إسبانيا ومحكمة العدل الدولية.. قراءة في القرار التاريخي | سياسة
تواصل إسبانيا صدارتها المشهدَ الأوروبي والدولي، ومراكمة مبادراتها الإنسانية، انتصارًا للقضايا الإنسانية والتحررية، ورفضًا للاحتلال الصهيوني الوحشي في فلسطين، حيث اتخذت قرارًا تاريخيًا في شهر مايو/ أيار الماضي باعترافها بدولة فلسطين بعد أكثر من ستّ وسبعين سنة على النكبة التي احتل فيها الصهاينة الجزء الأكبر من فلسطين، وأكثر من مئة سنة على ربيبه البريطاني الذي مهد له الطريق.
وفي مبادرة فريدة على مستوى الاتحاد الأوروبي، أعلنت مدريد يوم الثامن والعشرين من يونيو/ حزيران الماضي، تقديم طلب رسمي للانضمام إلى مجريات القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد كيان الاحتلال الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية في شأن موضوع الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني في حق أهل غزة.
وهو ما ورد في بيانَين مختلفي المصدر: الأول لوزارة الخارجية الإسبانية، والثاني لمحكمة العدل الدولية، مما شكل نوعًا من الصعود الإستراتيجي للدور الإسباني على الصعيد الجيوستراتيجي عالميًا، وحوّلها إلى لاعب دولي صاعد، يتزعم محورًا أوروبيًا جديدًا يتبلور داخل الاتحاد الأوروبي، مقابل محور تقليدي متراجع تمثله البلدان الثلاثة التي تتميز بماضٍ دموي استعماري، وهي: بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا التي تتبنى سياسات مساندة للإبادة الجماعية في فلسطين، وموفرة للغطاء السياسي لها.
اتفاقية الأمم المتحدة لمنع ومعاقبة الإبادة الجماعية لسنة 1948
كانت جنوب أفريقيا، الدولة المشهود لها تاريخيًا بمناصرة القضية الفلسطينية، قد تقدمت بتاريخ 29 ديسمبر/كانون الأول من السنة الماضية، بطلب إلى محكمة العدل الدولية ضد كيان الاحتلال في فلسطين، متهمة إياه بارتكاب جريمة إبادة جماعية بمختلف عناصرها القانونية في حق الفلسطينيين بغزة.
وفي السادس والعشرين من يناير/ كانون الثاني من السنة الجارية، أمرت المحكمة إسرائيل في قرار تمهيدي بالقيام فورًا بما يلزم، لوقف اعتداءاتها في حق الفلسطينيين، بمقتضى الاتفاقية الدولية لمنع الإبادة الجماعية.
وبعد العملية العسكرية في رفح جنوب غزة، وتهجير أكثر من مليون من سكانها، أمرت المحكمة كذلك يوم الرابع والعشرين مايو/ أيار الماضي، إسرائيل بوقف أعمالها العسكرية العدوانية في حقّ الفلسطينيين، موضوع حماية نفس الاتفاقية الأممية. كما طالبت بإطلاق سراح الرهائن، الذين تم اعتقالهم بتاريخ السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل الماضي.
انخرطت إسبانيا في القضية الجارية أمام المحكمة استنادًا إلى الفصل الثالث والستين، خصوصًا فقرته الثانية لاتفاقية الأمم المتحدة لمنع ومعاقبة الإبادة الجماعية لسنة 1948 التي دخلت حيز التنفيذ بتاريخ الثاني عشر من يناير/ كانون الثاني من سنة 1951، والتي يعتبر كيان الاحتلال الإسرائيلي وإسبانيا، طرفين فيها.
وفي يوم الخامس والعشرين من شهر يونيو/حزيران الماضي انعقد مجلس الوزراء الإسباني برئاسة رئيس الحكومة بيدرو سانشيز ووافق على تعيين كل من “سانتياغو ريبوي كارويا” و “ماريا كونسويلو فيمنيا غوارديولا”، بعد اقتراحهما من طرف مؤسسة المحامي العام للدولة، كممثلين قانونيين عن إسبانيا ليقوما بتمثيلها أمام محكمة العدل الدولية بعد انضمامها إلى القضية المعروضة أمامها في موضوع انتهاك كيان الاحتلال الإسرائيلي اتفاقيةَ الأمم المتحدة لمنع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية في فلسطين، المرفوعة بداية من طرف دولة جنوب أفريقيا.
سانتياغو ريبوي كارويا هو أستاذ كرسي للقانون الدولي العام والعلاقات الدولية بجامعة “بامبو فابرا” ورئيس قسم المستشارين القانونيين بوزارة الخارجية الإسبانية، أما ماريا كونسويلو فيمنيا غوارديولا، فهي سفيرة إسبانيا السابقة في هولندا، وقبل ذلك كانت سفيرة بإستونيا ومالطا، وسفيرة بالبعثة الخاصة لإسبانيا في اتفاقية تجارة الأسلحة.
إسبانيا تنضمّ إلى الإجراءات ولا تنصب نفسها طرفًا في القضية
من الناحية الإجرائية، إسبانيا لم تنصب نفسها كطرف في القضية المرفوعة أمام المحكمة، بل إنها انخرطت في مسطرة جارية أمام المحكمة طبقًا للفصل الثالث والستين من النظام القانوني المؤطر لعمل هذه الأخيرة، حسب بيان محكمة العدل الدولية الصادر بتاريخ الثامن والعشرين من يونيو/حزيران.
وهو ما أكده خوسيه مانويل ألباريس، وزير الخارجية الإسباني في مختلف تصريحاته حول الموضوع، مؤكدًا في نفس السياق أن “إسبانيا ستلتحق بالمسطرة التي تقف وراءها جنوب أفريقيا، وهو ما ينسجم ومقتضيات الفصل الثالث والستين من القانون المنظم لعمل المحكمة، الذي ينص على أن جميع الدول لها الحق في المشاركة في المساطر المفتوحة بالمحكمة”.
في نفس السياق اعتبر أن “انخراط إسبانيا في الإجراءات لا يعني الانحياز لطرف دون آخر، بقدر ما يؤكد دعم قضاة المحكمة، في عملهم القضائي في التحري واتخاذ ما يلزم، قبل اتخاذ القرار بما ينسجم ومقتضيات القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني والقانون الجنائي الدولي. فإسبانيا من جهتها ستعمل على توفير المعطيات وعناصر التأويل القانوني بشكل يمكّن المحكمة من بناء وتكييف حكمها وفقًا للقانون في قضية إشكالية”.
ألباريس، أشار أيضًا، إلى أن إسبانيا هي البلد الأوروبي الأول الذي أقدم على الانخراط في هذه الإجراءات، معتبرًا أن دولًا أخرى ستقوم بنفس ما قامت به إسبانيا، بعد أن تنتقل المحكمة من النظر في الشكل إلى الموضوع، لتحديد هل قام كيان الاحتلال الإسرائيلي فعلًا، بخرق الاتفاقية الأممية لمنع جريمة الإبادة الجماعية في فلسطين أم لا.
إسبانيا التي تعلن عن سعيها إلى تحقيق السلام في فلسطين والشرق الأوسط، تهدف من خلال هذه الخطوة، إلى وضع حد للاعتداء الهمجي الإسرائيلي والسير نحو تحقيق حل الدولتين، باعتباره الضمانة الوحيدة لتمكين الإسرائيليين والفلسطينيين من العيش في أمن وسلام وتحقيق الاستقرار في المنطقة في إطار دولي تعددي أساسه القواعد القانونية حسب الوزير، نقلًا عن وكالة الأنباء الإسبانية إيفي.
يمكن القول إن إسبانيا عكست بالملموس أنها مخلصة لتاريخها ولجزء من هويتها، بعد أن دشنت حالة من بداية إحداث تشققات في توجهات الرأي العام الدولي انتصارًا للقضية الفلسطينية. وهو الأمر الذي يبدو واضحًا من خلال الدول التي اختارت هذا المنحى، مثل: كولومبيا، وتشيلي ونيكاراغوا وليبيا ودولة فلسطين نفسها، التي سبق أن طالبت بإدخالها في المسطرة الجارية أمام المحكمة ضد إسرائيل.
وهناك دول عديدة عبرت صراحة عن اهتمامها بالموضوع دون تحديد تاريخ القيام بنفس الخطوة، مثل المكسيك على سبيل المثال لا الحصر. المهم أن الحبل على الجرار، ويبدو أن إسبانيا هي راعية هذه التفاعلات، خصوصًا على المستوى الأوروبي والغربي.
السقف القانوني لعمل المحكمة الدولية
إن سقف وآفاق عمل المحكمة من الناحية القانونية، على أهميته، يبقى محدودًا. وهذا ما أكده مجموعة من خبراء القانون الدولي. حيث قال خوسيه أنخيل لوبيز، وهو أستاذ القانون الدولي في جامعة بونتيفيسيا كومياس: “إن المحكمة حقًا تفاعلت مع طلب دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، وطالبت هذه الأخيرة بالقيام بالإجراءات والتدابير الوقائية الضرورية للحيلولة دون إبادة جماعية في حق الشعب الفلسطيني”.
مسجلًا في الوقت ذاته، أن المحكمة لم تأمر بالوقف الفوري لإطلاق النار.
من جهته يقول سيرجيو كستانيو، وهو أستاذ العلاقات الدولية بجامعة “لاريوخا”: إن قرار محكمة العدل الدولية يؤكد حدود صلاحياتها وهو ما سيدفع رئيس وزراء كيان الاحتلال نتنياهو إلى عدم الامتثال للتدابير الوقائية المطلوبة، ويمكّن الجانب الإسرائيلي من آجال قانونية لتقديم مذكرات تعقيبية في الموضوع. الأمر الذي ينذر بطول مدة المساطر وتعددها. فالمساطر حسب خبراء القانون الدولي والعلاقات الدولية قد تستغرق سنة أو عدة سنوات قبل صدور الحكم النهائي.
فطبيعة الإجراءات القانونية للنظام القانوني لمحكمة العدل الدولية، وغياب آلية قانونية ملزمة، إلى جانب منهجية انتخاب القضاة العاملين بها، تحت إشراف ومراقبة كل من هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، يوشك أن يفرغ اجتهاد قضاة المحكمة من مضمونه. الأمر الذي يجعل من الدعوة إلى مراجعة مجمل عناصر المنظومة القانونية المؤطرة لعمل المحكمة، موضوعًا مُلحًّا له ما يبرره.
خصوصًا أن هذه ليست الحالة الأولى التي تعرف رفض الامتثال لقرارات المحكمة الدولية. فالولايات المتحدة الأميركية، سبق أن تجاهلت حكم نفس المحكمة ارتباطًا بموضوع الأنشطة العسكرية وشبه العسكرية بنيكاراغوا إبان الثمانينيات.
لكن يبقى لقرارات المحكمة تأثير رمزي كبير يحكم طوق الخناق القانوني على منظومة الاحتلال الإسرائيلية ويساهم في عزلتها وتفكيك سرديتها التي صنعت منها دور الضحية على مر عقود من الزمن. في حين يثبت حكم المحكمة على الاحتلال صورة المجرم الذي وإن أفلت قادته من العقاب عاجلًا فإنهم لن يفلتوا منه في المستقبل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.