسب المقريزي أورده المؤرخ موفّق الدين سبط ابن العجمي (ت 884هـ/1479م) -في ‘كنوز الذهب في تاريخ حلب‘- نقلا عن أحد علماء عصره، قال إنه “وَجَد في كتاب قديم نسبةَ الخلفاء العلويين (= الفاطميين) وعَقِبهم وما تخلف عنهم من ذريتهم رجلًا رجلًا وامرأةً امرأةً”، وأنه كان مما وقف عليه في ذلك نسبة جَدّ المقريزي الأعلى -وهو عبد الصمد بن تميم- إلى ولد للخليفة الفاطمي المعز لدين الله غير “تميم”؛ فجاء نسبه عنده كالتالي: “عبد الصمد بن تميم بن علي بن عَقيل بن المعز مَعَدّ بن المنصور إسماعيل بن القاسم بن المهدي عُبيد الله”.
فإن صحت هذه الرواية -التي لا يُخفي ناقلُها اتهامَ صاحبها بالكذب في مروياته- فإنها تصلح لإزالة التعارض الظاهر بين رواية ابن حجر عن انتساب المقريزي إلى تميم ابن المعز، وكلام المقريزي نفسه النافي لوجود عَقِب له من الأساس!!
أما البديل عن هذا المنزع التوفيقي فهو أحد احتمالين: أولهما صحة النسب الفاطمي وأن المقريزي لم يعزز ذلك الخبر الذي وصله من أبيه بأي بحث تاريخي أو تنقيبي لسبب يخص طبيعة عصره ومصره، خاصة أن غالبية من علماء السنة يُبْطلون إثباتَ النسب العلوي للفاطميين، ومحاولة المقريزي إثبات صحة انتمائه إليهم كان سيعرّض للخطر مكانتَه الاجتماعية وربما سلامته الشخصية.
والاحتمال الثاني أنه “استرْوَحَ إلى ذِكر مناقب سَلَفه” بتعبير الإمام بدر الدين الشوكاني (ت 1250هـ/1834م) في كتابه ‘البدر الطالع بمحاسن مَنْ بَعْد القرن السابع‘، فاستطاب ذلك الخبر الذي سمعه من والده في جامع الحاكم بأمر الله الفاطمي (ت بعد 411هـ/1021م)، وسَعِد باتصاله بالدوحة النبوية لما يعنيه ذلك من شرف عائلي عظيم، لاسيما أن المقريزي ظلّ حفيًّا في كتاباته بآل البيت واخبارهم، بل وخصّص لهم بعض مؤلفاته مثل: «إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والحفدة والمتاع»، و«معرفة ما يجب لأهل البيت النبوي على من عداهم»، وهو بالتأكيد سيكون سعيدا بذلك “الانتساب” حتى وإن كان غيرَ موثوق به!
وربما كان هذا “الانتساب” هو الدافع الأبرز لدى المقريزي لوضع تلك المصنَّفات الوافرة والفريدة عن تاريخ الفاطميين، بحيث حظي عصرهم في مصر بميزة كتابة المقريزي الموسوعية عنه، ولاسيما في كتابه «اتعاظ الحنفاء» الذي استطاع به أن يُدرج الفاطميين (دعوةً ودولةً) في السياق العام للتاريخ الإسلامي على نحو غير مسبوق -في عمقه وإحاطته- في المدونات التاريخية الإسلامية السُّنية، وكأنه أراد بذلك أن يعوِّض إخفاقه هو وشيخه ابن خلدون في دمج الفاطميين نَسَبيًّا في السلالة الهاشمية!!
والحق أن نجاح المقريزي في “تطبيع” التاريخ الفاطمي في السياق السُّني لم يتوفر لأي زمن آخر من أزمنتهم، وهو ما يؤكده أبرز مؤرخي الإسماعلية المعاصرين الأكاديمي الإيراني د. فرهاد دفتري الذي قال -في كتابه ‘الإسماعيليون: تاريخهم وعقائدهم‘- إن المقريزي “أنتجَ أكثرَ الروايات شموليةً عن الفاطميين في عدد من كُتُبه”، وبفضل أعماله تلك “تعدّ الفترة الفاطمية من أفضل الفترات توثيقا في التاريخ الإسلامي”.
ومما يعزز تفرُّد إسهام المقريزي هذا في كتابة التاريخ الفاطمي؛ كونُه يعتبر أهم الأعمال التاريخية منذ تصنيف كتاب «افتتاح الدعوة» لمؤسس الفقه الإسماعيلي وقاضي قضاة الدولة الفاطمية أبي حنيفة النعمان بن محمد (ت 363هـ/974م)، الذي يصفه دفتري بأنه “أقدم عمل تاريخي معروف في الأدب الإسماعيلي، ويغطي الخلفية التي أدت إلى تأسيس الخلافة الإسماعيلية”.
بل إن كتابات الفاطميين أنفسهم عن تاريخهم كانت من الندرة بحيث إنه “لم تشهد قرون العصر الوسيط المتأخرة سوى كتابة عمل تاريخي إسماعيلي عام واحد على يد مؤلف إسماعيلي، وهو «عيون الأخبار» لإدريس عماد الدين (ت 872هـ/1468م) الداعي الطيبي (= نسبة إلى فرقة “الطَّيِّبية” من الدعوة الفاطمية) التاسع عشر في اليمن”؛ وفقا لدفتري.
كما وصف دفتري -في ‘معجم التاريخ الإسماعيلي‘- كتابَ «اتّعاظ الحنفاء» للمقريزي بأنه “تاريخ شامل للأسرة الفاطمية المالكة…، وهو التاريخ الحيادي الوحيد للفاطميين من تأليف كاتب سُنّي المذهب، كان يدعي انتسابه إلى الفاطميين”!!
وإذا كانت جملة دفتري الأخيرة قد يُفهم منها أنها تعليل لـ”حيادية” المقريزي في كتابته التاريخية عن الفاطميين؛ فإن الإمام الشوكاني سبقه إلى الربط بين ذلك الانتساب والاستغراق الذي عُرف به المقريزي في التاريخ الفاطمي والنَّفَس غير المألوف الذي عالجه به؛ وذلك عندما قال إن انتسابه إلى الفاطميين جعله “ينشر محاسن العُبَيدية ويفخّم شأنهم ويشيد بذكر مناقبهم”!!
ولا يَبعُد من هذا المنطق الإمامُ ابن حجر الذي رأى أن هذا الانتماء هو سبب عمق علاقة المقريزي بشيخهما ابن خلدون؛ فقال عنه في ‘رفع الإصر عن قضاة مصر‘: “والعجب أن صاحبنا المقريزي كان يُفْرط في تعظيم ابن خلدون لكونه كان يجزم بصحة نسب بني عُبيد -الذين كانوا خلفاء بمصر وشُهِروا بـ«الفاطميين»- إلى عليّ، ويخالف غيرَه في ذلك، ويدفع ما نُقل عن الأئمة في الطعن في نسبهم ويقول: إنما كتبوا ذلك المحضر مراعاة للخليفة العباسي. وكان صاحبُنا ينتمي إلى الفاطميين فأحبَّ ابنَ خلدون لكونه أثبت نسبتهم”!! ولكن ابن حجر مع ذلك يشهد -في ‘الدرر الكامنة‘- لصديقه المقريزي بأنه كان “محبًّا لأهل السُّنة يميل إلى الحديث والعمل به”، وهو ما ينفي عنه أي قصد مُغرِض في كتاباته عن الفاطميين.
وظائف سامية
سلك المقريزي -في مفتتح حياته- طريقَ الوظائف الرسمية اقتداء بوالده، وهو مسلك مصري معروف حيث تفضل أسر الطبقة الوسطى في المحروسة العمل الحكومي والالتحاق بالوظيفة الرسمية ذات الدخل المنتظم، عن أي حرفة أو صنعة أو عمل حُرّ، وقد فضل المقريزي اختيار الوظيفة على العمل الحر، ومضى على درب والده في العمل الذي تؤهله له معارفه وتكوينه العلمي.
كانت وظائف المقريزي تصنف ضمن الشرائح العليا في العمل البيروقراطي المملوكي، حتى إنه تولى جميع الولايات الدينية العظمى المعروفة في عصره (القضاء والحسبة والخطابة) باستثناء وظيفة الفتوى الرسمية. ولعل ذلك التعدد في الوظائف الكبرى يزكي قولَ تلميذه ابن تَغْري بَرْدي -في ‘المنهل الصافي‘- إنه كان “معظَّما في الدُّوَل”، أي في مختلف عهود سلاطين المماليك على تعاقبهم.
وكان اتصال المقريزي أولا بـ”أهل الدولة” -وفق تعبيره- من خلال علاقته بالسلطان الشركسي الظاهر برقوق (ت 801هـ/1398م)، حتى إنه “ناب في الحُكْم، وكتب التوقيع [في ديوان الإنشاء]، ووَلِيَ الحسبة بالقاهرة”؛ حسب السخاوي.
ووظيفة “النيابة في الحُكم” هي إحدى المسؤوليات في قطاع القضاء، وقد يكون عملها متصلا بمنصب قاضي القضاة داخل “دار العدل” أو ديوان المظالم الذي هو شبيه بمؤسسة “مجلس الدولة” القضائية المعاصرة، وكان يختص بالفصل في مظالم الولاة وإشكالات المعاملات الرسمية والمنازعات الإدارية.
وقد قدم لنا المقريزي -في كتابه ‘المواعظ والاعتبار‘- وصفا لهذا المجلس العالي الشأن، فقال إنه “كانت العادة أن السلطان يجلس بهذا الإيوان (= ديوان المظالم).. [فـ]ـيجلس قضاة القضاة من المذاهب الأربعة عن يمينه، وأكبرهم الشافعي وهو الذي يلي السلطان، ثم إلى جانب الشافعي الحنفي، ثم المالكي، ثم الحنبلي، وإلى جانب الحنبلي الوكيل عن بيت المال، ثم الناظر في الحسبة بالقاهرة. ويجلس على يسار السلطان كاتب السر، وإن كان الوزير من أرباب السيوف (= الأمراء) كان واقفا على بُعْد مع بقية أرباب الوظائف، وإن كان نائب السلطنة فإنه يقف مع أرباب الوظائف، ويقف من وراء السلطان صفان عن يمينه ويساره من السِّلاحْدارية والجَمَدارية والخاصْكِية”، وكل هذه تشكيلات رسمية من خَدَم السلطان وتشريفاته وحرسه الشخصي.
أما وظيفة “التوقيع السلطاني”؛ فيبدو أن المقريزي باشر أعمالها في شبابه لقوله في ‘المواعظ والاعتبار‘: “وأنا جلست بها عند القاضي بدر الدين محمد بن فضل الله العمري (ت بعد 792هـ/1390م) أيام مباشرتي التوقيع السلطاني..، فلما زالت دولة الظاهر برقوق ثم عادت اختلت أمور كثيرة منها أمر قاعة الإنشاء بالقلعة” التي هي مقرُّ السلطان عملا ومُقاما.
وبالنسبة لولاية الحسبة؛ فهي منصب عظيم المكانة واسع الاختصاصات والصلاحيات، وقد أوضح المقريزي أهمية وظيفة الحسبة بقوله إن “مَنْ تُسند إليه لا يكون إلا من وجوه المسلمين وأعيان المعدَّلين لأنها خدمة دينية” ذات طبيعة قانونية وإدارية وتنظيمية، فهي -في كثير من صلاحياتها- تقوم على مخالطة أصحاب الحِرَف والمهن ونقاباتها، وأرباب التجارة، ولذلك كان المحتسب ملمّا بتفاصيل كثيرة تمس الحياة العامة.
والمقريزي يحدد لنا بالضبط تاريخ تسلمه لهذه الوظيفة أول مرة فيقول في ‘السلوك‘: “وفي حادي عَشْرِه (= رجب سنة 801هـ/1398م): استقرّ كاتبُه أحمد بن علي المقريزي في حسبة القاهرة والوجه البحري عوضاً عن شمس الدين محمد المخانسي (الصعيدي المتوفى بعد 801هـ/1398م)”.
أما ابن تَغْري بَرْدي فيذكر -في ‘النجوم الزاهرة‘- أن شيخه المقريزي سرعان ما عُزل عن وظيفته هذه بعد نحو أربعة أشهر من تقلُّده مسؤوليتها؛ فيقول إن الإمام بدر الدين العَيْني الحنفي (ت 855هـ/1451م) تولى “حسبة القاهرة في مستهل ذي الحجة من السنة (= 801هـ/1398م)، بسفارة (= وساطة)… الأمراء عوضاً عن الشيخ تقي الدين أحمد المقريزي، فمن يومئذ وقعت العداوة بينهما إلى أن ماتا”!!
على أن المقريزي سرعان ما عاد إلى الحسبة سنة 802هـ/1399م ثم عُزل عنها، ويذكر المؤرخ ابن شاهين المَلَطي -في ‘الروض الباسم‘- ما يفيد بأنه عاد إلى الحسبة بعد ذلك مرتين -على الأقل- في تواريخ متباعدة لم يضبطها المَلَطي، ولكن يمكن تحديدها -على وجه التقريب وفقا لقرائن ظرفية- بسنتيْ 809هـ/1406م و841هـ/1437م.
ونظرا لعمل المقريزي في مجال الحسبة مأمورياتٍ عدة ومدةً طويلة؛ فقد تعمقت علاقته بتفاصيل اليوميات الرسمية والمجتمعية، وحصّل تجارب وخبرات واسعة من مخالطة القوى والمؤسسات الفاعلة في المشهد الاجتماعي والسياسي والإداري والعمراني، وقد أفادته تلك المعايشة في التأمل والرصد والتحليل والتأريخ على النحو المنوع والثريّ الذي نراه جليا في كتاباته ومصنفاته.
أضف إلى ذلك ما كان له من مساهمات متعددة في الحياة العلمية إفادةً وإدارةً؛ فالسخاوي يخبرنا أنه تولى “الخطابة بجامع عمرو [بن العاص]، وبمدرسة حسن (= السلطان المملوكي حسن بن الناصر قلاوون المتوفى 762هـ/1361م)، والإمامة بجامع الحاكم (= الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله المتوفى بعد 411هـ/1021م) ونظره (= الإشراف عليه)، وقراءة الحديث بالمؤيَّدية” التي هي إحدى مدارس الشافعية في القاهرة.
وإلى جانب وظائفه الدينية في القاهرة؛ فإنه زار الشام واستوطن “دمشق مرارا وتولى بها نَظَر (= إدارة) وقف القلانسي، والبيمارستان (= المستشفى) النُّوري، مع كون شَرْط نَظَرَه لقاضيها الشافعي، وتدريس [العلوم بمدرستيْ] الأشرفية والإقبالية وغيرها”.
وبعد وفاة السلطان برقوق اتصلت علاقة المقريزي بولده وخليفته في السلطنة الناصر فَرَج (ت 815هـ/1412م) حتى إنه “دخل دمشق معـ[ـه]… في سنة عشرٍ (= 810هـ/1407م) وعاد معه، وعُرض عليه قضاؤها (= دمشق) مرارا فأبى” عن منصبه؛ طبقا للسخاوي.
وقد يفسَّر رفض المقريزي لتولي قضاء دمشق بأنه كان يطمح إلى أن ينال هذا المنصب في القاهرة، أو أنه كان يتفادى توليه بدافع التورع كما حصل لكثير من العلماء رفضوا منصب القضاء منذ البداية، أو فضّلوا عدم الاستمرار فيه بعد أن خاضوا تجربة توليه.
وفي كل الوظائف التي أسنِدت إليه عُرف بالنزاهة في التسيير وحسن الإدارة والتدبير، ولذلك “حُمدت سيرته في مباشراته كلها”؛ وفقا للسخاوي. وفي آخر حياته أعرض المقريزي عن الوظائف والعمل الرسمي مع السلطة فكان بقيةَ عمره “منقطعا في داره، ملازما للعبادة والخلوة، قلَّ أنْ يتردد إلى أحد إلا لضرورة”؛ كما في ‘المنهل الصافي‘ لابن تَغْري بَرْدي.
ويخبرنا ابن تَغْري بَرْدي أن شيخه “لم يزل ضابطا حافظا للوقائع والتاريخ إلى أن توفي يوم الخميس سادس عشر شهر رمضان سنة خمس وأربعين وثمانمئة (845هـ/1442م)، ودُفن من الغد بمقبرة الصوفية خارج باب النصر من القاهرة”. ثم يقدم دليلا على احتفاظ شيخه بكامل قُواه وعطائه العلمي حتى لحظة وفاته بقوله: “وقد سمعتُ أنا هذا الكتاب (= كتاب «فضل الخيل» للحافظ شرف الدين الدمياطي المتوفى 705هـ/1305م) بقراءة الحافظ قطب الدين الخيضٍري (ت 894هـ/1489م) في أربع مجالس، آخٍرُها في سَلْخ (= نهاية) شعبان سنة خمس وأربعين وثمانمئة (845هـ/1442م)… بحارة بَرْجَوَان على الشيخ الإمام العلامة المحدث عمدة المؤرخين تقي الدين أحمد بن علي بن عبد القادر المقريزي الشافعي”.
موسوعية معرفية
اتسمت شخصية المقريزي بـ”محاسن شتَّى” وفقا لتلميذه ابن تَغْري بَرْدي في ‘المنهل الصافي‘؛ فقد كان -على المستوى الشخصي- معتدل المزاج سهلا لينا “حسن الصُّحبة حُلوَ المحاضرة” بتعبير السخاوي الذي يذكر أنه كان مسكونا بالكتابة في حقل التاريخ أحداثا وتراجم، حتى إنه “من ولوعه الولوعَ الزائدَ بالتاريخ يحفظ منه الشيء الكثير”.
وإذا كان تلميذه المؤرخ ابن تَغْري بَرْدي يشهد له بأنه “اشتهر ذكره -في حياته وبعد موته- في التاريخ وغيره حتى صار به يُضرب المثل”؛ فإن للسخاوي تقييما جامعا للمعرفة التاريخية عند المقريزي يحسن إيراده، فهو عنده “كان كثير الاستحضار للوقائع القديمة في الجاهلية وغيرها، وأما الوقائع الإسلامية ومعرفة الرجال وأسمائهم والجرح والتعديل [لرواة الحديث النبوي] والمراتب والسِّيَر، وغير ذلك من أسرار التاريخ ومحاسنه؛ فغير ماهر فيه”!!
ولا يبدو لنا قوله “فغير ماهر فيه” إلا من نمط تعليقات السخاوي المجحفة أحيانا بحق من يترجِم لهم؛ ولذا فهو تعليق غير مستغرَب لما عُرف به هذا الإمام من تجاوز للإنصاف -أحيانا كثيرة- في تراجمه للأعلام مهما عَلا شأنُهم، حتى إن علامة اليمن بدر الدين الشوكاني ساق -في كتابه ‘البدر الطالع بمحاسن مَنْ بَعْد القرن السابع‘- تُهَماً وجَّهها السخاوي إلى المقريزي، ثم علق عليها قائلا: “وإن جَحَدَهُ السخاويُّ فذلك دَأْبُه في غالب أعيان معاصريه”!!
وكان تدفُّق المقريزي في حديثه عن التاريخ يروق لأصدقائه وجلسائه فيأتي كلامه -حسب ابن تَغْري بَرْدي- جامعا بين “ذكر السلف من العلماء والملوك”، ويبدو أنه اتسم بالظرف المصري المعروف فكان “كثير النوادر لا يُمَلُّ منه ولا من صحبته”؛ وفقا لابن شاهين المَلَطي في كتابه ‘الروض الباسم في حوادث العمر والتراجم‘. ومع ذلك اكتست شخصيته هيبة وتقديرا عظيما في الحياة العامة فكان “معظَّما في الدُّول” كما سبق القول.
وأما في كتاباته التي يقول عنها السخاوي إنها “زادت على مئتي مجلدة كبار”؛ فقد تحلى بالأمانة في النقل والإحاطة في التناول والصرامة في المنهج فـ”كان ضابطا مؤرخا” كما وصفه ابن تَغْري بَرْدي، متّسما -في الآن نفسه- بالنزاهة والتواضع العلمي، وهو ما منحه أريحية لتقبُّل الملاحظة والاستدراك، واستعدادا للعودة إلى الصواب إذا أسفر عنه الدليل والبرهان حتى من طلابه، فتلميذه ابن تَغْري بَرْدي يقول في حقه: “وقرأتُ عليه كثيرا من مصنَّفاته، وكان يرجع إلى قولي فيما أذكره له من الصواب، ويغيّر ما كتبه أولاً في مصنفاته”.
وكان أسلوبه خاليا -في الغالب- من التعقيدات اللفظية والمعنوية، يميل إلى السلاسة في العرض والوضوح في التعبير؛ ولذا وَصَف أسلوبَه صديقُه الحافظ ابن حجر قائلا: “له النظم الفائق، والنثر الرائق، والتصانيف الباهرة”. وهو في نظر تلاميذه “الشيخ الإمام البارع، عمدة المؤرخين، وعين المحدِّثين”؛ طبقا لعبارة ابن تَغْري بَرْدي في ‘المنهل الصافي‘.
لقد كان المقريزي متسع الأبعاد المعرفية اتساعا يليق بضخامة عدد أساتذته الذين أخذ عنهم معارفه المتنوعة، ذلك أن عدة “شيوخه بلغت ستمئة نَفْس”؛ حسب السخاوي. وقد صاغت شخصيته العلمية مشارب فكرية وعلمية شتى؛ فمن جهة التنوع المذهبي يمكن القول إنه قد تلاقت عنده معظم الروافد المذهبية السائدة في عصره، فأصوله الأسرية حنبلية، ونشأ حنفيا في كفالة جده لأمه، ثم تحول إلى الشافعية، هذا مع ما يُذكر من أنه كانت عنده ميول إلى مذهب الظاهرية.
وعلى المستوى الأثري؛ حظي الحديث النبوي وعلومه بحضور مركزي في حياته وأبحاثه، فكان “محبا لأهل السنة يميل إلى الحديث والعمل به”، وهو أمر لا يستغرَب في رجل ينتسب إلى بيت حنبلي الانتماء، وعاش في عصر ملأت فيه “المدرسة التيمية” الدنيا وشغلت الناس، وهو ما عبر عنه هو في ترجمته الضافية لابن تيمية فقال عنه في ‘المواعظ والاعتبار‘: “افترق الناس فيه فريقيْن: فريق يقتدي به ويعوِّل على أقواله ويعمل برأيه، ويرى أنه «شيخ الإسلام» أجلّ حفّاظ أهل الملة الإسلامية. وفريق يبدِّعه ويضلّله ويُزْري عليه بإثباته الصفات” لله سبحانه وتعالى!!
وقد كان المقريزي من الذين يوردون اسم ابن تيمية مقرونا بلقبه التبجيلي “شيخ الإسلام” في عدد من كتبه، مثل «إمتاع الأسماع» و«المقفى الكبير» و«السلوك». وهو وإن كان كَتَبَ رسالته «تجريد التوحيد المفيد» متأثرا بالمنهج التيمي؛ فإنه تجنب فيها الحديث عن مسألة “الأسماء والصفات” التي كان المقريزي يرى أنها هي سبب الحملة الشعواء التي ثارت على ابن تيمية من خصومه مما أدى إلى محنته وإيداعه أحدَ السجون حتى وفاته.
وقد ركز المقريزي بدلا من ذلك على توحيد الربوبية وتبيان ثمراته الاجتماعية. ولذا فإن رسالته هذه مزكّاة عند قطاع واسع من أعلام المنهج السلفي المعاصرين، وقد قام بتدريسها لطلابه المحدِّث المعاصر الشيخ ناصر الدين الألباني (ت 1420هـ/1999م).
وانسياقا مع روح عصره وطابع مصره؛ كانت للمقريزي -كأحد أعلام تيار الاندماج المعرفي– نزعة متصوفة جعلته مقدِّرا لرموز الحركة الصوفية، لكنه لم يغفل انتقاد ما ساد بعض طُرُقها في زمانه من سلوكيات منحرفة، فقد كتب -في ‘المواعظ والاعتبار‘- عن منتسبي إحدى هذه الطرق فوصفهم بأنهم “قوم طرحوا التقيد بآداب المجالسات والمخاطبات، وقلّت أعمالهم من الصوم والصلاة إلا الفرائض، ولم يبالوا بتناول شيء من اللذات المباحة، واقتصروا على رعاية الرخصة ولم يطلبوا حقائق العزيمة”!!
ولاء مصري
يعتز المقريزي بمصريته القاهرية بكل ما يعنيها ذلك من احتفاء عظيم بـ”خبر القاهرة المحروسة” في الماضي والحاضر؛ فقد أرّخ لها دولاً سلطانية، وأعلاما شخصية، ومؤسسات عمومية، وآثارا عمرانية، ولذلك كتب “التصانيف الباهرة خصوصا في تاريخ القاهرة”؛ وفقا لشهادة ثمينة من صديقه الحافظ ابن حجر في ‘المجمع المؤسس‘.
والواقع أن غالبية مصنفات المقريزي الموسوعية في التاريخ إنما كانت عن مصر إنسانا وسلطانا وعمرانا؛ ففي تاريخ إنسانها وضع ثلاثيته القيمة: «البيان والإعراب عما في أرض مصر من الأعراب»؛ و«التاريخ الكبير المقفَّى» الذي ضمّنه تراجم معاصريه من أعيان مصر؛ و«درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة» وقد ترجم فيه للأعلام المنتمين إلى مصر أو الواردين إليها من الآفاق، ونقل عنه ابن تَغْري بَرْدي قولَه عن كتابه هذا: “لو كَمُلَ هذا التاريخ على ما أختاره لجاوز الثمانين مجلدا”!!
وعن تاريخ سلطانها؛ صنّف ثلاثية في حقبها السياسية الإسلامية الثلاث المتعاقبة حتى عصره، كما حدثنا هو في مقدمة كتابه «السلوك»؛ فألّف عن عصرها السُّنّي الأولِ كتابَه «عَقْد جواهر الأسفاط من أخبار مدينة الفسطاط»؛ وخصّص لعهدها الشيعي الفاطمي مصنَّفه «اتعاظ الحنفاء بأخبار أئمة الخلفاء»؛ ووضع في عصرها السُّنّي الثاني كتابه «السلوك في معرفة دُوَل الملوك»، الذي يحدد لنا مضمونَه بأنه في تاريخ “مَنْ مَلَكَ مصر.. من الملوك الأكراد الأيوبية والسلاطين المماليك التركية والجركسية (= الشركسية)”. ويذكر ابنُ تَغْري بَرْدي أنه “يشتمل على ذكر ما وقع من الحوادث إلى يوم وفاته”!!
وفي تاريخ عمرانها؛ ترك لنا المقريزي رسالته البديعة «إغاثة الأمة بكشف الغمة» التي كانت باكورة أعماله عن مصر، وفوق ذلك خلّد تفاصيل عمرانها -بما فيه عمران بيوت الناس– في كتابه الموسوعي العظيم «المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار»، الذي أفرده للتاريخ السياسي والثقافي والعمراني لمدينته الأثيرة القاهرة. وقد وصف ابنُ تَغْري بَرْدي هذا الكتاب بأنه “في غاية الحُسْن”، كما يصدق فيه -لتفرد محتواه ومستواه- قولُ ابن حجر -في ‘المجمع المؤسس‘- عن المقريزي إنه ألّف “التصانيف الباهرة، خصوصا في تاريخ القاهرة: فأحيا معالمها، وأوضح مجاهلها، وجدّد مآثرها، وترجم أعيانها”!!
ولمعرفة المقريزي بأن مصر منوَّعة في نسيجها المجتمعي بتركيب حضاري متعدد المشارب ومنوع المسارب؛ جاءت كتاباته تراعي هذا التركيب والاختلاف، فكتب عن أقباطها ويهودها، ورصد مكوناتها الفِرَقية والمذهبية والطائفية، وقدّم سردا مركَّزا للفكر الديني الإسلامي الذي نما على أرضها من حيث تبلوره وتطوُّره.
ومع ذلك لم تسلم “أخلاق المصريين” من نقد عنيف نالها من قلمه، وقد بنى ما كتبه في ذلك على الرؤية الخلدونية التي تربط بين الظروف المناخية والبيئية لكل إقليم وطبائع أهله النفسية وخصائصهم البدنية؛ فالمقريزي يؤسس لنظرته إلى خصائص المصريين قائلا في ‘المواعظ والاعتبار‘: “وأما أخلاط (= طبائع) المصريين فبعضها شبيه ببعض لأن قُوَى النفس تابعة لمزاج البدن، وأبدانهم سخيفة (= ضعيفة) سريعة التغير قليلة الصبر والجَلَد”!!
والحق أن شدة نقد المقريزي لطبائع المصريين بارزة، لكنها تظل مقرونة بإكباره لبلادهم وتاريخها بكل حقبه ودُوله، أليس هو القائل في مقدمة كتابه ‘المواعظ والاعتبار‘: “مصر هي مسقط راسي، وملعب أترابي ومَجْمَع ناسي، ومَغْنَى (= مسكن) عشيرتي وحامَتي (= قرابتي)، وموطن خاصتي وعامتي”!!
وهذه الازدواجية في الموقف من الوطن والمواطن تذكرنا بحالة مفكر جغرافي معاصر هو الدكتور جمال حمدان (ت 1414هـ/1993م)؛ إذْ كانت الفكرتان حاضرتين عنده في كتابه «شخصية مصر»، ونعني بهما الترفيع من شأن مصر الوطن، والنقد الشديد لبعض مسلكيات مواطنيها الاجتماعية والسياسية، ولعل عنصر الشبه الجامع بين المؤرخيْن هو الكتابة في ظروف العزلة التي أحاطت بكل منهما اختيارا أو اضطرارا!!
نزعة خلدونية
أما نقطة التحول الكبيرة في تكوينه المنهجي -ولاسيما في البحث التاريخي- فلا شك أنها كانت لحظة اتصاله بالمؤرخ الحضاري ابن خلدون، إبّان مقامه بالقاهرة طوال ربع القرن الأخير من حياته 784-808هـ/1382-1406م، قادما من بلاده تونس، بحثا عن مأوى كريم ينسيه ما عاشه في أقطار الغرب الإسلامي من محن وفتن.
وعندما نزل ابن خلدون القاهرة انْثال عليه طلاب العلم للدراسة والإفادة، وكان في مقدمتهم المقريزي الذي لازمه على نحو جعله يصفه -في ‘المواعظ والاعتبار‘- بأنه: “شيخنا العالم العلامة الأستاذ قاضي القضاة ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي الإشبيلي”. وهكذا كان المقريزي وصديقه ابن حجر هما العَلَمين اللذيْن جعلا من القاهرة مرفأ آمنا لرسوّ سفينة “المدرسة الخلدونية التاريخية” تحصيلا وتحليلا، والتي تركت أثرها في جيل طويل من المؤرخين المصريين.
ومن بين ذلك الجيل المتتالي الحلقات طوال 150 سنة؛ كان تقي الدين المقريزي الشارحَ الأكبرَ لقواعد ورؤى هذه المدرسة، والمطبقَ الأبرزَ لمعظم النماذج التفسيرية التي قدّمها ابن خلدون في معالجاته التاريخية، ولاسيما كتابه «المقدمة» الذي نقل عنه ابن حجر -في ‘رفع الإصر عن قضاة مصر‘- إعجابَ المقريزي به قائلا: “قرأتُ بخط الشيخ تقي الدين المقريزي في وصف تاريخ ابن خلدون: «مقدمتُه لم يُعمَل مثالُها، وإنه لعزيز أن يَنال مجتهد مَنالَها، إذْ هي زبدة المعارف والعلوم، وبهجة العقول السليمة والفُهوم»”!!
وهكذا تأسست في القاهرة المدرسة الخلدونية التاريخية التي كان أهم ما يميزها هو احتفاء منتسبيها بالتعليل والنظر الكلي، والاهتمام بثوابت الفكر الحضاري، ورصد طبائع العمران وتأثيراتها في حركة التاريخ الإنساني، مع صياغة قواعد نظرية للمقارنات التاريخية بين الأمم والشعوب. ولذلك فهي -كما وصفها المقريزي في معرض حديثه السابق عن كتاب شيخه «المقدمة»- مدرسةٌ “تُوقِف على كُنْه الأشياء، وتعرِّف حقيقة الحوادث والأنباء، وتعبِّر عن حال الوجود، وتنبئ عن أصل كل موجود، بلفظ أبهى من الدر النظيم، وألطف من الماء مَرَّ به النسيم”!!
إنها -في الواقع- مدرسة أصيلة في الفكر التاريخي الإسلامي، ولكنها في عصر المقريزي تبلورت على نحو لافت، بحيث باتت الكتابة التاريخية قالبا متسعا يشمل التراجم والكتابة عن الدول والمدن بما تحويه من مؤسسات ومنشآت، وتاريخ للأفكار والمعتقدات والطوائف والديانات، لذا نجد أن هذه الكتابات مفيدة -حتى في عصرنا الحديث- للباحث في الحقل التاريخي والجغرافي والشرعي والاجتماعي والفلسفي، وهي تتسع في شمولية منظوراتها لتغطي عشرات الفنون والتخصصات.
وقد ترسخت هذه المدرسة مع ابن خلدون وتلامذته لاسيما العظماء الثلاثة: شهاب الدين القَلْقَشَنْدي (ت 821هـ/1418م)، وتقي الدين المقريزي (ت 845هـ/1442م)، وشهاب الدين ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م)؛ ثم في تلامذة هؤلاء مثل: ابن تَغْري بَرْدي (ت 874هـ/1470م) تلميذ المقريزي، والسخاوي (ت 902هـ/1494م) تلميذ ابن حجر، والمتأثرين بمنهجهم من أمثال: السيوطي (ت 911هـ/1505م) وتلميذه ابن إياس الحنفي (ت 930هـ/1524م).
فالبصمة المنهجية الخلدونية جلية في تراث هؤلاء الأعلام جميعا وخاصة تلامذته منهم، ليس فقط من حيث استغراقهم في دروب الكتابة التاريخية تخصصا وتناولا؛ بل وفي نمط التأليف والقالب المنهجي في المقاربة والطرح؛ فنزوعهم لوضع كُتُب المقدمات المنهجية للموسوعات العلمية الكبرى -التي شهدتها مصر تلك الأيام في عدد من حقول المعرفة- إنما كان احتذاءً جليًّا بـ«مقدمة» شيخهم المنهجية لتاريخه الحافل: «العِبَر وديوان المبتدأ والخبر».
ومن أمثلة ذلك إفرادُ القَلْقَشَنْدي جزءا منهجيا كاملا جعله “مقدمة” لكتابه الأدبي الإداري الضخم «صُبح الأعشَى في صناعة الإنشا»؛ وقد نقل فيه عددا من آراء وروايات شيخه ابن خلدون. واحتذى أثرَه المقريزي بتخصيصه الجزء الأول من موسوعته في أنساب العرب وآدابها -والتي طُبعت بعنوان: «الخبر عن البشر في أنساب العرب ونسب سيد البشر ﷺ»- ليكون “مقدمة” منهجية لها؛ فتلميذه ابن تَغْري بَرْدي يصرح بذلك قائلا عنه في كتابه ‘المنهل الصافي‘: “وله كتاب «الخَبَر عن البَشَر»، ذكر فيه القبائل لأجل نَسَب النبي ﷺ في أربعـ[ـة] مجلدات، وعَمِلَ له «مقدمةً» في مجلد”!
وكذلك وضَع تلميذه ابن حجر كتابه «هَدْي الساري» ليكون “مقدمة” ومدخلا منهجيا لموسوعته الحديثية والفقهية «فتح الباري بشرح صحيح البخاري»، والطريف أن ابن حجر نفسه كثيرا ما أحال -في كُتُبه- على «هَدْي الساري» باسم: “المقدمة” أو “مقدمة شرح البخاري”!!
وقد أجاد المقريزي تمثُّلَ المدرسة الخلدونية وخدمها أمثل خدمة، بل يمكن القول إنه -أحيانا كثيرة- فاق في تطبيق النهج الخلدوني ما فعله ابن خلدون نفسه في كتاباته، وهذا أمر معهود في الفرق بين الممهِّد للمنهج والمحتذي لنهجه.
ويمكن تحري براعة المقريزي في تمثُّل نهج شيخه في العديد من رسائله وكتبه مثل: «اتّعاظ الحنفاء» و«المواعظ والاعتبار»، و«إغاثة الأمة»، و«النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم»، و«الخبر عن البَشَر».
ففي هذه الكتب -وغيرها من مؤلفاته التي ازدادت وازدانت بها رفوف المكتبات الإسلامية– تمكن المقريزي من الاستفادة من المباحث الخلدونية في فهم وتفسير الظواهر الاجتماعية والسياسية، بل إنه لا يُستبعَد أن يكون كَتَب الأولَ منها -وهو «إغاثة الأمة»- تحت رعاية أستاذه، أو عرَضه عليه لإجازته قبل إذاعته بين الناس، فقد ألّفه قبل وفاة شيخه بشهرين!
لقد وظّف المقريزي في كتابه «اتّعاظ الحنفاء» ما يمكن تسميته “قانون الظهور والتمكين” الخلدوني، وهو يختص بفهم دلالات ظهور الدعوات والدول في التاريخ الإسلامي من خلال سَبْر حياة أصحابها ومراحل نشاطهم، والاستناد إلى التحقق الواقعي لأهدافهم بحسبانه معيارا لفهم الظواهر السياسية وقراءة تاريخها.
وقد قام ابن خلدون بطرح نظريته تلك عبر فصل موسَّع كتبه -في مقدمته- عن الدولة الفاطمية دعوةً وعصبيةً ونَسَباً، فكلها -في رأيه- عوامل قادت إلى ظهور دعوتهم وانقياد الناس لها تمهيدا لإقامة دولتهم، ولذا كان “الانقياد لهم وظهور كلمتهم أدلّ شيء على صدق نسبهم”.
فانتحال النسب الهاشمي -طبقا لهذا المبدأ الخلدوني- قد ينجح وقتيا أو في نطاق بشري محدود، ولكنْ لن تقوم على نسب كاذب دولة بكل هذا الاتساع المكاني والامتداد الزماني، ولاسيما في أمة خبيرة بسلاسل الأنساب، شديدة التمحيص لحلقاتها لتبيُّن الصميم الأصيل فيها من المزيّف الدخيل. وفي سبيل تقرير مبدئه هذا؛ قارن ابن خلدون بين نموذجين من الانتماءات العَلَوية الكاذبة والصادقة.
توظيف منهجي
وقد نقل المقريزي -في ‘اتّعاظ الحنفاء‘- حِجاج «المقدمة» في مسألة انتساب الفاطميين إلى البيت العَلَوي الهاشمي، مُوردا في الاستدلال لذلك ما ذكره ابن خلدون “من ظهور دعوتهم بإفريقية (= تونس وجوارها)، والمغرب، ثم باليمن، ثم بالإسكندرية، ثم بمصر والشام والحجاز”، وكونهم ملكوا كل هذه الأقطار “وقاسموا بني العباس في ممالك الإسلام «شِقَّ الأُبْلمَةِ» (= بالتساوي)، وكادوا يَلِجُون عليهم مواطنَهم، ويُديلون من أمرهم، وكيف يقع هذا كله لدعيٍّ في النسب، يكذب في انتحال الأمر؟! واعتبرْ حال القرمطي (= زعيم القرامطة أبو سعيد الجَنّابي المقتول 301هـ/913م) -إذْ كان دعيا في انتسابه- كيف تلاشت دعوته، وتفرق أتباعه، وظُهر سريعا على خبثهم ومكرهم، فساءت عاقبتهم وذاقوا وبال أمرهم، ولو كان أمر العُبَيْديين (= الفاطميين) كذلك لعُرف ولو بعد مهلة… فقد اتصلت دولتُهم نحواً من مئتين وسبعين سنة…؛ فصاحب البدعة لا يُلبِّس في أمره، ولا يشبِّه في بدعته، ولا يكذِّب نفسَه فيما ينتحله”!!
وانطلاقا من هذه القاعدة الخلدونية؛ يعلّق المقريزي بمنهج مركّب من الاستشهاد النصي والاستدلالي قائلا: “وأنت إذا سلِمْتَ من العصبية والهوى، وتأملت ما قد مّرَّ ذكره من أقوال الطاعنين في أنساب القوم، علمتَ ما فيها من التعسف والحمل مع ظهور التلفيق في الأخبار، وتبين لك منه ما تأبى الطباع السليمة قبوله، ويشهد الحس السليم بكذبه، فإنه قد ثبت أن الله تعالى لا يمدّ الكذاب المفتعِل بما يكون سببا لانحراف الناس إليه، وطاعتهم له على كذب…، وقد عُلم أن الكذب على الله تعالى والافتراء عليه -في دعوى استحقاق الخلافة النبوية على الأمة والإمامة لهم شرعا- بكونه من ذرية رسول الله ﷺ وآل بيته من أعظم الجنايات وأكبر الكبائر، فلا يليق بحكمة الله تعالى أن يُظهِر مَن تعاطَى ذلك واجترأ عليه، ثم يمده في ظهوره بمعونته، ويؤيده بنصره حتى يملك أكثر مدائن الإسلام، ويورثها بنيه من بعده”.
ومن المهم في هذا السياق التنبيه على أن تسليم ابن خلدون والمقريزي بصحة النسب العلوي للفاطميين لا يعني سكوتهم عما كانوا عليه من تجاوزات فكرا وسلوكا، لكنهما ذهبا إلى ضرورة الفصل منهجيا بين قضية النسب ومسألة الاختيار الفكري والسلوكي، وألا تكون إحداهما في موضع تصويب أو تخطئة للأخرى “فليست بدعة المبتدِع منهم (= آل البيت)، أو تفريط المفرط منهم في شيء من العبادات، أو ارتكابه محرما من المحرمات؛ بمُخرجه من بنوّة الرسول ﷺ، فالولد ولدٌ على كل حالِ عَقَّ أو فَجَرَ”؛ كما يقول المقريزي في كتابه ‘السلوك‘.
وإذا كان كلٌّ من ابن خلدون والمقريزي قد أثبت صحة النسب للفاطميين فإنهما أيدا موقف التيار العريض من العلماء في “الموقف الشرعي” من هؤلاء؛ فابن خلدون -في ‘المقدمة‘- كان رافضا “لما كانوا عليه من الإلحاد في الدّين والتّعمّق في الرّافضيّة” أي التشيع. والمقريزي قال عنهم في ‘المواعظ والاعتبار‘: “اعلم أن القوم كانوا شيعة ثم غًلَوْا حتى عُدُّوا من غُلاة أهل الرفض (= التشيع)”.
ولذا فإن جُلّ ما لوحظ على منتقدي المقريزي هو أنهم اعتبروا كتاباته عن تاريخ الفاطميين انحيازا منه إليهم، وجعلوا ذلك سببا للنيل من شخصه وأنّ قصده كان تسويق “محاسن العُبيدية” أي الفاطميين، وهو ما لخصه الإمام الشوكاني في تقييمه لكتاب ‘المواعظ والاعتبار‘ للمقريزي؛ فبعد أن أثنى على هذا المؤلَّف واصفا إياه بأنه “من أحسن الكُتب وأنفعها وفيه عجائب ومواعظ”، لم يفُته أن يعقّب على ثنائه العطِر بأن المؤلِّف “كان فيه ينشر محاسن العُبيدية ويفخّم شأنهم ويشيد بذكر مناقبهم”!! هذا رغم أن الإمام ابن حجر شهد -في ‘الدرر الكامنة‘- لصديقه المقريزي بأنه كان “محبًّا لأهل السُّنة يميل إلى الحديث والعمل به”، وهو ما ينفي عنه أي قصد مُغرِض في كتاباته الفاطمية.
تشخيص واستشراف
وبالنسبة لرسالة «إغاثة الأمة بكشف الغمة»؛ فهي أول تآليف المقريزي الواصلة إلينا، وقد حدد لنا تاريخ تصنيفها عندما قال في خاتمته: “تيسر لي ترتيب هذه المقالة وتهذيبها في ليلة واحدة من ليالي المحرم سنة ثمان وثمنمئة (= 808هـ/1405م)”. وقد وضعها في مرحلة صعبة شهد فيها المجتمع المصري أوبئة قاتلة ومجاعات ماحقة أدت إلى تضخم في أسعار الأقوات وإفناء كبير للسكان.
والرسالة بكلياتها قطعة خلدونية مزَج فيها المقريزي بين الخبر والتحليل والتعليل، ومن يطالع فصول مقدمة ابن خلدون وتحديدا الفصول «الثاني والأربعون في أن نقص العطاء من السلطان نقص في الجباية»، و«الثالث والأربعون في أن الظلم مؤذن بخراب العمران»، و«الفصل الحادي والخمسون في وفور العمران آخر الدولة وما يقع فيها من كثرة المُوتان (= تفشي الموت) والمجاعات»؛ سيجد أن روحها ومنهجها منتشران في رسالة «إغاثة الأمة»، ومستترة خلف كل خلاصة وصل إليها المقريزي فيها.
وهدف هذه الرسالة هو وضع قواعد لتحليل الكوارث وإدارة الأزمات المجتمعية، بحيث لا يُترك الناس للتواكل والانتظار السلبي أمام موجات الجوع والغلاء وضربات الجوائح الطبيعية مثل الزلازل، أو ما يسميها ابن خلدون “الآفات السماوية”، دون فهم لعللها ووعي بالأسباب السياسية والاقتصادية التي تؤدي إلى استفحالها وتفاقم نتائجها، ثم بعد ذلك تقديم السياسات والإجراءات التي تتعامل معها وتقلل من مخاطرها وصولا إلى معالجتها، وهذا ما نجحت فيه هذه الرسالة.
ألّف المقريزي رسالته «إغاثة الأمة بكشف الغمة» على مشارف نهاية الحقبة الزاهرة للدولة المملوكية، وهي اللحظة التي يحددها ابن خلدون نظريا بأنها “أواخر الدولة [التي] يكون فيها الإجحاف بالرعايا وسوء الملكة” سائدا، وهي كذلك -وفق تعبيره- حقبة “تناقص العمران” وكثرة “المجاعات والمُوتان”.
وقد كان المقريزي واعيا بدقة بهذه اللحظة الفارقة التي وصفها بـ«الغمة»، مستوعبا أنه يعيش حقبة أفول دولة المماليك العظيمة، وهي الفترة الزمانية التي أشار إليها -في كتابه ‘المواعظ والاعتبار‘- فقال إن القاهرة “كادت تضيق على أهلها حتى حل بها وباء سنة تسع وأربعين (= 749هـ/1348م)، وسنة إحدى وستين (= 761هـ/1360م)، ثم غلاء سنة ست وسبعين (= 776هـ/1374م)؛ فخربت بها عدة أماكن، فلما كانت الحوادث والمحن من سنة ست وثمانمئة (= 806هـ/1403م) شمل الخراب القاهرة ومصر وعامة الإقليم”. وقد كان آخر ما سطره في كتابه هذا الباب السابع الذي “يشتمل على ذكر الأسباب التي نشأ عنها خراب إقليم مصر”.
وهذه النظرة التشاؤمية لدى المقريزي بشأن مستقبل بلاده إنما هي -في الحقيقة- انعكاس مصغَّر لنظيرتها الأوسع دائرة منها، والتي هيمنت على فكر شيخه ابن خلدون حتى جعلها الدافعَ الرئيسي لتأليف كتابه التحفة: «المقدمة»، وعبّر عنها -في مقدمتها- قائلا: “وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب (= من فناء البشر وخراب العمران) لكن على نسبته ومقدار عمرانه، وكأنما نادى لسانُ الكون في العالَم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة، والله وارث الأرض ومَن عليها؛ وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدَّل الخَلق من أصله وتحوَّل العالم بأسره، وكأنه خَلق جديد ونشأة مُستأنَفة وعالَم مُحْدَث”!!
وقد مال المقريزي -في كتابه ‘المواعظ والاعتبار‘- إلى توقعات لبعض الخبراء في علم الفلك -وهو فن كان ماهرا فيه- ذهبوا فيها إلى التنبؤ بانتهاء “عُمْر القاهرة في سنة تسع عشرة وثمانمئة (819هـ/1416م)”، وقال إن “شواهد الحال اليوم (= تقريبا سنة 817هـ/1414م) تصدق ذلك لما عليه أهل القاهرة الآن من الفقر والفاقة، وقلة المال وخراب الضِّياع والقرى، وتداعي الدُّور للسقوط، وشمول الخراب أكثر معمور القاهرة، واختلاف أهل الدولة، وقرب انقضاء مدتهم، وغلاء سائر الأسعار”!!
كما وظَّف في مثل هذه التوقعات بعض مقولات شيخه ابن خلدون عن علامات انهيار الدول جراء شيوع عوائد الترف المؤْذنة بـ”خراب العمران”؛ فذكر -في ‘السلوك‘- أنه في سنة 817هـ/1414م “كَثُرَ حَمْلُ شجر النارنج…، ولم نعهد مثلَ هذا! وقال لي شيخنا الأستاذ قاضي القضاة ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون: ما كَثُر النارنج بمدينة إلا أسرع إليها الخراب”!!
وابن خلدون يعلل قاعدته تلك -في ‘المقدمة‘- بأن النارنج وأمثاله من الشجر “مما لا طعم فيه ولا منفعة هو من غاية الحضارة، إذْ لا يُقصد بها في البساتين إلا أشكالها فقط ولا تُغرس إلا بعد التفنن في مذاهب الترف؛ وهذا هو الطور الذي يُخشى معه هلاكُ المصر وخرابه”!!
وتوقع المقريزي لانهيار “أهل الدولة” في مصر لا يبعُد أيضا مما سبقه إليه ابن خلدون حين استشرف سيطرة العثمانيين على مصر؛ فقد قال تلميذه ابن حجر في كتابه ‘رفع الإصر عن قضاة مصر‘: “سمعتُ ابنَ خلدون مرارا يقول: ما يُخشَى على ملك مصر إلا من ابن عثمان”! والمقصود بـ”ابن عثمان” هنا هو السلطان العثماني حينها بايزيد الأول (ت 805هـ/1402م)!!
وهو ما حدث بعد قرن كامل من صدور هذه الرسالة واستشراف المقريزي وشيخه، ففي موقعة الريدانية شمال القاهرة سنة 922هـ/1517م انتصر السلطان العثماني سليم الأول (ت 926هـ/1520م) على المماليك بقيادة آخر سلاطينهم طومان باي (ت 923هـ/1517م)، ودخل القاهرة ضامًّا بذلك مصر إلى جغرافيا الدولة العثمانية طوال أربعة قرون لاحقة.
والواقع أن الموعد الذي ضربه المقريزي له حساباته الخاصة، وعدمُ دقته على مستوى التوقيت لا يعني عدم الواقعية أو انعدام الحاسة التاريخية؛ فقاهرة المماليك كانت تتصف بـ”القابلية للأفول” في زمن المقريزي، ولكن آجال العواصم والدول خلاف آجال الشعوب والأفراد، فالدول من سُننها العمرانية أن تسقط بالتدرج وتنحدر نحو الهاوية على مَهَل بحسب درجة “اختلال العمران في المصر”؛ حسب تعبير ابن خلدون في ‘المقدمة‘.
وكان المؤرخون من ذوي البصيرة يرون مآل الأوضاع في القاهرة على النحو الذي تصير إليه نهايات الدول عادة، وذلك أن الضعف إذا أخذ يدبّ في أوصال أي بلد “لا يزال أمرُ الدولة كذلك وهي تتلاشى في ذاتها شأنَ الحرارة الغريزية في البدن العادم للغذاء، إلى أن تنتهي إلى وقتها المقدور، ولكل أجل كتاب، ولكل دولة أمَدٌ”؛ وفقا لابن خلدون.
عقلية اقتصادية
وتكشف رسالة «إغاثة الأمة بكشف الغمة» عن تمكّن بارع يتمتع به المقريزي في استيعاب القضايا الاقتصادية في عصره، وكذلك فهم عميق لأطوار السياسات النقدية وتطورها التاريخي في العالم الإسلامي، بل إن الإجراءات والسياسات المقترحة في الكتاب لمواجهة الأزمات -والتي قدَّم أمثلة تطبيقية على نجاعتها في بعض عهود الدولتين الفاطمية والمملوكية- لا تزال صالحة للتوظيف في سياقاتنا الحاضرة.
وهو أمر لاحظه أحد كبار المفكرين الأوروبيين حين اطّلع على رسالة المقريزي هذه قبل قرنين من الآن؛ فالمؤرخ البريطاني روبرت إروين يحدثنا -في كتابه ‘من أجل متعة المعرفة: المستشرقون وأعـداؤهـم‘- عن أن عميد المستشرقين الفرنسيين سِلفستر دي ساسي (ت 1254هـ/1838م) كان شديد الافتتان بآراء المقريزي الاقتصادية، حتى إنه “كان في نظره رجلاً أصحَّ رأيًا من معظم المنظِّرين الماليين في أوروبا المعاصرة”، ورأى أن “المقريزي لديه أفكار حول المبادئ النقدية الحقيقية، وهي أكثر صحة من العديد من الكُتّاب في قرننا هذا”!!
بل إن دي ساسي -كما يقول إروين- بلغ من اعتداده برؤى المقريزي الاقتصادية أنه لم يجد حرجا في توظيف كتاباته بشأن حيازة الأراضي المصرية في الدولة المملوكية، فأعدّ من ذلك “أطروحة مطولة” لدحض آراء في هذا المجال لمواطنه الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو (ت 1168هـ/1755م)؛ ليتحول بذلك تراث المقريزي إلى مادة نقاشية في الحِجاج الفكري الأوروبي بشأن المُلكية الاقتصادية في فرنسا عصر الثورة!!
وممن أثبت استمرارية صلاحية آراء المقريزي النقدية -في أيامنا هذه- الباحثان الاقتصاديان ناشر أكبر ( Akbar. N- Nashr Akbar) وعبد الواحد الفايزين (Al Faizin. A – Abdul Wahid al Faizin) في دراسة لهما بعنوان: “إثبات مفهوم المقريزي لمحددات التضخم: تحليل عابر للحدود” (PROVING AL-MAQRIZI’S CONCEPT OF THE DETERMINANTS OF INFLATION: CROSS BORDER ANALYSIS). وقد نُشرت هذه الدراسة في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2019 ضمن العدد الخامس من مجلة «الاقتصاد النقدي والتمويل الإسلامي» (Journal of Islamic Monetary Economics and Finance – JIMF)، التي تصدر بإشراف “بنك إندونيسيا”.
ويعتبر كتاب «إغاثة الأمة» حلقة مهمة في تاريخ دراسات الاقتصاد العالمي، تلك التي قدمت نقلة مهمة في المباحث الاقتصادية والنقدية والتضخم وإدارة الكوارث. أما المقولة المركزية في هذا الكتاب فتتلخص في أن العامل البشري يجب أن يتقدم رصده وتحليله على العامل الكوني عند بحث أثر الكوارث الطبيعية على الدول والمجتمعات.
وقد التزم المقريزي هذا المنهج في كتابه «المواعظ والاعتبار» أثناء حديثه عن “الشدة المستنصرية” التي ضربت مصر خلال سنوات 457-464هـ/1066-1073م، والتي يسميها “الشدة العظمى”؛ ذلك أنه جعل “سببها أنّ السعر ارتفع بمصر في سنة ست وأربعين وأربعمئة (446هـ/1055م)، وتبع الغلاءَ وباءٌ” اجتاح البلاد وأباد العباد، فهو هنا يعتبر الخطأ البشري هو الفاعلَ الأساسي في استفحال المآسي الاقتصادية، مما قاد إلى حصول تلك “الشدة العظمى” بعد نحو عقد كامل!!
وأما الأثر الأكبر الثاني لتلك الأزمة في الميدان السياسي؛ فهو أنها كانت السببَ البعيدَ في تدهور مؤسسات الدولة جراء ضعف مكانة “الخلفاء” الفاطميين، وما تبع ذلك من استفتاح لحقبة حكم “الوزراء الأقوياء” بإسناد الوزارة إلى قائد الجيش بدر الجَمَالي (ت 487هـ/1096م)، وهي الحقبة التي تواصلت حتى نهاية الدولة الفاطمية -بعد ذلك بقرن- على أيدي الزنكيين بواسطة أعوانهم الأيوبيين سنة 567هـ/1174م.
ويرى كتاب «إغاثة الأمة» أن التضخم والكساد الكبيرين -اللذين مرّا بمصر خلال القرنين الثامن والتاسع الهجريين/الـ14-15م- كانا ناتجيْن عن كثرة الأموال النحاسية الرديئة التي كانت تُسكّ بلا حسابٍ أو معايرةٍ دقيقة لقيمتها (سعر الصرف)، وقد تواكب ذلك مع قلة المعروض السلعي بسبب الجفاف والعوامل الطبيعية.
وترى الدراسة أن كل ذلك أدى إلى ارتفاع مخيف في الأسعار، ووقوع مجاعات ومآس إنسانية كبرى في مصر؛ وبالتالي فإن السبب الأول في احتدام الأزمات الاقتصادية و”فساد الأمور إنما هو سوء التدبير لا غلاء الأسعار”، ومكمن الداء هو “فساد نظر من أسنِد إليه النظر في ذلك وجهله بسياسة الأمور، وهو الأكثر في الغالب”.
وهذه المعادلة المقريزية مثْبتة بنتائج الدراسات الاقتصادية الحديثة التي توصلت إلى أنه “تُظهر البيانات التجريبية [اليوم] أن معدل التضخم مرتبط بشكل إيجابي بعوامل الخطأ البشري”، وأن “الخطأ البشري هو العامل الرئيسي الذي يسبب التضخم، ويشمل هذا العامل: مستويات عالية من الفساد، وأسعار الفائدة والضرائب، وتضخم كمية النقود المتداولة”؛ طبقا للدراسة الإندونيسية المذكورة سابقا.
ثم يأتي في المقام الثاني تأثير مضاعفات “الجائحة” بإهمال علاجها في الوقت المناسب، وذلك أن “سوء التدبير وفساد الرأي” وبطش الكارثة الطبيعية “يتمادى بالبلاد والعباد” فتتضاعف به الأزمات؛ ولذا فإن “من تأمَّل هذا الحادث (= أزمة مصر أيامها) من بدايته إلى نهايته، وعرفه من أوله إلى غايته؛ علِم أن ما بالناس سوى سوء تدبير الزعماء والحكام وغفلتهم عن النظر في مصالح العباد”.
ويقرر المقريزي أن الإدارة الكفؤة قد تضع حلولا تجعل الأمور في حدودها الدنيا إذا لم توفَّق في حلها كلية؛ لأن “الأمور كلها وجلّها إذا عُرفت أسبابها سهُل على الخبير صلاحها”، وأن حسن إدارة الأزمات ومعالجتها أمر في متناول الخبراء بها من البشر لأن الله تعالى قد “أنعم على قوم فأوقفهم على ما خفي من بديع صنعته…، وآتاهم بيانا وحُكما، وألهمهم معارف وعلما، وأيدهم في أقوالهم وسددهم في أفعالهم، حتى يبينوا للناس أسباب ما نزل من المحن، وعرّفهم كيف الخلاص مما حلّ بهم من جليل الفتن”.
جاء الفصل الأول من الكتاب بعنوان: «فصل في إيراد ما حل بمصر من الغلوات (= جمع غلاء/التضخم) وحكايات يسيرة من أنباء تلك السنوات». وفي هذا الفصل بيّن المقريزي أن “الغلاء والرخاء ما زالا يتعاقبان في «عالَم الكون والفساد»”، أي في عالم المجتمعات البشرية.
ويبدو أن هدف المقريزي من سرد تلك الأخبار هو إحداث أثر نفسي في القارئ يُبطل عنده الوعي الزائف باستثنائية المحن التي تمر بها المجتمعات، ويدفعه إلى التحرر من الانحباس في البلاء المعيش، ويحثه على النظر في دورات الشدة والرخاء الواقعة في الدول عبر التاريخ، والسعي الجاد إلى دفع البلاء بتحديد أسبابه البشرية وتحليل علل تكراره ومعالجتها، كما فعل السابقون عبر حكومة جيدة يمكنها أن تدير الأزمات بكفاءة عالية، والتعامل الرشيد مع سُنن الرخاء والشدة التي تتناوب على المجتمعات ولا تسلم منها أمة.
وقد توصل المقريزي إلى ثلاثة عوامل رئيسية رأى أنها هي أسباب الأزمات المجتمعية وما يسبقها أو يرافقها من “الغلوات” أي التضخم؛ وأول تلك الأسباب هو الفساد الذي جعل السلطة السياسية والتنفيذية والقضائية في الدولة مرتعا لـ”كل جاهل ومفسد وظالم وباغ” يسعى إلى تولي “الخُطط (= الوظائف) السلطانية والمناصب الدينية بالرشوة: كالوزارة والقضاء ونيابة الأقاليم وولاية الحسبة، وسائر الأعمال”، وغالبية هؤلاء الولاة الفَسَدة لا مال عندهم فكانوا يلجؤون إلى الاستدانة لدفع تلك الرشى للسلطان، وبعد أن يتولوا الوظائف يصبح كل واحد منهم نقطة تجمّع لفاسدين أصغر منه، وهكذا ينتشر الفساد في عصب أجهزة الدولة من أعلى إلى أسفل.
وعندما يكون رأس السلطة فاسدا فمن مصلحته أن يغمض “عينيه ولا يبالي بما أخذ من أنواع الأموال، ولا عليه بما يتلفه في مقابلة ذلك من الأنفس، ولا بما يريقه من الدماء ولا بما يسترقّه من الحرائر”، وطبيعي أن تكون كلفة ذلك باهظة على الأتباع من الفلاحين “فلما دُهِيَ أهلُ الريف بكثرة المغارم وتنوع المظالم، اختلت أحوالهم وتمزقوا كل ممزق، وجَلَوْا عن أوطانهم، فقلَّتْ مجابي (= جبايات) البلاد ومتحصلها لقلة ما يُزرع بها، ولخلوّ أهلها ورحيلهم عنها لشدة الوطأة من الولاة عليهم، وعلى من بقي منهم”.
تأثير إصلاحي
إن نظاما سياسيا كهذا تقوم دعائم ولاية أعماله على الرشوة عندما يضعف أو يمر بلحظة فراغ، فإن الفوضى السياسية والأمنية ستضرب في جنابته، وهو ما حصل أيام المقريزي؛ إذْ وقع “اختلاف بين أهل الدولة آل إلى تنازع وحروب.. وثورة أهل الريف وانتشار الزُّعّار (= اللصوص) وقطّاع الطريق، فخيفت السُّبُل وتعذَّر الوصول” إلى المناطق الآمنة.
و”مُعامل الفساد” الذي اقترحه المقريزي كسبب رئيس في ارتفاع نسبة التضخم، دعمته بعض الدراسات الاقتصادية الحديثة؛ فطبقا لدراسة الباحثيْن أكبر والفايزين -المذكورة سابقا- فقد أجرى أحد الباحثين دراسة على 41 دولة خلال الفترة من 1980 إلى 1995، وأظهرت النتائج أن الفساد يؤثر على التضخم. وأجرِي المزيد من الأبحاث الحديثة على عينة من 25 دولة نامية فخلصت نتائجها إلى أنه كلما زاد مستوى الفساد ارتفع معدل التضخم.
أما السبب الثاني الذي يرصده المقريزي للأزمات الاقتصادية فهو يمسّ نظام الإقطاع المملوكي، الذي بدأ أصلا في العراق خلال عهد الوزير السلجوقي نِظام المُلك (ت 485هـ/1092م) أداةً لتوفير حاجة السلطة من قوات الأمن ومجندي الجيوش، واستحال في نهاية عصر المماليك بمصر والشام إلى نظام جائر ينخره الفساد وتعمّه المظالم، وهو نظام كانت تُوكَل بموجبه إلى الأمراء -من قادة الجيوش وأرباب السيوف- إدارة حيازات واسعة من الأراضي، فيستفيدون منه هم وجنودهم نظير جبايات تسدد لصالح الدولة.
والحاصل أن ترف طبقة أمراء الإقطاعيات وجشعهم لمراكمة الثروات جعلهم يطلقون أيدي أتباعهم -نظير رشى ينالونها منهم- في البطش بالفلاحين، مما أدى إلى مضاعفة محنتهم جراء رفع مقادير أجرة الأرض بما لا يكافئ غلتها “فجعلوا الزيادة ديدنهم كل عام، حتى بلغ الفدان لهذا العهد نحواً من عشرة أمثاله قبل هذه الحوادث”! وكان من نتيجة ذلك أن “تزايدت كلفة الحرث والبذر والحصاد وغيره، وعظمت نكاية الولاة والعمال، واشتدت وطأتهم على أهل الفَلْح (= الفلاحة)، وكثرت المغارم… وتعطلت أكثر الأرض من الزراعة، فقلّت الغلال وغيرها مما تخرجه الأرض”!!
وقد سبق الإمامُ تاج الدين السبكي (ت 771هـ/1369م) المقريزيَّ إلى انتقاد النظام الإقطاعي المملوكي؛ فقال -في كتابه ‘مُعيد النِّعَم ومُبيد النِّقَم‘- إنه “من قبائح ديوان الجيش (= وزارة الدفاع) إلزامُهم الفلاحين في الإقطاعات بالفلاحة، والفلاحُ حُرٌّ لا يد لآدمي عليه وهو أميرُ نفسِه”.
وتحدث عن نمط من السخرة يصل إلى العبودية قائلا: “وقد جرت عادة الشام بأن من نزح من دون ثلاث سنين يُلزم ويعاد إلى القرية قهرا، ويلزم بشدّ الفلاحة، والحال في غير الشام أشد منه فيها”. وتلك السخرة اعتبرها المقريزي نمطا من العبودية يمارس على الفلّاح “فيصير عبدا قِنًّا (= متوارَث الاسترقاق) لمن أقطع تلك الناحية، إلا أنه لا يرجو قط أن يُباع ولا أن يُعتَق، بل هو قِنٌّ ما بقي ومَنْ وُلد له كذلك” يبقى عبدا قِنًّا لدى أمير الإقطاع وورثته.
ولعل هذه الانتقادات والإصلاحات التي طالب بها المقريزي وجدت صداها في “نظام الالتزام” الذي طبقته الدولة العثمانية وشهد بعض التنظيم الإصلاحي، ثم في مصر على يد واليها العثماني محمد علي باشا (ت 1265هـ/1848م) الذي ألغى هذا النظام بالكلية، وباتت الدولة هي من تملك الأرض من حيث الإدارة الزراعية والخراج.
وقد سمحت تلك التعديلات لمحمد علي بتعديل أنظمة الري واستصلاح المَوَات، فمنح الفلاحين “حق الانتفاع [بالأرض] دون التوريث، ثم أقر سعيد (= والي مصر سعيد بن محمد علي المتوفى 1279هـ/1863م) المُلْكية المقيَّدة بتحفظات، ثم الخديوي إسماعيل (= إسماعيل بن إبراهيم باشا المتوفى 1312هـ/1895م) أقر حق الملكية التامة انتفاعا، وبذلك أصبح الفلاح لأول مرة في تاريخ مصر المالكَ المطلقَ لأرضه”؛ وفقا لجمال حمدان في كتابه ‘شخصية مصر‘.
أما السبب الثالث للأزمات الاقتصادية عند المقريزي؛ فهو تراجع التعامل بدنانير الذهب ودراهم الفضة، ورواج الفلوس النحاسية التي أصبحت هي النقد المتداول بدلا من الدينار والدرهم اللذين “لا يُعلم -في خبر صحيح ولا سقيم- عن أمة من الأمم ولا طائفة من طوائف البشر أنهم اتخذوا أبداً في قديم الزمان ولا حديثه نقداً غيرهما”!! وهذا أيضا رأي شيخه ابن خلدون الذي يؤكد أن الذهب والفضة هما “قيمة لكل مُتموَّل، وهما الذخيرة والقُنْية (= الادخار) لأهل العالَم في الغالب”.
ويؤرخ المقريزي -الذي وضع مصنَّفا بعنوان «رسالة لطيفة في أمر النقود الإسلامية»- لبداية هذا التحول في التعامل النقدي بعهد السلطان العادل الأيوبي (ت 615هـ/1218م)، ثم إنه تواصل العمل به في بقية “بني أيوب، ثم في مواليهم الأتراك (= المماليك) بمصر والشام، حتى قلَّ الذهب وصارت المبيعات الجليلة تباع وتقوّم بها”، أي بالفلوس النحاسية.
وقد كثرت العملة النحاسية في عصر المقريزي بعد أن توسَّع السلاطين في ضربها، ودخل فيها المزيف ولم تكن ذات معايرة واضحة كالذهب والفضة أو محكومة بسعر صرف ثابت، فلما جرى التوسع في سكّها وتداولها وقع التضخم الكبير بزيادة المعروض من نقودها في الأسواق، وصارت “الفلوس لا يُشترى بها شيء من الأمور الجليلة، وإنما هي لنفقات الدُّور” من الحاجات المعيشية اليومية.
وقد قدّم المقريزي اقتراحا بإعادة الاعتبار إلى عملات الذهب والفضة بوصفها النقود المعتبرة شرعا والمعتمدة تعاملا من وجهة النظر التاريخي، ثم عرض حلا وقتيا لضبط الفلوس النحاسية وفق سعر الدينار أو الدرهم، باعتبار أن ذلك هو ما به “يؤول أمر الناس -إن شاء الله تعالى- من هذا الفساد، وعودهم إلى رجوع أسعار المبيعات وقِيَم الأعمال على ما كانت عليه قبل هذه المحن”.
ولا يزال مقترح المقريزي القاضي بمحاربة التضخم بالعودة إلى النظام النقدي القائم على الذهب حاضرا عند الدارسين الاقتصاديين المعاصرين؛ فقد توصلت الدراسة الإندونيسية -المشار إليها سابقا- في أبرز نتائجها إلى أنه “يُوصَى بأن تتوصل الحكومات إلى اتفاق دولي للعودة إلى استخدام الذهب والفضة كعملة عالمية، كما اقترح المقريزي”!!
توثيق عمراني
ظل التاريخ العام للدول الإسلامية معتمِدا على المنهج الذي رسّخه إمام المؤرخين محمد بن جرير الطبري (ت 310هـ/922م): تاريخا متصلا لأمة واحدة مندمجة، تتخلله الأحداث والأيام التي تُرصَد وقائعها وتدوَّن مفاعيلها في موسوعات اتسمت بالكثير من الدقة والإحاطة. ولكن مع ضعف الخلافة وظهور مراكز سياسية وحضارية عدة؛ بدأت تنجم نزعات قُطْرية للبحث عن تاريخ اجتماعي وسياسي وثقافي محلي، يكتبه أهل كل إقليم عن حواضرهم ومجتمعاتهم.
ولا يمكن القول إن تلك الكتابة تمثل اتجاها وطنيا أو قوميا بالمعاني المعاصرة، لأن تدفقاتها المستغرِقة في قُطْريتها ظلت مشدودة نحو حضارتها، ولم تكن تعبّر عن أي اتجاه انعزالي في الوعي الجمعي، أو توجُّه للتفتت أو الانفصال عن الأمة الواحدة.
ومن أوائل وأشهر الكتابات في التواريخ الإقليمية والبلدانية -التي جسدت ظاهرة الانتقال من التاريخ العام للأمة إلى التواريخ الخاصة للأقاليم- فيما قبل عصر المقريزي: “تاريخ واسط” للمؤرخ بَحْشَل الواسطي (ت 292هـ/905م)، و”تاريخ دارِيا” لعبد الجبار بن عبد الله الخَوْلاني (ت 370هـ/981م)، و”تاريخ جُرْجان” لحمزة بن يوسف السَّهْمي (ت 427هـ/1037م)، “ذكر أخبار أصبهان” لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (ت 430هـ/1040م)، و”تاريخ صنعاء” للمؤرخ إسحق بن يحيى بن جرير الطبري الصنعاني (ت نحو 450هـ/1059م)، و”تاريخ بغداد” للإمام الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1072م)، و”تاريخ مدينة دمشق” للحافظ بن عساكر الدمشقي (ت 571هـ/1175م)، و”بغية الطلب في تاريخ حلب” لكمال الدين ابن العديم (ت 660هـ/1262م)، و”الإحاطة في تاريخ غرناطة” للوزير الأندلسي الأديب لسان الدين ابن الخطيب (ت 776هـ/1374م).
ولعل هذا النوع من التآليف هو الذي دفع المقريزي للقول بأنه “لكل أمة من أمم العرب والعجم -على تباين آرائهم واختلاف عقائدهم- أخبار عندهم معروفة مشهورة ذائعة بينهم، ولكل مصر من الأمصار المعمورة حوادث قد مرت به يعرفها علماء ذلك المصر في كل عصر. ولو استقصيتُ ما صنَّف علماء العرب والعجم في ذلك لتجاوز حدَّ الكثرة، وعجزت القدرة البشرية عن حصره”.
وعلى هذه الخلفية وتطويرا لمخرجاتها التاريخية والجغرافية؛ جاءت تصانيف “الخطط” أو مدونات الطبوغرافية الثقافية والسياسية والاقتصادية التي كتبها المؤرخون المسلمون، وهو فن موسوعي عرفته الحضارة الإسلامية ويمكن وصفه بأنه يمثل انتقالا ثانيا في قوالب الكتابة التاريخية، ولكن هذه المرة من التواريخ العامة للأقاليم إلى التواريخ الخاصة بعمران مدنها الإسلامية: قطاعات ومنشآت ومؤسسات.
وهي كتابات تستند إلى الجغرافيا المدينية بشتى أبعادها العمرانية والثقافية والاجتماعية والسياسية، وأشهر مدارسها هي تلك التي احتضنتها مصر وطورتها لتبلغ أوْجها مع المقريزي في موسوعته «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار»، وقد سجّل في مقدمتها عرضا مركَّزا وأمينا لخلاصة الخبرة المصرية في هذا النمط من التأليف التاريخي العمراني، بعد أن “ازدهر التأليف في كُتُب «الخطط» واتسع نطاقه في عهد الأيوبيين والمماليك”؛ طبقا للمستشرق الألماني فرانز تيشنر (ت 1387هـ/1967م) في مبحث “الجغرافيا” الذي نشره في كتاب ‘موجز دائرة المعارف الإسلامية‘.
وبالنسبة لكتاب «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار» المعروف اختصارا بـ«الخطط المقريزية»؛ فقد كان محل اعتزاز علماء عصره ومؤرخيه بعد أن اعتبروه الكتاب الذي أحيا به المقريزي معالم القاهرة، بعد أن اندثر كثير منها وكان الباقي مهددا بالاندثار.
والواقع أن المقريزي -وإن خصّ القاهرة بمعظم مادة كتابه هذا الذي مكث في تصنيفه وتنقيحه 25 سنة- لم يُهمل التطرق إلى غيرها من حواضر مصر ونجوعها. ولذا لم يَعْدُ علي مبارك الصوابَ -في موسوعته «الخطط التوفيقية الجديدة» التي هي في الواقع تكملة لخطط المقريزي التي نقلت عنها كثيرا- حين قال إن “العلامة المقريزي لم يقتصر -في «خططه»- على مدينة القاهرة المعزية، بل تكلم على كثير من بلدان الديار المصرية”.
بل إن فضل موسوعة المقريزي القاهرية هذه يتعدى معاصريه إلى مَنْ جاء بعدهم من عشاق التأريخ للقاهرة حتى من الباحثين الغربيين؛ ففي كتابه “سكان القاهرة من «المقريزي» إلى «وصف مصر»” (La population du Caire de Maqrīzī à la Description de l’Égypte) كان المؤرخ والمستشرق الفرنسي أندريه ريمون (ت 1432هـ/2011م) موفقا في ربطه بين «الخطط المقريزية» وموسوعة «وصف مصر» الضخمة، التي حررها -نصوصا ورسوما- المئاتُ من العلماء الفرنسيين طوال ربع قرن، وقد زاروا مصر وسكنوها ملحَقين بجيش الحملة التي قادها الإمبراطور نابليون بونابرت (ت 1235هـ/1821م) لاحتلال مصر والشام، وامتدت -قبل هزيمتها- بين 1212-1215هـ/1798-1801م.
ولا يقتصر توفيق عنوان ريمون هنا في الربط بين الكاتبين من جهة التطابق في الموضوع؛ بل إنه يتعدى ذلك إلى المضمون الذي يُرجَّح أن علماء نابليون استفادوه من موسوعة المقريزي في التأريخ للقاهرة. ومردّ هذا الترجيح هو ما كان لخطط المقريزي من شيوع ذكر أيامها في مصر وخارجها، حتى إن المؤرخ المصري عبد الرحمن الجَبَرْتي (ت 1240هـ/1824م) -الذي عاصر الحملة الفرنسية واحتكّ بعلمائها- يتكرر عنده في كتابه «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» العزوُ إلى كتب المقريزي بما فيها «الخطط»، وقد يكون هو نفسه بوابة وصولها إلى أولئك العلماء الفرنسيين.
بل لا يُستبعَد أن تكون «الخطط المقريزية» ضمن المخطوطات العربية التي بدأ الأوروبيون ينقلونها بشغف إلى بلادهم منذ القرن الـ11هـ/الـ17م، خاصة أن الجبرتي يفيدنا بتلمذة باحثين أوروبيين على والده خريج الجامع الأزهر الشيخ حسن الجبرتي (ت 1188هـ/1774م) قبل الغزو الفرنسي لمصر بنصف قرن؛ فهو يقول إنه “حَضَرَ إليه طلاب من الإفرنج وقرؤوا عليه علم الهندسة، وذلك سنة تسع وخمسين (= 1159هـ/ 1746م)، وأهدوْا له من صنائعهم وآلاتهم أشياء نفيسة، وذهبوا إلى بلادهم ونشروا بها ذلك العلم من ذلك الوقت، وأخرجوه من القوة إلى الفعل”!!
تحولات كبرى
حقًّا لقد خلّد المقريزي تفاصيل نحو خمسمئة سنة من تاريخ مدينته الأثيرة القاهرة التي تعود جذور تأسيسها إلى عواصم مصر الإسلامية الأولى، قبل أن تكون “القاهرة المعزية رابع موضع انتقل سرير السلطنة إليه من أرض مصر في الدولة الإسلامية”؛ حسب تعبيره موضحا أنها “إنما وُضعت [لتكون] منزل سُكْنَى للخليفة وحُرُمه وجنده وخواصّه، ومعقلَ قتال يتحصن بها ويلتجأ إليها، وإنها ما برحت هكذا حتى كانت «الشدة العظمى» في خلافة المستنصر” الفاطمي.
ويقدم لنا المقريزي -في كتابه هذا- خلاصة مركزة عن عواصم مصر المتعاقبة منذ العهد الفرعوني؛ فيذكر أنه بعد أن فتح البلاد الصحابي الجليل عمرو بن العاص (ت 43هـ/664م) “اختطّ مدينة «فسطاط مصر» فصارت دار الإمارة من حينئذ بالفسطاط إلى أن زالت دولة بني أمية وقدمت عساكر بني العباس إلى مصر، وبنوْا -في ظاهر الفسطاط- «العسكر» فصار الأمراء من حينئذ تارة ينزلون في العسكر وتارة في الفسطاط، إلى أن بنى أحمد بن طولون (ت 270هـ/884م)… «القطائع» بجانب العسكر فصارت القطائع منازل الطولونية إلى أن زالت دولتهم، فسكن الأمراء… بالعسكر إلى أن قدِم جوهر القائد (ت 381هـ/992م) من بلاد المغرب بعساكر المعزّ لدين الله وبنى «القاهرة المعزية»، فصارت القاهرة من حينئذ دار الخلافة ومقرّ الإمامة ومنزل المُلك”!!
والقاهرة من العواصم التي تدفع حاكمها إلى الطموح السياسي؛ فهي تحمل جينات الاستقلال والقيادة منذ أن رفعت قواعدَها الدولةُ لفاطمية لتكون عاصمة خلافتهم الزاخرة بالأحداث، حتى إذا سقط سلطانهم على يد صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ/1193م) “انتقل من القاهرة إلى قلعة الجبل فسكنها بحُرُمه وخواصّه، وسكنها الملوك من بعده إلى يومنا هذا، فصارت القاهرة مدينة سُكنَى بعد ما كانت حصنا يُعتقل (= يتحصَّن) به، ودار خلافة يُلتجأ إليها، فهانت بعد العز وابتُذلت بعد الاحترام”!!
والقاهرة هي “مدينة مصر” -حسب وصف المقريزي- ومن خلال التأريخ لعمرانها “يشرف المرء في زمن قصير على ما كان في أرض مصر من الحوادث والتغييرات في الأزمنة المتطاولة والأعوام الكثيرة”. وخطط القاهرة، تعني بالضرورة التطرق لتلك التحولات والسيْر في ركب الدول المتعاقبة بكل شواهدها العمرانية، وحوادثها السياسية، ومؤسساتها الحضارية، من أجل “التنويه بذكر الذي شادها من سَرَاة (= أشراف) الأعاظم والأفاضل”، والوقوف على “أنباء ما بديار مصر من الآثار الباقية عن الأمم الماضية والقرون الخالية”، وتوثيق “آثار القصور الزاهرة وما اشتملت عليه من الخِطط والأصقاع وحوته من المباني البديعة”.
بدأ المقريزي كتابه بمقطع احتفائي بمصريته معللا شغفه الدافع إلى تأليف هذا السِّفْر؛ فقال: “مصر هي مسقط راسي، وملعب أترابي ومَجْمَع ناسي، ومَغْنَى (= مسكن) عشيرتي وحامَتي (= قرابتي)، وموطن خاصتي وعامتي، وجُؤْجُئي (= صدري) الذي ربَّى جناحي وَكْره، وعشّ مأربي فلا تهوى الأنفس غير ذكره”!! والواقع أن المقريزي في كتابه هذا “كان قاهرياً محباً لوطنه”؛ كما لاحظ بحق مؤرخ الحضارات الأميركي وِلْ ديورانت (ت 1402هـ/1981م) في كتابه ‘قصة الحضارة‘.
وفي الفصول الأولى من هذا الكتاب؛ ذكر المقريزي نبذة جغرافية عن محل مصر من الأرض، وموضعها من الأقاليم السبعة وفق التقسيم الجغرافي للأرض لدى الأقدمين، ثم أوضح حدودها وجهاتها واشتقاق اسمها ومعناه، وتطرق لخصائص بيئتها وأحوال طقسها، وعرَض لعجائب نقوشها وطِلسْماتها، وتناول كنوزها وآثارها ودفائنها، ثم ذكر هلاك مواردها وأموالها.
وبالنسبة لمدينته الأثيرة القاهرة؛ فقد جاب شوارعها وطاف بين حواريها، وكتب عن مدارسها وزواياها، وتتبّع مجاري نهرها وخلجانها وما تموج به من سفن ومراكب، وسبر أغوار تاريخ مرافقها ومؤسساتها، ورصد احتفالاتها ومظاهر بهجتها، وكشف عن أحزانها وآلامها في محنها، وخبر مكوناتها الثقافية فدوّن معتقدات أديانها وطوائفها، وأرّخ لحركة الأفكار والتيارات والمذاهب: كيف تسالمت؟ وكيف تغالبت؟ وماذا بقي منها؟ وما الذي انْدَرَس؟!
لقد كتب المقريزي عن الإنسان المصري كيف ما كان: سنيا وشيعيا، قبطيا ويهوديا، فلّاحا وصانعا، سلطانا وفقيها، موظفا وتاجرا، وكان شديد الاحتفاء بالوطن، جريء النقد للمواطن، وثيق الحب للمحروسة عميق التشاؤم بمصيرها!
وبين المناقب والمثالب؛ دار حديثه عن فضائل مصر ومناقبها وأخلاق المصريين وطبائعهم وأمزجتهم. وهنا يجد القارئُ نفسَه أمام فصلين يبدوان متناقضين: فالأول يتحدث عن فضائل الوطن، والثاني يتناول بعض سلبيات المواطن.
ولا يخفى أن باب “أخلاق الشعوب” طالما كان مبحثا لدى علماء الأخلاق بالقدر الذي ظل به مجالا للغط بين مثيري المقولات الشعوبية وناقديهم، والقول الفصل فيه هو ما أورده شيخ الأدباء أبو حيان التوحيدي (ت بعد 410هـ/1020م) -في ‘الإمتاع والمؤانسة‘- من أن الأمر نسبي، والتعميم فيه -سلبا أو إيجابا- مزالقه كثيرة “فلكل أمّة فضائل ورذائل، ولكلّ قوم محاسن ومساوٍ، ولكلّ طائفة من الناس في صناعتها وحَلّها وعَقْدها كمال وتقصير، وهذا يقضي بأنّ الخيرات والفضائل والشرور والنقائص مُفاضة على جميع الخَلْق، مَفْضُوضة بين كلّهم…؛ ثم إن هذه الفضائل المذكورة في هذه الأمم… ليست لكل واحد من أفرادها بل هي شائعة بينها، ثم في جملتها من هو عارٍ من جميعها وموسومٌ بأضدادها”!!
وقد أثار المقريزي جدلا واسعا بكلامه عن أخلاق المصريين وخيضت بشأن ذلك نقاشات طويلة؛ فالمقريزي في فضائل مصر يرى أنها تلك البقعة التي جاء “ذكرها في كتابه العزيز بضعا وعشرين مرة تارة بصريح الذكر وتارة إيماءً”، وهي “خزائن الأرض كلها، وسلطانها سلطان الأرض كلها”، ثم إن “من أراد أن ينظر إلى شبه الجنة فلينظر إلى مصر”، وهي فوق ذلك “متوسطة الدنيا”. ومن اللافت أن عبارته الأخيرة هذه يستخدمها جمال حمدان -في كتابه ‘شخصية مصر‘- دون أن يعزوها إلى المقريزي!!
أما عن الفصل الذي يتحدث فيه عن أخلاق المصريين؛ فينبغي بدايةً القول إن النقد الذي قدمه المقريزي لمصريّي زمانه لا بد أن يُفهم في سياق ما يمكن تسميته بـ”أخلاق الأزمة”، فقد جاء مدفوعا بما “نزل بالبلاد من المحن، وما دُهُوا به من كثرة الفتن”!! ولو دققنا في لغته فسنجده يتحدث عن أخلاق “زمن المحن والفتن” هذا، راصدا السمات السلبية التي تطفو على الشخصية الإنسانية -أي شخصية وفي أي مكان- أثناء المحن الاجتماعية.
وهكذا في ضوء هذا المحدِّد المنهجي؛ يمكن فهم مقولات له عن المصريين من قبيل أن “أخلاقهم يغلب عليها الاستحالة (= التغير) والتنقل من شيء إلى شيء…، والقنوط والشح، وقلة الصبر…، وسرعة الخوف، والحسد والنميمة”!! أو قوله إنهم يغلب عليهم “اتّباع الشهوات والانهماك في اللذات، والاشتغال بالترهات والتصديق بالمحالات، وضعف المرائر والعزمات”!!
سياقات ضاغطة
والحقيقة أن كلا الموقفين: الإيجابي من مصر تاريخا ودورا، والسلبي من المصريين المعاصرين له والذين عايشهم، إنما ورثه المقريزي عن شيخه ابن خلدون الذي قال -في مذكراته ‘رحلة ابن خلدون‘- مادحا عاصمتهم القاهرة بأنها “حضرةُ الدنيا وبستانُ العالم، ومَحْشَرُ الأمم ومَدْرَجُ الذَّرِّ من البَشر، وإيوانُ الإسلام”!! وبالنسبة للمصريين الذين عرفهم لاسيما في عمله القضائي فقد قال عنهم -فيما نقله عنه المقريزي في ‘المواعظ والاعتبار‘- إن “أهل مصر [يعيشون] كأنما فَرَغُوا من الحساب [الأخروي]”، ذلك أنهم “غَلَبَ الفرحُ عليهم والخِفّة والغفلة عن العواقب”!!
وهذا الحكم -الذي يبدو قاسيا- ليس مبعثه أي ازدراء لمنزلة أهل مصر ولا تقليل من قدرهم، وكيف ذلك والكتاب كله جاء تأريخا لدور القاهرة الحضاري، واحتفاءً بعطاء أعلامها السياسية وشخصياتها العلمية، وأداء مؤسساتها الرسمية ومرافقها المجتمعية ومنشآتها العمرانية، ناهيك عما تضمنته كُتب المقريزي التاريخية والتراجمية الأخرى من ثناء على أعيان المصريين من العلماء والأمراء الرجال والنساء.
لكن الظروف الصعبة التي عاشها المقريزي وأرّخ لها هي التي دفعته إلى تلك التعميمات المجحفة والإطلاقات المتعسفة؛ ففي تلك الفترة شهد المجتمع المصري “كثرة الحروب والفتن بين أهل الدولة”، وعانى من “سوء حال الرعية، واستيلاء الفقر والحاجة والمسكنة على الناس، وكثرة تنوُّع المظالم الحادثة من أرباب الدولة”، فأدى كل ذلك إلى أن “تقلَّص ظل العدل، وسفرت أوجه الفجور، وكشر الجور أنيابه، وقلّتْ المبالاة، وذهب الحياء والحشمة من الناس، حتى فعل من شاء ما شاء”!!
وليس ثمة وصف أبلغ ولا أشد ألما من كلامه -في ‘إغاثة الأمة‘- عن أوضاع الطبقات الاجتماعية الوسطى في عهد المحن هذا، ولاسيما فئة العلماء التي ينتمي هو إليها؛ إذْ هم من “الفقراء وهم جلُّ الفقهاء وطلاب العلم..، وهم ما بين ميت أو مشتهي الموت لسوء ما حلَّ بهم”!!
وفي مثل هذه الأحوال “تبدَّلُ الأرض غير الأرض” كما عبر المقريزي قاصدا انقلاب الأوضاع الطبيعية، فتبدأ النُّظُم السياسية في التآكل، والقيم الأخلاقية في الانهيار، ويسطو التضعضع على العمران. ولحظة “الفناء” عند شيخه ابن خلدون تظهر عادة في نهايات الدول، عندما تزداد وتيرة الغلاء وترتفع قيمة المكوس ويزداد إنفاق رجال السلطة على متطلبات الترف، فيرفعون الضرائب على الشعب ويقع جراء ذلك “العدوانُ في الأموال والجبايات”، وتكثر المجاعات “لقبض الناس أيديهم عن الفلح”.
ويرى المقريزي كذلك -متأثرا بابن خلدون- أنه في مراحل أفول الدول يظهر ما يسميه “المسخ في الشمائل والأخلاق المنذر بظهوره على الصور والذوات” الإنسانية؛ فأمثال هذا “الإنسان المسخ” من المواطنين تتحقق فيهم الأخلاق الذميمة التي ذكرها شيخه، فيكونون “أجرياء على الكذب والمقامرة والغش والخِلابة (= الخديعة)، والسرقة والفجور في الأيمان والربا في البياعات”، وعندها “يموج بحر المدينة بالسفلة من أهل الأخلاق الذميمة”، وتكون النتيجة أنه “إذا فسد الإنسان في قدرته على أخلاقه ودينه فقد فسدت إنسانيته وصار مسخا على الحقيقة”!!
إذن بين تمجيد الوطن ونقد المواطن ثمة خطوط فاصلة، بحيث تلزم التفرقة بين الفكرة المعبِّرة عن تقدير المقريزي وشيخه ابن خلدون لمصر من جهة تميُّز مكانها الجغرافي ومكانتها الثقافية والتاريخية التي سجّلاها في مبحث الفضائل، وبين مقولاتهما المشخِّصة لأمراضها المجتمعية التي تظل عارضة -مهما بدت مستعصية- بانتظار ظهور مصلح يعيدها إلى جادة الألق الحضاري، كما حصل في دورات تاريخية متكررة قبل عصر المقريزي وبعده.
على أنه من اللازم القول هنا إن واجب المثقف الواعي تجاه مجتمعه وأمته يملي عليه أن يشير إلى مواضع الخلل ومكامن العلل، وألا يُعدّ ذلك تشويها أو تشهيرا حتى ولو كانت لغته صادمة وعباراته قاسية. ولعل جمال حمدان كان يقصد -وإن لم يُرد ذلك- نقدَ المقريزي للشخصية المصرية في عصره، وذلك عندما قال “إن أشد المنتقدين لنقاط الضعف والسلبيات في الشخصية المصرية هم عادة أشد الوطنيين الممتازين طموحا وإخلاصا، وأشدهم حبًّا لمصر وحَدَباً عليها ورغبة في تقدمها ورقيّها”.
وقد طبق المقريزي نفسه هذه الفكرة في السياق المملوكي حين فرق فيها بين جيل الفضائل المملوكية الذين “كانوا سادة يدبِّرون الممالك، وقادة يجاهدون في سبيل الله، وأهل سياسة يبالغون في إظهار الجميل، ويردعون من جار أو تعدَّى”. وبين جيل المحن والأفول عندما “صار المماليك السلطانية أرذلَ الناس، وأدناهم وأخسّهم قدْرا، وأشحَّهم نفسا، وأجهلهم بأمر الدنيا، وأكثرهم إعراضا عن الدين، ما فيهم إلا من هو أزنَى من قرد، وألصّ من فأرة، وأفسدُ من ذئب، لا جَرَمَ (= لا عَجَبَ) أن خرِبت أرض مصر والشام”!!
وهذا التحول الجيلي في المماليك -وهم قادة الدولة- يحلل المقريزي أسبابه فيُرجعه إلى الانحراف الذي حصل في منهج التربية والتزكية لناشئة هؤلاء المماليك. ففي الجيل الذهبي منهم كان “المملوك” يخضع لبرنامج تأهيلي متكامل وشامل لمختلف جوانب التكوين المتوازن، وفق نظام تربوي وعسكري صارم كان يخضع له المماليك في “قلعة الجبل” بالقاهرة، ويجمع بين الآداب الشرعية والفنون الأدبية والعلوم العسكرية والتربية الأخلاقية.
فكان المملوك أول ما “يبدأ به تعليمه ما يحتاج إليه من القرآن الكريم، وكانت كل طائفة لها فقيه يحضر إليها كل يوم، ويأخذ في تعليمها كتاب الله تعالى ومعرفة الخط والتمرن بآداب الشريعة، وملازمة الصلوات والأذكار…، فإذا شب الواحد من المماليك علّمه الفقيه شيئا من الفقه، وأقرأه فيه مقدّمة، فإذا صار إلى سنّ البلوغ أخِذ في تعليمه أنواع الحرب مِن رمي السهام ولعب الرمح ونحو ذلك، فيتسلم كلَّ طائفة معلمٌ حتى يبلغ [الفتى المملوكُ] الغايةَ في معرفة ما يحتاج إليه”.
ويشيد المقريزي بهذه الطريقة التي اتُّبعت بصرامة شديدة طوال العصر المملوكي الأول في دولة المماليك البحرية (648-782هـ/1250-1380م)؛ فيقول: “فلا يبلغ [الفتى المملوكُ] هذه الرتبة إلا وقد تهذبت أخلاقه وكثرت آدابه، وامتزج تعظيم الإسلامِ وأهلِه بقلبه، واشتدّ ساعده في رماية النُّشاب (= السهام)، وحسُن لعبه بالرمح، ومَرِن على ركوب الخيل. ومنهم من يصيرُ في رتبة فقيه عارف، أو أديب شاعر، أو حاسب ماهر”!!
ثم يرصد المقريزي نقطة التحول السلبي في أجيال المماليك ليحددها بلحظة صعود السلطان الظاهر برقوق إلى سدة الحكم بحركة انقلاب قصرٍ قادها على سادته من أسرة قلاوون، ومن تلك اللحظة انحرف المماليك فـ”أخلدوا إلى البطالة، ونَسُوا تلك العوائد، ثم تلاشت الأحوال في أيام الناصر فرج بن برقوق”، وذلك بعد أن “استقر رأي الناصر على أن تسليم المماليك للفقيه يُتلفهم، بل يُتركون وشؤونهم؛ فبُدِّلت الأرض غير الأرض”!!
اختراق قانوني
في كتابه الحافل «المواعظ والاعتبار»؛ قدّم تقي الدين المقريزي معلومات فريدة عن نظام العدالة في الدولة المملوكية، بل إن ما عرضه يعدّ تحليلا عميقا لفهم الاختراقات التشريعية والقانونية التي حدثت في ذلك النظام، وشكّلت سابقة لنظائرها التي استُنْبتتْ في بيئتنا القانونية المعاصرة، دون وعي كامل بأصولها وجذورها البعيدة.
فقد كتب المقريزي عن تفاصيل أول اختراق قانوني وضعي منهجي للنظام القضائي الإسلامي الذي ظل يحكم المجتمعات الإسلامية منذ فجر وجودها، حتى شهد إبان حكم المماليك لمصر والشام قيام أول قضاء يحكم بـ”القانون الوضعي” ممثلا في مدونة «الياسة» التشريعية المغولية، التي وضعها الإمبراطور المغولي جنكيز خان (ت 624هـ/1227م)؛ فبعد أن “صارت له دولة قرّر قواعد وعقوبات أثبتها في كاتب سماه «ياسة»، ومن الناس من يسميه «يسق»”؛ طبقا للمقريزي.
وفي أعقاب الاجتياح المغولي لبلاد الإسلام وإسقاطهم بغداد سنة 656هـ/1254م وجد قانون «الياسة/الياسق/اليسق» طريقه إلى التطبيق في ديار المسلمين عبر الإمارات التي أسسها المغول فيها، ثم اتخذ بعض سلاطين المماليك المتأخرين من هذا القانون نظاما تشريعيا موازيا للقضاء الشرعي الإسلامي، فسبقوا بذلك “القضاء المختلط” الذي أدخلته -بعدهم بقرون- سلطات الاستعمار الغربي إلى مصر وغيرها من بلاد الإسلام؛ كما سنرى.
وترتب على إنفاذ قانون «الياسة» المغولي اعتماد عقوبات كثيرة مخالفة للشريعة الإسلامية تحت مصطلح “السياسة”، مثل عقوبات “التسمير” و”السلخ” و”الخوزقة”، و”التوسيط” الذي هو شق جسد المعاقَب نصفين من وسطه.
وكان بعض الحكّام المماليك يتخذون هذه العقوبات الوضعية الوحشية وسيلة لبسط سيطرتهم الأمنية، متهمين نظام العقوبات الجنائي الإسلامي بفقدان القدرة على الزجر والردع، بسبب ضوابطه وإجراءاته الضامنة للعدالة للمتقاضين والمتهمين، والتي تتضمن قيودا تجعلها -في نظر السلطة المستبدة- لا تلبي حاجات السيطرة الأمنية للسلطة الحاكمة، بينما يطلق لها نظام العقوبات المغولي المضَّمن في «الياسة» حرية التصرف بلا شروط ولا ضوابط.
ودرءا لمخاطر تمرير هذا الاختراق التشريعي الخطير من باب “السياسة” -أي وضع العقوبات التعزيرية وفقا لرغبة السلطة بلا ضوابط من الشرع- إلى العقل الجمعي القانوني للأمة؛ فإن الفقهاء لم يكتفوا برصد هذا الاختراق وتحليل المنطق الذي يقف وراء تسرُّبه، وإنما أخذوا على عواتقهم تقديم البديل الفقهي الاجتهادي الذي يحتكم إلى مرجعية الشريعة وينضبط بمقاصدها وقواعدها.
وهو ما فعله عدد من كبار فقهاء ذلك العصر قدّموا مشاريع رُؤى لإصلاح دولة المماليك؛ بدءا بابن تيمية وتلميذه ابن القيم (ت 751هـ/1350م)، ومرورا بالسبكي الشافعي وابن فرحون المالكي (ت 799هـ/1397م)، وانتهاء بالمقريزي الشافعي وبدر الدين العيني الحنفي.
وهذا البديل يتيح لولي الأمر أن يتخذ الإجراءات العقابية الرادعة الاجتهادية -أي فيما لا نص فيه- بشرط الالتزام بالمرجعية الشرعية الإسلامية، وألا يتخطى نظام العقوبات وفلسفتها التشريعية ضمن ما هو “مشروع في التعزير، وما زاد على ذلك كان محمولا على «السياسة»”؛ وفقا للإمام العيني الحنفي.
ولاستيعاب ما قدمه المقريزي في قصة هذا الاختراق القانوني نحتاج إلى عرض مختصر للسياق التاريخي والفقهي، الذي أوصلنا إلى تلك الوضعية التشريعية الغريبة التي تحدث عنها هو وغيره -من أعلام عصره- باستفاضة لافتة، والذي يوقفنا على أن تعبير “السياسة الشرعية” لا يُقصد به في مصادرنا التراثية -كما يفهمه أكثرنا اليوم- معنى “الفقه السياسي”، وإنما يراد به “السياسة” بمعناها الجنائي التعزيري والتقديري عندما تنضبط بأحكام الإسلام فتصير بذلك “سياسة شرعية”، وليست “سياسة” عقابية على هوى السلطة وبلا قيود.
وبذلك يتضح أن أحد أسباب تطور مصطلح “السياسة الشرعية” وتبلوره في العصر المملوكي -على هذا الشكل الذي وصلنا- كان يندرج ضمن “المواجهة المصطلحية” لتلك النُّظُم القانونية الوافدة من بوابة مصطلح “السياسة” الجنائي الفقهي، الذي أطلقه الفقهاء -تبعا لاصطلاح الأمراء والولاة- على أنماط متعددة من أدلة إثبات الجرائم ومن العقوبات التعزيرية عليها، استحدثها الحكّام متذرِّعين بضرورة مواكبة الإجراءات الأمنية لتطور الجرائم (نوعا وعددا) وطُرُق ارتكابها في المجتمع.
وطبقا للإمام ابن عابدين الحنفي (ت 1252هـ/1836م) في كتابه ‘ردّ المحتار على الدر المختار‘؛ فإن للسياسة مفهوميْن ينبغي التمييز بينهما، “فالسياسة استصلاحُ الخلقِ بإرشادهم إلى الطريق المُنجي في الدنيا والآخرة..، وهذا تعريف للسياسة العامة الصادقة على جميع ما شرعه الله تعالى لعباده من الأحكام الشرعية. وتُستعمل [السياسة] أخصَّ من ذلك مما فيه زجر وتأديب ولو بالقتل، كما قالوا في اللوطي والسارق والخنّاق إذا تكرر منهم ذلك: حَلَّ قتلُهم سياسةً”.
وبهذا المعنى الفقهي الخص فإن “«السياسة: شَرْعٌ مُغَلَّظ»، وهي نوعان: «سياسة ظالمة»: فالشريعة تحرّمها. و«سياسة عادلة»: تُخْرج الحقَّ من الظالم، وتدفع كثيرا من المظالم، وتردع أهل الفساد، وتوصِل إلى المقاصد الشرعية؛ فالشريعة توجب المصير إليها، والاعتماد في إظهار الحق عليها، وهي باب واسع” لأن “السياسة… تجوز في كل جناية، والرأيُ فيها إلى الإمام (= السلطة)” من جهة تقدير العقوبة حسب ظروف الجاني وطبيعة الجناية وتأثيراتها مجتمعيا.
ولا يبعد أن تكون رسالة «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية» -التي قدَّمها ابن تيمية لأحد ولاة المماليك على ولاية غزة في عهد السلطان الناصر قلاوون (ت 741هـ/1340م)- بمثابة البديل التشريعي المرجعي لنظام “الياسق” الذي توغل فيه المماليك أيامها. وقد تتبع ابن تيمية الجذور البعيدة لهذا التحول التشريعي -الذي أحدث ثنائية تشريعية مهّدت بعد قرون الطريقَ أمام الاختراق القانوني المغولي- فقال في رسالته هذه:
“فلما صارت الخلافة في ولد العباس (= العباسيين) واحتاجوا إلى سياسة الناس، وتقلَّد لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق (= المذهب الحنفي)، ولم يكن ما معهم من العلم كافيا في «السياسة العادلة»؛ احتاجوا حينئذ إلى وضع «ولاية المظالم» وجعلوا «ولاية حرب» غير «ولاية شرع»، وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين حتى صار يقال: «الشرع والسياسة»، وهذا يدعو خصمه إلى «الشرع»، وهذا يدعو إلى «السياسة»، سوَّغ حاكما أن يحكم بالشرع والآخر بالسياسة. والسبب في ذلك: أن الذين انتسبوا إلى «الشرع» قصّروا في معرفة السُّنة، فصارت أمور كثيرة إذا حكموا [فيها] ضيعوا الحقوق وعطّلوا الحدود، حتى تُسفك الدماء وتُؤخذ الأموال وتستباح المحرمات! والذين انتسبوا إلى «السياسة» صاروا يسوسون بنوع من الرأي من غير اعتصام بالكتاب والسنة”!!
وقد تنبه ابن تيمية إلى خطورة تغلغل الاختراق القانوني المغولي -في عصره- إلى جوانب عديدة من حياة الناس، وأن ذلك سيقود إلى تطبيع تجربة قانون «الياسة» في البيئة الإسلامية؛ فأصدر فتوى مهمة لمجابهته حتى على مستوى ضيق جدا مثل لعبة “الرمي بالبُندُق”، وهي أحد أنواع المنافسات الرياضية في اصطياد الطيور كان أمراء المماليك مفتونين بها، ويعيّنون لها “حُكّاما” ينظّمون منافساتها وفقا لقواعد متواضع عليها يسمونها “شَرْع البُندُق” أو “حُكْم البُندُق”، وقد لا تتوافق هذه القواعد مع الضوابط الشرعية في المنافسات الرياضية.
فقد ورد إليه سؤال فقهي عن مدى صحة الإلزام والالتزام بـ”«شَرْع البُندُق» الذي لا يشرِّعه الله ولا رسوله”؛ فكان جوابه -كما في ‘مجموع الفتاوى‘- أنه “ليس لأحد أن يَحْكم بين أحد من خلق الله؛ لا بين المسلمين، ولا الكفار، ولا الفتيان (= تنظيمات الفتوة)، ولا رُماة البُنْدُق، ولا الجيش، ولا الفقراء (= الصوفية)، ولا غير ذلك: إلا بحُكم الله ورسوله…؛ ومن حَكَم بـ«حُكْم البندق» و«شَرْع البُندُق» أو غيره مما يخالف شرع الله ورسوله وحكم الله ورسوله -وهو يعلم ذلك- فهو من جنس التتار (= المغول) الذين يقدّمون حُكْم «الياسة» على حكم الله ورسوله، ومن تعمَّد ذلك فقد قَدَحَ في عدالته ودينه، ووَجَب أن يُمنع من النظر في الوقف”، أي يمنع من إدارة وتسيير أموال الأوقاف وغيرها من المصالح والمرافق العامة.
وأما تلميذه ابن القيم فقد ذهب إلى ضرورة أن يُعمِل القضاة أقصى وُسعهم في الاجتهاد القضائي بما يلبي -على مستوى أدلة إثبات الجرائم والعقوبات التعزيرية عليها- حاجات عصرهم، ويحفظ حقوق الناس ومصالحهم، ويغلق الباب أمام أي ذريعة للجوء إلى أي مصدر قانوني غير إسلامي المرجعية.
فقد رفض هذا الإمام اللجوء إلى أي منظومة عقابية خارج إطار الشريعة، مؤكدا أنه لا تناقض بين صحيح الشرع و”السياسة العادلة”، ذلك أن “السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تُخْرج الحقَّ من الظالم الفاجر، فهي من الشريعة: عَلِمَها من عَلِمَها، وجَهِلَها من جَهِلَها”؛ وفقا لتعبيره في كتابه ‘الطُّرُق الحُكْمية في السياسة الشرعية‘.
تغلغل منظَّم
ثم جاء قاضي القضاة الشافعي تاج الدين السبكي فلاحظ -في كتابه ‘مُعيد النِّعَم ومُبيد النِّقَم‘- انتشار هذه الظاهرة الدخيلة في الأوساط الإدارية المملوكية، وأن هناك نقدا يوجَّه لبعض المسؤولين لإصرارهم على الالتزام بالأحكام الجنائية الإسلامية، رغم وصف عقوباتها باللين مقارنة بنظام الترويع الذي اتبعته بعض أجهزة السلطات المملوكية أخذا بنظام “الياسة”؛ وفي هذا يقول السبكي منتقدا تقديم النزعة العقلية القانونية على قواعد الشرع:
“ومن حقهم (= السلاطين ونوابهم) إلقاء مقاليد الأحكام إلى الشرع لأنه لا حاكم إلا الله تعالى، ولن تفعل العقول شيئا؛ فإذا رأيتَ من يعيب على نائب السلطنة انقياده للشرع وينسبه بذلك إلى اللين والرخاوة؛ فاعلم أنه يُخشى عليه أن يكون ممن طُبع على قلبه وأن عاقبته وخيمة، بل حقَّ على كل مسلم الرضا بحكم اللَّه تعالى والانقياد، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون الكافرون الظالمون”!!
ويلفت السبكي انتباهنا إلى مستوى التطبيع المصطلحي الذي وصل إليه هذا الاختراق القانوني، حتى إنه لم يعد بالضرورة يطلق عليه اسمه المغولي “الياسة”، وإنما أصبح مندرجا في التراتيب الإدارية المحلية تحت اسم ينافس في اشتقاقه “الشرع” الإسلامي وهو: «شرع الديوان»؛ فالسبكي يستعرض بعض السياسات المنحرفة في جهاز المؤسسة العسكرية المملوكية ثم يعلق قائلا:
“ومن قبائحهم (= مسؤولو ديوان الجيش) أنهم إذا اعتمدوا شيئا مما جرت به عوائدهم القبيحة يقولون: هذا «شرع الديوان»؛ والديوان لا شرع له، بل الشرع لله تعالى ولرسوله ﷺ. فهذا الكلام ينتهي إلى الكفر؛ وإن لم تنشرح النفسُ لتكفير قائله فلا أقلّ من ضربه بالسياط ليكف لسانه عن هذا التعظيم الذي هو في غُنْية عنه بأن يقول: «عادة الديوان» أو طريقه، أو نحو ذلك من الألفاظ التي لا تُنْكَر”.
لقد ركّز أولئك الأئمة وغيرهم على محاربة الاختراق القانوني الوضعي بإيجاد البديل الفقهي الاجتهادي له، ومن هنا “صنَّف الناس في «السياسة الشرعية» كُتُباً متعددة”؛ طبقا للمقريزي الذي تكمن أهمية تحليله لهذه الظاهرة في رصده -عبر عدد من الوقائع القضائية- لحلقات زحفها التاريخي المتدرج، والمستويات التي تسربت عبرها إجراءاتُها التطبيقية إلى حياة الناس العامة، مقدِّما بذلك ما يمكن اعتباره تأريخا نادرا لـ”علمنة قضائية” مبكرة في تاريخنا.
وأول ما يلفت المقريزي النظرَ إليه هو إشكال “المرجعية” في هذا النظام القانوني الوافد، وما ينطوي عليه من منطلقات ومضامين لا دينية موغلة في الوضعية ولا تقبل التعايش مع أي مرجعية مغايرة؛ فيذكر أنه “كان جنكزخان لا يتديّن بشيء من أديان أهل الأرض” السماوية، وتم إنزال تشريعاته منزلة الدين لأنه لمّا “مات التزم مَنْ بعدَه مِنْ أولاده وأتباعهم حُكم «الياسة» كالتزام أول المسلمين حُكمَ القرآن، وجعلوا ذلك دِينا لم يُعرف عن أحد منهم مخالفته بوجه”.
كما أن هذا التشريع يبدو محايدا أمام الأديان في صيغة قريبة من بعض العلمانيات المعاصرة، لكونه فَرَض على أتباعه “تعظيمَ جميع المِلَل من غير تعصُّب لمِلّة على أخرى”. ويورد المقريزي بنودا من هذا القانون المغولي مستدلا بها على أنه يخالف قطعيات أحكام الإسلام في العقوبات الجنائية، ومستندا في عرضها إلى رواية أحد الثقات من شيوخ عصره أخبره أنه “رأى نسخة من «الياسة» بخزانة المدرسة المستنصرية ببغداد”!!
وحسب تحليل المقريزي الذي عرضه في كتابه ‘المواعظ والاعتبار‘؛ فإن قصة هذا الاختراق القانوني التشريعي هي قصة المماليك أنفسهم وسيرة دولتهم في مصر والشام، التي تكاثروا فيها قادمين أو مجلوبين من أقاليم الدول المغولية “فغصّت أرض مصر والشام بطوائف المُغُل (= المغول)، وانتشرت عاداتهم بها وطرائقهم، هذا وملوك مصر وأمراؤها وعساكرها قد مُلئت قلوبهم رعبا من جنكزخان وبنيه، وامتزج بلحمهم ودمهم مهابتهم وتعظيمهم، وكانوا إنما رُبُّوا بدار الإسلام ولُقِّنوا القرآن وعرفوا أحكام الملة المحمدية، فجمعوا بين الحق والباطل، وضمّوا الجيد إلى الرديء”!!
ثم إنه يذكر البداية العامة لهذا الاختراق القانوني قائلا: “اعلم أن الناس في زمننا -بل ومنذ عهد الدولة التركية بديار مصر والشام- يرون أن الأحكام على قسمين: «حكم الشرع»، و«حكم السياسة»”!! أما تلميذه المؤرخ ابن تَغْري بَرْدي فينصّ على بداية أكثر تحديدا مؤكدا -في ‘النجوم الزاهرة‘- أنه “كان الملك الظاهر [بَيْبَرْس البُنْدُقْداري (ت 676هـ/1277م)]… يسير على قاعدة ملوك التّتار وغالب أحكام جنكزخان من أمر «اليسق»”!!
وفي البدء؛ كان هذا الاختراق القانوني محصورا في بعض أوساط النخبة الحاكمة عبر وظيفة “الحِجْبة” أو “الحُجُوبية”، التي كان يتولاها مسؤول يحتل الرتبة الثالثة في البلاط المملوكي يُدعى “الحاجب”، وهذه الوظيفة تشبه ما يُعرف اليوم بـ”القضاء الإداري العسكري” لأن مهمة “صاحبها [أن] يُنصف (= يقضي) بين الأمراء والجند” لفضَّ النزاعات الإدارية فيما بينهم، وأن “يتصدَّى لفصل المظالم بين المتداعييْن خصوصا فيما لا تسوغ الدعوى فيه من الأمور الديوانية ونحوها”؛ وفقا للقلقشندي في ‘صبح الأعشى‘.
ويفسر المقريزي التحول الذي حصل في جوهر عمل “الحاجب” -على عهد الدولة المملوكية- من مهمة بلاطية بروتوكولية إلى وظيفة قضائية ذات طبيعة خاصة؛ فيقول إن أوائل السلاطين والأمراء المماليك “فوَّضوا لقاضي القضاة كل ما يتعلق بالأمور الدينية.. وجعلوا إليه النظر في الأقضية الشرعية..، واحتاجوا في ذات أنفسهم إلى الرجوع لعادة جنكزخان والاقتداء بحكم [قانونه] «الياسة»؛ فلذلك نصبوا الحاجب ليقضي بينهم فيما اختلفوا فيه من عوايدهم.. على مقتضى ما في «الياسة»…؛ فشرّعوا في «الديوان» ما لم يأذن به الله تعالى” وخالفوا أحكام الإسلام!!
وهكذا وَجدت أولُ ازدواجية تشريعية وقضائية -في التاريخ الإسلامي- طريقَها إلى المجال القضائي الشرعي، وإن ظلت محصورة في نخبة الطبقة الحاكمة لأن “حُكم الحاجب لا يتعدى النظر في مخاصمات الأجناد واختلافهم في أمور الإقطاعات ونحو ذلك، ولم يكن أحد من الحجّاب فيما سلف يتعرض للحكم في شيء من الأمور الشرعية، كتداعي الزوجين وأرباب الديون، وإنما يرجع ذلك إلى قضاة الشرع”.
وإذا كان حكم الشريعة ظل يحكم المجال العام -دون مساس بسلطانه- قرابة قرن كامل؛ فإن المقريزي يضع أيدينا على لحظة التحول الأخطر في مسيرة هذا الاختراق القانوني، والتي ستنقله من دائرة التعامل الضيق إلى الفضاء العام، ليصير بعدها جزءا من نظام العدالة العام بل وأحد مستويات التقاضي فيه بين طبقات الناس كافة.
فهو يسجّل أن البداية الحقيقية لهذا التحول -رغم محاولات سابقة لم تستمر- إنما كانت في عهد السلطان صالح بن محمد بن قلاوون (ت 762هـ/1361م)؛ ففي ربيع الأول سنة 753هـ/1352م “رُسم للأمير جرجي (= سيف الدين جرجي الإدريسي المتوفى 772هـ/1370م) «الحاجب» أن يتحدث في أمر أرباب الديون ويفصلهم من غرمائهم بأحكام «السياسة»، ولم يكن عادة الحُجّاب -فيما تقدم- أن يحكموا في الأمور الشرعية”!!
ولم [يكن] ذلك القرار الخطير سوى البداية الفعلية لعملية التمدد الأفقي التي واصلها اختراق قانون “الياسة” الوضعي على حساب القضاء الشرعي؛ فقد “صار «الحاجب»… اسماً لعدةِ جماعةٍ من الأمراء ينتصبون للحكم بين الناس… يرتزقون من مظالم العباد، وصار الحاجب اليوم يحكم في كل جليل وحقير من الناس، سواء كان الحكم شرعيا أو سياسيا بزعمهم…، وكانت أحكام الحُجّاب أولاً يقال لها «حكم السياسة»…، ويقولون: هذا الأمر مما لا يمشي في «الأحكام الشرعية»، وإنما هو من «حكم السياسة»؛ ويحسبونه هينا وهو عند الله عظيم”!!
ويرى المقريزي أن مما ساهم في تطبيع هذا الاختراق القانوني مجتمعيا ذلك التحريف اللفظي الذي وقع لكلمة “الياسة” بحيث صار الناس ينطقونها “سياسة”، دامجين -من غير وعي- بينها وبين “السياسة” بالمفهوم الفقهي الجنائي الذي عرضنا لبيانه. وقد حدث هذا رغم أن الياسة “كلمة مُغُلية (= مغولية) أصلها: «ياسه»، فحرفها أهل مصر وزادوا بأولها سينا فقالوا: «سياسة»، وأدخلوا عليها الألف واللام؛ فظنّ من لا علم عنده أنها كلمة عربية، وما الأمر فيها إلا ما قلتُ لك”. ثم استفاض المقريزي كاشفا “كيف نشأت هذه الكلمة حتى انتشرت بمصر والشام”!!
ومما يعزز وجاهة التخريج اللغوي الذي قدمه المقريزي أن ابن تَغْري بَرْدي -وهو تركي الأصل وبارع في لغته الأم- أيده في ذلك، شارحا اللفظة على نحو أفضل مما فعل شيخه؛ فقال -في كتابه ‘النجوم الزاهرة‘- إن جنكيزخان “هو صاحب «التورا» «واليسق»…، والتورا باللغة التركية هو: المذهب، واليسق هو: الترتيب. وأصل كلمة اليسق: «سي يسا»، وهو لفظ مركّب من أعجمي (= فارسي) وتركي، ومعناه: التراتيب الثلاث؛ لأن «سى» بالعجمى (= الفارسية) في العدد: ثلاثة، و«يسا» بالتركي: الترتيب”!!
ثم يؤكد ابن تَغْري بَرْدي النتيجة التي قررها شيخه بشأن شيوع اللفظ في خطاب العامة بصيغته المعرَّبة؛ فيقول: “وعلى هذا [المعنى] مَشَتْ التتار من يومه إلى يومنا هذا، وانتشر ذلك في سائر الممالك حتى ممالك مصر والشام، وصاروا يقولون: «سى يسا»، فثقلت عليهم فقالوا: «سياسة» على تحاريف أولاد العرب في اللغات الأعجمية”!!
مقاومة فقهائية
ورغم الواقع الجديد؛ فقد بقي حَرَم القضاء الشرعي ملاذا تلجأ إليه الأمة عند انحراف وعسف محاكم «الياسة» المغولية المملوكية؛ وفي ذلك يقول المقريزي: “ولقد عهدنا دائما أن الواحد من الكُتّاب أو الضُّمّان ونحوهم يفرّ من باب الحاجب (= القاضي العسكري) ويصير إلى باب أحد القضاة ويستجير بـ«حُكْم الشرع»، فلا يطمع أحد بعد ذلك في أخذه من باب القاضي، وكان فيهم من يقيم الأشهر والأعوام في ترسيم (= وصاية) القاضي حمايةً له من أيدي الحُجّاب”!!
ويخبرنا المقريزي بأن كبار العلماء والقضاة الشرعيين واصلوا اعتراضهم على تدخُّل هذه المحاكم الإدارية العسكرية الوضعية في نطاق عمل القضاء الشرعي، بل وسعوْا إلى إلغاء العمل بها وإن لم يحققوا مبتغاهم على نحو مستدام.
فقد حصل في جمادى الآخرة سنة 823هـ/1420م -في أيام قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن بن عمر البُلْقَينِي (ت 824هـ/1421م)- أن صدر قرار سلطاني يقضي بـ”ألّا يتحدَّث في الأمور الشرعية إلا القضاة، ولا يشكو أحد غريمَه على دَين لأحد من الحُجّاب…، فسعى الأمراء في نقض ذلك حتى نودي… بعد يومين بعَوْد الحُكْم إلى الحُجّاب” كما كان قبل صدور القرار؛ وفقا للمقريزي في كتابه ‘السلوك‘.
وكُتبنا التاريخية -المؤلفة بعد اجتياح المغول لبلاد الإسلام- ملئية بوقائع تطبيق أحكام مستقاة من القانون المغولي أو أخرى تحاكيها في الجرائم والمنازعات، وخاصة إذا كانت بين “أرباب الدولة”؛ فمن أمثلة ذلك ما ذكره الإمام عَلَم الدين البِرْزالي -في ‘المقتفي على كتاب الروضتين‘- من أنه إثر تمرد عسكري مملوكي سنة 719هـ/1319م عُقدت محاكمة عسكرية للمتمردين “فثبت على الجميع القتل بـ«الياسة التتارية» و«السياسة الشرعية»”!! وفي تجاور المرجعيتين التشريعيتين المتباينتين في نص هذا الإمام المحدِّث ما يقول الكثير عن قصة النجاح الرسمي المؤسسي لذلك الاختراق القانوني الوضعي الغريب!!
وفي بواكير التاريخ المصري المعاصر؛ قرر والي مصر العثمانية محمد علي باشا استعادة التجربة المملوكية القائمة على الازدواجية القضائية وفقا لنظام “الحُجُوبية”، وإن كان عمله هذا جاء حقيقة على شكل التوسع في توظيف مفهوم “السياسة” الجنائي بنسخته التي عرفتها البيئة القضائية الإسلامية قبل الاختراق التشريعي المغولي، والتي أرجعها ابن تيمية إلى العهد العباسي المبكر وقضاته من المذهب الحنفي.
وقد أوردنا سابقا تعريف “السياسة” -بهذا المفهوم- كما قرره الإمام ابن عابدين خاتمة الفقهاء المحققين من الحنفية، وخلاصته أن “السياسة: شَرْعٌ مُغَلَّظ”، ولذا فهي “تجوز في كل جناية، والرأيُ فيها إلى الإمام (= السلطة)” من جهة تقدير العقوبة تعزيرا حسب طبيعة الجناية والجاني، وبالتالي فإنها إذا كانت “سياسة عادلة تُخْرج الحقَّ من الظالم، وتدفع كثيرا من المظالم، وتردع أهل الفساد، وتوصل إلى المقاصد الشرعية؛ فالشريعة توجب المصير إليها والاعتماد في إظهار الحق عليها، وهي باب واسع”.
وفي هذا الإطار الفقهي العام؛ استحدث محمد علي باشا -مدفوعا بنزعة السيطرة والحكم الصارم التي اتّسَم بها عهده- نظاما قضائيا يتمثل في “مجالس الأحكام” التي أقيمت في المحافظات، لكن يبدو أن عمل هذه المجالس ظل -في عمومه- مؤطَّرا بالمرجعية الشرعية الإسلامية، لأن نظامها القضائي كان مبنيا على التوسع الذي ذهب إليه عدد من الفقهاء في مفهوم “الأدلة الشرعية” المطلوبة لإثبات الجرائم، وأيضا التوسع في “عقوبة التعزير” اللازمة لمكافحتها.
ولعل مما دفع محمد علي إلى اعتماد نظام “مجالس الأحكام” كونَ المذهب الحنفي -الذي كان معتمَدا في محاكم الدولة العثمانية التي مصر إحدى ولاياتها آنذاك- يقضي بأن مفهوميْ “«السياسة» و«التعزير» مترادفان، ولذا عطفوا أحدهما على الآخر لبيان التفسير”؛ طبقا لما رجّحه ابن عابدين الحنفي -في كتابه ‘ردّ المحتار‘- مقررا أنه في مذهبه يُعدّ “باب التعزير هو المتكفل لأحكام السياسة”.
كما أن أدلة إثبات الجرائم غير محصورة عند المحققين من الفقهاء في عدد محدد أو جنس معيّن؛ وفي تقرير هذا الأمر صنَّف ابن القيم كتابه الحافل ‘الطُّرُق الحُكْمية في السياسة الشرعية‘، الذي يقول فيه إنه “إذا ظهرت أمارات العدل وأسفَر وجهُه -بأي طريق كان- فثَمَّ شرْعُ الله ودينه”، ولذا فإن “الشارع لم يُلْغِ القرائن والأمارات ودلالات الأحوال، بل مَنْ استقرأ الشرع -في مصادره وموارده- وَجَدَه شاهدا لها بالاعتبار، مرتِّبا عليها الأحكام” الشرعية، سواء كانت عقوبات منصوصة -كالحدود والقصاص- أو تعزيرات ذات صبغة اجتهادية يرجع تقديرها إلى السلطات القضائية.
وقد انتقد بعض القانونيين المصريين هذا النظام القضائي مثل أحمد فتحي باشا زغلول (ت 1332هـ/1914م) في كتابه “المحاماة”؛ إذْ إنه “كانت الشدة بالغة منتهاها في عقوبة” المخالفين الذين تنظر هذه المجالس في الجنايات والجرائم المتهمين بارتكابها.
وهو انتقاد يذكرنا بنظيره الذي قدمه ابن تيمية والسبكي والمقريزي لنظام “الحُجُوبية” المملوكي؛ فالسياسة العادلة -بغض النظر عن إجراءاتها وأحكامها- هي التي تستحق أن تكون من شرع الله تعالى، وأما الظلم فلا يرفع الشرعية عن محاكم “السياسة” الجائرة فقط، بل يرفعها حتى عن الدولة المسلمة الظالمة. ولقد كان أحمد فتحي موفقا في تجديده لهذا النهج القويم في نقد نظام “مجالس الأحكام” الذي طبعه العسف والإجحاف في التطبيق الواقعي، مهما كانت وجاهة مقاصد السلطة حينها من وراء إنشائه.
والحق أن الاختراق التشريعي المعاصر الأخطر -في بعده المرجعي التشريعي المتعلق بهوية الأمة والدولة- من نظام “مجالس الأحكام” هو ذاك الذي حصل بعد انتهاء حقبة محمد علي، وتم بموجبه اعتماد القانون الفرنسي مرجعا للحُكم في النظام القضائي المصري. ومكمن الخطورة في هذا الأمر هو أن هناك قدْرا من التشابه بينه وبين إحلال القانون المغولي «الياسة» قديما في البيئة التشريعية المصرية، وعلى نحو متدرّج أيضا يذكِّرنا بنمط تسرُّب «الياسة» وتطبيعه في الحياة العامة!!
فمن الملاحَظ أن غرْس النظامين الوافدين تم عبر مساريْن متشابهيْن: الأول هو “ازدواجية القضاء” التي تمثُّلت في القضاء العسكري المملوكي الذي كان يَفْصِل في نزاعات أمرائهم وجنودهم، وفقا لنظام “الحُجُوبية”. وفي العصر الحديث تجسدت تلك الازدواجية القضائية في “المحاكم المختلطة” التي استُحدثت في مصر خلال 1292-1369هـ/1875-1949م لتحكم في القضايا التي يكون الرعايا الأوروبيون طرفا فيها، وضمت في هيئاتها قضاةً مصريين وأوروبيين.
وأما المسار الثاني الأعمق أثرا فهو: وجود نُخَب سياسية وقضائية معاصرة بمصر وغيرها تشربت النموذج القانوني الغربي حتى “امتزج بلحمهم ودمهم”؛ على غرار وصْف المقريزي لحال النخبة المملوكية الحاكمة في انبهارها بالقانون المغولي!!
تأريخ للأفكار
تقدِّم كتاباتُ المقريزي شبكة واسعة من الأفكار والمقولات، بل ومن النُّظُم الإدارية والمؤسسية التي سيحول ضيق المَقام دون التطرق لنماذج من تأريخه لنشأتها وتطورها. وتحاول كتاباته في كل ذلك تقديم أطُر نظرية ومفاهيم تفسيرية لقضايا تمس المذاهب والتيارات والديانات أو الدول والمجتمعات والمؤسسات، وترصد التحولات السياسية والاجتماعية والإدارية التي تصاحبها ضمن أطوار الحضارة الإسلامية، كاشفة عن لحظات نشأتها وظروف انتشارها وترسُّخها وعوامل استمرارها أو اندثارها.
وقد كانت وسيلته المُثلى في تقديم كل ذلك -تأصيلا وتفصيلا وتحليلا- هي المرويات والآثار وما يتصل بذلك من “طبائع العمران” بتعبير شيخه ابن خلدون. هذا بجانب احتفاء المقريزي بتقصي الحقائق والبحث عن كنهها بنفسه على النحو الذي يسميه هو في كتابه ‘السلوك‘: “عادتي في الفحص عن أحوال العالَم”!! وقد بلغ من اعتنائه بالمشاهدة الميدانية والملاحظة الشخصية للأحداث والوقائع أن أفرد لها مصنَّفا يبدو أنه لم يصل إلينا، فالسخاوي يفيدنا بـأن المقريزي “جَمَع كتابا فيما شاهَدَه وسمِعَه مما لم يَنقله من كتاب”.
وهذا الشغف المعرفي المتنوع المناهج والمصادر البحثية هو الذي بسببه عُرِف المقريزي بـ”دأبه ومثابرته وتشعُّب أغراضه، وعنايته بوجوه التأريخ التي تجنح إلى الاجتماع والإحصاء”؛ وفقا للمستشرق البريطاني هاملتون جِبْ (ت 1391هـ/1971م) في مادة “تأريخ” التي نشرها في كتاب ‘موجز دائرة المعارف الإسلامية‘.
ومدخل الرواية لكشف قواعد التفكير ونُظُم التسيير تكمن إشكاليته في أنه أحيانا لا يعطي الخلاصات المعرفية على نحو جاهز معلَّب، بل يحتاج من الباحث المدقق إلى تأمُّل تفاصيل وأبعاد تلك الروايات، وما تفصح عنه من حمولات واستنتاجات، وما يوحي به اختيارها من بين أشتات نظائرها من دلالات أو يثيره من إشكالات.
ومن المهم كذلك معرفة أن كل كتاب من كُتب المقريزي له منهجه الخاص في التعامل مع الروايات؛ فكُتُبُ التراجم -مثل «المقفى» أو «السلوك»- تختلف عن كتاب «الخطط» ذي الأبعاد الموسوعية المتعددة، أو عن كُتب القضايا أو “دراسات الحالة” مثل كتابيْه: «إغاثة الأمة» و«النزاع والتخاصم».
وعلى سبيل المثال؛ فإننا إذا اعتمدنا موقفه من فكر المدرسة التيمية كما جاء في كتابه “المقفى” وحده فسنجد أن المقريزي كان في موقف المناصر المعجب بشيخها ابن تيمية، وإذا ضممنا إليه ما كتبه عنه في “الخطط” فسيكون في موضع الملاحظ الناقد، وإذا بحثنا عن أثره في بعض تأملاته وأحكامه فسيصبح في موقع المتأثر المبدِع.
وكذلك علاقته مع شيخه ابن خلدون؛ فذكره المباشر له في الروايات لا يكافئ أبدا اتساع وعمق القواعد والقوانين الخلدونية التي تغمر كتاباته معلَنةً فيها أو مستبطَنةً، بل يمكن القول إن المقريزي يستحضر «المقدمة» الخلدونية في كل فصل يسطره أو عنوان يضعه أو خبر يدونه، وإن لم يذكرها مباشرة أحيانا كثيرة.
فقد استدعى نموذجها المعرفي مثلا في معالجته لموضوعين ذكرناهما هنا سابقا، وهما: قضية “نَسَب الفاطميين” في «اتعاظ الحنفاء»، وكلامه عن “أخلاق المصريين” في «الخطط». وربما كان سبب ذلك حاجته إلى سند ومرجع كبير يدعم ما يقدمه من مباحثة معرفية في هذين الأمريْن لما يثيرانه من جدل مستطير.
وعندما يؤرخ المقريزي للفكر الإسلامي فإنه يؤرخ له مثلما يفعل مع أي مبحث تاريخي آخر، أي باعتباره مجرد سلسلة من الأحداث تدفع لظهور وبلورة فكرة ما. فقد عيّن مثلا نقطة انطلاق الفكر ونشأة المعارف الإسلامية ببداية حركة الفتوح الإسلامية التي انتقل عبرها الصحابة من المدينة إلى الأمصار، وما أتاحه ذلك من تنزُّلات تطبيقية للنصوص والروايات على وقائع بيئية واجتماعية مختلفة، مما أدى إلى استجابات متنوعة، وتعدد في الرؤى، في إطار من التكامل والتحقق المتبادل من المرويات والآثار النبوية، لم يمنع وجود اختلاف وتباين بينهم في طُرق الفهم والتطبيق. وظلت تلك السمات من أهم خصائص الفكر الإسلامي ومن عناصر قوته.
وقد تقصّى المقريزي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- تلك الحركية العلمية منذ زمن أبي بكر الصديق (ت 13هـ/635م) وعمر بن الخطاب (ت 23هـ/645م) رضوان الله عليهما؛ ففي خلافة الفاروق “زاد تفرق الصحابة رضي الله عنهم فيما افتتحوه من الأقطار، فكانت الحكومة (= النازلة الفقهية/المسألة القضائية) تنزل بالمدينة أو غيرها من البلاد”، فإذا استجدّ أمر من ذلك فإن أمير البلدة أو واليها يرجع فيه إلى الصحابة “فإن كان عند الصحابة الحاضرين لها في ذلك أثر عن رسول الله ﷺ حَكَم به، وإلا اجتهد أميرُ تلك البلدة” في حكمها.
ولتفاوت الصحابة في التلقي عن النبي ﷺ -كمًّا وفهمًا- صار حضورهم في الأمصار يعني نشر وتطبيق ما في حوزتهم من مرويات نبوية، قد لا تتوافر في أمصار أخرى؛ فقد “حضر المدني ما لم يحضر المصري، وحضر المصري ما لم يحضر الشامي، وحضر الشامي ما لم يحضر البصري، وحضر البصري ما لم يحضر الكوفي، وحضر الكوفي ما لم يحضر المدني”.
وقد أدى هذا الحراك المعرفي إلى نشوء طبقة التابعين الذين تلقوا هذه المرويات من جيل الصحابة “فكانوا لا يتعدَّوْن فتاويَهم، إلا اليسير مما بلغهم عن غير مَنْ كان في بلادهم من الصحابة رضي الله عنهم، كاتّباع أهل المدينة -في الأكثر- فتاوي عبد الله بن عمر (ت 73هـ/693م)…، واتّباع أهل الكوفة -في الأكثر- فتاوي عبد الله بن مسعود (ت 32هـ/654م)…، واتّباع أهل مكة -في الأكثر- فتاوي عبد الله بن عباس (ت 69هـ/689م)…، واتّباع أهل مصر -في الأكثر- فتاوي عبد الله بن عمرو بن العاص (ت 65هـ/685م)”.
ثم نشأت طبقة الفقهاء وهم تلامذة جيل التابعين “كأبي حنيفة (ت 150هـ/771م) وسفيان (الثوري المتوفى 161هـ/779م) وابن أبي ليلى (ت 83هـ/703م) بالكوفة، وابن جُرَيْج (ت 150هـ/771م) بمكة، ومالك (بن أنس المتوفى 179هـ/795م) وابن الماجَشُون (لعله: يوسف بن يعقوب بن أبي سلمة الماجَشُون المتوفى 183هـ/799م) بالمدينة، وعثمان البّتِّي (ت 143هـ/762م) وسوار (لعله: القاضي سوار بن عبد الله العنبري المتوفى 245هـ/859م) بالبصرة، والأوزاعي (ت 157هـ/775م) بالشام، والليث بن سعد (ت 175هـ/792م) بمصر”. وعدد من هؤلاء الأئمة كانوا مؤسسين لمذاهب فقهية مندثرة اليوم.
وهذه الطبقة نقلت الآثار والفتاوى عن التابعين، ثم زادوا عليهم في الاجتهاد عبر ترسُّم ظلال هذه النصوص والمرويات في واقع الحياة العملية “فجَرَوْا على تلك الطريق مِن أخذ كل واحد منهم عن التابعين من أهل بلده فيما كان عندهم، واجتهادهم فيما لم يجدوا عندهم وهو موجود عند غيرهم”.
تعددية مذهبية
ولعل هذا التقصي لتلك الاندفاعة الأولى الذي قام به المقريزي يكشف عن الأسباب والعلل التي قادت إلى نشوء المذاهب، وبيان أسباب تعدُّدها، وأنّ تشكُّلها وتفرُّع بعضها عن بعض كان طبيعيا في الغالب، وليس دائما بفعل سلطة سياسية أو مجامع دينية تقبل أو تمنع، بل هي حقيقةً ثمرات لحركية الصحابة، وتلقي التابعين، واجتهاد الفقهاء.
وظهور الفقيه صاحبته نشأة العلوم التي تأسست والتفّت حول المرويات والآثار والفتاوى، ثم دخلت أمة الإسلام “عصر التدوين” الكثيف والمتخصص لهذه الآثار والمرويات، وعن أوليات ذلك التدوين ورواده وبلدانهم يقول المقريزي في خلاصة بديعة:
“وانتدب أقوام لجمع الحديث النبوي وتقييده، فكان أول من دون العلم محمد بن شهاب الزُّهري (ت 124هـ/743م)، وكان أول من صنّف وبوّب سعيد بن [أبي] عَرُوبة (ت 156هـ/775م) والربيع بن صبيح (ت 160هـ/778م) بالبصرة، ومعمر بن راشد (ت 153هـ/772م) باليمن، وابن جُرَيْج بمكة، ثم سفيان الثوري بالكوفة، وحماد بن سلمة (ت 167هـ/784م) بالبصرة، والوليد بن مسلم (ت 195هـ/811م) بالشام، وجرير بن عبد الحميد بالري (ت 188هـ/804م)، وعبد الله بن المبارك (ت 181هـ/797م) بمَرْو وخُراسان، وهُشَيم بن بشير (ت 183هـ/799م) بواسط، وتفرد بالكوفة أبو بكر بن أبي شيبة (ت 235هـ/849م) بتكثير الأبواب وجودة التصنيف وحسن التأليف”.
ومع ظهور المعارف الشرعية بدأت تطفو بعض الظواهر الاجتماعية ذات المغزى الفريد. فقد رصد المقريزي حراك الموالي العلمي وصعودهم الطبقي والاجتماعي بسبب تأهُّلهم المعرفي وتصدُّرهم العلمي، وكان هذا الأمر محلَّ سؤال من بعض النخب العربية التي عايشته، وذلك أن “العرب أنكروا ذلك (= تصدُّر الموالي)، فقال [الخليفة] عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ/720م): «ما ذنبي إن كانت الموالي تَسْمُو بأنفسها صُعُداً وأنتم لا تَسْمُون؟!»”.
وبالنسبة لمصر فيما يمتُّ لهذا السياق بصلة؛ فإن المقريزي يلفت النظر إلى فكرة عجيبة، وهي أن الإمام التابعي “يزيد بن أبي حبيب (النوبي المتوفى 128هـ/146م) أول من نشر العلم بمصر في الحلال والحرام… ومسائل الفقه، وكانوا قبل ذلك إنما يتحدثون في الفتن والترغيب”!! ولعل هذا يعكس عراقة غرام المصريين بالحكايات والغرائب والملاحم، وهو مسلك ظل ملازما للشخصية المصرية حتى الآن!!
ثم أشار المقريزي إلى أمر آخر يتعلق بتاريخ تشكُّل الهوى السياسي المصري، وهو قول يزيد هذا: “نشأتُ بمصر وهي عَلَوية (= شيعة علي) فقلبتُها عثمانيةً (= الأمويين)”!! والعجيب في هذا الأمر أنه مع ظهور هاتين الفرقتين المتضادتين (العلوية والعثمانية) حدث ظهور قوي لفرقة “الخوارج” في مصر.
فمع إعلان عبد الله بن الزبير (ت 73هـ/693م) توليه الخلافة منافسا عليها يزيد بن معاوية (ت 64هـ/684م)؛ ناصره بعض “الخوارج” وهم يظنون أنه على مذهبهم، وفي سنة 64هـ/685م “بَعَث [ابن الزبير] إلى مصر بعبد الرحمن بن جَحْدَم الفِهْري (ت بعد 65هـ/686م) فقدِمَها في طائفة من الخوارج…، وكَثُرَتْ الخوارج بمصر منها وممن قدِم من مكة، فأظهروا في مصر «التحكيم» ودَعوْا إليه”. و”التحكيم” هو العقيدة السياسية للخوارج القائمة على مبدأ أنه “لا حُكْم إِلا لله تعالى”.
ومن جرّاء تصرُّف ابن الزبير هذا تغيرت الحالة السياسية في البلاد “فصار أهل مصر حينئذ ثلاث طوائف: علوية وعثمانية وخوارج”؛ فلما بويع مروان بن الحَكَم الأموي (ت 65هـ/686م) بالخلافة في الشام أرسل جيشا لمحاربتهم سنة 64هـ/685م، فهزموهم “ومن حينئذ غَلَبَتْ العثمانية (= الأمويون) على مصر، فتظاهروا فيها بسب عليّ [بن أبي طالب] رضي الله عنه، وانكفَّتْ ألسنةُ العلويةِ والخوارجِ”.
ثم تناول المقريزي ظاهرة الرحلات العلمية التي استجدّت في الأمصار مع بدء نشاط جمْع الآثار المتفرقة بين علمائها، فنفر علماء كل مصرٍ للبحث عن مفتقَدهم من الروايات المجهولة في بلدانهم فـ”كَثُر الترحل إلى الآفاق، وتداخل الناس والتقوْا، وانتدب أقوام لجمع الحديث النبوي وتقييده”.
وكان لمصرَ نصيبها من تلك الرحلات العلمية فأصبح أبو سعيد عثمان بن عتيق الغافقي (ت 184هـ/800م) “أول مَنْ رحل من أهل مصر إلى العراق في طلب الحديث”. وأما بخصوص السند القرآني فإن أبا ميسرة عبد الرحمن بن ميسرة الحضرمي (ت 188هـ/804م) “كان أول الناس إقراءً بمصر بحرف (= قراءة) نافعٍ (= أبو رُوَيْم نافع بن عبد الرحمن المدني المتوفى 170هـ/786م) قبل الخمسين ومئة (150هـ/768م)”.
وأسفرت حصيلة عقود من تلك الرحلات العلمية عن حصاد وافر من المرويات والآثار “فوصلت أحاديث رسول الله ﷺ من البلاد البعيدة إلى من لم تكن عنده، وقامت الحجة على من بلغه شيء منها، وجُمعت الأحاديث المبيِّنة لصحة أحد التأويلات المتأوَّلة من الأحاديث، وعُرف الصحيح من السقيم، وزُيِّفَ الاجتهادُ المؤدي إلى خلاف كلام رسول الله ﷺ وإلى ترك عمله، وسقط العذر عمن خالف ما بلغه من السُّنن ببلوغه إليه وقيام الحجة عليه”.
ولعل هذا النص يكشف مجددا عن بالغ تأثر المقريزي بابن تيمية وعموم مدرسة الحديث التي ظل صاحبنا وفيا لها، فكانت حاضرة في معرض تأريخه للأفكار، منبئة عن عمق المنزع الأثري في شخصيته.
كذلك قدَّم المقريزي تفسيرا لأسباب انتشار المذاهب الفقهية اجتماعيا، مُبديا -هذه المرة- نزعتَه الظاهرية حين اقتدى برأي ابن حزم الأندلسي في هذا الموضوع، بل ونقل بعض عباراته فيه بنصها الحرفي من كتاب «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم.
فقد أرجع المقريزي -في المواعظ والاعتبار‘- توسُّعَ بعض المذاهب في إقليم ما إلى تبوُّؤ أحد فقهائها مرجعية الفتوى العامة، أو تقلُّده منصبَ “قاضي القضاة” (وزارة العدل) باعتباره أهم المناصب العلمية اللصيقة بالسلطة الحاكمة. وضرب لذلك مثلا بمذهبيْن هما أقدم المذاهب الفقهية السُّنية نشأةً، وبنموذجين من انتشارهما مشرقا ومغربا.
فقد أرَّخَ المقريزي لبداية هذه الحالة بتولي هارون الرشيد (ت 193هـ/809م) عرش الخلافة العباسية ببغداد؛ إذْ كان من أهم قراراته ذاك الذي كان سببا في انتشار المذهب الحنفي، حين “ولَّى القضاءَ أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم (ت 182هـ/798م) -أحدَ أصحاب أبي حنيفة رحمه الله تعالى- بعد سنة سبعين ومئة (170هـ/786م)، فلم يقلِّد ببلاد العراق وخراسان والشام ومصر إلا من أشار به القاضي أبو يوسف رحمه الله واعتنى به”!!
وفي الغرب الإسلامي وتحديدا في بلاد الأندلس؛ كان وراء انتشار المذهب المالكي هناك ما حظي به كبير فقهاء المالكية بالأندلس يحيى بن يحيى الليثي المصمودي (ت 234هـ/848م) من مكانة علمية ومجتمعية؛ فبعد دراسته في المشرق على الإمام مالك وكبار تلامذته “عاد إلى الأندلس فنال من الرياسة والحرمة ما لم ينله غيره، وعادت الفتيا إليه، وانتهى السلطانُ (= الأمراء الأمويون) والعامةُ إلى بابه، فلم يقلَّد في سائر أعمال الأندلس قاضٍ إلا بإشارته واعتنائه، فصاروا (= أهل الأندلس) على رأي مالك”!! ثم تكررت الحكاية في تونس وجوارها “لما ولِيَ سُحنون بن سعيد التَّنُوخي (ت 240هـ/855م) قضاء إفريقية، بعد ذلك نشر فيهم مذهب مالك وصار القضاء في أصحاب سحنون دُوَلاً”.
وخلال حديثه عن كيفية انتشار المذاهب الفقهية وارتباط ذلك بالقضاء؛ رصد المقريزي ظاهرة التحزب الفقهي وما يرتبط بها من تعصب مذهب وفتن تصل أحيانا إلى الاقتتال بين أتباع هذه المذاهب، رغم انتمائها كلها إلى معسكر “أهل السنة والجماعة”، وحالة التلمذة القائمة بين أئمتها المؤسسين لها.
وقد تفشت تلك الفتن المذهبية في مناطق التجاور بين هذه المذاهب في الجغرافيا الاسلامية؛ فكان استبدال قاضٍ بآخر من مذهب مغاير يعني رفعة علمائه وتمكين مذهبه، وانكباب طلاب العلم على تعلُّم مسائله، وكان هذا وقودا دائما لتلك الفتن المؤسفة.
ويضرب المقريزي لذلك مثلا بما حصل بين الحنفية والشافعية في خراسان؛ ذلك أن إمام الشافعية في بغداد أبا حامد الاسفراييني (ت 406هـ/1016م) “لما تمكّن من الدولة في أيام الخليفة القادر بالله (العباسي المتوفى 422هـ/1032م)… قرَّرَ معه استخلافَ أبي العباس أحمد بن محمد البارزي الشافعي (ت بعد 391هـ/1004م) [عوضًا] عن أبي محمد ابن الأكفاني الحنفي (عبد الله بن محمد ابن الأكفاني المتوفى 405هـ/1015م) قاضي بغداد (= قاضي القضاة)، فأجيب إليه بغير رضا الأكفاني. وكتب أبو حامد إلى السلطان محمود بن سُبُكْتِكِين (محمود الغزنوي المتوفى 421هـ/1031م) وأهل خراسان أن الخليفة نَقل القضاءَ (= منصب قاضي القضاة) عن الحنفية إلى الشافعية، فاشتهر ذلك بخراسان وصار أهل بغداد حزبيْن”!!
تنوع طائفي
وبالنسبة لمصر؛ فهي وإن لم تخرج -في العموم- عن تلك القاعدة الحزمية المقريزية في تعليل انتشار المذاهب الفقهية، فإنه يمكن القول إن التعدد المذهبي كان من سماتها في معظم حقبها التاريخية، مع حضور قوي ودائم لمذهبيْ الإمامين مالك والشافعي (ت 204هـ/819م)؛ فقد كان “وما زال مذهب مالك ومذهب الشافعي رحمهما الله تعالى يَعمَل بهما أهلُ مصر، ويولَّى القضاءَ مَنْ كان يذهب إليهما أو إلى مذهب أبي حنيفة رحمه الله” الذي ما فتئ له وجود في البلاد منذ أدخله إليها القاضي العراقي إسماعيل بن اليسع (ت 167هـ/783م)، فكان بذلك “أول من أدخل مذهب أبي حنيفة مصرَ.. وكانوا لا يعرفونه”؛ كما في ‘رفْع الإصْر‘ لابن حجر.
وظلت السيادة في مصر لهذه المذاهب السُّنية الثلاثة -على تفاوت بينها في حجم الانتشار- حتى مجيء الدولة الفاطمية “فمن حينئذ فشا بديار مصر مذهب الشيعة، وعُمل به في القضاء والفتيا وأنكِر ما خالفه، ولم يبق مذهب سواه، وقد كان التشيع بأرض مصر معروفا قبل ذلك”؛ حسب المقريزي في ‘المواعظ والاعتبار‘.
ولم يغير من عمومية قاعدة الاحتكار الفاطمي للسيادة المذهبية بعضُ القرارات ذات التطبيق المحدود زمنيا، والتي سَمح بعض وزراء الفاطميين بموجبها بتعددية مذهبية في مجال القضاء تحديدا، كما حصل في سنة 524هـ/1130م عندما عُيّن “أربعة قضاة: اثنان أحدهما إمامي (= المذهب الشيعي الجعفري) والآخر إسماعيلي (= شيعي فاطمي)، واثنان أحدهما مالكي والآخر شافعي، فحَكَم كلٌّ منهما بمذهبه وورَّث على مقتضاه”.
فلما سقطت الدولة الفاطمية على يد صلاح الدين الأيوبي في جمادى الآخرة 564هـ/1169م “شرع في تغيير الدولة وإزالتها…، وصَرَف قضاةَ مصر الشيعة كلَّهم، وفوَّض القضاءَ (= منصب قاضي القضاة) لصدر الدين عبد الملك بن دِرْبَاس الماراني الشافعي (ت 605هـ/1208م) فلم يستنب عنه في إقليم مصر إلا من كان شافعي المذهب، فتظاهر الناس من حينئذ بمذهب مالك والشافعي، واختفى مذهب الشيعة الإسماعيلية والإمامية (= الجعفرية) حتى فُقِد من أرض مصر كلها”.
وعلى صعيد الاختيارات العقدية الكلامية؛ يقدّم المقريزي خلاصة تاريخية مركزة لظهور الفرق الكلامية وخريطة انتشارها وتعاقبها في السيادة والسيطرة، ولاسيما في مصر والشام؛ فينتهي إلى أن صلاح الدين هو من نشر المذهب الأشعري إلى حد التمكين له حصرا في عموم أقاليم الدولة الأيوبية، بعد أن كان الفاطميون قد فرضوا أصولهم العقائدية طوال حكم دولتهم، فكان من الطبيعي أن تأتي المواجهة على نفس النسق مسارا وثمارا.
وفي ذلك يقول المقريزي: “وأما العقائد فإن السلطان صلاح الدين حمل الكافة على عقيدة الشيخ أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري (ت 324هـ/936م) تلميذ أبي علي الجُبّائي (محمد بن عبد الوهاب شيخ المعتزلة بالبصرة المتوفى 303هـ/915م)، وشَرَطَ ذلك في أوقافه التي بديار مصر…؛ فاستمرَّ الحال على عقيدة الأشعري بديار مصر وبلاد الشام وأرض الحجاز واليمن، وبلاد المغرب أيضا لإدخال محمد بن تُومَرْتْ (صاحب دعوة الموَّحِدين ودولتهم المتوفى 525هـ/1131م) رأيَ الأشعري إليها”.
ثم أرَّخ المقريزي لأوضاع المذاهب الفقهية في عصره؛ حيث جرى ترسيم حضور المذاهب السُّنية الأربعة في الحياة العلمية -وما يتصل بها من أوقاف ومِنَح علمية وتعليمية– منذ نشأة دولة المماليك، وباتت تمثَّل في الهيئات الإدارية والتعليمية محتكرةً مناصب الولايات الدينية الكبرى من قضاء وفتوى وخطابة وتدريس، بل إنها احتكرت أيضا مبدأ التقليد المذهبي نافيةً صحة اتباع غيرها من المذاهب!!
وعن ذلك يقول المقريزي: “فلما كانت سلطنة الملك الظاهر بَيْبَرْس البُنْدُقْداري ولَّى بمصر والقاهرة أربعة قضاة، وهم: شافعي ومالكي وحنفي وحنبلي. فاستمر ذلك من سنة خمس وستين وستمئة (665هـ/1270م) حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يُعْرف من مذاهب أهل الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة، وعقيدة الأشعري. وعُملت لأهلها المدارس والخوانك (= المدارس الصوفية) والزوايا والرُّبُط في سائر ممالك الإسلام، وعودي مَنْ تمذهب بغيرها وأنكِر عليه، ولم يُوَلَّ قاضٍ ولا قُبِلتْ شهادة أحد ولا قُدِّم للخطابة والإمامة والتدريس أحد ما لم يكن مقلِّدا لأحد هذه المذاهب، وأفتى فقهاء هذه الأمصار -في طول هذه المدة- بوجوب اتّباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها، والعملُ على هذا إلى اليوم”!!
ويبقى السؤال قائما عن الموقف الفكري والمعرفي للمقريزي نفسه، وهو ما يجعلنا نستحضر مدرسة الوسطية المعاصرة التي جاءت بعد قرون من ترسُّخ المدارس الفقهية المذهبية ثم ظهور السلفية الإصلاحية التيمية، وهي المدرسة التي حاولت أن تكون وسطا بين شتات المذاهب والتيارات الفكرية السُّنية.
ويبدو أن المقريزي كان ميالا إلى هذه النزعة الوسطية؛ فقد وجد نفسه في خضم استقطابات مذهبية مستحكِمة، ومقاومة سلفية مصلِحة، فانحاز إلى هذا النهج الوسطي بعد تأمُّل في منشأ اختلافات المسلمين وتحليل عميق لأسبابها الذاتية والموضوعية، وهو ما عبّر عنه بـ”المغالاة” في تقدير الأشخاص والأفكار؛ فقال في إحدى خلاصاته التوفيقية والمشخصّة لنشأة داء التفرقة الطائفية في أمة الإسلام:
“وأصْلُ كلِّ بدعة في الدين البعد عن كلام السلف والانحراف عن اعتقاد الصدر الأول، حتى بالغ القَدَريُّ (= المعتزلي) في القَدَر فجعل العبد خالقا لأفعاله، وبالغ الجَبْري في مقابلته فسلب عنه الفعل والاختيار، وبالغ المعطِّل في التنزيه فسَلَب عن الله تعالى صفات الجلال ونعوت الكمال، وبالغ المشبِّه في مقابلته فجعله كواحد من البشر، وبالغ المُرْجِئ في سلب العقاب، وبالغ المعتزلي في التخليد في العذاب، وبالغ الناصبي في دفع علي رضي الله عنه عن الإمامة، وبالغت الغلاة حتى جعلوه إلهاً، وبالغ السُّني في تقديم أبي بكر رضي الله عنه، وبالغ الرافضي في تأخيره حتى كفَّره!
وميدان الظن واسع وحُكْم الوهم غالب، فتعارضت الظُّنون وكثُرت الأوهام، وبلغ كل فريق في الشر والعناد والبغي والفساد إلى أقصى غاية وأبعدِ نهاية، وتباغضوا وتلاعنوا واستحلُّوا الأموال واستباحوا الدماء، وانتصروا بالدُّول واستعانوا بالملوك، فلو كان أحدهم إذا بالغ في أمر نازع الآخر في القرب منه، فإن الظن لا يبْعُدُ عن الظن كثيرا ولا ينتهي في المنازعة إلى الطرف الآخر من طرفيْ التقابل، لكنهم أبَوْا إلا ما قدّمنا ذكره من التدابر والتقاطع، ﴿وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾؛ (سورة هود/الآية: 118-119)”.
اهتمام قبطي
من أبرز الجوانب التاريخية التي أفرد لها المقريزي حيزا مقدَّرا من اهتمامه البحثي سواء فيما يخص تاريخ مصر أو تاريخ الأفكار؛ ذاك الاحتفاء اللافت الذي أولاه للأقباط وتاريخهم، وهو احتفاء لافت ربما يفسر غزارتَه وعمقَه كونه ينطلق فيه من مسلمة مناقبية راسخة عنده ومنطبقة على مجموعهم، مقتضاها أن “قبط مصر أكرم الأعاجم كلها وأسمحهم يداً، وأفضلهم عنصراً، وأقربهم رَحِمًا بالعرب عامة”؛ وفق تعبيره في ‘المواعظ والاعتبار‘.
ولذا جاءت كتاباته عن تاريخهم متَّسمة بالاستقصاء الخبري كعادته في تاريخ الأفكار والمعتقدات؛ فقد عقد فصلا ضافيا (63 صفحة) ختم به موسوعته الحافلة «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار»، وخصّصه لـ”ذكر قبط مصر ودياناتهم القديمة، وكيف تنصروا ثم صاروا [أهل] ذمة للمسلمين، وما كان لهم في ذلك من القصص والأنباء، وذكر الخبر عن كنائسهم ودياراتهم (= أديرتهم)، وكيف كان ابتداؤها ومصير أمرها”.
والحق أن ما كتبه المقريزي عن الأقباط مُنبئ بإحاطته الدقيقة بالعقائد والعوائد المسيحية -وكذلك اليهودية- على نحو يجعلنا نستوعب ما ذكره الإمام السخاوي عنه ضمن تنويهه بموسوعية معارفه، وهو أنه كان لديه “إلمام بمذهب «أهل الكتاب» حتى كان يتردد إليه أفاضلهم للاستفادة منه”، أي أنه كان له تلامذة مسيحيون ويهود يتخذونه مرجعا في تاريخ دياناتهم؛ ولا غَرْوَ فإن من ضمن مؤلفاته كتاب “«شارع النجاة»، يشتمل على جميع ما اختلف فيه البشر من أصول دياناتهم وفروعها، مع بيان أدلتها وتوجيه الحق منها”؛ حسب الإمام السخاوي.
وفي كتابات المقريزي عن الأقباط؛ نقف مجددا على طريقته المعهودة في جمع الأخبار ونظام ترتيبها وتنسيقها والاختيار بين شتاتها، والتي تجعل القارئ على تماسٍّ مع العلل والأسباب التاريخية، وتمده بفهم لكيفية اندفاع الأحداث وظهورها لأن “التاريخ المجمع عليه لا يكون إلا من حادث عظيم يملأ ذكرُه الأسماع”!
يبدأ المقريزي حديثه عن الأقباط بالتطرق إلى أصل نسبهم؛ فنجده يجري في ذلك على عادة المؤرخين المسلمين -وخاصة المصريين منهم- في صناعة ذاكرة متصلة تربط الماضي بالحاضر، واعتبار أن الجذر الذي انحدرت منه مصر ونبع منه القبط هو نبوي ديني، وهو ما يعني أن مصر الحاضرة موصولة بمصر الماضية، وأن القاطنين في ربوع “المحروسة” يجمعهم نسب روحي عميق.
ولذا لم يشذ المقريزي عن هذا النهج في قوله: “اعلم أن جميع أهل الشرائع -أتباع الأنبياء عليهم السلام من المسلمين واليهود والنصارى- قد أجمعوا على أن نوحا عليه السلام هو الأب الثاني للبشر…، فليس أحد من بني آدم إلا وهو من أولاد نوح”، مشيرا إلى أن ذرية نوح تنحصر في ثلاثة أولاد: سام وحام ويافث، ومن حام بن نوح ينحدر أربعة أولاد أحدهم اسمه “مصرايم” و”القبط تنسب إلى قبطيم بن مصرايم”.
وإذا كان المقريزي يرى أنه من الصعب الحديث عن عرق نقي يجمع الأقباط لأن “أنسابهم مختلطة لا يكاد يتميز منهم القبطي من الحبشي من النوبي من الإسرائيلي (= اليهودي) الأصل من غيره”؛ فإنه ربما يجعل من ذلك متّكَأ لاعتباره الهوية الثقافية القيمية -التي يمثل فيها الدينُ المجسِّدَ الأعلى للبشر- هي الجامعَ بين المسلم والمسيحي، وبالتالي هي الذاكرة المشتركة واللاحمة بين مواطنيه المصريين كافة. ولعله بذلك يقدّم حلا لمسألة الوافد والأصيل من الأعراق التي لا تزال تثير جدلا داخل الثقافة المصرية، إذْ يفضل اتجاه من مثقفي الأقباط أن يقدم نفسه باعتباره صاحب البيت الوراث لحضارة الفراعنة.
أما عن لحظة اتصال أهل مصر من الأقباط بالإسلام؛ فالمقريزي يذكر أن المسلمين عندما دخلوا أرض مصر فاتحين وجدوا أهلها قسمين: “«أهل الدولة» وكلهم رُومٌ من جند صاحب القسطنطينية ملك الروم (= الدولة البيزنطية)، ورأيهم وديانتهم بأجمعهم «ديانة المَلَكية» (= المذهب الملكاني: الأرثوذكسية البيزنطية)، وكانت عدتهم تزيد على ثلاثمئة ألف رومي. والقسم الآخر عامة «أهل مصر»، ويقال لهم القبط.. وكلهم «يعاقبة»”، أي أتباع المذهب القبطي المصري الذي ينتمي إلى ما يسمى اليوم “الأرثوذكسية المشرقية”، وهؤلاء «اليعاقبة» هم “في الحقيقة أهل أرض مصر أعلاها وأسفلها”.
وبحسب المقريزي؛ فقد كان قتال المسلمين عند دخولهم مصر مع الحامية الرومية فقط، وقد “طلب القبط من عمرو [بن العاص] المصالحة على الجزية فصالحهم عليها، وأقرّهم على ما بأيديهم من الأراضي وغيرها، وصاروا معه عَوناً للمسلمين على الروم حتى هزمهم الله تعالى وأخرجهم من أرض مصر”.
وترتب على الفتح الإسلامي للبلاد إعادة إحياء وتجديد المذهب اليعقوبي المصري الذي كاد أن يندثر؛ فقد “كتب عمرو لبنيامين (= بنيامين الأول بابا الإسكندرية المتوفى 41هـ/662م) بطرك اليعاقبة أماناً في سنة عشرين من الهجرة (20هـ/642م)، فسرّه ذلك، وقدِم على عمرو، وجلس على كرسي بطركيته بعد ما غاب عنه ثلاث عشرة سنة، منها في مُلك فارسَ لمصر عشر سنين، وباقيها بعد قدوم هرقل (= فلافيوس أغسطس الإمبراطور البيزنطي المتوفى 20هـ/641م) إلى مصر، فغلبت اليعاقبة على كنائس مصر ودياراتها (= أديرتها) كلها، وانفردوا بها دون المَلَكية” أي الكنيسة البيزنطية.
ولعل هذا التجديد والإحياء للكنائس والأديرة المصرية على أيدي الفاتحين المسلمين هو الذي أنقذ المذهب الأرثوذكسي المصري من الاندثار، ومثَّل سابقة شرعية فقهية احتذاها فيما بعد علماء المسلمين وأمراؤهم؛ إذْ يبدو أن موقف عمرو بن العاص هذا من المؤسسة الدينية القبطية هو ما جعل الإمامين الليث بن سعد وعبد الله بن لَهيعة (ت 174هـ/790م) يُفتيان بجواز بناء بعض الكنائس التي هُدمت في العهد العباسي سنة 169هـ/786م، و”قالا: هو (= بناء الكنائس) من عمارة البلاد، واحتجّا بأن الكنائس التي بمصر لم تُبْنَ إلا في الإسلام في زمن الصحابة والتابعين”.
لقد كان المقريزي أمينا في نقله بعض التفاصيل المؤلمة والحوادث المؤسفة التي شابت تاريخ التعايش الديني في مصر، ومن الواضح -مما جاء في تاريخه- أنه يفرق في علاقة المسلمين بالأقباط بين مرحلتين: الأولى امتدت من زمن الفتح إلى ما قبل عهد الخليفة المأمون العباسي (ت 218هـ/833م)، وقد كثرت فيها الثورات والمواجهات المسلحة بين الجانبين بسبب بعض الظروف السياسية والاقتصادية.
والثانية هي: مرحلة ما بعد الخليفة المأمون الذي أنهى حقبة الثورات القبطية هذه بالإجراءات التي اتخذها خلال زيارته التفقدية لمصر سنة 216هـ/831م، لتبدأ بذلك في مصر حقبة جديدة اتسمت عموما بطابع التعايش السلمي، رغم فتن طائفية ظلت تتجدد عبر القرون جراء نزعات التعصب الطائفي لدى بعض أتباع الطرفين، إضافة إلى السياسات الجائرة لرجال السلطة بمن فيهم من يسميهم المقريزي -في كتابه ‘السلوك‘- “ظلمة الكُتّاب الأقباط وفُسّاقهم”.
ورغم تلك الفتن الطائفية؛ فقد كانت المظالم العامة جراء الفساد والاستبداد خيرَ جامع لمكونات الرأي العام في الجماعة المصرية مسلمين ومسيحيين. وعلى سبيل المثال، ووفقا للمقريزي نفسه في ‘اتّعاظ الحُنفا‘؛ فإنه في سنة 363هـ/974م دخل أبو محمود إبراهيم بن جعفر البربري الكُتَامي (ت 370هـ/981م) -وهو قائد العسكر المصري الفاطمي- دمشق وهي مضطربة الأمن، وعندما “تفاقم الأمر واشتد البلاء” سيّر أهلُها -بقيادة “مشايخ البلد”- مظاهرات تندد بالاضطراب وتطالب بتوفير الأمن، وفي تلك الاحتجاجات السياسية السلمية “فتح المسلمون المصاحف، والنصارى الإنجيل، واليهود التوراة، واجتمعوا بالجامع وضجُّوا بالدعاء، وداروا المدينة وهي منشورة على رؤوسهم”!!
كذلك رصد المقريزي -بشكل شبه متفرد- صور الاندماج بين المصريين (مسلمين ومسيحيين) في المناسبات الدينية والاجتماعية، لاسيما في احتفالات “عيد الميلاد” و”الشعانين” وغيرهما من الأعياد المسيحية التي تحولت واقعيا إلى مناسبات اجتماعية عامة لجميع المصريين، رغم التحفظات الشرعية التي يبديها الفقهاء على ذلك.
فقد أورد المقريزي تفاصيل مستفيضة عن هذه الاحتفالات المسيحية في عدد من عهود مصر السياسية، وتحدث خصوصا عن طقوس الاحتفال بمناسبة «ليلة الغطاس» -التي تُقام في يناير/كانون الثاني من كل سنة- في الدولتين الإخشيدية والفاطمية. ونقل عن المؤرخ المسعودي (ت 346هـ/957م) مشاهداته في إحدى مناسباتها قائلا:
“«ليلة الغطاس» بمصر شأن عظيم عند أهلها، لا ينام الناس فيها…؛ ولقد حضرتُ سنة ثلاثين وثلاثمئة (330هـ/942م) «ليلة الغطاس» بمصر، والإخشيد محمد بن طُغُج (ت 334هـ/955م) أميرُ مصر في داره المعروفة بـ«المختار» في الجزيرة الراكبة على النيل، والنيل مُطيف بها، وقد أمر فأسرِج (= أوقِد) -في جانب الجزيرة وجانب الفسطاط- ألف مشعل، غير ما أسرَج أهل مصر من المشاعل والشمع، وقد حضر بشاطئ النيل في تلك الليلة آلاف من الناس من المسلمين ومن النصارى، منهم في الزواريق (= الزوارق)، ومنهم في الدُّور الدانية من النيل، ومنهم على سائر الشُّطُوط؛ لا يتناكرون كلَّ ما يمكنهم إظهاره من المآكل والمشارب، وآلات الذهب والفضة والجواهر، والملاهي والعزف والقصف (= اللهو الصاخب). وهي أحسن ليلة تكون بمصر، وأشملها سرورا، ولا تُغلق فيها الدروب”!!