حلم “المزرعة السعيدة”.. الحنين إلى حياة الأرياف يجتاح أوساط الشباب | أسلوب حياة
يقرر موظف مصري بسيط، في الفيلم الشهير “خرج ولم يعد” للكاتب عاصم توفيق، أنه لن يعود إلى عمله أو حياته في العاصمة مرة أخرى، وذلك عقب زيارة قصيرة إلى قرية ريفية، حيث يكتشف أنه لا ضغوط، ولا زحام، ولا تلوث، الفكرة التي قدمها الفيلم، صارت مع الوقت حلما للكثيرين ممن أصبحت الحياة البسيطة بالنسبة لهم عبارة عن مزرعة بها بقر ودجاج ومنزل صغير هادئ.
ورغم تراجع أعداد المزارعين على مستوى العالم، من 44% عام 1991 إلى 26%عام 2020، فإن حلم “المزرعة السعيدة” لا يزال يراود كثيرين، بعضهم اتخذ الخطوة فعلا رغم الصعوبات والتعقيدات التي يمكن أن تحيط بها، والبعض على قائمة انتظار طويلة واعدة.
موجة “الحنين إلى الريف” تتسع عالميا
لم يشفع لمهندس البرمجيات السابق بشركة مايكروسوفت، فنغ يوان، الذي قضى 22 عاما في الشركة العالمية، ويملك خبرة تمتد إلى 30 عاما، سيرته الذاتية الحافلة، حين قررت الشركة الاستغناء عن موظفين، فجاء اسمه على قائمة المسرحين عام 2023، لكن فنغ كان لديه خطة بديلة، نفذها فورا، ليتحول بين ليلة وضحاها من مهندس برمجيات إلى “مزارع” متخصص في العناية بـ”الأوز”، لكن الاتجاه الذي سلكه يوان وإن بدا غريبا، فإنه يمثل موجة واسعة لما يسمى بـ”الحنين إلى الريف”.
قدم فنغ، وكثيرون مثله أملا وقصصا فريدة لمن أراد إلى حياة الريف سبيلا، وعلى خطاه يسير أكثر من 456 ألف مزارع مبتدئ في الولايات المتحدة، هؤلاء الذين تعرفهم الحكومة بأنهم من يتمتعون بخبرة أقل من 10 سنوات.
عشرات القصص تحملها الصحف المحلية والعالمية لتجارب مشابهة، في مختلف القارات، فمن المواطن الفييتنامي هوانغ هيونه نغو البالغ من العمر (35 عاما) الذي ترك وظيفته في شركة للأخشاب ليصبح مزارعا شهيرا في بلاده، ينتج أنواعا بعينها من الدجاج، صارت تدر عليه دخلا وفيرا، إلى الشاب المصري أمجد رؤوف، الذي ترك عمله بالقاهرة ليؤسس مزرعة عضوية في سيناء صارت نموذجا لكثيرين.
ما الذي يدفعهم حقا إلى ذلك؟
تحلم إلهام الجمال، الكاتبة المصرية، ومؤلفة قصص الأطفال، أن تحقق ما سبق لأمجد وكثيرين مثله أن حققوه، وتصف حلمها بالمختلف، وتقول “ليست أمنية وليدة اللحظة أو تريند بسبب ضغوط الحياة، لقد عشت هذه الحياة بالفعل في طفولتي، فأنا ابنة الريف والطبيعة، اعتدت الذهاب إلى الغيط مع والدتي، وقمنا بتربية الدجاج والأرانب والبط، وأعدنا تدوير كل شيء بالبيت، فكان خير الطبيعة يعود إليها، كما كنت أجمع البيض بيدي، وأتذوق الخضار قبل أن يمر على المخازن والمحلات، لذا وعقب انتقالي إلى المدينة ومنها إلى الحياة العملية، شاهدت الفرق بعيني بين الزحام والصخب، والهدوء، وبضدها تمايزت الأشياء، صحيح أن حياتي البسيطة القديمة تبدو متعبة من دون وسائل راحة، إلا أنها بالنسبة لي كانت أفضل ورائقة أكثر”.
لا يزال حلم العودة إلى الأرياف، قائما مع إيقاف التنفيذ بالنسبة لإلهام، تقول للجزيرة نت “في دائرتي القريبة كان هذا أيضا حلم شقيقي الذي رحل قبل أشهر، خطط لشراء قطعة أرض، وعمل فرن بلدي، وغرفة لتربية الدجاج، لكن الفكرة وإن كانت قائمة وقابلة للتنفيذ، إلا أنها معطلة مؤقتا نظرا لما تتطلبه من تكلفة ضخمة ليست متوفرة معي بعد، أتمنى أن أتمكن يوما ما من تحقيق هذا الحلم”.
هل شعر المجربون بالندم؟
لم يشعر الشاب اللبناني بلال صوايا، ذو الـ33 عاما، للحظة واحدة بالندم على قراره الذي اتخذه قبل 4 سنوات. بلال، الذي درس الهندسة الداخلية، يمتلك شغفا لاستكشاف ذاته بشكل مستمر. بدأ حياته المهنية في مجالات عدة، معظمها ذات صلة بدراسته، ولكنه خاض تجارب متنوعة في مجال الطعام والحلويات، وكذلك في صناعة الأغذية، حيث عمل في قطاع الأجبان والألبان، وفي واحدة من أشهر المطاعم في لبنان.
مع الإغلاق العالمي الذي تلا جائحة كورونا (كوفيد-19)، ثم الثورة اللبنانية، بدت آمال بلال مهددة. إلا أن بلال، الذي اعتاد دائما العثور على مخرج، عاد إليه حنينه القديم نحو عالم الريف. تذكر حين دعت بلدية ضهور شوير في لبنان من لديهم أرض إلى العناية بها، يقول للجزيرة نت “مرت أيام صعبة، فقررت أن أعمل على أرض زراعية ملك لخالي الذي يقيم في الولايات المتحدة الأميركية. كان يهتم بالأرض قبل 60 عاما، لكنه تركها. قررت البدء فورا، استثمرت وزرعت وحاربت الوضع، وبدأت من 2020. في ظرف عام نجحت في ضبط الأمور داخلها، وقمت بجلب أكثر من 70 شجرة، أصبح لدي كيوي وكل أنواع الفواكه التي تنمو في الجبل، بالإضافة إلى الفواكه الأجنبية مثل الراسبيري والبلاك بيري، والبلو بويري، وأنواع عدة من العنب، فضلا عن التفاح والجوز، واللوز، والرمان، والخوخ، والكرز”.
وتابع “صرت أنتج أنواعا من العسل والمربى، وأنتج منتجات يدوية نشارك بها في المعارض، كما أنني صرت أعمل لحساب واحدة من أكبر الشركات العقارية عالميا، وهي الأولى بلبنان، إلى جانب عملي بالمزرعة، وأسعى إلى توسيع منتجات مزرعتي “خيرات عين القسيس” في “ضهور شوير”.
ما السر حقا وراء الحنين؟
في دراسة حديثة نشرتها جامعة نيو إنجلاند في أرميدال، نيو ساوث ويلز، تم استكشاف مفهوم “المدينة الريفية الشاعرية” والتوصل إلى أن الماضي يُستغل لبناء صور شاعرية للريف من خلال المباني التراثية والعناصر المادية الأخرى. هذه الصور تُستخدم كسلاح سياسي للترويج للعودة إلى حياة الريف والتسويق السياحي لتلك المناطق.
لكن هناك جوانب أخرى للحنين إلى الريف. تشير آنا طومسون هايديك، الباحثة في جامعة ويسكونسن وعضو هيئة التدريس في قسم الأدب والكتابة والسينما، إلى أن العالم يعيش دورة من الحنين إلى الريف. توضح هايديك “في الأوقات المضطربة حيث الصدمات الجماعية والكساد والأزمات، يبحث الناس عن الأمور المألوفة ويتوقون إلى الراحة. بالنسبة لقطاع كبير من الناس، تتمثل هذه الراحة في حياة الريف، التي تم تسويقها لسنوات طويلة بطريقة رومانسية، تربط بين الماضي الطيب والشعور بالأمان والانتماء، وبين الحنين إلى الريف والحياة فيه”.
من خلال هذه الدراسات، يبدو أن الحنين إلى الريف ليس مجرد رغبة فردية، بل هو ظاهرة اجتماعية تستغل لأغراض سياسية وتسويقية. الريف، برمزيته وتاريخه، يظل نقطة جذب قوية، سواء كان ذلك لأسباب سياسية أو نفسية أو اقتصادية، ويستمر في تشكيل جزء كبير من الوعي الجماعي والثقافة الشعبية.