صاروخ ثم بتر.. الاحتلال يفتك بأجساد أطفال غزة يوميا | سياسة
غزة- تهادت دمعة من عين أسامة أبو مصطفى على خده، ولم يستطع مسحها بكلتا يديه، فصاروخ أطلقته مسيّرة إسرائيلية أصاب هذا الطفل (13 عاما) إصابة بليغة في النخاع الشوكي تسبب ببتر ساقه اليسرى، فألزمه سرير المستشفى، وغدا لا يقوى على مساعدة نفسه.
هذا الطفل “الفراشة” النشيط والمتفاني في مساعدة أسرته والآخرين كما تصفه والدته ضياء أبو مصطفى، بات في وضعية إعاقة، مبتور الساق، ولا يستطيع تحريك يديه، وبدموع لم تجف من عينيها تتحدث هذه الأم الثلاثينية عن “الصاروخ الغادر” الذي سقط على بعد أقل من مترين من ابنها أسامة، وترك أثرا على جسده سيلازمه لبقية حياته.
وعن اللحظة التي وقع فيها الانفجار، يقول أسامة للجزيرة نت “شعرت بزنة شديدة (طنين من دوي الانفجار) في رأسي، وتحول جسدي إلى طبقات”، بوصفه الطفولي البسيط لما شعر به حيث بدا وكأن الصاروخ طوى جسده كطي قطعة قماش.
بتر حلم وطرف
وعن لحظة سقوط الصاروخ بقربه ودوي الانفجار الهائل الذي أحدثه، يقول أسامة “لم أغب عن الوعي، وكان إلى جواري عمة ماما وزوجها وابنها، وقد استشهدوا جميعا على الفور”.
في تلك الأثناء كانت أم أسامة (36 عاما) في منزلها، وبمشاعرها صرخت مع وقوع الانفجار “ابني أسامة”، وتقول “كان المشهد مروعا، شهداء وأشلاء، وأسامة ينزف ويتألم، والمنطقة التي نقطن بها شبه خالية من سكانها، وقد نزحوا عنها مجبرين، ولم نجد سيارة لنقل أسامة إلى المستشفى”.
أودى الانفجار بحياة ليلى أبو مصطفى وزوجها عاطف، وقد كانا في الستينيات من عمرهما، وابنهما الأربعيني أحمد، وطفلين من العائلة نفسها لا تتعدى أعمارهما الخمس سنوات، إضافة إلى 10 جرحى من بينهم أسامة.
أم أسامة التي تعمل ممرضة في عيادة حكومية ببلدة عبسان شرق مدينة خان يونس، احتضنت نجلها وحملته بمساعدة زوجها، وركضا به على غير هدى بحثا عن سيارة، فليس في المنطقة سيارات تعمل بسبب أزمة الوقود، ولا تصلها سيارات الإسعاف لخطورتها، فاضطر الأب لنقل نجله إلى المستشفى بواسطة دراجة نارية.
حدث ذلك في الخامس من يوليو/تموز الجاري في منطقة “قاع القرين” جنوب شرقي مدينة خان يونس، وهي واحدة من مناطق وبلدات شملتها إنذارات الإخلاء الإسرائيلية في ذلك اليوم، وبحسب أم أسامة، فإن غالبية سكان المنطقة غادروها ونزحوا عنها، ولم تجد هي وأسرتها وسيلة نقل للنزوح، فأجلت المغادرة لليوم التالي، “ليصاب أسامة..”.
وبعد أسبوع من التدخلات الطبية باءت محاولات الأطباء بالفشل، ولم تفلح الجراحة والعلاج الطبيعي بالإبقاء على ساق أسامة، فكان الخيار المر بالنسبة له ولأمه “حياته أو ساقه”، وتقول “صارحني الأطباء بأن هناك خشية على حياته ولا بد من بتر الساق، فوافقت وكأنني أوافق على انتزاع قلبي من بين ضلوعي”.
تتعلق أم أسامة بحبال الأمل، وتتضرع إلى الله أن يعاد فتح معبر رفح البري مع مصر، أو أي منفذ آخر، يمكنها من السفر رفقة أسامة ليتلقى علاجا بالخارج يعيد له الحركة بيديه، وتركيب طرف صناعي يساعده على المشي.
تقول الأم إن ابنها أسامة كان متفوقا بدراسته محبا لمادة الرياضيات، وعاشقا للعب كرة القدم وركوب الدراجات الهوائية، لكن “الصاروخ بتر أحلامه مع ساقه”، ويقول إنه لا يتمنى شيئا الآن سوى مغادرة المستشفى والعودة إلى منزله.
آلاف حالات البتر
لا تعد حالة أسامة استثنائية في غزة، فالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ما زالت رحاها تدور للشهر العاشر على التوالي، وفتكت بأجساد الأطفال وأرواحهم وأحلامهم، وبحسب فيليب لازاريني المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”، فإن 10 أطفال يفقدون ساقا أو ساقين كل يوم في القطاع الساحلي الصغير.
وفي تصريحات نقلتها عنه منصات “أونروا” على مواقع التواصل الاجتماعي، خلال مؤتمر عقده أواخر يونيو/حزيران الماضي في مقر الأمم المتحدة بمدينة جنيف السويسرية، قال المفوض العام إن هذه الأرقام لا تشمل الأطفال الذين خسروا أطرافا علوية، مستندا بذلك إلى أرقام صادرة عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسيف”.
وتحدث لازاريني عن الواقع المؤلم لإجراء عمليات البتر في المستشفيات شبه المنهارة، وقال “نعلم كيف تتم عمليات البتر في ظروف مروعة جدا، وأحيانا من دون أي نوع من التخدير، وهذا ينطبق أيضا على الأطفال”.
وتشير تقديرات منظمات صحية محلية ودولية إلى أن نحو 11 ألف حالة بتر للأطراف، من بينها حالات لـ4 آلاف طفل، تسببت بها الحرب الإسرائيلية المستمرة على القطاع منذ هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي.
استهداف بالقتل والبتر
ويدعم الدكتور مروان الهمص هذه الأرقام بشواهد يومية، أحدثها استهداف مسيّرة إسرائيلية لفتيين لم يتجاوزا 18 عاما شرق خان يونس، وتسببت في بتر أطرافهما السفلية الأربعة، وتهشيم بليغ لأطرافهما العلوية.
ويشرف الدكتور مروان حاليا على “المستشفيات الميدانية” بعدما اضطر كونه مديرا لمستشفى أبو يوسف النجار في مدينة رفح إلى إخلائه على وقع العملية العسكرية الإسرائيلية البرية المستمرة منذ السادس من مايو/أيار الماضي.
ويقول للجزيرة نت “نعمل كأطباء في ظروف قهرية، ونضطر إلى اتخاذ قرارات مؤلمة بعمليات بتر لجرحى ومن بينهم أطفال، بسبب الجروح الغائرة والالتهابات الشديدة، ونوعية الإصابات غير المعهودة التي تحدثها أسلحة الاحتلال”.
وبحسب الهمص، فإن الأطفال هم الفئة الأكثر تضررا من هذه الأسلحة، وتتراوح نسبة الضحايا بينهم سواء شهداء أو جرحى ما بين 35 إلى 45%، ويقول إنه شاهد على كثير من حالات البتر لأطفال وصلوا إلى المستشفيات وقد هشمت صواريخ الاحتلال وقذائفه عظامهم، وتسببت بحروق في أجسادهم تصل إلى 40% وهي حروق شديدة من الدرجة الرابعة.
ويفسر الطبيب فشل محاولات إنقاذ الأطراف من البتر بكون هذه الحرب غير مسبوقة من حيث مستوى العنف ونوعية الأسلحة المستخدمة، والتي تسبب إما قتلا سريعا وفوريا أو قتلا مؤجلا بالبتر والالتهابات، ويقول “ليس بمقدورنا التعامل مع هذه الحالات في مستشفياتنا، التي تعاني نواقص في كل شيء بفعل الاستهداف المباشر والحصار الخانق”.
واستنادا إلى الأرقام الرسمية في وزارة الصحة، يقول الهمص إن ما يزيد على 35 ألف جريح ومريض، من بينهم 40% أطفال، بحاجة ملحة للسفر سريعا إلى الخارج لتلقي العلاج اللازم المنقذ للحياة، ويحول الاحتلال دون ذلك بفعل احتلاله معبر رفح البري.