غادي آيزنكوت.. مهندس عقيدة التدمير والعقاب الجماعي في جيش الاحتلال | سياسة
“نحن لم نصل بعد إلى إنجاز إستراتيجي، أو بالأحرى جزئيا فقط… نحن لم نُسقط حماس”.
“إطلاق سراح الرهائن بوسائل أخرى غير وقف إطلاق النار هي ادعاءات بمنزلة نشر أوهام”.
“عندما تقاتل ضد عدو ضعيف لسنوات عديدة، فإن ذلك يضعفك أيضا”.
“إن الجيش المنقسم على نفسه بشأن السياسة والدين لا يستطيع أن يفي بمهمته”.
“جيش الدفاع الإسرائيلي هو جيش الدفاع الإسرائيلي، وليس جيش الدفاع اليهودي. يضم جنودا دينيين وعلمانيين. إذا كانت قيمه تأتي من الحاخامية (فرع الوعي اليهودي)، فهذا مشوه. إنه خطأ”.
في سجلات التاريخ العسكري الإسرائيلي، هناك عدد قليل من الشخصيات التي كان لها تأثير في هندسة عقيدة الجيش الإسرائيلي أو تطويرها. الفريق غادي آيزنكوت هو أحد تلك الأسماء، ويشتهر باسم آيزنكوت. عُرِف آيزنكوت باهتمامه بالإستراتيجية العسكرية وتطويرها والتزامه بالأمن القومي، وتمتد مسيرة آيزنكوت داخل الجيش الإسرائيلي عقودا من الخدمة (40 عاما)، حيث خدم من 1978 وحتى 2019.
بلغت ذروة خدمته عندما تولى رئاسة الأركان العامة، ليصبح رئيس الأركان الحادي والعشرين لقوات الدفاع الإسرائيلية، واستمر في ذلك المنصب نحو أربع سنوات، بالتحديد من تاريخ 16 فبراير 2015 وحتى 15 يناير 2019، وهو أول رئيس أركان من أصول مغربية يصل إلى هذا المنصب.
آيزنكوت ليس سياسيا ذا شعبية يجيد الخطاب، لكنه عقلية أمنية تعمل خلف الكواليس وتضع اللمسات الإستراتيجية للعقلية الأمنية داخل الجيش، وكان له دور كبير ومساهمة في تطوير العقيدة العسكرية والإستراتيجية العسكرية للجيش، وهي العقيدة “غير الأخلاقية”، عقيدة الضاحية التي استندت إلى الاستخدام غير المتناسب للقوة مع الخصوم في استهداف المدنيين والبنية التحتية بوصفها سياسة عقاب جماعي لمنع الحاضنة والسكان من دعم حركات المقاومة، وهو ما يُعد انتهاكا للقانون الدولي كما نصت عليه معاهدة جنيف لحقوق الإنسان.
بالنظر إلى حجم الدمار قد يُنظر إلى أنه نصر عسكري، لكن عدم تحقيق أهداف الحرب المتمثلة في القضاء على التهديدات يجعلها عقيدة وإستراتيجية “فاشلة”، فهي على المدى القصير نصر تكتيكي، لكن على المدى الطويل خسارة إستراتيجية.
كذلك كان آيزنكوت الرجل الثاني خلف وزير الدفاع بيني غانتس، ورمانة الميزان بين معسكر الصهاينة القوميين المتدينين والصهاينة الليبراليين، رغم ميله إلى كفة الليبراليين. وقد أشار آيزنكوت إلى العديد من العيوب الكبيرة داخل الجيش الإسرائيلي، وهي عيوب يمكن وصفها بالمشكلات البنيوية، أولها انعكاس صدى الصراع السياسي والأيديولوجي بين المعسكرين المتنازعين داخل النسيج البنيوي للجيش وبين صفوف الجنود والضباط، وهي دلالة خطيرة على تنامي ولاءات خارج إطار الهيكل الهرمي للجيش الإسرائيلي.
ثانيها حرصه الشديد في لقاءاته على تأكيد الاختصاصات بين ما هو سياسي وما هو عسكري، وانتقاده لتنامي ظاهرة الاستقطاب السياسي والأيديولوجي ودعوته إلى إخراج ثكنات الجيش خارج المدن، حيث يرى أنها قد تدفع إلى تحركات من قادة الجيش بشكل منفرد خارج مظلة رئيس الحكومة، ما يُعد أزمة مستبطنة في نموذج العلاقات المدنية العسكرية الإسرائيلية.
الجذور
وُلد غادي آيزنكوت في 19 مايو/أيار 1960 في طبريا، في شمال فلسطين المحتلة، ونشأ داخل عائلة يهودية تقليدية من أصول مغربية، وهو الثاني من بين أربعة أطفال لـ”مئير وإستر آيزنكوت”، المهاجرين اليهود المغاربة. شب وترعرع في مدينة إيلات التي تقع في المنطقة الساحلية الجنوبية (وهي مدينة أم الرشراش المصرية التي احتلتها القوات الإسرائيلية في 10 مارس/آذار 1949)، ودرس في مدرسة غولدووتر الثانوية (Goldwater High School)، ثم حصل على بكالوريوس في التاريخ من جامعة تل أبيب، والتحق بعدها بالكلية الحربية للجيش الأميركي وحصل منها على درجة الماجستير، وفي عام 2011 حصل على درجة الماجستير في العلوم السياسية من جامعة حيفا.
جمع غادي في تعليمه بين العلوم الإنسانية والعسكرية، ما جعله يمتلك قدرات فكرية مكَّنته من المساهمة في تطوير العقيدة العسكرية والأمن القومي والإستراتيجيات العسكرية، بل وجعلته رقما صعبا في الحياة السياسية الإسرائيلية.
رغم أن والدَيْ آيزنكوت وُلدا في المغرب، فإن الاسم ترجع أصوله إلى يهود غرب أوروبا، وقد ظهر ذلك عندما أُثير في الرأي العام الإسرائيلي -عن نزعة عنصرية- أصول آيزنكوت المغربية عند تعيينه في منصب رئيس الأركان، حيث استُغرب عدم تناسق الاسم مع أصوله المغربية.
يُستخدم اسم آيزنكوت عند اليهود (أشكنازيًّا)، وهم اليهود الذين ترجع أصولهم إلى أوروبا الغربية، خاصة ألمانيا وفرنسا وإنجلترا، وقد هاجرت العديد من تلك العائلات اليهودية من روسيا وبولندا إلى المغرب في القرن التاسع عشر خلال الحرب العالمية الثانية هربا من حملات الملاحقة والاضطهاد التي كانت تمارس ضد اليهود في أوروبا.
حرصت تلك العائلات على أن تحافظ على أسمائها الأشكنازية، وكانت عائلة آيزنكوت ضمن أهم العائلات والأسر اليهودية في مدينة طنجة الساحلية بالمغرب، حيث عمل بعضهم مترجمين في السلك الدبلوماسي والقنصليات الغربية، مثل ديفيد آيزنكوت الذي عمل مترجم القنصل الفرنسي في طنجة. كما أن أبراهام آيزنكوت كان أحد زعماء الجالية اليهودية بالمغرب، وهو ما يرجح أن تكون أصول أجداده عائدة إلى اليهود الأشكنازيين في أوروبا وليس يهود المغرب.
وقد علّقت والدته “إستير آيزنكوت” عند صدور قرار تعيينه رئيسا لأركان الجيش بأنها كانت تود أن يكون حاخاما، وقالت إن مع تعيينه في صفوف اليهود الأصوليين المتشددين والمتدينين ستكون الأمور أفضل في الجيش، لأنه يُقدِّر الدين كثيرا.
كيف أثر في صناعة القرار داخل الجيش؟
التحق آيزنكوت بلواء غولاني في 1978، وكان يبلغ حينها 18 عاما، وخدم بصفته قائد فرقة وضابط شعبة عمليات خلال عامي 1986 و1987، ثم عُيِّن ضابطا للعمليات بقيادة المنطقة الشمالية، وترقى إلى رتبة عقيد عام 1992، والتحق بدورة الطيران في سلاح الجو الإسرائيلي، لكنه خرج منها بعد شهر واحد وعاود الانضمام إلى لواء غولاني وأصبح قائدا له في 1997-1998.
وخلال فترة الدراسة في الكلية الحربية بأميركا كتب آيزنكوت ورقة بحثية إستراتيجية في مارس/آذار 1997 بعنوان “أمن إسرائيل في القرن الحادي والعشرين: المخاطر والفرص”، قدم فيها نقدا ضمنيا لعدم وجود مادة منشورة رسميا توضح المبادئ الأمنية التي تستند إليها الإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية تفصيليا كالوثائق الرسمية التي تنشرها أميركا، مثل إستراتيجيتها الأمنية الوطنية، وإستراتيجيتها العسكرية الوطنية، وقال إن الافتقار إلى عقيدة أمنية رسمية ومنشورة لا يعني أن إسرائيل تفتقر إلى إستراتيجية سياسية وعسكرية متماسكة مبنية على مفاهيم شبيهة بالعقيدة، ووصف النجاحات العسكرية بأنها تثبت نجاح الإستراتيجيات العسكرية الإسرائيلية.
ورغم هذا الاضطراب في الوصف، قال إن هدفه من الدراسة هو تحديد عدد من المبادئ الأمنية الحاسمة التي شكَّلت الإستراتيجية الإسرائيلية، من خلال مناقشة المخاطر والتحديات التي تواجه الأمن الإسرائيلي في القرن الحادي والعشرين وآليات الاستجابات المحتملة لتلك التحديات.
وقد خلص آيزنكوت في دراسته بالكلية الحربية الأميركية إلى أن السياسة الأمنية الإسرائيلية “ناجحة” بحسب وصفه، وأن جيش إسرائيل نجح في مهمته في حماية البلاد، وقال إن الدليل على ذلك هو نجاحاته في ست حروب خلال نشأة الدولة الإسرائيلية، وأشار إلى أن قدرات الردع الإسرائيلية ورفضها الاستسلام للتهديدات الخارجية كان لها دور كبير في إقناع الخصوم العرب بالاعتراف بدولة إسرائيل والدخول في عملية السلام معها.
وأكد آيزنكوت أن الاستمرار في تحسين القدرات الاستخبارية له دور مهم في منع الحروب الواسعة وتعزيز قدرات الجيش للصمود أمام التهديدات المحتملة والتحالفات التي قد تتشكل في الشرق الأوسط ضد إسرائيل. وأشار أيضا إلى أن إسرائيل يجب أن تعمل على منع انتشار أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط، بجانب المشاركة الفعالة في أي منظمة دولية أو تشكيل عسكري إقليمي يهدف إلى محاربة الإرهاب والإسلام “المتطرف”.
فيما وصف اتفاقيات السلام القائمة بأنها أهم شيء بالنسبة لإسرائيل في الحاضر والمستقبل، وأن إسرائيل يجب عليها أن تعمل على التوسع في المفاوضات مع الدول العربية.
أظهرت دراسة آيزنكوت رؤيته التي جمعت بين البُعد العسكري والسياسي، وجعلته محل اهتمام عند صانع القرار الإسرائيلي، ليُختار بعد ذلك سكرتيرا عسكريا لرئيس الوزراء ووزير الدفاع في عهد رئيس الوزراء إيهود باراك عام 1990، ويترقّى إلى رتبة عميد. كما شارك آيزنكوت بحكم منصبه في المفاوضات مع سوريا.
وخلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2003، تولى قيادة الفرقة 366 وفرقة يهودا والسامرة، وتُعرف باسم فرقة الضفة، ثم ترقّى لرتبة عقيد وعُيِّن رئيسا لقسم العمليات في هيئة الأركان العامة في يونيو/حزيران 2005. ونتيجة لدوره في إدارة حرب لبنان ووضع مخططات الهجوم والتكتيكات العسكرية، عُيِّن رئيسا للقيادة الشمالية.
وفي عام 2013، شغل منصب نائب رئيس الأركان العامة، وترقّى إلى رئيس الأركان في فبراير/شباط 2015 وحتى يناير/كانون الثاني 2019. وبذلك يكون أول يهودي من أصول مغربية يتولى ذلك المنصب، وقد تقاعد بعد 40 عاما من الخدمة في الجيش.
وقبل خروجه من الخدمة حصل آيزنكوت على وسام جوقة الاستحقاق من نظيره الأميركي عام 2016، الجنرال جوزيف دانفورد، عن “الخدمة الجديرة بالتقدير بشكل استثنائي بوصفه رئيسا للأركان العامة للجيش الإسرائيلي”، وهو يُعد من أهم الأوسمة داخل الجيش الأميركي. وكان من أكثر الأشياء اللافتة خلال فترة إدارته للجيش أنه لم يطلب إضافات في ميزانية الجيش.
اتسم آيزنكوت خلال فترة خدمته رئيسا للأركان ببُعده عن الإعلام، وكانت خطاباته الإعلامية قليلة، واقتصرت على طبيعة بروتوكولية بصفته رئيس الأركان، حيث أجرى جولة واحدة فقط من المقابلات مع الصحافة المطبوعة، وجولة واحدة مع صحافة الإنترنت. فيما لم يُجرِ أي مقابلات على التلفزيون، وكان ينظم جلسة أو اثنتين كل عام للمراسلين العسكريين العاملين في الصحافة الإسرائيلية.
حصل آيزنكوت على وسام جوقة الاستحقاق من نظيره الأميركي الجنرال “جوزيف دانفورد” عام2016 (المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي)
مطور العقيدة العسكرية
لعب آيزنكوت دورا محوريا في وضع السياسات والتوجهات الأمنية المعمول بها داخل الجيش الإسرائيلي، التي كان في مقدمتها تشكيل الإستراتيجية العسكرية للجيش الإسرائيلي وتعريف التهديدات وترتيب أولوياتها. كان آيزنكوت يقدم المشورة للقادة السياسيين بشأن مسائل السياسة الدفاعية أو يدعو إلى اتخاذ تدابير استباقية لمعالجة التهديدات الناشئة مبكرا، وبرز اسم آيزنكوت بوصفه مستشارا موثوقا به، وكان لمشورته وزن كبير في توجيه دوائر صنع القرار الإسرائيلية، حيث أسهمت توجيهاته في تطوير العقيدة العسكرية للجيش الإسرائيلي ووضع إستراتيجيته الحالية، وتطوير فلسفة الأمن القومي الإسرائيلي والتحديات والمخاطر التي تواجه دولة إسرائيل.
كانت البداية عام 2007، وهو العام الذي صاغ فيه آيزنكوت “عقيدة الضاحية”، وهو الاسم الذي أُطلق عليها نسبة إلى حي الضاحية في بيروت، حيث كانت توجد مراكز قيادة حركة حزب الله اللبناني. اعتمدت العقيدة خلال حرب لبنان الثانية على تكثيف قصف الجيش الإسرائيلي لعدد كبير من المباني السكنية، وكانت الفكرة بالأساس هي تنفيذ سياسة “العقاب الجماعي” بإحداث أضرار في البنية التحتية ضد الحاضنة الشعبية الداعمة لأي حركة مسلحة تعمل على استهداف إسرائيل، وحتى تكون عبرة لجميع أنحاء لبنان أو لأي دولة أخرى في أي صراع مستقبلي. وقال آيزنكوت تعقيبا على النهج العملياتي الذي استهدف البنية التحتية في جنوب لبنان:
“ما حدث في ضاحية بيروت عام 2006 سيحدث في كل قرية يُطلَق النار منها على إسرائيل، وسنستخدم قوة غير متناسبة ونسبب أضرارا ودمارا كبيرا فيها… من وجهة نظرنا، هذه ليست قرى مدنية، بل هي قواعد عسكرية”
هذا التصريح يُعَد الصياغة الواضحة المعبرة عن مفهوم العقيدة العسكرية للجيش الإسرائيلي، وكيف مثلت العمليات العسكرية في الضاحية نقطة تحول في تطوير عقيدة الجيش الإسرائيلي وتكتيكاته العملياتية.
وفي ندوة عن الأمن والسياسة بجامعة رايخمان، عَرَّف آيزنكوت التهديدات الإستراتيجية التي تواجه إسرائيل بالترتيب التالي: (1) القنبلة النووية الإيرانية المحتملة بوصفها تهديدا أولا، (2) ثم أشار إلى أن الجماعات المسلحة وشبه العسكرية تمثل التهديد الثاني، ويقصد بذلك حركتي حماس بقطاع غزة وحزب الله في جنوب لبنان، (3) أما الجيوش النظامية في سوريا ومصر فحلَّت بوصفها تهديدا ثالثا، حيث وصفها بأنها لا تمثل “تهديدا حاليا”، وربط درجة التهديد والخطورة المتوقعة من الجيشين بتغير النظام السياسي في مصر أو سوريا، حيث وصف مصدر التهديد بأن تغيير النظام السياسي قد يدفع إلى تغيير منظومة الجيش وعقيدته سلبيا تجاه إسرائيل، وقدّر آيزنكوت المدة اللازمة لتنفيذ تلك بالجيوش بفترة تتراوح بين 3-5 سنوات، ووصف هذا التحول بأنه سيمثل إرباكا وسيعيد ترتيب التهديدات وأولويات الأمن القومي الإسرائيلي، وسينعكس على إستراتيجياتها العسكرية والبنيوية للجيش الإسرائيلي. (4) ثم وضع الحرب السيبرانية والكوارث الطبيعية تهديدا رابعا، (5) ثم ختم بـ”النضال المستمر” من قِبَل الفلسطينيين، حيث يرى أن استمرارية النضال والانفلات الأمني كما حدث في الانتفاضة الفلسطينية ستُمثل تهديدا وجوديا. وعند سؤاله عن حالة الصراع مع حركة حماس وقطاع غزة، عقب بأن حالة الصراع مع غزة “لا يوجد حسم، ولا يوجد نصر”.
قدَّم آيزنكوت التهديدات غير التقليدية التي تواجهها إسرائيل على التهديدات التقليدية في الإستراتيجية العسكرية، رغم وضعه حركة حماس وحزب الله تهديدا ثانيا بعد القنبلة النووية الإيرانية المحتملة، لكنه وصف التهديدات غير التقليدية قبل انطلاق حرب طوفان الأقصى بأنها متزايدة بالمقارنة مع التهديدات التقليدية.
المخطط جدعون والمنطلقات النظرية
تناول آيزنكوت خطة “جدعون” في مقال مكتوب في مجلة “الشؤون العسكرية والإستراتيجية” بمعهد دراسات الأمن القومي، ووصف آيزنكوت المخطط “جدعون” بأنه خطة جديدة متعددة السنوات، دخلت حيز التطبيق والتنفيذ أوائل عام 2016، وأشار إلى أن الخطة استندت إلى فكرة تقليص حجم الجيش، بما في ذلك “الجيش النظامي وهيكله وجيش الاحتياط”.
وجعل الجيش يركز على مهامه الأساسية والوصول إلى مستوى عالٍ من الفعالية من خلال وحدات عالية التدريب بتعزيز مكوناته الرئيسية، وتحسين استعداده وتدريبه ومخزونه. تستند فلسفة الخطة إلى أن تستمر الحرب ضد “الإرهاب” حسب وصفه، لكن من خلال نموذج “إدارة المخاطر بالحكمة”، وهو نموذج يميل إلى استخدام القوة على النحو الذي يوجه المعركة ويتحكم في مسارها.
وقد أكد أن من الخطأ توجيه كل موارد وقدرات الجيش الإسرائيلي نحو الحرب ضد “الإرهاب”، ويهدف المشروع أيضا إلى الاستمرار في نقل الجيش الإسرائيلي إلى النقب خلال العقد المقبل وإخلاء المقرات في وسط إسرائيل والمدن.
الخطة “جدعون” سُميت على اسم القاضي المحارب الإسرائيلي الذي أمره الله بمحاربة المديانيين وتدمير أصنامهم، وقُدمت الخطة في يوليو/تموز 2015، وكان من ضمن أهداف آيزنكوت تأمين تمويل إضافي لقطاع الدفاع دون خفض الأموال المخصصة لمجالات أساسية أخرى مثل الرعاية الاجتماعية، والتعليم، والرعاية الصحية، وغيرها، وكانت ميزانية الدفاع قد بلغت في وقت الإعلان نحو 60 مليار شيكل (15.3 مليار دولار).
تحولت إحاطة آيزنكوت التي قدمها بصفته رئيسا للأركان إلى وثيقة رسمية بعنوان “إستراتيجية جيش الدفاع الإسرائيلي”، وهي بمنزلة دليل لجيش الاحتلال الإسرائيلي بما يحدد الاستجابات الإستراتيجية والعملياتية للتهديدات الآنية التي يواجهها الجيش، وعلى رأسها حركتا حماس وحزب الله.
هَدَف آيزنكوت إلى جعل الإستراتيجية مرجعا ودليلا إرشاديا للجيش الإسرائيلي، يعتمد عليها في تعريف الأمن القومي، وتنظم إطارا نظريا في توظيف العمليات والتكتيكات العسكرية. وقد حددت الوثيقة أربعة اتجاهات رئيسية لمبادئ عقيدة الأمن القومي الإسرائيلي: (1) الردع، (2) والإنذار المبكر، (3) والنتيجة الحاسمة، (4) والدفاع واتخاذ القرار.
وتضع تلك المبادئ إطارا منظما للإستراتيجية العسكرية، وأسلوبا للعمليات والأنشطة العسكرية لجيش الاحتلال الإسرائيلي. كما تناقش الإستراتيجية أيضا مبادئ وأهداف نشر قوات الجيش في المواقف الروتينية وحالات الطوارئ والحروب، وهي تؤكد أيضا أن رئيس الأركان هو القائد الوحيد لجميع عمليات جيش الاحتلال.
يستند مفهوم الأمن عند آيزنكوت إلى مجموعة من الفرضيات؛ تتمثل في الحفاظ على فترات طويلة من الهدوء الأمني لتحقيق تنمية مجتمعية وعلمية واقتصادية، وتحسين الاستعداد لحالات الطوارئ والحروب. كانت المساهمة التي قدمها آيزنكوت في هذا السياق هي “الجهود الحركية المستمرة” لإضعاف قدرات العدو بهدف إطالة الوقت بين الحروب وتحسين فرص الفوز بها إذا فرضت في الساحة، وأطلق عليها اسم “الحملة بين الحروب”، وهو مفهوم مطبق ميدانيا ضد إيران وتحركاتها في سوريا والعراق، ولا يشمل حركة حماس وحزب الله، حيث جعل من عمليات استهداف خطوط الإمداد والتسليح للجماعات المسلحة الموالية لإيران تأخذ وتيرة شبه يومية في سوريا والعراق، التي بلغت أكثر من 2000 قنبلة عام 2018.
تستند الفرضية أيضا إلى خلق الردع في البيئة الإقليمية ضد العناصر التي يمكن أن تشكل تهديدا لإسرائيل. وفي الوقت نفسه، استخدام جميع المنظمات الدفاعية في عمل منسق لإعاقة قدرات العدو عن بناء قوته. تركز الفرضية أيضا على “إزالة التهديد بسرعة”، مع تقليل الأضرار التي ستلحق بالدولة.
جيش لدولة دينية أم علمانية؟
يخشى آيزنكوت من اختلال نموذج “العلاقات المدنية العسكرية” في الدولة الإسرائيلية، لذلك يحرص دائما على تأكيد آليات اتخاذ القرار والعلاقة بين الجيش والسياسة وكيفية صناعة القرار، وكان يرى أن من المهم نقل وحدات الجيش خارج المدن للحفاظ على الطابع المدني للمدن.
كما حرص آيزنكوت على تأكيد مفاهيم الديمقراطية، خاصة مع تنامي الأزمات السياسية الداخلية وتداخل الجيش في قلب تلك الأزمات خلال مرحلة إدارة الحرب. هذا القلق نابع من تصاعد حالة الصراع بين القوميين المتدينين والليبراليين حول نوع الدولة التي ينبغي لإسرائيل أن تكون عليها، وتختلف الرؤية بين الصهاينة العلمانيين والصهاينة المتدينين.
من زاوية أمنية، فإن تصاعد مثل هذا الخلاف داخل الجيش يمثل تهديدا بنيويا، فالجيش ليس ساحة لإعطاء الرأي في السياسة أو في الدين. ومع تصاعد الانقسام والاستقطاب بين الطرفين سياسيا، عمل آيزنكوت خلال فترة رئاسته لأركان الجيش الإسرائيلي على وضع حد وتوازن من خلال إلغاء وحدة “الوعي اليهودي” المكونة من مجموعة من الحاخامات العسكريين عام 2016، التي تأسست داخل الجيش منذ 15 عاما بهدف تقديم وعظ وإرشاد ديني.
ونقل وحدة الوعي اليهودي إلى جناح الأفراد العسكرية، وبمعنى أدق وضعهم تحت مظلة رفع “الروح القتالية” داخل الوحدات العسكرية. وقد تعرضت تلك الوحدة لنقد كبير من قِبَل الصهاينة العلمانيين، ولقي القرار نقدا كبيرا من قِبَل الصهاينة المتدينين وعدد من الحاخامات. وتعقيبا على هذا الصراع قال آيزنكوت:
“إن الجيش المنقسم على نفسه بشأن السياسة والدين لا يستطيع أن يفي بمهمته، وجيش الدفاع الإسرائيلي هو جيش الشعب ويشمل طيفا واسعا من المجتمع الإسرائيلي، والتغيير مطلوب بهدف إبقاء جيش الدفاع الإسرائيلي (جيش دولة) في (دولة ديمقراطية).. ورعاية ما يوحد الجنود” … “جيش الدفاع الإسرائيلي هو جيش الدفاع الإسرائيلي، وليس جيش الدفاع اليهودي. يضم جنودا دينيين وعلمانيين.. إذا كانت قيمه تأتي من الحاخامية (فرع الوعي اليهودي)، فهذا مشوه.. إنه خطأ”.
أدت إزالة فرع “الوعي اليهودي” إلى تفاقم الانقسامات القائمة داخل الجيش الإسرائيلي حول مكانة الدين والأيديولوجية، وكان رد فعل الجنود الصهاينة المتدينين قويا على إزالة الوحدة من الجيش. وعُدَّ القرار، الذي اتخذه رئيس أركان الجيش الإسرائيلي غادي آيزنكوت، بمنزلة هجوم على القيم الدينية داخل الجيش، وبينما رحب البعض بهذا الأمر، فقد أثار غضب الآخرين وساهم في تسييس الجيش على نطاق أوسع على أسس دينية علمانية.
وفي مطلع عام 2021، قال آيزنكوت إن أعداء إسرائيل لا يشكلون تهديدا وجوديا لدولة إسرائيل، بل الاستقطاب الداخلي، وذلك على خلفية الأزمة السياسية التي تعيشها إسرائيل بين المعسكرين منذ أبريل/نيسان 2019 التي أُجري فيها خمسة انتخابات في خمس سنوات، ويتبنى في ذلك نهجا وسطا يدعو فيه المجتمع الإسرائيلي إلى وقف حملة الاستقطابات الحادة فيما بينهم من أجل إيجاد خطوط اتصال بين المعسكرات السياسية المختلفة، ويرى أن التهديد الداخلي يعزز من عدم الثقة في النظام السياسي ومؤسسات الدولة، ووصفها بأنها تعمق الاستقطاب والشرخ بين أجزاء المجتمع الإسرائيلي وقد تمثل تهديدا وجوديا، ليضعها بجانب التهديدات الخارجية القادمة من سوريا ولبنان وإيران.
كيف نقرأ توجهاته السياسية؟
ترتكز آراء آيزنكوت السياسية على إقامة دولة متجذرة في القيم القومية اليهودية، مع ضمان الحقوق المتساوية لجميع المواطنين، وتميل آراؤه إلى دعم حل الدولتين مع الفلسطينيين، مع إعطاء الأولوية لغور الأردن والكتل الاستيطانية، ويدعو إلى وقف إطلاق نار طويل الأمد ونزع السلاح في قطاع غزة. ويؤكد آيزنكوت الحاجة إلى سياسة أمنية قوية ووحدة داخلية في إسرائيل، معتبرا أن الاستقطاب السياسي الداخلي يمثل تهديدا كبيرا للدولة، ويدعو كذلك إلى إصلاحات لتعزيز الفصل بين السلطات داخل الحكومة الإسرائيلية.
آيزنكوت أيضا لا يرغب في انهيار السلطة الفلسطينية، فهو يُفضِّل أن يدير الفلسطينيون حياتهم بأنفسهم، ويوصي بعدم دفعهم إلى تبني فكرة الدولة الواحدة. ويتبنى آيزنكوت مواقف تميل إلى التوازنات الأمنية، لإيمانه أكثر بإدارة الصراع.
انضم غادي آيزنكوت إلى حزب “الوحدة الوطنية الإسرائيلي” في 14 أغسطس/آب 2022. يقود الحزب بيني غانتس وزير الدفاع السابق، وانضم آيزنكوت إلى قائمة الحزب الانتخابية، ليكون في المركز الثالث بعد غانتس ووزير العدل جدعون ساعر.
يقدم الحزب نفسه فكريا بأنه حزب “يمين وسط معتدل”، وقد تَشكَّل الحزب عن ممثلين من حزب “أزرق أبيض” بزعامة بيني غانتس، وحزب “الأمل الجديد” بزعامة جدعون سار، بجانب غادي آيزنكوت ومتان كهانا. وتشتمل مبادئ الحزب في تعريف دولة إسرائيل على أنها “دولة قومية للشعب اليهودي”، وتؤكد الالتزام بالديمقراطية والحفاظ على استقلال القضاء والفصل بين السلطات.
ويدعم الحزب حل الدولتين للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ويؤيد تعزيز الأمن الإسرائيلي ومنع إيران من امتلاك أسلحة نووية، ويتبنى منظور الاقتصاد الحر والعدالة الاجتماعية في أجندته الاقتصادية. ويسعى غانتس إلى توحيد قوى الوسط في إسرائيل لخلق بديل لحكومة نتنياهو، لكنه يواجه خلافات مع آيزنكوت في تحديد الأولويات رغم التوافق حول الأهداف.
يركز آيزنكوت في مشاركاته داخل الكنيست على مسائل الدفاع والعلاقات الخارجية، وتطوير منظومة الشرطة واختصاصاتها، بجانب دعم التجمعات الاستيطانية في مناطق خطوط المواجهة مع حركات المقاومة، حيث شارك في عضوية “اللجنة الخاصة المعنية بمشروع قانون تعديل قانون الشرطة”، وهي لجنة معنية بوضع صلاحيات العاملين في الشرطة وذلك من ديسمبر/كانون الأول 2022 وحتى أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وشارك أيضا في عضوية لجنة “الشؤون الخارجية والدفاع” من نوفمبر/تشرين الثاني 2022 وحتى أكتوبر/تشرين الأول 2023. وكذلك عضوية “تجمع جنود الاحتياط في الجيش الإسرائيلي” من مارس/آذار 2023 وحتى أكتوبر/تشرين الأول 2023، وعضوية “تجمع تعزيز سكان خطوط المواجهة” من مارس/آذار 2023 وحتى 11 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
يهاجم آيزنكوت أحزاب اليمين المتطرف في إسرائيل، حيث يقول “إن الدولة القومية للشعب اليهودي يجب أن توفر حقوقا متساوية لجميع مواطنيها دون النظر إلى الدين أو العرق أو الجنس”، بما في ذلك السكان العرب داخل إسرائيل، وقال: “علينا أن نتخذ سياسات نشطة لمنع التطور الخطير لدولة ثنائية القومية”، في إشارة إلى النتيجة المحتملة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، حيث يرى أن الفشل في إقامة دولة فلسطينية قد يؤدي إلى قيام دولة ثنائية القومية لليهود والفلسطينيين، وقد أبدى احترامه لليهود المتشددين ووصفهم بأنهم حافظوا على التقاليد اليهودية لسنوات عديدة، وهم جزء مهم لا ينفصل عن المجتمع الإسرائيلي.
كيف نتعامل مع غزة؟
دعا آيزنكوت إلى اتباع نهج أكثر اعتدالا تجاه حركة حماس وقطاع غزة، مؤكدا أهمية التوصل إلى وقف إطلاق النار والعودة الآمنة للمحتجزين، وعارض فكرة أن إسرائيل قد هزمت حماس بالكامل، قائلا: “نحن لم نصل بعد إلى إنجاز إستراتيجي، أو بالأحرى جزئيا فقط… نحن لم نُسقط حماس”، ووصف إمكانية إطلاق سراح الرهائن بوسائل أخرى غير وقف إطلاق النار بأنها “ادعاءات بمنزلة نشر أوهام”.
كما أعرب آيزنكوت عن مخاوفه من العواقب الإستراتيجية المحتملة في حال وُجهت ضربة استباقية ضد حزب الله في لبنان، مشيرا إلى أن مثل هذا الهجوم قد يؤدي إلى صراع إقليمي أوسع.
وقد قُتل ابنه الرائد غال مئير آيزنكوت (25 عاما) في معارك غزة، كما قُتل أيضا ماور مئير كوهين ابن شقيق آيزنكوت، وكان غال آيزنكوت يقاتل في الكتيبة 669 تشكيل “نصف حاش”، وهي معروفة باسم وحدة الإنقاذ الجوي والإخلاء، وهي وحدة تابعة للقوات الجوية الإسرائيلية متخصصة في الإنقاذ القتالي. والوحدة تابعة لجناح القوات الجوية الخاصة السابع الموجود في قاعدة بالماحيم، وتُعد إحدى وحدات النخبة الأربع في جيش الاحتلال الإسرائيلي.