كيف تتحكم إسرائيل بالاقتصاد الفلسطيني؟ | اقتصاد
تسيطر إسرائيل بشكل شبه مطلق على كل مفاصل ومكونات اقتصاد الضفة الغربية وتمتلك أدوات تحكم سريعة وفعالة تمكنها من تغيير الواقع المعيشي لآلاف الفلسطينيين خلال أيام معدودة، مما وضع الفلسطينيين في حالة من الترقب المستمر والخوف من المستقبل وانعدام الأمان المالي مع شعور عميق بارتباط مستويات معيشتهم ومداخيلهم بالوضع السياسي.
كيف وصلنا إلى هذا الواقع من الارتهان الاقتصادي والتبعية؟
بعد “نكسة” عام 1967 دار سجال إستراتيجي في مراكز صنع القرار الإسرائيلية بين وزيري الدفاع والعمل في حينه موشيه ديان وإيغال آلون، واقترح الأخير ضم الضفة الغربية وإلحاقها بالأردن، في حين دفع ديان نحو إلحاق الضفة الغربية اقتصاديا بإسرائيل، وهي الرؤية التي انتصرت بمرور الوقت وغدت أمرا واقعا.
بموجب هذه الرؤية عمل الاحتلال وبشكل ممنهج -ومن خلال منظومة شاملة ومركبة من السياسات والأدوات العنيفة والناعمة والاقتصادية والمالية- على تقويض مقومات الاقتصاد الذاتي والإنتاجي الفلسطيني وإعادة هندسة الاقتصاد وبالتالي المجتمع ليكون موجها لخدمة اقتصاد الاحتلال وملحقا به، وجاء اتفاق أوسلو وملحقاته مرسخا لهذه التبعية ومعززا لهياكل القوة والهيمنة لصالح إسرائيل.
ومع أفول انتفاضة الأقصى وبناء على تصورات أساسية صاغها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، أرئيل شارون قبل أن يصاب بجلطة دماغية، وأكمل بلورتها إيهود أولمرت الذي انتقلت إليه رئاسة الحكومة الإسرائيلية، عمل الاحتلال على تصميم خطة صهر الوعي وإنتاج “الفلسطيني الجديد” في الضفة الغربية، وهي خطة تتألف من محور أمني-عسكري ومحور جغرافي-استيطاني، وآخر اقتصادي وهو ما يهمنا هنا.
في المحور الاقتصادي هدفت الخطة الموجهة للضفة الغربية إلى تعميق ارتهان الاقتصاد وتوظيفه لخدمة اقتصاد الاحتلال والمستوطنات، مع خلق فقاعة وهمية من أنماط ومستويات حياة مريحة إلى حد ما، على أن تبقى مفاتيحه بيد الاحتلال، مما يتيح له التأثير المباشر والسريع والفعال على مستويات المعيشة لأغلبية الفلسطينيين وفق مبدأ العصا والجزرة، وكنتيجة لكل ذلك ظهر واقع اقتصادي مشوه وهش وتابع إلى حد كبير، وصار يتسم بما يلي:
1- السيطرة على الموارد الطبيعية والأساسية
- تسيطر إسرائيل أمنيا ومدنيا على مناطق (ج) التي تمثل حوالي ثلثي مساحة الضفة الغربية، وتمنع بشكل ممنهج التطور العمراني والتنمية فيها عبر رفض تصاريح البناء أو توسعة المخططات الهيكلية، بالإضافة إلى الهدم المستمر للمنازل والمنشآت، وهذه المناطق تحوي حوالي ثلثي المياه الجوفية والسلة الزراعية الرئيسية، ناهيك عن أن استمرار السيطرة الإسرائيلية عليها يجعل من مناطق (أ) و(ب) أشبه بجزر معزولة تسبح في محيط (ج).
- 100% من النفط وحوالي 87% من الكهرباء المستهلكين في الضفة الغربية مصدرهما الاحتلال.
- تسيطر إسرائيل على حوالي 80% من احتياطات المياه في الضفة الغربية وتمنع الفلسطينيين من حفر الآبار أو تعميقها أو نقل المياه بين التجمعات والمحافظات، مما خلق واقعا من انعدام العدالة المائية، إذ إن متوسط استهلاك الفرد الفلسطيني يبلغ ثلث متوسط استهلاك الفرد في إسرائيل والمستوطنات، وينخفض المعدل ليصل إلى العُشر في التجمعات غير الموصولة بشبكات مياه بحوالي 26 لترا للفرد يوميا، ما يعادل متوسط الاستهلاك في المناطق المصنفة “منكوبة” عالميا.
تسيطر إسرائيل على البحر الميت الغني بالموارد الطبيعية وتمنع الفلسطينيين من الاستفادة منه كما تنذر سياساتها بخطر جفافه
- يحرم ثلثا الفلسطينيين من الحصول على مياه جارية يوميا، ونصفهم يحصل على مياه جارية أقل من 10 أيام في الشهر، ويضطر 92% منهم إلى تخزين المياه في خزانات على أسطح المنازل، وفي العام 2022 أُجبر الفلسطينيون نتيجة لهذا الواقع على شراء ثلث استهلاكهم من المياه من شركة “مكروت” الإسرائيلية بأسعار مرتفعة.
- تسيطر إسرائيل بالكامل على منافذ الاتصالات الدولية والمجال الكهرومغناطيسي (الطيف الترددي) وخطة ترقيم الهواتف وخطوط النفاذ في مناطق (ج) واستيراد المعدات ذات العلاقة، وتمنع الفلسطينيين من الحصول على خدمات الجيل الرابع في الضفة والجيل الثالث في غزة، كما أن البنية التحتية لهذه القطاعات ملحقة بالكامل بالبنية التحتية الإسرائيلية.
- تسيطر إسرائيل على البحر الميت الغني بالموارد الطبيعية وتمنع الفلسطينيين من الاستفادة منه، كما تنذر سياساتها بخطر جفافه، وتستخرج منه مادة البوتاسيوم ومادة البروم الإستراتيجية المستخدمة في الصناعات الاستخراجية والكيميائية والإنشائية والاتصالات والمنسوجات وأعمال حفر آبار النفط وتعقيم المياه والأدوية.
2- تبعية الإنتاج والاستهلاك
بمزيج من التدمير العنيف والحصار والعزل وسياسات السوق الحرة، نجح الاحتلال في تقويض مقومات الاقتصاد الإنتاجي الصناعي والزراعي الفلسطيني وتمزيق سلاسل الإمداد الداخلية وتفتيت الارتباط الداخلي بين القطاعات والمنشآت المحلية المختلفة وربطها بشكل منفصل مع سلاسل الإمداد الإسرائيلية، بحيث لا تعتمد الصناعة على الزراعة ولا تعتمد مدخلات الإنتاج والأدوات والمعدات الزراعية على الصناعة المحلية كما يتآكل اعتماد المستهلك الفلسطيني على المنتج المحلي.
وفي المجمل تستهدف السياسات والإجراءات منع قطاعات الاقتصاد الفلسطيني من تشكيل وحدة اقتصادية متكاملة وأن تظهر كأنشطة اقتصادية مبعثرة وهشة، وشهد الاقتصاد تراجعا مستمرا من جهة مساهمة القطاعين الصناعي والزراعي في الناتج المحلي الإجمالي وضعف توليد القيمة المضافة عن الصناعة.
وهكذا تحولت الضفة الغربية إلى ما يلي:
- سوق خلفية لمنتجات الاحتلال والمستوطنات ومعتمدة عليها، فقد بلغت الواردات من الاحتلال حوالي 62.4% من إجمالي الواردات بقيمة 4.4 مليارات دولار خلال عام 2023.
- ورشة إنتاج موجهة لتوفير السلع الوسيطة والنهائية والاستهلاكية للسوق الإسرائيلية، وتبلغ قيمة الصادرات الفلسطينية لإسرائيل حوالي 1.3 مليار دولار في العام 2023، ما يعادل 86% من إجمالي الصادرات.
- خزان بشري احتياطي يوفر للاحتلال قوة العمل الرخيصة بحسب الطلب، إذ عمل لديه حوالي 200 ألف فلسطيني قبل نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، ووصل مجموع أجورهم الشهرية حوالي 1.5 مليار شيكل (414.6 مليون دولار)، أي ما يعادل مرة ونصف من موازنة الحكومة الفلسطينية المخصصة للأجور وما شابهها.
3- السيطرة على التجارة الخارجية والضرائب
- بموجب اتفاق باريس الاقتصادي الذي وقع في مايو/ أيار 1994، فإن الإطار الناظم للعلاقة الجمركية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية هو نموذج “الاتحاد الجمركي” مع إذابة كافة المعيقات والحدود الاقتصادية بين الطرفين، الأمر الذي عمق واقع عدم التكافؤ والتبعية وملك إسرائيل أدوات السيطرة الكاملة على الحدود والمعابر والتجارة الخارجية، وبموجب الاتفاق تقوم إسرائيل بجباية ضرائب الاستيراد والقيمة المضافة نيابة عن الفلسطينيين وتعيد تحويلها بعد أن تخصم 3% كعمولة إدارية لها.
- يخول الاتفاق إسرائيل وبشكل أحادي الجانب تغيير أنظمة الضرائب المفروضة على البضائع المستوردة، وبالتالي تسيطر على السياسات الحمائية لمنتجاتها في سوقها وفي السوق الفلسطينية.
- فيما يخص ضريبة القيمة المضافة تعمل إسرائيل على تحويل الأموال التي جبتها لقاء البضائع أو الخدمات التي بيعت في إسرائيل والمعدة للاستهلاك في المناطق المحتلة وفق نظام محاسبة شهري.
- في كثير من الأحيان تلجأ إسرائيل إلى احتجاز أموال الضرائب المستحقة للفلسطينيين والتي تشكل ثلثي إجمالي إيراد السلطة الفلسطينية لأغراض الابتزاز أو العقاب السياسي.
- تتحكم إسرائيل بمنح تصاريح التجارة للفلسطينيين ومدد بقاء البضائع المستوردة في الموانئ ووقت وآلية تسليمها.
تحولت الضفة الغربية إلى سوق خلفية لمنتجات الاحتلال والمستوطنات وورشة إنتاج موجهة لتوفير السلع الوسيطة والنهائية والاستهلاكية للسوق الإسرائيلية، وخزان بشري احتياطي يوفر للاحتلال قوة العمل الرخيصة
4- السيطرة النقدية والمالية
ترافق تراجع القطاعات الإنتاجية مع نمو القطاعات الخدماتية والتجارية، الأمر الذي سهل هجرة الفلسطينيين داخليا من أطراف الضفة الغربية وريفها إلى مراكز المدن بحثا عن الوظائف وساهم في تشكيل فقاعة مالية يملك الاحتلال أدوات سهلة وفعالة لتفجيرها في أي وقت.
ومن هذه الأدوات:
- حرمان الفلسطينيين من إصدار عملتهم الوطنية الخاصة، وتعتمد معظم التعاملات النقدية اليومية وترصد معظم الأجور والرواتب بعملة الشيكل الإسرائيلي التي تصدر عن بنك إسرائيل (المركزي) الذي يتحكم بالسياسات المالية والنقدية التي تنعكس على المؤشرات الاقتصادية في الضفة الغربية بآثار سلبية ومضاعفة، نتيجة ضعف وهشاشة الاقتصاد المحلي وانخفاض القدرة الإنتاجية ومعدل الدخل الشهري مقارنة بالاحتلال.
ومن خلال هذا الواقع تتسرب إلى الضفة آثار التضخم وغلاء المعيشة بشكل لا يتناسب مع التحسن البطيء في معدلات الأجور.
يقيد الاحتلال حرية النظام المصرفي الفلسطيني بمنعه من تنفيذ المعاملات الدولية من دون المرور بوسيط مصرفي مرخص لديه
- يقيد الاحتلال حرية النظام المصرفي الفلسطيني بمنعه من تنفيذ المعاملات الدولية من دون المرور بوسيط مصرفي مرخص لديه، وتحصل البنوك الإسرائيلية على عمولات لقاء خدمات الوساطة، الأمر الذي يعزز السيطرة الإسرائيلية على النظام المصرفي الفلسطيني ويسلب منه حزمة من الخيارات التنموية ويعيق تقدمه ونموه وانفتاحه على الأسواق الخارجية ويرفع كلفة إدارة وصرف العملات الصعبة.
- حول هذا الواقع السوق الفلسطيني إلى مكب خلفي لفائض عملة الشيكل، بحيث تلجأ إسرائيل إلى رفض تسلم الفائض من البنوك الفلسطينية لضبط معدلات السيولة النقدية لديها، وحرم الفلسطينيين من تصميم سياساتهم النقدية والمالية الخاصة لمكافحة التضخم وتعزيز التنمية والاستثمار.
هكذا أسهم اتفاق أوسلو وملحقاته في توفير إطار قانوني لترسيخ هذا الواقع الاقتصادي بكافة تفاصيله، علما أنه اتفاق مؤقت لفترة انتقالية من 5 سنوات (1994-1999) على أن تعمل خلالها السلطة الفلسطينية على بناء جاهزيتها ومؤسساتها لتتسلم باقي الصلاحيات والمسؤوليات، بما فيها السيطرة الأمنية والمدنية على مناطق (ج).
وبسبب اختلال هيكل القوة بين إسرائيل والسلطة تحولت الصيغة المؤقتة إلى دائمة، ومع استمرار تحرر إسرائيل من أدنى شروط أوسلو يبدو أنه لم يعد اتفاقا بين طرفين وتحول إلى أداة باتجاه واحد يوظفها الطرف الأقوى لتكبيل طموح الفلسطينيين السياسي والاقتصادي وإعاقة التنمية الحقيقية.