التاريخ العنصري للطب النفسي.. كيف تمّ استخدامه لقهر ذوي البشرة السوداء؟ | سكون
“العنابر العامة كانت بالغة السوء، ولم يكن هناك سوى خمسة أطباء، أربعة منهم أجانب، لم يكن مرخصا لهم للعمل في الولايات المتحدة، وليس لديهم أوراق اعتماد كأطباء نفسيين في بلدهم الأصلي. كان الطبيب النفسي الخامس هو المسؤول، ومن الواضح أنه لم يكن على دراية بالطب النفسي الحديث، ويبدو وكأنه يدير مزرعة في إحدى الولايات الجنوبية”.
كان هذا جزءًا من التقرير الذي كتبته المفتشة مارلين روز، حينما شاركت عام 1967 في لجنة لتفتيش مرافق مستشفيات الطب النفسي، خاصة في ولايتي ألاباما وميسيسيبي، التي يتلقى الرعاية فيها ذوو البشرة السوداء الذين يُعانون من مشكلات في الصحة العقلية أو ما أصبح يُعرَف اليوم باسم الاضطرابات النفسية.
نعم، كانوا يعالجون بشكل منفصل، وفي مؤسسات لا تسمح بالاختلاط بينهم وبين السكان البيض، وذلك ضمن سياق الفصل العنصري واضطهاد السود الذي عرفته الولايات المتحدة الأميركية منذ تأسيسها، حتى عهد قريب، وقد كان وجه الطب النفسي قبيحا في تلك المسألة، وفي ذلك التوقيت.
في تاريخ تأسيس الطب النفسي عمدت العديد من التجارب والدراسات النفسية إلى تشويه وقهر ذوي البشرة السوداء، بل تورط العديد من رواد علم النفس الذين لهم إسهامات بالغة الأهمية في المجال النفسي، في دعم هذه العنصرية وتعزيز سيطرتها على عملهم العلمي والبحثي.
ومن مرافق مستشفيات الطب النفسي في ولايتي ألاباما وميسيسيبي، ننتقل إلى كلية التربية بجامعة ستانفورد، وتحديدًا في أوائل القرن العشرين، حيث يعمل لويس ماديسون تيرمان، وهو أحد أبرز علماء النفس الأميركيين، وقد اشتهر لاحقًا بأنه من رواد علم النفس التربوي، ومن إنجازاته تطوير اختبار خاص لقياس مستوى ذكاء الشخص أُطلق عليه اسم اختبار “ستانفورد بينيه للذكاء”.
كان تيرمان من العلماء البارزين الذين يدعمون فكرة “تحسين” النسل، وكان عضوًا في مؤسسة معروفة في تلك الآونة تسمى “تحسين الإنسان”، إضافة إلى شغله لمنصب رئيس جمعية “علم النفس الأميركية”.
في إطار عمله على اختبار قياس ذكاء الفرد، أطلق تيرمان العديد من المقولات، التي اعتُبرت لاحقًا، في غاية العنصرية في حق الأشخاص الملونين، من هذه المقولات قوله عن الأشخاص ذوي البشرة السوداء إن “بلادتهم فطرية” وإنه “يجب فصل أطفال هذه المجموعات (البشرية الملونة) في فصول خاصة وإعطاؤهم تعليمات ملموسة وعملية.. فهم لا يستطيعون التعامل مع الأمور المجردة”. قال تيرمان أيضًا: “من منظور تحسين النسل يُشكل “السود” مشكلة خطيرة بسبب تكاثرهم الغزير بشكل غير عادي”.
ذوو البشرة السوداء؟ “ليس من المفترض أن يمرضوا”
اعتقدت هذه المدرسة النفسية العنصرية، أن ذو البشرة السوداء، محصن ضد المرض النفسي، وأنه لا يسقط في براثن الاكتئاب أو غيره من الأعراض العصابية، ومردّ ذلك كله هو التكوين النفسي والعقلي الخاص به، أو بتعبير تيرمان بسبب “بلادته الفطرية”، على حد زعمه.
الدكتورة أوشينا أومه، طبيبة سابقة في سان أنطونيو بولاية تكساس، وهي امرأة من أصل نيجيري تعيش في الولايات المتحدة، قررت أن تترك وظيفتها عام 2018 للتركيز على المحاضرات العامة، بهدف نشر وزيادة الوعي حول الاضطرابات النفسية بين الأشخاص ذوي الأصول الأفريقية في الولايات المتحدة.
توضح الدكتورة أوشينا أنه طوال سنوات كثيرة صدّق العديد من الأشخاص السود أنه يُفترض أن لا يُعانوا من مشكلات الصحة النفسية، استنادا على ما قاله جون جالت الطبيب والمدير الطبي لمصحة الأمراض النفسية في ويليامزبرغ بفيرجينيا، وفكرته العجيبة التي نشرها عام 1848، وأوضح فيها أن الأشخاص السود يمتلكون مناعة طبيعية ضد الأمراض النفسية.
بنى جالت رأيه السابق على افتراض أن الأفارقة مستعبَدون، والعبيد لا يملكون شيئا، وليس لهم دور في الأعمال الحرة التي تقوم على المغامرة، ولا يشاركون في الشؤون المدنية والانخراط في أنشطة سياسية مثل التصويت أو شغل المناصب. وبناء على هذه الفرضية سيكون خطر الإصابة بالمشكلات النفسية أعلى لدى السكان البيض الذين يتعرضون بشكل يومي لمفاعيل الأنشطة السياسية، ومنافسات الطموح والترقي داخل مجتمعات ريادة الأعمال والتجارة، وما ينجم عن ذلك من ضغوط تصاحب المكاسب أو أزمات تعقب الخسارة.
كان صموئيل كارترايت أحد هؤلاء الأطباء الذين جادلوا بأن العبودية كانت هي “الحالة الطبيعية”، للأميركيين ذوي الأصول الأفريقية، مُضيفًا أنهم استفادوا من العمل الشاق وأنهم غير قادرين على الاعتناء بأنفسهم خارج هذا النظام. ادعى كارترايت أيضًا أن الأشخاص الملونين أظهروا بساطة “طفولية” في مشاعرهم وافتقارًا إلى العمليات العاطفية المعقدة، ورأى أن هذا الأمر هو من سمات عرقهم بأكمله.
بناء على رأي كارترايت الذي يذهب إلى أن العبودية هي الحالة “الطبيعية” للأشخاص السود، فإن الخروج عن هذه الحالة “الطبيعية” هو اضطراب عقلي. هذا بالضبط ما أوضحه كارترايت عام 1851، حيث نشر تقريرًا اخترع فيه اثنين من الاضطرابات “النفسية”، التي تتضمن أعراضها ميل “العبيد” إلى الهروب أو مقاومة العمل الشاق، وتم تصنيف هذه الاضطرابات على أنها “مرض عقلي”، وأطلق عليها “هوس الفرار/ draeptomania” و”عسر الحس الإثيوبي/ dysaesthesia aethiopica”.
استخدم مشرفو المستشفيات أفكار كارترايت لتبرير آرائهم الطبية حول عدم وجود أي علاجات طبية نفسية حقيقية للمرضى الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية، وأنهم لا يشعرون بنفس الطريقة التي يشعر بها البيض، أو أنهم غير مناسبين لأشياء مثل التحليل النفسي أو العلاج الجماعي. وهذا هو سبب فصل المرضى السود في مرافق منفصلة بالمستشفيات تتسم بكونها دون المستوى المطلوب، هذا إضافة إلى أنه كان يتم تشغيلهم في مغسلة المستشفى والمطبخ والحقول.
تقول الطبيبة الأميركية النيجيرية الأصل أوشينا أومه: “أنا وأفراد عائلتي وأصدقائي ومعارفي ومرضاي وآباؤهم وأجدادهم، جميعنا من السود، لذا فمن المفترض أننا لا ينبغي أبدًا أن نخوض صراعًا مع مشكلات الصحة النفسية. لسوء الحظ، نحن، أنفسنا، اعتنقنا هذه الرواية (رواية جالت وأمثاله)، واعتقدنا أن مشكلات الصحة النفسية غير موجودة في عرقنا، ونشرنا هذا الأمر دون وعي وهو ما أضر بنا كثيرًا”.
خلال عملها، لاحظت الدكتورة أوشينا زيادة كبيرة في الاكتئاب والتفكير في الانتحار لدى مرضاها. حيث تقول: “زادت معدلات الانتحار بين الأطفال الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و11 سنة بشكل مطرد منذ الثمانينيات، وهي الآن ضعف مثيلتها لدى نظرائهم من القوقاز. وشكل الرجال السود 80% من محاولات الانتحار بين الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية عام 2015. وهذه الأرقام آخذة في الارتفاع”.
هكذا بدأ الأمر
وحتى نتمكّن من استيعاب ممارسة العنصرية وحضورها في الطبّ النفسي بشكل تاريخي ومتسلسل، دعنا نقص عليك جذور الأمر من البداية. تحديدا فيما بين عامي 1861 و1865 وهي الحقبة الزمنية التي دارت فيها “الحرب الأهلية” بين ولايات الشمال الأميركي وولايات الجنوب، وتم فيها إضفاء الطابع المؤسسي الرسمي على مجال “علم النفس” الأميركي، حيث تم تأسيس وإنشاء البرامج والأقسام والدرجات العلمية والمجتمعات والمدارس المختصة بدراسة مجال علم النفس.
وتُعدّ هذه الحرب من أسوأ الأحداث الدموية التي تعرّض لها الاتحاد الفيدرالي الأميركي، وكان من أسبابها الرئيسية نظام “الرِّق/ العبودية”. ففي الوقت الذي أرادت فيه ولايات الشمال تضييق نطاق العبودية ووضع القوانين التي من شأنها تحقيق ذلك، كانت ولايات الجنوب تتوسع في العبودية، بل وتعتمد بشكل أساسي في نظامها الاقتصادي القائم على الزراعة بشكل كلي على سُخرَة العبيد.
حررت الحرب الأهلية ما يقرب من أربعة ملايين شخص من العبيد في جميع أنحاء الجنوب، ولم يؤد ذلك إلى مواقف طبية أكثر استنارة بشأن معاملة الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية، بل العكس تماما حيث استمر الطب النفسي في غيه العنصري.
ففي عام 1895، لاحظ الدكتور باول، وهو المشرف على مصحة جورجيا للأمراض العقلية كما كانت تُسمّى، زيادة مثيرة للقلق في إصابات الصحة العقلية بين السود في ولايته، وعلل الدكتور باول تلك الزيادة بأنها ناتجة عن ثلاثة عقود ماضية من الحرية، بعد تحرير العبيد من نير الاستعباد، حيث لم يستطع قطاع كبير منهم التكيف مع الانفتاح والنتائج التي تسببت فيها الحرب الأهلية. باول يرى فيما يبدو أن العبودية والحرية هما من أمور الفطرة والحتمية البيولوجية.
جادل باول بأنه عندما حصل العبيد السابقون على حريتهم، فقد تسبب ذلك في عدم قدرتهم على السيطرة على شهواتهم وعواطفهم، وبالتالي أدى هذا إلى حدوث بعض التجاوزات قادت بدورها إلى ارتفاع معدلات الإصابة والتشخيص بمشكلات الصحة النفسية.
بالطبع لم ير باول الحقيقة وكانت على مرمى حجر منه، لكن عنصريته حجزته عن الذهاب إلى أصل المشكلة، حيث إن سبب تزايد مشكلات الصحة النفسية بين السود يعود إلى تاريخ طويل عاشوه في ظل ظروف اجتماعية واقتصادية بالغة السوء بما في ذلك الفقر والتمييز العنصري وشبح العنف الذي رُبما كان يصل إلى حد الإعدام، لكنه اختار أيسر الطرق؛ فقال إن حصول ذوي البشرة السوداء على الحرية هو أصل مشاكلهم العقلية والنفسية.
علم نفس الاستعمار
حينما تأسست الجمعية الأميركية لعلم النفس عام 1892 كانت برئاسة غرانفيل ستانلي هول وتم انتخاب 31 عضوًا من الذكور البيض لعضويتها، في ذلك الوقت كان علم النفس الرسمي يقوده في المقام الأول البيض ويعتمد بشدة على نظرية التطور الذائعة الصيت حينها، وقدّم المجال النفسي الغربي دعمه الكامل لفكرة تفوق الرجل “الأبيض”، كنتاج من نتائجها، وسلّط كامل تركيزه على إظهار الفروق الفردية بين المجموعات العرقية المختلفة.
وفي عام 1904 قام ج. ستانلي هول، الرئيس المؤسس لجمعية علم النفس الأميركية، بنشر نظريته التي تحمل اسم “المراهقة”. وخلالها، وصف الشعوب الأولى، وهم السكان الأصليون للأميركتين قبل عصر كريستوفر كولومبس، بأنهم يعيشون في طور من “الطفولة البشرية”، وأن البالغين من أبناء هذه الشعوب أكثر شبهًا بمرحلة المراهقة لدى الأطفال أو المراهقين البيض.
طور هول “برامج حضارية” استعمارية مصممة خصيصًا لما اعتبره تلبية احتياجات الشعوب الأولى. وفرت هذه البرامج الإطار الأخلاقي الداعم للاستعمار، وكانت نتيجة ذلك التورط في إبادة ثقافية للشعوب المختلفة، وكان الهدف البراق: نحن نفعل ذلك من أجل تمدينهم وإلحاقهم بالنموذج الغربي، تحت سيادة الرجل الأبيض.
لكن بعد الحرب العالمية الأولى، حدثت حركة عكسية حيث اندفع بعض أبناء الشعوب الفقيرة إلى الولايات المتحدة وغيرها من دول الشمال الغنية، ووفدت أعداد غير مسبوقة من المهاجرين، واكبها تزايد في فيض المشاعر المناهضة للهجرة، وهنا ظهرت نظرية “تحسين النسل”، باستخدام مبادئ الوراثة. هنا واجه الأميركيون ذوو الأصول الأفريقية، الذين قيل إنهم يعانون من “قصور” عقلي، تهديدًا جديدًا أكثر خطورة على سلامتهم.
يقوم علم “تحسين النسل” على مبدأين متوازيين هما: تشجيع الولادات بين الأشخاص الذين يملكون مخزونًا وراثيًّا “جيدًا”، وتعقيم الأشخاص غير الصالحين للإنجاب بما في ذلك الأفراد الذين يعانون من مرض عقلي، وكذلك الفقراء والمتهمون بالانتهاكات الجنسية. كان التركيز على تعقيم الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية. وفي كاليفورنيا وحدها في ثلاثينيات القرن العشرين، كان الأميركيون ذوو الأصول الأفريقية الذين يمثلون 1% من السكان، قد شكلوا 4% من ضحايا التعقيم القانوني.
العديد من رواد علم النفس دافعوا عن أجندة اجتماعية ترغب في الحدّ من عدد الأطفال الذين يلدهم أشخاص مصنفون بأنهم “أقل لياقة”، وقد كان الأشخاص الملونون المصنفون بأنهم “أقل لياقة” يعتبرون أقل شأنا في المجتمع الغربي من حيث المعرفة والقانون العام.
رواد علم النفس تورطوا في “العنصرية”
السير فرانسيس جالتون، أحد قادة علم النفس الأوائل، وهو أول من صاغ مصطلح “تحسين النسل”. يعتبر جالتون من رموز “علم الأعراق”، وهو فرع من العلوم يبحث في أصول الشعوب المختلفة وخصائصها، وقد أدّت “نظرية تحسين النسل”، دورا كبيرا في دعم فكرة تمايز الأعراق، في قدراتهم الشخصية والنفسية.
اعتبر كتابه “العبقرية الوراثية”، الذي نُشر عام 1869، أول محاولة علمية لدراسة “العبقرية والعظمة”، ونظر إليه على أنه من الأدبيات المبكرة التي ساهمت في دراسة الفروق الفردية والقياسات النفسية في علم النفس الأوروبي والأمريكي، وتوصل إلى أن متوسط المستوى الفكري لـ “العرق الزنجي” هو أقل بدرجتين من الرجل الأبيض.
كان كتاب فرانسيس أحد المراجع الهامة التي تم الاستشهاد بها واستخدامها بشكل كبير من قبل الجيل الأول من علماء النفس الذين أسسوا الجمعية الأميركية لعلم النفس، وأول مجلات علم النفس المعترف بها، وبرامج البحث الأكثر تأثيرًا، فتورط العديد من الأكاديميين البارزين في إشاعة مفاهيم تتحدث عن تفوق الرجل الأبيض ليس على مستوى الذكاء فقط، بل على المستوى الأخلاقي والثقافي والنفسي.
في مجلة المراجعة النفسية، وبعد عام واحد فقط من إصدار المجلة النفسية الأميركية لأول نسخة لها، نُشرت دراسة كانت نتائجها توضح أن العينات المفحوصة مما يسمى الشعوب الأولى والسود، لديهم أحيانًا، رد فعل “أسرع” من البيض، وهو ما فسروه حينها بأنه يُشير بدرجة كبيرة إلى التسرع وتحكم الانفعال في ردودهم، بسبب ميولهم نحو العنف. جادل مؤلف الدراسة بأن الرد السريع كان مرجعه “البدائية”، وأن الذكاء الأكثر تطورًا للمشاركين البيض أدى بهم إلى تفكير أعمق ورد أبطأ.
واصل العديد من علماء النفس دعم فكرة التفوق الأبيض في كافة المنافذ العامة والأكاديمية. مثلًا في عام 1922، ألقى عالم النفس جيمس رولاند أنجيل، رئيس جامعة ييل، سلسلة من المحاضرات تصف التسلسل الهرمي للأجناس، وتتبنى تفوق الرجل الأبيض، وتناقش انخفاض مستوى الذكاء لدى ذوي البشرة السوداء.
وكذلك نشرت مجلة علم النفس المقارن، عام 1922، بحثًا يربط بين درجة “الدم الأبيض” لدى الشعوب الأولى ودرجات اختبار الذكاء الأعلى. وفي عام 1933، تم نشر المزيد من الدراسات التي تجادل بأن أطفال الشعوب الأولى يُظهرون عدم أمانة أكثر من الأطفال البيض.
رُبما يكون السؤال المنطقي هنا هو: هل تم تزييف البحوث أو النتائج التي أُجريت وقتها بهدف إثبات تفوق الرجل الأبيض على نظيره الملون؟ الإجابة: رُبما لا، لكن الدراسة ذاتها والنتائج المستخلصة منها كانت تتم من خلال عقلية تسيطر عليها فكرة تطور وتفوق الرجل الأبيض، فحتى لو جاءت البحوث والدراسات بنتائج عكسية تُفيد بأن ذوي البشرة المُلوّنة أكثر تفوقًا في جانبٍ ما، فإنه سيتم النظر إلى هذه النتيجة وصياغتها في إطار تفسيري من موقعية ومرجعية تفوّق الرجل الأبيض.
هذا ما حدث عام 1897، إذ توصلت دراسة أُجريت على الأطفال السود والبيض، إلى أن الأطفال الملونين ذاكرتهم أقوى، وأنهم يتفوقون على الأطفال البيض بشكل عام في مهمة الذاكرة.
هنا، ورغم أن نتائج الدراسة إيجابية في حق الأشخاص ذوي البشرة السوداء، فإنه قد تم صياغتها بطريقة سلبية تمامًا، فقد عزا المؤلف قوة ذاكرة الأطفال السود إلى قدرة “أدمغتهم البدائية” على التذكر أكثر من غيرهم، ووصف الأطفال السود بأنهم ناقصون في التفكير.
تحكم العنصرية في التشخيص النفسي
أدّت انحيازات الأطباء النفسيين المسبقة ضد الملونين، إلى صدور تشخيصات غير علمية ولا تلتزم المعايير المهنية المنضبطة، فقد أوضحت دراسة نُشرت عام 2023، أن هناك تباينا ملحوظا في انتشار اضطرابات طيف الفصام (رؤية شخصيات وهمية وسماع أصوات غير حقيقية) بين الأشخاص الملونين في الولايات المتحدة وكندا والأفراد البيض في هذه البلدان ذاتها. حيث يتم تشخيص السود بهذه الاضطرابات بمعدلات أعلى من المجموعات الأخرى.
العواقب المترتبة على هذا التشخيص غير الدقيق علميا، تفاقم الآثار المجتمعية العقابية مدى الحياة، بما في ذلك زيادة الوصمة الاجتماعية وانخفاض الفرص، وتدنّي الرعاية، وزيادة احتمال التجريم والتوقيف القانوني، حيث إن الصور النمطية المقترنة بالأعراض الذهانية قد تُعرض هؤلاء المرضى لخطر عنف الشرطة والوفيات المبكرة.
الجانب المؤسف هنا، أنه وفقًا لما تُظهره البيانات الجديدة فإن اختلافات معدلات التشخيص، ليس من المرجح أن تكون وراثية، بل مجتمعية في الأصل. فالإفراط في تشخيص طيف الفصام يعود بشكل كبير إلى التحيزات العنصرية لدى الأطباء.
وأوضحت الدراسة كيف أن سوء فهم العرق يربك محاولات تشخيص وعلاج اضطرابات طيف الفصام لدى الأفراد السود، إضافة إلى أن التحيزات الضمنية تمنع المرضى السود من تلقي العلاج المناسب من مُقدّمي الرعاية الصحّية النفسية من العرق الأبيض بشكل رئيسي، وهو ما وصفته الدراسة بأنه “نقص في التعاطف” لدى الأطباء مع مرضاهم.
في السياق ذاته، شككت الدكتورة أوشينا أومه، من خلال مقالها المنشور عبر موقع “blackpast”، في صحة تشخيص الأطفال المحتجزين في مرافق مستشفيات الطب النفسي واضطرابات الصحة العقلية، إذ أوضحت أنه في كثير من الأحيان، كانت سلطات اللجوء تُشيد بقدرات ومهارات هؤلاء الأطفال، وهو أمر يُثير الكثير من التساؤلات حول مدى صحة تشخيص مرضهم العقلي أصلًا.
هنا تقول أوشينا: “إذا كان هؤلاء الأشخاص من ذوي البشرة السوداء قد “فقدوا رشدهم” حقًّا، فكيف كانوا قادرين على القيام بأعمال شاقة متواصلة تتطلب مهارات خاصة، في حين كان المرضى البيض في كثير من الأحيان “أضعف” عقولًا بدرجة لا تُمكّنهم من العمل؟!”.
العلاج في مرافق بالغة السوء
يوضح التحالف الوطني للأمراض النفسية (NAMI) أن هناك تاريخًا طويلًا من التمييز والعنصرية في تاريخ الرعاية الصحية النفسية، فقد تعرض الأشخاص المصابون بمرض عقلي دائمًا للتمييز، وحرموا من المشاركة الكاملة في المجتمع، ووُصفوا بأنهم خطرون ومجرمون، وتم احتجاز العديد منهم في مؤسسات كانت أكثر شبهًا بالسجون المصممة للعقاب منها بالمستشفيات المصممة للعلاج.
وكان هذا التمييز سيئًا بالنسبة لأي شخص يعاني من مرض أو اضطراب نفسي، لكنه كان أكثر سوءًا بالنسبة للأشخاص الأكثر تهميشًا، ومنهم الرجال والنساء والأطفال الأميركيون ذوو الأصول الأفريقية، فقد كانت بعض المراكز في بعض الولايات، مثل ألاباما وميسيسيبي، تقوم بفصل المرضى على أساس عنصري، بل زعمت أنه من الضروري “طبيًّا” فصل المرضى على أسس عنصرية.
في الستينيات، حاولت سلسلة من التشريعات الفيدرالية والدعاوى القضائية إنهاء هذا التمييز. فتم إقرار قانون بناء مراكز الصحة النفسية المجتمعية (CMHA) لتحسين عملية تقديم العلاج والرعاية للأشخاص المصابين بأمراض عقلية أو ما يُعرَف اليوم بالاضطرابات النفسية. وفي عام 1964، تم إقرار قانون الحقوق المدنية الذي يتضمن بندًا مفاده أنه من غير القانوني لأي منشأة أو خدمة تتلقى أموالًا فيدرالية أن تقوم بالتمييز على أساس العرق.
حينها، كانت بعض الولايات لا تزال تنتهج سياسات الفصل العنصري في تقديم العلاج، الأمر الذي جعلها عُرضة لخطر فقدان التمويل وعدم تلقي أي دعم مادي يُمكنها من تقديم الرعاية الطبية. بدلاً من قبول هذه الأحكام وإيجاد طرق لإنهاء التمييز والفصل العنصري، اختارت ولايات منها ألاباما وميسيسيبي محاربة الحكومة الفيدرالية وإقامة دعاوى قضائية ضدها في المحكمة. وزعمت أن من حقها إدارة خدمات الدولة دون تدخل فيدرالي، وأنه من الضروري “طبيًّا” فصل المرضى على أسس عنصرية.
كما في الأبحاث والتجارب والإحصائيات، بنى الأطباء رؤيتهم لضرورة “الفصل العنصري” في تقديم العلاج على تاريخ طويل من الأفكار العنصرية في الطب النفسي. ولم يكن الدكتور جون جالت -صاحب الادّعاء المُجحِف بأنّه ليس من المفترض أن يُعاني ذوو البشرة السوداء من مشكلات الصحة العقلية أصلًا- وحده الذي تحكمت العنصرية في رأيه الطبي. فمنذ أوائل القرن التاسع عشر، جادل بعض الأطباء النفسيين بأن الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية كانوا “أدنى” درجة من الناحية البيولوجية مقارنة بباقي البشر وأعراقهم.
توضح هنا الدكتورة أوشينا ظروف العلاج الذي كان يتلقاه الأشخاص المُصابون بمشكلات الصحة النفسية من ذوي البشرة السوداء قائلة: “معظم مرافق الصحة النفسية قبل الحرب الأهلية في الجنوب عادة ما كانت تمنع المستعبَدين من العلاج”.
بدا من الواضح أن خبراء الصحة النفسية كانوا يعتقدون أن إيواء السود والبيض في نفس المرافق من شأنه أن يؤثر سلبًا في شفاء البيض. كانت ظروف السكن في المصحات الجنوبية بالنسبة للقلة التي قبلت علاج المستعبَدين سيئة للغاية مقارنةً بالمرضى البيض. وغالبًا ما كان يتم إيواء السود في الهواء الطلق بالقرب من هذه المؤسسات أو في السجون المحلية. وكانت هناك روايات عن إيواء بعض الأطفال السود في ساحات المصحات”.
“اعتذار”
أخيرًا، وبعد كل هذا التاريخ الطويل من الظلم والقهر، في مؤسّسات الرعاية النفسية والطب النفسي، لذوي البشرة السوداء، اعترفت الجمعية الأميركية للطب النفسي عام 2021، بكل ما سبق واعتذرت عنه. ففي يناير/كانون الثاني أصدرت الجمعية التي تأسست قبل 176 عامًا، أول اعتذار على الإطلاق عن ماضيها العنصري. واعترفت بما أسمته الأفعال الماضية “المروعة” من جانب المهنة، وألزمت مجلس إدارتها بتحديد وفهم وتصحيح المظالم الماضية لذوي البشرة السوداء، وتعهدت باعتماد ممارسات جديدة مناهضة للعنصرية تهدف إلى إنهاء هذا التاريخ الطويل من التمييز.
لكن، بعض النقاد رأوا أن خطوة الاعتذار هذه لم تكن كافية، وشككوا في حدوث أي خطوة إيجابية فعلية، مشيرين إلى أن الجمعية الطبية الأميركية أصدرت اعتذارًا مماثلًا عام 2008 عن تاريخها “العنصري” الممتد لأكثر من 100 عام في تعزيز أو قبول عدم المساواة العرقية سلبيًّا، واستبعاد الأطباء الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية، دون تقديم أي شيء فعلي أو واقعي بعد هذا الاعتذار.
وأوضح النقاد الذين يعملون داخل وخارج جمعية الطب النفسي الأميركية، أن الجمعية بحاجة إلى التغلب على عقبات كبيرة لإصلاح مشكلاتها ومعالجة قضاياها المتعلقة بالمساواة العرقية بشكل فعلي وواقعي، وأضافوا أنه من هذه العقبات تحيزات الجمعية التشخيصية، والنقص المستمر في الأطباء النفسيين ذوي البشرة السوداء، والهيكل المادي الذي يميل إلى استبعاد الأشخاص الذين لا يستطيعون الدفع من جيوبهم مقابل الحصول على الخدمات. وهو أمر رُبما يجعل أزمة العنصرية في الطب النفسي أكثر تجذرًا وعمقًا من أن يكون حلها مُجرد “اعتذار” و “وعد” بالإصلاح.
يؤكد هذا ما حدث في صيف عام 2020، إذ غادرت الدكتورة روث شيم، مديرة الطب النفسي الثقافي وأستاذة الطب النفسي السريري بجامعة كاليفورنيا في ديفيس، جمعية الطب النفسي الأميركية، موضحة سبب مغادرتها بلهجة تعبّر عن استيائها وإحباطها وبتصريحها الهامّ بأنّ “العنصرية المؤسساتية تمثل أزمة وجودية في الطب النفسي”.