لماذا يخشى العالم من تسليح ألمانيا؟ | سياسة
في حين شكل سقوط جدار برلين نهاية للحرب الباردة، فإن صواريخ توماهوك الأميركية -التي تعهدت واشنطن في قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) بنصبها في ألمانيا خلال عام 2026- يمكن أن تعيد تلك الأجواء بقوة وتضع هذا البلد الاوروبي أمام تحولات ومخاطر جديدة في المستقبل.
ويأتي هذا في ظل مؤشرات لعودة الحرب الباردة، حيث يبحث الناتو تعزيز الأمن العسكري للقارة العجوز ردا على الحرب الروسية المستمرة في أوكرانيا دون أفق واضح للسلام أو تسوية سياسية.
ومن جهة أخرى تتزايد الدلائل التي تشير إلى تشكيل تكتلين جديدين حيث تتنافس على النفوذ في العالم كل من الولايات المتحدة وأوروبا من جهة، مع دول مثل الصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران من جهة أخرى.
تسليح ألمانيا
بالنسبة للخبراء، فإن قرار معاودة نشر أسلحة أميركية على الأراضي الألمانية قادرة للوصول إلى الأراضي الروسية لا يخلو من حساسية بالغة، إذ إن الخوف من أن تصبح برلين هدفا للأسلحة الروسية ينتشر على نحو واسع في ألمانيا، تماما مثلما يثير تسليحها هواجس قديمة ومخاوف مبررة في العالم.
لكن في تقدير المستشار الألماني أولاف شولتس فإن هذا القرار سيكون “ضمانة للردع والسلام” في نفس الوقت، على الرغم من افتقاده إلى الإجماع داخل البلاد ولا سيما من جانب اليسار الراديكالي الذي أعلن عن مخاوفه من تحويل ألمانيا من جديد إلى ساحة حرب في المستقبل.
ولا تريد الجبهة المناهضة لإعادة تسليح ألمانيا تحمل العبء العسكري والدفاعي للاتحاد الأوروبي بجانب الاقتصادي أيضا، فضلا عن السوابق التاريخية التي كلفت البلد والعالم خسائر مادية وبشرية ضخمة ودمارا هائلا خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، إلى جانب حرب أوروبية دينية طاحنة على الأراضي الألمانية في القرن الـ17.
وقد حذرت سارة فاغينناخت الرئيسة السابقة لحزب اليسار الراديكالي “دي لينك” من أن إعادة نصب الصواريخ الأميركية ستزيد من مخاطر تحويل ألمانيا إلى مسرح حرب جديدة.
وبالعودة إلى عقود سابقة قبل سقوط جدار برلين عام 1989، كان شولتس من بين سياسيي الحزب الاشتراكي الديمقراطي المعارضين بقوة لقرار المستشار الراحل هلموت شميت بداية ثمانينات القرن الماضي، عندما وافق على نصب صواريخ بيرشينغ الأميركية (تم سحبها عام 1991) ردا على نصب الاتحاد السوفياتي آنذاك صواريخ “إس إس 20” بألمانيا الشرقية.
لكن ألمانيا اليوم تبدو في سياق مختلف، حيث لا تعكس الخطط المعلنة من قبل الحكومة اعتمادا كليا على المظلة العسكرية الأميركية والأطلسية وحدها، وهناك مؤشرات فعلية على ذلك.
سياسيا، أشار شولتس إلى أن قرار نشر الصواريخ الأميركية في البلاد يتماشى تماما مع إستراتيجية الأمن للحكومة الاتحادية التي تمت مناقشتها علنا، كما أظهر في قمة حلف الناتو في واشنطن نبرة مختلفة تضمنت تعهدا باضطلاع ألمانيا بدورها ومسؤولياتها في حلف الناتو بصفتها أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي.
وفي هذا السياق، كثيرا ما واجهت ألمانيا في السابق انتقادات بسبب تكرار تخلفها عن تحقيق هدف الناتو المتمثل في إنفاق 2% من ناتجها الاقتصادي على الدفاع.
وكانت حكومة برلين أعلنت إبان الاجتياح الروسي لأوكرانيا عن تخصيص صندوق بتمويلات بقيمة 100 مليار يورو بهدف تحديث الجيش، علاوة على زيادات منتظمة للموازنة السنوية للدفاع، حيث تضاعفت من 37 مليار يورو عام 2017 إلى 75 مليارا عام 2024. وقال شولتس بوضوح في سبتمبر/أيلول 2023 إنه يسعى لأن يكون الجيش الألماني الأفضل تجهيزا في أوروبا.
وبموازاة ذلك، تعمل الحكومة على اتخاذ خطوات تشريعية لتعديل الدستور بهدف السماح بفرض الحد الأساسي للخدمة العسكرية الإجبارية، ويعتقد أن يتم الانتهاء من الإجراءات عام 2025 لتعقبها عملية تجنيد لما يقارب 5 آلاف مجند إلزامي إضافي في البداية.
ومع ذلك، تحاول الحكومة الألمانية ترسيخ نموذج جديد للخدمة العسكرية إلى حين الانتهاء من التعديل الدستوري، يعتمد على المزج بين الخدمة الأساسية المحدودة مع إضافة فترة تطوعية تمتد إلى 17 شهرا.
وذكر وزير الدفاع بوريس بيستوريوس -في تصريحات صحفية- أن هذا النموذج ساعد على زيادة عدد المتقدمين للجيش بنسبة 15% عام 2024 حتى يوليو/تموز مقارنة بنفس الفترة من 2023.
مبررات ألمانية
يرى المحلل السياسي رضوان قاسم مدير “مركز بروجن للدراسات الإستراتيجية والعلاقات الدولية” في بريمن -في حديثه للجزيرة نت- أن حجم اقتصاد ألمانيا يجعلها ركيزة أساسية في حلف الناتو، وهذا يساعدها على تأهيل جيشها، رغم اختلاف العقيدة العسكرية السائدة هناك عما كانت عليه في السابق.
ويتابع قاسم في تحليله أن “التوجهات السياسية الحالية في برلين مختلفة، وأن الدولة بصدد إعادة تأهيل الجيش، ومن هنا نفهم إعادة النظر في قوانين التجنيد وميزانية الدفاع، والهدف من ذلك تكوين جيش على قدر القوة الاقتصادية لألمانيا ودورها في الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي أيا كان الوضع السياسي أو الحكومة المقبلة مستقبلا”.
وهناك أكثر من تبرير يدفع ألمانيا إلى تغيير سياستها وعقيدتها العسكرية، ويعددها الخبير كالتالي:
- الانطباع السائد لدى ألمانيا والاتحاد الأوروبي بتداعي الوحدة في حلف شمال الأطلسي وسياسات الانطواء للدول الأعضاء، بجانب تهديدات مرشح الرئاسة الأميركية دونالد ترامب بعدم حماية الدول التي لا تلتزم بأهداف الإنفاق الدفاعي في الناتو، وهو تهديد يصب في مصلحة موسكو أولا.
- معارضة المرشح ترامب للدعم الأميركي العسكري والمالي لأوكرانيا الذي يمثل خط المواجهة مع روسيا، مما يدفع الاتحاد الأوروبي إلى التعويل على إمكاناته الذاتية بما في ذلك الصناعة العسكرية، وهو هدف شدد عليه بوضوح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
- تنامي النزعة الأحادية داخل التكتل الأوروبي، وهو ما يدفع كل دولة إلى أن يكون لها جيش فعال بشكل منفرد لتأمين مصالحها.
- تحولات سياسية عسكرية أفضت إلى تحالفات وتكتلات تحصل خارج نطاق حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، على غرار منظمة الأمن الجماعي في أوراسيا التي تضم دول ما بعد الاتحاد السوفياتي، التقارب الروسي الصيني من جهة والتقارب الروسي الإيراني من جهة ثانية، بجانب التجارب العسكرية في كوريا الشمالية وروسيا وإيران.
إعادة إطلاق سباق التسلح
على الرغم من القيود العسكرية والدستورية التي فرضت على ألمانيا إبان نهاية الحرب العالمية الثانية، إلا أن قرار برلين بإحداث مراجعات شاملة تشمل الجيش والتجنيد والتمويل العسكري لم يثر تحفظات داخل حلف الأطلسي وجيرانها في الغرب بقدر ما أثار ردود فعل قوية من قبل موسكو.
ويشير رضوان في تعليقه “في حال نشر الصواريخ الأميركية أو تصعيد أكثر مع روسيا، فإن الأخيرة لن تبقى مكتوفة الأيدي لأن هذا تهديد لأمنها القومي، وعلى ألمانيا إعادة النظر في هذه الحسابات، وإن برلين بعيدة عن الحروب منذ الحرب العالمية الثانية وليس من مصلحتها الانسياق وراء مصالح واشنطن الدفاعية”.
ولم تنشر الولايات المتحدة أنظمة صواريخ أرضية في أوروبا منذ ثمانينيات القرن، وهي المرة الأولى منذ الحرب الباردة التي تكون فيها أنظمة أسلحة قادرة على الوصول إلى الأراضي الروسية موجودة على الأراضي الألمانية.
وصواريخ “توماهوك” المزمع نشرها يتم إنتاجها من قبل شركة “راثيون” الأميركية، ويختلف مداها من صاروخ إلى آخر، بحسب أنواع الرؤوس الحربية المخصصة لحملها ومدى الطيران ونوع أنظمة التوجيه.
وعام 2023 وافقت واشنطن على صفقة بقيمة 2.35 مليار دولار لتسليم 400 صاروخ توماهوك كروز لحليفتها اليابان من أجل تعزيز أمنها ضد الصين، ويصل مدى الصاروخ 1600 كيلومتر وبسرعة تتراوح ما بين 800 و1000 كيلومتر في الساعة، وهي قادرة على حمل رؤوس حربية نووية وتقليدية.
كما وقعت أستراليا صفقة اقتناء مماثلة مع واشنطن بقيمة 800 مليون دولار مقابل 200 صاروخ في أغسطس/آب.
وفي حين تقدر المسافة بين روسيا وألمانيا في حدها الأدنى بـ1200 كيلومتر فإن الصواريخ الأميركية التي تصل مداها إلى 2500 كيلومتر يمكنها أن تضرب عمق روسيا بسهولة وتشكل تهديدا عسكريا كبيرا لها، ومن المنتظر أن تدفع هذه الخطوة موسكو إلى مراجعة عقيدتها النووية، وفق تلميحات للمسؤولين الروس.
ونقلت وكالة أنباء تاس الروسية الرسمية عن سيرغي ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسي، في أول رد فعل على الخطوة الأميركية، قوله “سنعمل على إعداد رد عسكري بالدرجة الأولى على ذلك، دون توتر عصبي أو انفعال” مشيرا إلى أنها “حلقة جديدة في سلسلة التصعيد وتكتيك الترهيب ضد موسكو”.
كما قال رئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري ميدفيديف إن بلاده باتت أقوى بكثير مما كانت عليه قبل 20 عاما، وأكثر استعدادا للصراع مع الغرب “لكنها تعتمد على الدبلوماسية بدلا من القوة العسكرية”.
ومنتصف 2024، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعلن أن بلاده لابد أن تستأنف إنتاج الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى ذات القدرة النووية، ثم تفكر في مكان نشرها.
ويحذر خبراء من إعادة إطلاق سباق تسلح دولي محموم بين أكبر قوتين نوويتين، ويقول هانز مولر كريستنسن مدير مشروع المعلومات النووية باتحاد العلماء الأميركيين -في مقال له بمجلة “بيزنيس إنسايدر”- إن كل طرف يستخدم تصرفات الطرف الآخر لتبرير المزيد والمزيد من الإجراءات الرامية إلى تعزيز قدراته العسكرية.
ويلخص في مقاله تعقيبا على الرد الروسي بالقول “سلكنا هذا المسار من قبل، وكلفنا هذا الأمر عدة عقود لنخرج بدروس قاسية حول مخاطر التصعيد من وراء الصواريخ متوسطة المدى في أوروبا”.
من حرب باردة إلى حرب نجوم
ووفق الخبير قاسم، فإن الجدل الحالي حول صواريخ توماهوك يذكر بأزمة الصواريخ النووية السوفياتية في كوبا، حينما حبس العالم أنفاسه من خطر حرب نووية كانت وشيكة.
ويشير للجزيرة نت “نحن متجهون بنسق حثيث إلى المربع الأول للصراع الذي كان سائدا بين المعسكرين الشرقي والغربي، ولكن هذه المرة ربما تكون حرب نجوم.. هناك الكثير من الجوانب التقنية اليوم تتجاوز ما كان سائدا في الحرب الباردة مثل طبيعة الأسلحة، بما فيها أسلحة الليزر والطائرات المسيرة والصواريخ الفرط صوتية، وهذا يشكل خطرا أكبر بكثير من مجرد حرب باردة”.
وبحسب هذا الخبير يمكن أن تكون هذه المخاطر مضاعفة بالعودة إلى التطورات المرتبطة بالحرب في أوكرانيا وإمكانية ضم هذا البلد إلى الناتو، مما يجعل هذا الحلف في مواجهة مباشرة وحرب معلنة ضد روسيا.
كما أن إعادة نشر صواريخ أميركية على الأراضي الألمانية قد تعطي ذريعة لواشنطن لاستعادة الهيمنة المباشرة على هذا البلد، وهو ما قد يدفع إلى زيادة التوتر مع روسيا ودول آسيوية أخرى مثل الصين وكوريا الشمالية، وهذا ليس من مصلحة ألمانيا ولا الدول الأوروبية.
أما عن المخاطر الاقتصادية، فيشير قاسم إلى أن أغلب الشارع الألماني والأوروبي يعارض التورط في حرب أوكرانيا بسبب تداعياتها الاقتصادية وما نجم عنها من زيادة في التضخم والاستنزاف المالي الذي كان يفترض أن يستخدم في تقوية الاقتصادات الوطنية ولإنعاش منطقة اليورو والتعافي من تداعيات جائحة كورونا.
وفي تقديره، يمكن أن تشكل الحرب الباردة الجديدة ضغطا مضاعفا على الاقتصاد وعلى الشركات العاملة في ألمانيا وأوروبا، وقد تدفعها التداعيات الأمنية إلى المغادرة إلى أميركا اللاتينية أو آسيا وأي مناطق أخرى أكثر استقرارا وأمنا.