هل وصل النموذج الاقتصادي الصيني إلى الباب المسدود؟ | اقتصاد
خارطة القوى الاقتصادية الدولية تحفظ مكانة الصين، خاصة أن هذه الخارطة تضم شركاء متشاكسون ومتصارعون، فتصور الولايات المتحدة والغرب على أن الصين هي مجرد مصنع للعالم، ثبت خطؤه، حيث حققت الصين العديد من الخطوات الجادة منذ بداية الألفية الثالثة.
فقد أصبحت عملتها واحدة من عملات الاحتياطيات الدولية الرئيسة، كما أصبحت تمثل جزءا من منظومة التسويات المالية العالمية، وإن كانت بنسبة قليلة، فضلا عن أنها حققت خطوات ملموسة على صعيد إنتاج التكنولوجيا.
وبخصوص الاستثمارات الخارجية، أضحى الصندوق السيادي للصين، محطة مهمة في قطار المخاوف الأميركية والغربية منذ مطلع الألفية الثالثة، حيث اتُهم الصندوق بتسيسس استثماراته الخارجية.
وكان لخطوة إطلاق الصين مع بعض الدول المتعاونة معها، لبنك التنمية الأساسية، ما بعدها في طبيعة الصراع مع أميركا والغرب، حيث اعتبرت بمثابة تقديم بديل للمؤسسات المالية الدولية التي يسيطر عليها الغرب.
وخطت الصين خطوات أكبر عبر مشروعها العملاق طريق الحرير، لدعم مشروعات البنية الأساسية في دول الجوار والدول النامية الأخرى، من خلال تقديم التمويل اللازم لهذه المشروعات عبر آلية القروض.
ورغم أن فجوة قيمة الناتج المحلي الإجمالي بين أميركا والصين توسعت على مدار الفترة (2019 – 2023) من 7 تريليونات دولار في 2019 إلى 10 تريليونات دولار، لصالح الولايات المتحدة في 2023 وفق أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي؛ فإن الصعود الصيني، اعتبرته أميركا والغرب تحديا يجب أن يتوقف.
وهذا الوضع دفعهما لفرض قيود صارمة لنقل التكنولوجيا إلى الصين، ومثلها على حركة التجارة، في حين تواجه الصين مشكلات داخلية تتمثل في المديونية المحلية.
في هذا التقرير نستشرف مستقبل النموذج الصيني، عبر الإجابة عن مجموعة من الأسئلة الآتية.
1- ما أبرز إمكانيات الصين الاقتصادية؟
- في عام 2000 كان الناتج المحلي الإجمالي للصين، بحدود 1.2 تريليون دولار، بينما كان الناتج المحلي لأميركا في السنة ذاتها بحدود 10.25 تريليونات دولار، وفي عام 2023، كان الناتج المحلي للصين بحدود 17.8 تريليون دولار، والولايات المتحدة عند 27.36 تريليون دولار.
ومنذ بداية الألفية الثالثة والناتج المحلي الإجمالي للصين في صعود دائما من حيث القيمة، باستثناء عام 2023، الذي تراجع فيه بشكل طفيف جدا، رغم الأزمات التي مر بها الاقتصاد العالمي، ورغم أزمة كورونا التي كانت الصين منبعا لها.
- وعلى صعيد الصادرات السلعية، تأتي الصين في مقدمة دول العالم بقيمة صادرات قدرت بـ3.38 تريليونات دولار عام 2023، وبحصة 14.1% من إجمالي الصادرات السلعية على مستوى العالم، والتي بلغت 23.9 تريليون دولار.
وتتقدم الصين على الولايات المتحدة وفق هذا المؤشر، حيث بلغت الصادرات السلعية لهذه الأخيرة ما يزيد بقليل على تريليونَي دولار في السنة ذاتها.
- وفي مجال صادرات التكنولوجيا المتقدمة، تتقدم الصين دول العالم أيضا، حيث حققت 769 مليار دولارا، وبحصة 22.6% من السوق العالمية التي تبلغ 3.4 تريليونات دولار، في مقابل 166 مليار دولار للولايات المتحدة.
2- ما عناصر القوة والضعف في الاقتصاد الصيني؟
- عناصر القوة
عناصر القوة لدى الصين متعددة، منها:
- عدد السكان الكبير (مليار و410 ملايين نسمة)، والذي تمت إدارته بشكل جيد على مدار العقود الماضية، ليكون قوة ضاربة على صعيد الإنتاج العالمي.
- معدلات عالية في مجال التعليم والبحث العلمي، حيث تنفق الصين نسبة 2.43% من ناتجها المحلي على البحث والتطوير حسب بيانات عام 2021.
- يبلغ عدد العاملين في البحث والتطوير 1687 فردا لكل مليون، وهذا مكنها من البقاء على قمة الدول المصدرة للسلع ذات التكنولوجيا المتقدمة على مستوى العالم.
- اتسم النموذج الصيني بالاستقلالية في كثير من مسيرته التنموية، والمثال البارز في هذا الأمر، أن الحكومة الصينية لم تستجب للضغوط الأميركية والغربية منذ مطلع الألفية الثالثة، لرفع قيمة عملتها أمام العملات الأخرى، واعتبرت الصين هذه القضية تتعلق بسيادتها في صنع سياستها النقدية، لما يرتبط بذلك من قدرات أفضل في مجال الصادرات.
- يمكن اعتبار سعي الصين لتطوير دور تكتل “البريكس” جبهة لمواجهة أميركا والغرب، حيث تعمل الصين على تنفيذ مجموعة من السياسات النقدية والمالية والتجارية، تمكنها فيما بعد من تقديم بديل لسيطرة الغرب، ومثلا على ذلك اعتماد العملات المحلية في التجارة البينية لبعض دول البريكس، وكذلك استخدام اليوان كعملة بديلة للدولار في تسوية بعض المعاملات المالية.
- عناصر الضعف
أما نقاط الضعف في أداء النموذج الصيني، فهي متعددة كذلك:
- على رأسها تكتل أميركا والغرب في فرض حظر نقل التكنولوجيا للصين، ومنع استيراد مكونات رئيسة من شبكات نظم المعلومات من هناك.
- حالة الغموض فيما يتعلق بشفافية البيانات الاقتصادية للصين، سواء بشأن أداء الشركات المحلية، أو مديوناتها.
- اعتماد وسائل وأدوات الرأسمالية في إدارة شأنه الاقتصادي، وخاصة الشؤون الداخلية، وهذا أدى إلى نقل أمراض الرأسمالية وسلبياتها، كما هي في الولايات المتحدة والغرب، وعلى رأس هذه الأدوات، اعتماد آلية الديون لتمويل النشاط الاقتصادي، وجعل الديون مجالا للتجارة عبر البنوك والبورصات.
3- هل وصل اقتصاد الصين إلى الحافة؟
المتابع للصراع الأميركي الصيني، خاصة بعد مجيء دونالد ترامب للسلطة عام 2018، يلاحظ أن بكين تدير معركتها مع واشنطن بحذر شديد، ولم تنجر لما تريده السياسة الأميركية، لدائرة الصراع المفتوح والصريح.
فالسوق الأميركي بالنسب للصين، ليس مجرد رقم للصادرات، بل يعني فرص عمل واستثمارات محلية كبيرة، وفرصة لا بديل لها على الخريطة العالمية، فضلا عن حرص الصين على أن تبقى رقما مهما في نفسية وعقلية المواطن الأميركي، من حيث توفير السلع الجيدة والرخيصة.
وقد قابلت الصين معظم القرارات التي اتخذتها إدارة ترامب (2018-2021) بقرارات مماثلة، لكن لم تصعّد، كما أن القرارات التي اتخذتها إدارة جو بايدن من الحظر التكنولوجي ومحاولة عزل الصين عن التكنولوجيا الحديثة، واجهتها بكين بمزيد من البحث العلمي، وإمكانية التعاون مع دول أخرى، والمزيد من البعثات العلمية للطلاب الصينيين في أميركا والغرب.
وانضمت اليابان إلى الولايات المتحدة والغرب، في قضية حجب التكنولوجيا عن الصين، وهذا زاد من طوق التحديات أمام أداء الاقتصاد الصيني خلال الفترة القادمة. ولا يمكن توصيف أداء الصين مع أميركا والغرب، بالوصول للباب الموصد أو المسدود، بل يمكن اعتباره في حالة اختبار كبيرة.
فبإمكان الصين التسليم بالعودة إلى موضع “مجرد مصنع العالم”، وهو ما يرضي أميركا والغرب، لكنها في الآن ذاته تستطيع المناورة بشكل كبير عبر مجموعة من أوراق الضغط، أبرزها، إعادة توظيف رصيدها من احتياطي النقد الأجنبي، وتقليل الجزء المستثمر منه في سندات الخزانة الأميركية، وتحويل جزء منه إلى استثمارات وقروض للدول الصاعدة والنامية.
ولن تصل أميركا والغرب إلى إغلاق الباب في وجه الصيني على الصعيد الاقتصادي والتجاري، إلا بعد توفير بديل للتنين الاقتصادي، وهو ما لم يتحقق بعد.
4- هل يمكن أن تنهي أزمتا الديون والعقارات الطفرة الصينية؟
لم تكن الصين هي الدول الوحيدة، التي واجهت مشكلات كبيرة. فعلى صعيد الدول الكبرى، رأينا على مدار عقود، كيف مرت الولايات المتحدة بأزمات مالية واقتصادية، ذهب البعض معها إلى أنها بداية زوال قوتها الاقتصادية، ولعل الأزمة المالية العالمية في 2008 كانت خير دليل.
لكن مع الوقت أمكن الخروج من تلك الأزمات وظلت أميركا في مقدمة القوى الاقتصادية، وإن كانت قد تركت آثارها السلبية عليها.
وبالتالي حينما نُعمل هذه القاعدة في الواقع الصيني، فإننا أمام مشكلات يمكن التعامل معها، بشرط الشفافية ومواجهة الفساد، وقد يكون المخرج من أزمة الديون المحلية، من خلال المزيد من الإنفاق المحلي في مجال الاستثمارات وتشجيع المشروعات الصغيرة والمتوسطة.
وقد يكون الحل في إعدام ديون هذه الشركات، بشكل تدريجي، بما يحدث أزمة في الأوساط المالية، ووضع المزيد من الضوابط للنشاط الاقتصادي، وخاصة الإفراط في المديونية.
وهناك وجه شبه كبير -وإن اختلف في الحجم- بين مشكلة الديون التي مرت بها دول جنوب شرق آسيا وما تمر به الصين، كما أن هناك وجه شبه بين أزمة الشركات العقارية الصينية، وما مرت به الأزمة المالية في الولايات المتحدة المالية عام 2008.
وقد تم تجاوز المشكلات في دول جنوب شرق آسيا وفي أميركا، وإن كان الثمن باهظا إلى حد ما، وبالتأكيد لدى الصين من الدراسات ما يمكنها من الإفادة من التجربتين.
دعم الكيان الصهيوني في حرب الإبادة على غزة، يمثل بابا آخر لاستنزاف الموارد الاقتصادية والمالية لأميركا والغرب، وهو ما يعني أن أمام الصين فرصا لترتيب الأوضاع وإدارة الصراع لصالحها.
5- ما خيارات الصين للاستمرار في منافسة أميركا؟
المنافسة بين الولايات المتحدة والصين قائمة على الصراع التكنولوجي، فإن نجحت بكين في كسر الفجوة التكنولوجية -وإن تحقق ذلك على مدار عقد قادم- فسيكون لها الغلبة على واشنطن، واحتلال صدارة العالم اقتصاديا.
واستمرار تبني الصين سياسة عدم الصدام المباشر مع أميركا والغرب، سيمكنها من الإفادة من عنصر الزمن في إدارة الصراع، وبما يمكنها من ترتيب أوراقها، إما لتقليل خسائرها قدر المستطاع، أو تحقيق حالة من التغلب على منافسيها.
ويلاحظ منذ الإعلان عن الحرب التجارية التي أدارتها الصين في عهد ترامب؛ أن الصين كانت ترد بالمثل في قرارات لا تتجاوز قيمتها ما اتخذته أميركا من تدابير جمركية، كما لم تنجر نحو حرب مباشرة مع أميركا بشأن قضية تايوان، واكتفت بمناورات، تظهر قدراتها الحربية.
وعلى جانب الأداء الاقتصادي والسياسي، فإن الصين تبحث عن دوائر تورط أميركا والغرب، وتدعم منافسيهم، كما يحدث مع روسيا، كما تبحث عن توطيد العلاقات التجارية والاقتصادية مع الدول التي لديها مشكلات مع أميركا، مثل دول أميركا اللاتينية، وإيران، وأفغانستان، وغيرها.
وعلينا أن نأخذ في الحسبان أن إدارة المعارك الكبرى، قد لا تحسم في إطار النتائج الصفرية، بل قد يفضي الصراع إلى مصالح مشتركة يمكن قبول الصين في إطارها بإقامة علاقات اقتصادية وتجارية مقبولة، وتضمن استمرارها كقوة اقتصادية.
إدارة المعارك الكبرى، قد لا تحسم في إطار النتائج الصفرية، بل قد يفضي الصراع إلى مصالح مشتركة بحيث يمكن قبول الصين ضمن علاقات اقتصادية وتجارية مقبولة.
6- كيف ستواجه الصين الإجراءات الأميركية والأوروبية على صعيد التجارة الخارجية؟
الممارسات الغربية والأميركية تجاه الصين للحد من حصتها الكبيرة في التجارة الخارجية، تأتي في إطار وضع العراقيل، من خلال الإعلان عن بعض قضايا الإغراق، أو فرض رسوم جمركية تحت مسميات أخرى.
ولكن لا تزال الصين تمثل الشريك التجاري الأول لكل من أوروبا وأميركا، وهو ما يعني أن البحث عن بديل للصين في مجال التجارة الخارجية، لا يزال غير متوفر، رغم جهود واشنطن لدعم بعض دول جنوب شرق آسيا أو الهند أو تركيا، لتكون بديلا عن بكين.
ويتوقع إن عاد ترامب للرئاسة مرة أخرى مع حلول عام 2025، أن تزداد وتيرة المواجهة التجارية مع الصين.
وتظهر بيانات التجارة الخارجية للصين مع الولايات المتحدة أن قيمة التجارة بين الطرفين تأثرت سلبا لكن ذلك لا يعني إمكانية استغناء واشنطن عن بكين في المدى القريب أو المتوسط.
ففي عام 2018 بلغ حجم التجارة بين البلدين 658 مليار دولار، وكان الفائض التجاري لصالح الصين بقيمة 418 مليار دولار، وفي عام 2023 بلغ حجم التجارة بين البلدين 573 مليار دولار، وكان الفائض التجاري لصالح الصين أيضا بقيمة 279 مليار دولار.
وتتمتع الصين بقدرات هائلة في تخزينها للمواد الأولية، سواء من مواردها المحلية، أو من بقية دول العالم، وقد استفادت كثيرا من الأزمات الدولية والإقليمية، مثل حصولها على كميات هائلة من النفط والغاز الرخيص مع الأزمة الروسية الأوكرانية.
7- كيف تستفيد الصين من اتساع دوائر الصراع الأميركية والغربية؟
تعد الحرب الروسية الأوكرانية، واحدة من الأزمات شديدة الإرباك للحسابات الغربية والأميركية، وبفرض انتهاء هذه الحرب في الأجل القصير أو المتوسط، فإن روسيا ستخرج من هذه الحرب منهكة اقتصاديا بشكل كبير، وهو ما سيفتح بابا كبيرا لمزيد من التعاون الاقتصادي والتجاري بين روسيا والصين، ويمثل مددا وتوسعا للاقتصاد الصيني.
الأمر الثاني، أن أميركا والغرب، سيكلفهم مشروع إعادة إعمار أوكرانيا كثيرا، وهو ما يمثل عبئا على أوضاعهم الاقتصادية، تجعل تأثريهما في مواجهة الصين أضعف مما لو كانا في حالة بعيدين عن الورطة في أوكرانيا.
أيضا حالة الدعم الكبير من قبل أميركا والغرب لصالح الكيان الصهيوني في حرب الإبادة على غزة، تمثل بابا آخر لاستنزاف الموارد الاقتصادية والمالية لأميركا والغرب، وهو ما يعني أن أمام الصين فرصا لترتيب الأوضاع وإدارة الصراع لصالحها، أو على الأقل أوضاع أفضل، وبخسائر أقل.
ولا يفوتنا أن نذكر أن الصين قد وضعت يدها على كنز إستراتيجي في أفغانستان، عبر الاستفادة من العديد من المواد الأولية المهمة والضرورية، والتي ستحرم منها أميركا والغرب، نظرا لما مارساه من احتلال وتقتيل وتشريد تجاه الشعب الأفغاني.
وعلى ما يبدو فإن الصين، قد استفادت من التجربة الغربية في إدارتها للمشكلات، بحيث تأخذ في الاعتبار النظر إلى الأمور في الأجل الطويل، وعدم فتح جبهات صراع متعددة، كما أن الصين تعي جيدا أن مصالحها التجارية والاقتصادية معرضة بشكل كبير في حال خسارة أميركا والغرب، سواء كانت تلك الخسارة حربا أو سلما.