“لحظة أوبنهايمر” للذكاء الاصطناعي.. الأسلحة الذاتية التحكم تقتحم ساحة المعركة | تكنولوجيا
في مشهد تخيلي لساحة معركة في إحدى المدن، تطلب فرقة محاصرة من الجنود دعمًا عسكريا لكنه ليس في هيئة تعزيزات بشرية، بل دعمًا بواسطة سرب من الطائرات المسيرة الصغيرة الذاتية التحكم. تتجول تلك الطائرات المسيرة المجهزة بالمتفجرات عبر أرجاء المدينة المحطمة، وتحدد أهدافها، ثم تنفجر وتقتلهم بكفاءة مرعبة.
يُبرز هذا السيناريو، وهو جزء من إعلان ترويجي لشركة الأسلحة الإسرائيلية “أنظمة إلبيط”، إمكانات الذكاء الاصطناعي في ساحات المعارك الحديثة، وهي إمكانات تتحوّل تدريجيًا إلى واقع ملموس، كما يشير تقرير في صحيفة الغارديان.
لحظة أوبنهايمر
استخدم الجيش الأوكراني طائرات مسيّرة تعمل بالذكاء الاصطناعي ومزودة بمتفجرات لكي تحلق في أجواء ساحات المعارك وتضرب مصافي النفط الروسية. كما حددت أنظمة الذكاء الاصطناعي الأميركية أهدافًا في سوريا واليمن لتوجيه ضربات جوية في فترة سابقة من هذا العام.
وقد استخدم الجيش الإسرائيلي نوعًا آخر من أنظمة الاستهداف المدعومة بالذكاء الاصطناعي لتحديد ما يصل إلى 37 ألف فلسطيني بوصفهم مقاتلين مشتبها فيهم ليستهدفهم بالقصف خلال الأسابيع الأولى من حربه على قطاع غزة، وفقما ذكر التقرير.
يؤكد الخبراء أن تصاعد حدة النزاعات في مختلف بقاع العالم شكّل أرضية اختبار خصبة لحرب الذكاء الاصطناعي، وسرّع من وتيرتها. أثبت انتشار استخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب أن لدى جيوش الدول شهية مفتوحة لهذه التقنيات، رغم صعوبة التنبؤ بما قد يترتب عليها من مخاطر أخلاقية. والنتيجة تمثلت في سباق تسلح بمليارات الدولارات في مجال الذكاء الاصطناعي، يجذب عمالقة وادي السيليكون وجيوشًا من مختلف دول العالم.
ويذكر التقرير أن الرأي السائد بين الدبلوماسيين وشركات تصنيع الأسلحة هو أن الحرب القائمة على الذكاء الاصطناعي وأنظمة الأسلحة الذاتية التحكم قد وصلت إلى “لحظة أوبنهايمر”، في إشارة إلى قيادة روبرت أوبنهايمر لتطوير مشروع القنبلة الذرية خلال الحرب العالمية الثانية.
يمتلك الجيش الأميركي إجمالًا أكثر من 800 مشروع قائم متعلق بالذكاء الاصطناعي، وطلب تمويلًا بقيمة 1.8 مليار دولار للذكاء الاصطناعي في ميزانية عام 2024 وحدها. كما أدت موجة الاستثمار والتطوير الهائلة إلى احتدام المناقشات المستمرة منذ مدة طويلة حول مستقبل الحروب. فمع تسارع وتيرة الابتكار، يحذر خبراء الأسلحة الذاتية التحكم من أن هذه الأنظمة ترسخ نفسها داخل الجيوش والحكومات في مختلف أنحاء العالم بأساليب قد تغير علاقة المجتمع بالتقنية والحرب تغييرًا جذريًا.
ويقول بول شاري نائب الرئيس التنفيذي ومدير الدراسات في “مركز الأمن الأميركي الجديد” للأبحاث، “ثمة خطر يتمثل في تخلي البشر بمرور الوقت عن المزيد من الصلاحيات والأحكام لصالح الآلات. قد نعود بالذاكرة إلى الوراء بعد 15 أو 20 عامًا من الآن، وندرك أننا تجاوزنا نقطة فاصلة بالغة الأهمية”.
طفرة حروب الذكاء الاصطناعي
بينما أدت التطورات السريعة في مجال الذكاء الاصطناعي في السنوات الأخيرة إلى موجة استثمار هائلة، يعود التوجه الزائد نحو أنظمة الأسلحة الذاتية التحكم في الحروب إلى عقود مضت. إلا أن هذه التحركات نادرا ما كانت تبرز في المناقشات العامة، بل كانت موضع اهتمام مجموعة صغيرة نسبيًا من الأكاديميين والعاملين في مجال حقوق الإنسان والخبراء العسكريين الإستراتيجيين، حسبما أفاد تقرير الغارديان.
لكن ما تغير -كما يرى الباحثون- هو تزايد الاهتمام العام بكل أشكال الذكاء الاصطناعي والطفرات الحقيقية في هذه التقنية. أما مسألة كون السلاح “ذاتي التحكم” حقًا فهي موضع جدل دائم، إذ يقول الخبراء والباحثون إنه يُفضّل فهم الاستقلالية في هذا السياق على أنها مجال واسع وليست مجرد تصنيف ثنائي، لكنهم يتفقون عمومًا على أن الآلات أصبحت الآن قادرة على اتخاذ قرارات دون تدخل بشري أكثر مما سبق.
أدى الطلب المتزايد على امتلاك أدوات القتال، التي تمزج بين الذكاء البشري وذكاء الآلة، إلى تدفق الكثير من الأموال على الشركات والوكالات الحكومية التي تتعهد بإمكانية تحويل الحرب إلى معركة أكثر ذكاءً بتكاليف أرخص ووتيرة أسرع.
مثلًا، يخطط البنتاغون لإنفاق مليار دولار بحلول عام 2025 على مبادرة “ريبليكيتور” التي تهدف إلى تطوير أسراب من المسيرات القتالية الذاتية التحكم بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي. كما وفر البنتاغون مئات الملايين من الدولارات في السنوات الأخيرة لتمويل مبادرته السرية للذكاء الاصطناعي المعروفة باسم “مشروع مافن” (Project Maven)، وهو مشروع يركز على تقنيات متطورة مثل تحديد الأهداف والمراقبة الآلية.
كذلك ترغب القوات الجوية الأميركية في تخصيص نحو 6 مليارات دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة للبحث والتطوير في مجال الطائرات المقاتلة التعاونية من دون طيار، وتسعى إلى بناء أسطول من ألف طائرة مقاتلة مدعومة بالذكاء الاصطناعي يمكنها الطيران بصورة مستقلة.
استثمارات ضخمة
شكّل تزايد الطلب العسكري على تقنيات الاستقلالية والذكاء الاصطناعي كنزا لشركات التقنية وشركات الصناعات العسكرية، التي فازت بعقود ضخمة للمساعدة في تطوير مشاريع أسلحة متنوعة. ففي أبريل/نيسان الماضي وقع الاختيار على شركة “أندوريل” (Anduril) بوصفها واحدة من شركتين، إلى جانب “جنرال أتوميكس” المتخصصة في الصناعات العسكرية، لتقديم نموذج أولي لنوع جديد من الطائرات المقاتلة الذاتية القيادة تسمى الطائرات المقاتلة التعاونية “سي سي إيه” (CCA) لصالح القوات الجوية والبحرية الأميركية.
The @usairforce has selected Anduril to design, manufacture, and test production-representative Collaborative Combat Aircraft (CCA).
In this era of great power competition, there is no time to waste on business as usual. We look forward to delivering CCAs on schedule, within… pic.twitter.com/EMz8b9LkcY
— Anduril Industries (@anduriltech) April 24, 2024
جاء اختيار شركة “أندوريل” على حساب مجموعة من الأسماء اللامعة في مجال صناعة الأسلحة الأميركية، مثل شركات بوينغ ولوكهيد مارتن ونورثروب غرومان. وأندوريل هي شركة حديثة نسبيًا في تصنيع الأسلحة، بدأت عملها منذ 7 سنوات فقط. يعود نجاح الشركة السريع إلى تركيزها على دمج البرمجيات المتطورة مع العتاد العسكري لإنتاج أنظمة فعالة من حيث التكلفة وسرعة الانتشار. وقدرة الشركة على تقديم طائرات مسيرة وغواصات وغيرها من التقنيات العسكرية المتطورة جعلتها تبرز بقوة في قطاع التصنيع العسكري.
كذلك انضمت “بالانتير”، شركة التقنية والمراقبة التي أسسها الملياردير بيتر ثيل، إلى مشاريع الذكاء الاصطناعي التي تمتد من جهود إزالة الألغام الأوكرانية إلى تطوير ما تسميه “أول مركبة محددة بالذكاء الاصطناعي” لصالح الجيش الأميركي.
وفي مايو/أيار الماضي، أعلن البنتاغون منح شركة بالانتير عقدًا بقيمة 480 مليون دولار لتقنية الذكاء الاصطناعي التي تساعد في تحديد الأهداف الحربية المعادية. كما يستخدم الجيش بالفعل تقنيات الشركة في عمليتين عسكريتين على الأقل في الشرق الأوسط، كما يوضح تقرير الغارديان.
لا تمثل شركتا أندوريل وبالانتير سوى جانب بسيط من الاندفاع العالمي نحو حرب الذكاء الاصطناعي. إذ بلغت قيمة شركة “هيلسنج” الألمانية 5.4 مليارات دولار هذا الشهر بعد أن جمعت ما يقرب من 500 مليون دولار على خلفية تطوير برمجيات الذكاء الاصطناعي المخصصة لأغراض عسكرية.
وفي الوقت نفسه، حصلت شركة “أنظمة إلبيط” على عقود ذخائر بقيمة 760 مليون دولار من وزارة الدفاع الإسرائيلية في عام 2023، حسبما كشفت في بيان مالي من شهر مارس/آذار الماضي، وقد بلغت إيرادات الشركة نحو 6 مليارات دولار في العام الماضي.
لا يتوقف الأمر على الشركات التي تعمل في قطاع الأسلحة، لكن يبدو أن شركات التقنية الكبرى أكثر استعدادا لتبني الصناعة العسكرية واستخدامها للذكاء الاصطناعي مقارنة بالسنوات الماضية. ففي عام 2018، احتج موظفو غوغل على تورط الشركة في “مشروع مافن” التابع للجيش الأميركي، بحجة أنه ينتهك المسؤوليات الأخلاقية والقيمية، وفي النهاية رضخت غوغل للضغوط وقطعت علاقاتها بالمشروع.
لكن منذ تلك الفترة، وتحديدا عام 2021، أبرمت الشركة العملاقة -بجانب شركة أمازون- صفقة بقيمة 1.2 مليار دولار مع الحكومة والجيش الإسرائيليين لتوفير خدمات الحوسبة السحابية وإمكانات الذكاء الاصطناعي في مشروع “نيمبوس”.
تغيرت استجابة غوغل أيضًا لرد الفعل، فبعد أن احتج الموظفون على التعاقد مع الجيش الإسرائيلي مؤخرًا، ردت الشركة بفصل 50 موظفًا منهم. كما لم تسفر الاحتجاجات المماثلة على تعاقد شركة أمازون مع الجيش الإسرائيلي في عام 2022 عن أي تغيير في سياسة الشركة.
وفي سياق هذه الاستثمارات الضخمة، تذكر مديرة الرصد والأبحاث بمنظمة “أوقفوا الروبوتات القاتلة” كاثرين كونولي أن “الأموال التي نشهد ضخها في الأسلحة الذاتية التحكم واستخدام أنظمة الاستهداف بالذكاء الاصطناعي تثير القلق بشدة”.