رحلة في عقل الرئيس الصيني.. إستراتيجية شي جين بينغ لتغيير العالم | سياسة
مقدمة الترجمة
في عالم بدأ اسم الصين فيه يتردد كثيرا كمنافس رئيسي على زعامة النظام الدولي، اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، تزايد اهتمام الصحف والمجلات الغربية بهذا البلد في محاولة لفهم محركاتها وتوجهاتها على المستويات كافة.
وفي هذا الإطار، تأتي المادة المترجمة من مجلة فورين أفيرز لتقدم وجهة نظر غربية عن الصين، عبر النظر في المنطلقات الفكرية التي تشكل تصور رئيسها شي جين بينغ عن العالم، وكيف تؤثر هذه التصورات والمبادئ على الطريقة التي تعمل فيها الصين داخليا وخارجيا. ويحاول الكاتب في هذه المادة أن يفحص فكر الرئيس الصيني، وينبه السياسيين الأميركيين إلى أهمية النظر والتدقيق في فكر “شي” كمحاولة لصناعة أرضية فهم أكثر دقة تخدم المعارف والسياسة الأميركية.
نص الترجمة
لم يبخل علينا العالم الغربي في عصر ما بعد الحرب الباردة بنظرياته الكُبرى عن التاريخ والعلاقات الدولية. لربما تغيَّرت الظروف وتغيَّر اللاعبون منذ الحرب الباردة، لكن الدراما الجيوسياسية العالمية لا تزال باقية، إذ تتنافس نظريتا الواقعية والليبرالية في العلاقات الدولية من أجل تفسير سلوك الدول وتوقُّعه، ويتجادل الأساتذة حول ما إن كُنا نشهد نهاية التاريخ أم صراعَ حضارات أم شيئا مختلفا بالكُليَّة. وليست مفاجأة أن السؤال الذي يغوي الجميع بالتحليل هو صعود الصين تحت قيادة الرئيس “شي جين بينغ”، والتحدي الذي تُشكِّله بلاده للقوة الأميركية. بينما نفَّذ شي مناورته السياسية من أجل ترسيخ سلطته أثناء المؤتمر الوطني العام العشرين للحزب الشيوعي الصيني (في أكتوبر/تشرين الأول 2022)، ونجح في تأمين فترة رئاسية ثالثة غير مسبوقة (منذ وفاة الزعيم الصيني “ماو تسي تونغ”)، سعى المُحللون الغربيون حثيثا لأجل فهم الرؤية التي تُحرِّك الرجل وطموحاته من أجل الصين.
ومع ذلك، غاب إلى حد كبير عن تلك المساعي الغربية لفهم الرئيس الصيني نوعٌ مهم من الأدبيات، وهي الماركسية-اللينينية (نسبة إلى كارل ماركس وفلاديمير لينين). ويبدو ذلك غريبا لأن الماركسية-اللينينية هي الأيديولوجيا الرسمية في الصين منذ عام 1949، إلا أن تجاهلها مُتفهَّم بالنظر إلى أن مفكري الغرب اعتادوا منذ وقت طويل النظر إلى الشيوعية بوصفها أيديولوجيا مَيِّتة واقعيًّا، حتى في الصين. وكيف لا وقد نحَّى “دِنغ شياوبينغ”، زعيم الحزب الشيوعي السابق، العقيدة الماركسية اللينينية لسلفه ماو في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وانحاز إلى ضرب من ضروب رأسمالية الدولة.
لقد لخَّص دِنغ أفكاره حول هذه المسألة بصراحة لافتة أمام الحاضرين في مؤتمر كبير للحزب الشيوعي الصيني عام 1981 قائلا: “دعونا نتخلَّص من النظرية والتنظير”. وبعدئذ سار على دربه الرئيسان “جيانغ زَمين” و”هو جينتاو” اللذان خلفاه في المنصب، حيث وسَّع الرجلان بسرعة من دور السوق في الاقتصاد المحلي الصيني، وتبنَّى كلاهما سياسة خارجية عظَّمت مشاركة الصين في النظام الاقتصادي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة.
لقد كتب شي نهاية مفاجئة لهذا النمط من الحُكم البراغماتي غير الأيديولوجي، واستبدل به شكلا جديدا من الوطنية الماركسية التي ترسم اليوم مضمون وملامح سياسة الصين واقتصادها وسياستها الخارجية. ولا يبني شي محض قلعة نظرية في الهواء من أجل تسويغ القرارات التي يتخذها الحزب الشيوعي الصيني لاعتبارات أخرى أكثر عملية، بل إن الأيديولوجيا في عصر شي هي التي تقود السياسات وليس العكس.
لقد دفع شي بالسياسة نحو اليسار اللينيني، وبالاقتصاد نحو اليسار الماركسي، وبالسياسة الخارجية نحو اليمين القومي، وأعاد التأكيد على نفوذ الحزب الشيوعي الصيني وسيطرته على كل مجالات السياسات العامة والحياة الخاصة، وبثَّ الحياة في الشركات المملوكة للدولة، ووضع قيودا جديدة على القطاع الخاص. وبالتزامن مع ذلك، أذكى شي القومية بانتهاج سياسة خارجية أشد حزما، يدعمها إيمان ماركسي بأن التاريخ منحاز إلى الصين بشكل لا رجعة فيه، وأن عالما مُرتكِزا إلى القوة الصينية يُفضي إلى نظام دولي أكثر عدلا. باختصار، ودون ذرة مبالغة، يُمثِّل صعود شي عودة الإنسان الأيديولوجي.
إن هذه التحوُّلات الأيديولوجية ليست مجرد عودة إلى عصر ماو، إذ أن رؤية شي أكثر تعقيدا من رؤية ماو، فهي تمزج الأيديولوجيا العقائدية القُح بالبراغماتية التكنوقراطية. لعل تصريحات شي عن التاريخ والقوة والعدالة تثير لدى المستمع الغربي شعورا بكونها غير ذات أهمية أو تأثير، ولكن الغرب يُلقي بنفسه في التهلكة إنْ تجاهل رسائل شي الأيديولوجية. فمهما كانت درجة التجريد والغرابة في أفكار الرجل، إلا إنها ذات أثر هائل على مضمون السياسة والدبلوماسية الصينية في أرض الواقع، وبالتبعية على بقية العالم ما دام صعود الصين مُستمرا.
رجل الحزب
“إن العدالة في صف الحزب الشيوعي الصيني”.
شي جين بينغ
مثله مثل كل الماركسيين اللينينيين، يبني شي فكره استنادا على المادية التاريخية (وهي رؤية للتاريخ تُركِّز على حتمية التقدُّم من خلال الصراع الطبقي المستمر) والمادية الجدلية (وهي رؤية للسياسة تُركِّز على طبيعة التغيُّر حين تصطدم قوى عديدة ببعضها حتى تظهر تسوية من ثنايا صراعها). في كتاباته المنشورة، يُطبِّق شي المادية التاريخية كي يصنع للثورة الصينية موقعا من التاريخ العالمي، وذلك في سياق تتحرَّك فيه الصين نحو مرحلة متطورة من الاشتراكية بالتزامن مع تدهور النُظُم الرأسمالية. وعبر منظور مادي جدلي، يُظهِر شي أجندته بوصفها خطوة إلى الأمام في صراع محموم بين الحزب الشيوعي الصيني مع خصومه الرجعيين داخل الصين (وهم القطاع الخاص المُغتَر بنفسه، والمنظمات المدنية المتأثرة بالغرب، والحركات الدينية) وخارج الصين (مُمثلا في الولايات المتحدة وحلفائها).
تبدو تلك المفاهيم غامضة ومُبهَمة لمن هُم خارج الصين، إلا أن نُخَب الحزب الشيوعي وكبار المسؤولين الصينيين يأخذونها على محمل الجد، وكذلك أساتذة العلاقات الدولية الذي يقدمون مشورتهم للحكومة الصينية. إن كتابات شي النظرية المنشورة أوسع نطاقا بكثير من كتابات أي زعيم صيني منذ مؤسس الجمهورية ماو، وفي الوقت نفسه، يعتمد الحزب الشيوعي الصيني على نوعية المشورة الإستراتيجية والاقتصادية التي عادة ما تُوجِّه النظم السياسية الغربية. ولكن في داخل النظام الصيني، لا تزال الماركسية-اللينينية هي المنبع الرئيس لرؤية تضع الصين في كفة التاريخ الراجحة، وتُظهِر الولايات المتحدة بوصفها بلدا يصارع سكرات الموت الحتمي لنظامه الرأسمالي، ويُستنزَف بسبب تناقضاته السياسية الداخلية، ومن ثمَّ يتجه إلى السقوط لا محالة. وهذه -في نظر شي- هي النهاية الحقيقية للتاريخ.
بعد خمسة أشهر فحسب على تعيينه أمينا عاما للحزب الشيوعي، ألقى شي خطابا أمام المؤتمر المركزي للأيديولوجيا والدعاية عام 2013، وهو تجمُّع لكبار قادة الحزب في بكين. ولم يُنشَر محتوى الخطاب في حينه، لكنه سُرِّب بعد ثلاثة أشهر ونشرته صحيفة “تشاينا ديجيتال تايمز”. ويقدم لنا الخطاب صورة ناصعة لمعتقدات شي السياسية الدفينة، حيث يستغرق الرجل في الحديث عن مخاطر التدهور الأيديولوجي الذي أدى إلى انهيار الشيوعية السوفيتية، ودور الغرب في إذكاء الانقسامات الأيديولوجية داخل الصين.
“إن تفكُّك أي نظام سياسي يبدأ عادة من الأيديولوجيا. ويُمكن للاضطراب السياسي وتغيُّر النظام أن يحدث في يوم وليلة، لكن التطوُّر الأيديولوجي عملية طويلة الأمد، فما إن تُخترَق المتاريس الأيديولوجية حتى تتهاوى بقية الدفاعات”، هكذا تحدَّث شي مُحذِّرا مُستمعيه، ومُطمئنا إياهم في الوقت ذاته إلى أن “العدالة في صفِّ الحزب الشيوعي الصيني”، قبل أن يحُثَّهم على ألا “يتراجعوا أو يخجلوا، وأن يتكلموا دون مواربة” في التعامل مع الدول الغربية، التي يكمُن هدفها على حد وصفه في “منافستنا في ساحات المعارك من أجل الظفر بقلوب الناس والجماهير، ثم إسقاط قيادة الحزب الشيوعي الصيني والنظام الاشتراكي في الصين”.
يعني ذلك قمع أي شخص “يُبدي الاحتجاج أو الانشقاق” ووجوب أن يُظهِر أعضاء الحزب الشيوعي ولاء، لا للحزب فحسب، بل وللرئيس شي شخصيا. ثم أعقب شي كلماته بالحديث عن “تطهير” داخلي في الحزب الحاكم يتضمن طرد أي عضو تظهر عليه بوادر معارضة مؤسسية أو سياسية، وذلك عن طريق حملة لمكافحة الفساد تمتد لسنوات، وهي حملة كانت قد بدأت بالفعل قبل خطاب شي آنذاك، وتبعتها “حملة تصحيح” تضمنَّت إقصاء بعض الوجوه في صفوف الجهاز القانوني والسياسي للحزب الشيوعي.
وقد أكَّد شي أيضا سيطرة الحزب على جيش التحرير الشعبي، والشرطة الشعبية المُسلحة، وجهاز الرقابة والأمن السيبراني المركزي الصيني. وأخيرا، طرح شي عام 2019 حملة تثقيفية داخل الحزب عنوانها “لا تنسَ هدف الحزب الأصلي، وأبقِ المهمة في ذهِنك”. ووفقا للوثيقة الرسمية التي أعلنت المبادرة، كان الهدف منها أن “يتحصَّل أعضاء الحزب على تعليم نظري، وأن يُصبَغوا بصبغة الحزب الأيديولوجية والسياسية”. بدا واضحا بحلول نهاية فترته الرئاسية الأولى أن ما يريده شي ليس أقل من تحويل الحزب الشيوعي الصيني إلى كنيسة عُليا لعقيدة علمانية مُتجدِّدة.
الماركسية العُليا
على النقيض من تلك التحرُّكات السريعة والمباشرة نحو الانضباط اللينيني في السياسة الداخلية، تبلور التحوُّل نحو الماركسية التقليدية في السياسة الاقتصادية تحت حُكم شي بشكل أكثر تدرُّجا. لطالما كانت الإدارة الاقتصادية من اختصاص التكنوقراطيين الذين يخدمون في مجلس الدولة والحكومة الإدارية في الصين، كما أن اهتمامات شي الشخصية وقعت ضمن تاريخ الحزب والأيديولوجيا السياسية والإستراتيجيات الكُبرى، أكثر منها في تفاصيل الإدارة الاقتصادية والمالية.
ولكن بينما تزايدت سيطرة جهاز الحزب على الملفات الاقتصادية للدولة، فإن السجالات بشأن السياسات الصينية والدور النسبي للدولة والسوق باتت أيديولوجية أكثر من ذي قبل. يُضاف إلى ذلك أن شي فقد ثقته في اقتصاديات السوق بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، وأزمة الصين المالية الداخلية عام 2015، التي أشعلها انفجار فقاعة سوق العقارات، وأفضت إلى انهيار حوالي 50% من قيمة الأسهم الصينية قبل أن تستقر الأسواق في الأخير عام 2016.
ولذا فإن مسار السياسات الاقتصادية الصينية تحت رئاسة شي، من الإجماع على إصلاحات السوق إلى تبني زيادة تدخُّل الدولة والحزب، أخذ يتبلور بشكل متفاوِت، ومُتنازَع حوله، ومتناقِض في بعض الأحيان. فقبل أقل من ستة أشهر من خطاب شي المذكور سابقا عن الأيديولوجيا والدعاية عام 2013، تبنَّت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي (وتضم بضع مئات من قيادات الحزب العُليا) وثيقة إصلاحية لافتة بخصوص الاقتصاد، وكان عنوانها العجيب هو “القرار”.
وقد أوضحت الوثيقة سلسلة من الإجراءات المتعلقة بالسياسات تتيح للسوق أن يلعب “الدور الحاسم” في توزيع الموارد داخل الاقتصاد. غير أن تنفيذ الخطة تباطأ حتى توقف عام 2015، بالتزامن مع حصول الشركات المملوكة للدولة على تريليونات الدولارات في صورة استثمارات من “صناديق توجيه الصناعة” بين عامي 2015 و2021، وهو تدفق نقدي هائل من الدعم الحكومي أعاد الدولة الصينية إلى قلب السياسات الاقتصادية.
أعلن شي في المؤتمر العام التاسع عشر للحزب الشيوعي عام 2017 أن الحزب سيمضي إلى الأمام، وأن التحدي الأيديولوجي الأساسي أمامه هو تصحيح “التنمية غير المناسبة وغير المتوازنة” التي وُلِدَت أثناء فترة “الإصلاح والانفتاح” بعد تغيير السياسات الذي دشَّنه دِنغ في نهاية السبعينيات. وفي خطاب لم يلق الانتباه الكافي، ونشرته دورية الحزب الأيديولوجية عام 2021، تحدَّى شي فعليًّا تعريف دِنغ لما أسماه “المرحلة الابتدائية من الاشتراكية”، وكان اعتقاد دِنغ هو أن الصين تحتاج إلى تحمُّل انعدام المساواة لفترة طويلة قبل أن تحقق الرفاهة للجميع. وعوضا عن ذلك، أعلن شي انتقالا أسرع إلى مرحلة أعلى من الاشتراكية، وقال إنه “بفضل عقود من العمل الدؤوب، فإنها مرحلة تؤسس لنقطة انطلاق جديدة للصينيين”.
رفض شي إذن نهج دِنغ المُتدرِّج، ورفض فكرة أن الصين محكوم عليها بأن تواجه مستقبلا ضبابيا عِماده التنمية المنقوصة وانعدام المساواة بين الطبقات. فعن طريق الالتزام الجاد بالمبادئ الماركسية، تعهَّد شي بأن الصين يمكن أن تحقق المجد الوطني والمساواة الاقتصادية الأكبر في مستقبل ليس ببعيد. ويتحقق ذلك بالاعتماد على لجان الحزب وزيادة نفوذها على الشركات الخاصة، بحيث تلعب دورا أكبر في اختيار الإدارات العُليا للشركات واتخاذ القرارات المصيرية لمجالس الإدارات. وبينما تشرع الدولة الصينية في الاستحواذ على أسهم في الشركات الخاصة، فإنها تُشجِّع أيضا رواد الأعمال الناجحين على الاستثمار في الشركات المملوكة للدولة، مازجة بين الدولة والسوق أكثر وأكثر.
من جهتهم، سيتعيَّن على مسؤولي التخطيط الاقتصادي في الحزب الشيوعي الصيني أن يُصمِّموا “اقتصادا مُزدوَج الدماء”، تصبح الصين بموجبه مكتفية ذاتيا في معظم القطاعات الاقتصادية، في حين تصبح اقتصادات العالم أكثر اعتمادا على الصين. وقد أرسى شي نهجا لحل مسألة التفاوت في توزيع الدخول عام 2020 عُرف باسم “أجندة الرخاء المشترك”، بموجبها يصبح لزاما على الأغنياء أن يعيدوا توزيع أموالهم “طواعية” لصالح برامج مدعومة حكوميا من أجل تقليص تفاوت الدخول. بحلول نهاية عام 2021، بدا جليا أن عصر “الإصلاح والانفتاح” الذي دشَّنه دِنغ شارف على الانتهاء، وحلَّت بدلا منه عقيدة اقتصادية جديدة مرتكزة للدولة.
أهمية التاريـخ
“نسيان التاريخ خيانة، فهو موجود في الحقيقة موضوعيًّا، وهو خير كتاب”.
شي جين بينغ
صاحبت قفزة شي نحو السياسة اللينينية والاقتصاديات الماركسية تبنِّيه لنسخة أكثر شراسة من القومية، وتعزيز حضور الصين في الخارج بديلا عن الحذر التقليدي وتجنُّب المخاطر الذي انتهجته الصين في السابق وكان عِماد السياسة الخارجية أثناء عصر دِنغ. وقد ظهر تقدير شي لأهمية القومية في وقت مُبكر من مسيرته السياسية، حيث قال في خطاب له عام 2013: “في الغرب، هناك من يقول إن الصين يجب أن تُغيِّر الدعاية التاريخية خاصتها، وألا تنتج دعاية من الأصل عن تاريخ المهانة الوطنية فيها. ولكنني أرى أننا لا يجب أن ننصاع لهذا المطلب، فنسيان التاريخ خيانة. والتاريخ موجود في الحقيقة موضوعيًّا، وهو خير كتاب، والأمة التي لا ذاكرة تاريخية لها لا مستقبل لها”.
بعد تعيين شي أمينا عاما للحزب الشيوعي عام 2012 مباشرة، أخذ الرجل اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب، المُعيَّنة حديثا حينئذ، في جولة لتفقُّد معرض “الطريق إلى الإحياء” بمتحف الصين الوطني، وهو معرض لتوثيق غدر القوى الإمبريالية الغربية واليابان (أثناء استعمارهم الصين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين)*، والرد البطولي للحزب الشيوعي الصيني أثناء هذه الفترة، التي يُسميها الحزب “قرن المهانة الوطنية” (The Century of National Humiliation).
على مدار العقد الماضي، بات مفهوم “الإحياء العظيم للشعب الصيني” في القلب من رؤية شي القومية، ويتلخَّص هدف الرجل في أن تصبح الصين القوة العالمية والآسيوية الأولى بحلول عام 2049 (بالتزامن مع حلول الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية)*. وقد حدَّد شي منذ سبع سنوات عددا من المؤشرات الكمِّيَّة التي يجب أن تصل إليها بلاده بحلول عام 2035 في الطريق إلى تحقيق هدفها النهائي، ومنها أن تصبح “اقتصادا متقدما من المستوى المتوسط” (Medium-level Developed Economy)، وأن تكون قد “استكملت تحديث الدفاع الوطني والقوات المسلحة”. ومن أجل تعريف رؤيته وصياغتها، طرح شي عددا من المفاهيم الأيديولوجية لاعتماد نهج شامل يجعل الصين قوة جديدة أكثر حزما وتأكيدا على حضورها.
أول هذه المفاهيم هو “القوة الوطنية الشاملة” (Zonghe Guoli)، الذي يستخدمه الحزب الشيوعي الصيني لخلق مؤشرات كمِّية لقوة الصين العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية مُجتَمِعة ونفوذ سياستها الخارجية. ورغم أن المفهوم استُخدِم من قِبَل أسلاف شي، فإن شي كان حاسما بما يكفي للقول بأن قوة الصين نَمَت نُموًّا سريعا إلى درجة وصلت معها البلاد إلى “الصفوف الأولى لقيادة العالم”. وقد أكَّد شي أيضا على التحوُّلات السريعة في “موازين القوى الدولية” (Guoji Liliang Duibi)، وهو مفهوم يشير إلى المقارنات التي يستخدمها الحزب الشيوعي لقياس تقدُّم الصين في اللحاق بالولايات المتحدة وحلفائها.
علاوة على ذلك، يتضمَّن خطاب الحزب الشيوعي إشارات “للتعددية القطبية”(Duojihua) المتنامية في النظام الدولي، مع تنامي القوة الصينية بشكل لا رجعة فيه. وأخيرا، أعاد شي استدعاء حكمة من حِكم ماو القديمة عن “صعود الشرق وأفول الغرب” (Dongsheng Xijiang)، وطوَّعها كي تشير إلى تجاوز الصين للولايات المتحدة.
لقد ظهر مديح شي العلني لقوة الصين الوطنية الصاعدة بصورة أوضح وأوسع مقارنة بسابقيه. ففي عام 2013، ألغى الحزب الشيوعي رسميًّا عقيدة “الإرشاد الدبلوماسي” التقليدية، التي ابتكرها دِنغ وتعود إلى عام 1992، والتي نصَّت على أن الصين يجب أن “تُخفي قوتها ولا تتعجَّل ولا تُمسِك زمام القيادة”. وقد استخدم شي تقرير المؤتمر العام للحزب عام 2017 لتوصيف كيف روَّجت الصين “لقوتها الوطنية الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والعسكرية والشاملة”، إلى حد باتت معه في مصاف قادة العالم، وأنه نتيجة قفزة غير مسبوقة في مكانة الصين الدولية، فإن “الشعب الصيني، وبوضعية جديدة كُليًّا، يقف الآن شامخا في الشرق”.
النظـرية والتطبيـق
إن أكثر ما يشغل المتابعين القلقين لصعود الصين هو الكيفية التي تُرجِمَت بها تلك الديباجات الأيديولوجية إلى ممارسة عملية، فتصريحات شي العقائدية ليست نظرية فحسب، بل تنفيذية أيضا، وقد مهَّدت الطريق لطيف واسع من خطوات السياسة الخارجية التي اتخذتها الصين ولم يكُن يتخيَّلها أحد تحت حُكم أسلاف شي. لقد عكفت الصين على سلسلة من عمليات الاستصلاح البحري للأراضي في بحر جنوب الصين (وهو استرداد أراضي مغمورة بالماء أو ردم جزء منها ثم ادعاء السيادة عليها)*، ثم حوَّلتها إلى حاميات خاصة بها، مُتجاهِلة ضمانات رسمية قدمتها في السابق بأنها لن تفعل.
ويُضاف إلى ذلك ما أجرته البلاد بقيادة شي من ضربات صاروخية بالذخيرة الحية حول الساحل التايواني على نطاق واسع، في محاكاة لعملية فرض حصار بحري وجوي على الجزيرة، وهي خطوة نأى عنها النظام الصيني في السابق رُغم قدرته على القيام بها. كما فاقم شي من صراعات الصين الحدودية مع الهند عبر المواجهات المتكررة على الحدود معها، وكذلك عبر تدشين طُرُق ومطارات جديدة، وغيرها من البنى التحتية ذات الاستخدامات العسكرية قرب الحدود الهندية. وأخيرا، تبنَّت الصين سياسة اقتصادية وتجارية جديدة تمارس فيها الإكراه بحق الدول التي تسيء إلى بكين وتقف عُرضة للضغط الصيني.
وقد أصبحت الصين أكثر شراسة بكثير في ملاحقة نُقَّادِها في الخارج، حيث أعلنت بكين في يوليو/تموز 2021 عقوبات اقتصادية للمرة الأولى ضد أشخاص ومؤسسات في الغرب تجرَّأت على انتقاد الصين. وأتت العقوبات متسقة مع مبدأ “دبلوماسية الذئب المُحارب”، وهو مبدأ يُشجِّع الدبلوماسيين الصينيين على مهاجمة الحكومات المضيفة بصورة علنية ومتكررة، ويُعَد نقلة جذرية في الممارسة الدبلوماسية الصينية لم نشهدها منذ 35 عاما.
بموجب معتقدات شي الأيديولوجية، باتت الصين ملتزمة بهدف بناء نظام دولي أكثر عدلا وإنصافا على حد وصفه، وهو نظام يرتكز على القوة الصينية بدلا من الأميركية، ويعكس قِيَم أكثر اتساقا مع القِيَم الماركسية-اللينينية. ولذا، دفعت بكين من أجل إزالة أي إشارة إلى حقوق الإنسان العالمية في قرارات الأمم المتحدة، ودشَّنت عددا من المؤسسات الدولية ذات الارتكاز الصيني، مثل مبادرة الحزام والطريق، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، ومنظمة شانغهاي للتعاون، وذلك لمنافسة المؤسسات ذات الهيمنة الغربية، واستبدالها في نهاية المطاف.
إن السعي الماركسي-اللينيني لعالم “أكثر عدلا” يرسم ملامح ترويج الصين لنموذج التنمية الوطني خاصتها في دول الجنوب العالمي بوصفه بديلا عن “إجماع واشنطن” الذي يحُث على تبني الحكم الديمقراطي والأسواق الحُرَّة. وقد قدَّمت الصين إمدادات جاهزة من تقنيات الرقابة ودورات التدريب الشُرَطية والتعاون الاستخباراتي لدول شتى، مثل الإكوادور وأوزبكستان وزِمبابوي، والتي تجاوزت نموذج الديمقراطية الليبرالية الغربي الكلاسيكي.
لقد ظهرت بوادر تلك التحوُّلات في السياسات الأمنية والخارجية الصينية بجلاء من ثنايا تحوُّلات مُبكرة في الخط الأيديولوجي لشي جين بينغ. فعن طريق استخدام ما يراه المُتلقي الغربي مُبهَما ومحضَ هُراء نظري، استطاع شي أن يُرسل إلى حزبه رسالة لا لَبس فيها مفادها أن الصين أقوى بكثير مما كانت عليه في أي وقت مضى، وأنه ينتوي استخدام تلك القوة لتغيير مجرى التاريخ.
لا نصـر دون قتـال
“الشعب الصيني يقف الآن شامخا في الشرق”.
شي جين بينغ
يبلغ شي من العمر 70 عاما، ولا يبدو أنه عازم على التقاعد. وبوصفه ممارسا وتلميذا قديما للسياسة الصينية، فإنه يعلم تمام العِلم أنه إن ترك منصبه، سيكون عُرضة هو وأسرته للملاحقة ممن يخلفه في رئاسة الصين. ولذلك يُرجَّح أن يستمر الرجل في قيادة بلده حتى وفاته، رُغم أن مناصبه الرسمية قد تتغيَّر مع الوقت. وبالنظر إلى أن أمه تبلغ من العمر 96 عاما، وأن أباه عاش حتى بلغ 89 عاما، فإن عمرهما الطويل إن دلَّ على شيء، فإنما يدل على أن الرجل يُنتظر أن يبقى قائد الصين الأعلى حتى نهاية ثلاثينيات القرن الحالي.
ويواجه شي مخاطر ونقاط ضعف سياسية قليلة. صحيح أن عناصر من المجتمع الصيني يُمكِن أن تُبد انزعاجها من الجهاز القمعي الذي بناه وتتزايد قمعيته يوما بعد يوم، ولكن تقنيات الرقابة الحالية تُمكِّن شي من السيطرة على الاحتجاج بطُرُق لم يكن ليتخيَّلها ماو أو الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين.
ويُعبِّر شي عن ثقة متزايدة في “الجيل القومي” الصاعد في الصين، لا سيَّما النُخَب التي تلقت تعليمها داخل الصين لا خارجها، وشبَّت عن الطوق تحت قيادته وليس تحت حكم النظم الأكثر ليبرالية لمن سبقوه، وترى في نفسها حامي حمى ثورة شي السياسية. وسيكون من الحماقة بمكان أن نفترض بأن رؤية شي الماركسية-اللينينية ستتحطَّم تحت وطأة تناقضاتها الداخلية على المدى القريب، فالتغيير السياسي إن أتى إلى الصين يوما ما، سيصل إليها على الأرجح بعد وفاة شي وليس قبل ذلك.
بيد أن شي ليس في وضع آمن تماما، وقد يكون الاقتصاد ثغرته ونقطة ضعفه الأبرز. إن رؤية شي الماركسية لتوسيع سيطرة الحزب على القطاع الخاص، والدور المتنامي للشركات المملوكة للدولة والسياسة الصناعية، والبحث عن “رخاء مُشترك” عن طريق إعادة توزيع الثروات، كل ذلك سيؤدي إلى انكماش النمو الاقتصادي بمرور الوقت، لأن تراجع ثقة رجال الأعمال سيؤدي إلى تقلُّص الاستثمار في رأس المال الثابت الخاص ردا على تزايد المخاطر السياسية والتنظيمية، فما تمنحه الدول لهؤلاء يمكن أن تسحبه بسهولة في نهاية المطاف. وينطبق ذلك بالتحديد على قطاعات التكنولوجيا والعقارات والتمويل، التي كانت مُحرك النمو المحلي الأساسي في الصين طيلة العقديْن الماضيَّيْن. أضِف لذلك أن جاذبية الصين للمستثمرين الأجانب قد تراجعت بسبب اضطراب سلاسل الإمداد وتأثير التوجُّهات الاقتصادية الجديدة القائمة على الاكتفاء الذاتي والقومية.
لقد أثارت حملة مكافحة الفساد الفزغ في صفوف نخبة رجال الأعمال داخل الصين، وكذلك الطبيعة الاعتباطية للنظام القضائي الخاضع لسيطرة الحزب، والعدد المتزايد من رُوَّاد قطاع التكنولوجيا الذي أفل نجمه بسبب توتر علاقاته السياسية بالنظام الحاكم. وعلاوة على نقاط الضعف هذه، ثمَّة أنماط بنيوية بعيدة المدى تؤثر على الصين، مثل تعدادها السكاني الذي يتزايد متوسِّط أعماره بسرعة، وحجم القوى العاملة المُنكمِش، ونمو الإنتاجية المنخفض، والمستويات المرتفعة من الديون التي تشترك فيها الدولة مع المؤسسات المالية الخاصة.
وبينما استطاع الحزب الشيوعي في يوم من الأيام بأن يتوقَّع متوسط نمو سنوي يتحرك حول 6% حتى نهاية عشرينيات القرن الجاري قبل أن يتباطأ إلى 4% طيلة الثلاثينيات، فإن بعض المحللين قَلِق الآن حيال غياب أي آلية لتصحيح أخطاء المسار الحالي، وما يستتبعه من اتجاه الاقتصاد إلى الركود في وقت قريب بنمو يبلغ 3% تقريبا في العشرينيات، يقِل بعدها إلى 2% في الثلاثينيات.
نتيجة لذلك، قد تدخل الصين في ثلاثينيات القرن الجاري وهي عالقة فيما يُسمَّى بـ”فخ الدخل المتوسط” (Middle-Income Trap)، مع اقتصاد أصغر أو أكبر قليلا من اقتصاد الولايات المتحدة، وهي نتيجة لها آثار جسيمة بالنسبة لقادة الصين. إذا ما تداعت معدلات التوظيف ونمو الدخول، فإن ميزانية الصين ستعاني ضغوطا كبيرة تُجبر الحزب الشيوعي على الاختيار بين تقديم الرعاية الصحية والاهتمام بكبار السن وصرف المعاشات المُستحَقة من جهة، وبين مواصلة السعي من أجل أهداف الأمن القومي والسياسات الصناعية ومبادرة الحزام والطريق من جهة أخرى.
وفي غضون ذلك، فإن ثقل الصين وقدرتها على جذب بقية الاقتصاد العالمي سيصبح محل شك وتساؤل، ولذا فإن السجال حول ما إن كان العالم قد شهد بالفعل “ذروة الصين” لا يزال في بدايته، أما مصير نمو الصين على المدى البعيد فأمر لا يمكن البتُّ فيه اليوم.
الصـراع والأيـديـولـوجيـــا
إن قومية شي الشيوعية خطة أيديولوجية للمستقبل، وهي حقيقة الصين الغائبة عن كثيرين رُغم كونها على مرأى ومسمع الجميع، والحزب الشيوعي تحت قيادة شي يُقيِّم الظروف الدولية من خلال التحليل الجدلي، وهو لا يفعل ذلك بطُرُق مفهومة بالضرورة بالنسبة لمن هم خارج الصين. على سبيل المثال، يرى شي في المؤسسات الغربية الجديدة التي تأسست لموازنة الصين، مثل الرُباعية “Quad” (وهو اتفاق تعاون إستراتيجي بين أستراليا والهند والولايات المتحدة واليابان)، وأوكوس “AUKUS” (وهو اتفاق دفاع مشترك بين أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة)؛ يرى فيها عدوانية إستراتيجية واتجاه أيديولوجي يُمكِن توقُّعه، ومن ثمَّ يحتاج من بكين إلى أشكال جديدة من الكِفاح السياسي والأيديولوجي والعسكري لمجابهته. ووفقا لرؤيته الماركسية-اللينينية، فإن انتصار الصين النهائي مضمون لأن القوى العميقة للحتمية التاريخية في صف الحزب الشيوعي الصيني، في حين يعاني الغرب من تدهور بنيوي. وستؤثر تلك الرؤية لا محالة على احتمالية نشوب صراع في آسيا.
منذ عام 2002 ولغة الحزب الشيوعي حول إيمانه بأن الحرب غير مُرجَّحة تظهر في الشعار الرسمي الذي يقول إن “الصين لم تزل تتمتَّع بفترة فرصة إستراتيجية”، وهو شعار أُريد له آنذاك التعبير عن أن خطر اندلاع صراع (غربي) مع الصين ضئيل في المستقبل القريب، ولذا بوسعها أن تسعى لتحقيق مكتسبات على مستوى الاقتصاد والسياسة الخارجية بينما تنشغل الولايات المتحدة في أماكن أخرى من العالم، وبخاصة في الشرق الأوسط الكبير (وكانت الولايات المتحدة حينها في ذروة انشغالها بحربيْ أفغانستان والعراق بعد غزوهما عاميْ 2001 و2003 على الترتيب).
ولكن بعد أن صنَّفت واشنطن الصين رسميا بوصفها “منافسا إستراتيجيا” عام 2017، وبالتزامن مع الحرب التجارية الدائرة بين البلديْن، وأشكال فك الارتباط الاقتصادي المُتبادَلة بينهما (وإن كانت انتقائية)، وتعزيز التحالفات الأميركية مع أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وحلف الناتو؛ فمن المُرجَّح أن يُغيِّر الحزب الشيوعي الصيني استنتاجه التحليلي الرسمي حيال البيئة الإستراتيجية المحيطة به.
إن الخطر هنا هو أن المنهجيات الجدلية، والاستنباطات الثنائية التي تتمخَّض عنها، يُمكن أن تؤدي إلى استنتاج خاطئ حين يتم تطبيقها على أرض الواقع في عالم الأمن الدولي. ففي خمسينيات القرن العشرين، رأى الزعيم الصيني ماو إن الولايات المتحدة لا بد وأن تهاجم الصين بموجب تلك الجدلية كي تقضي على الثورة الصينية نيابة عن القوى الرأسمالية والإمبريالية.
ورُغم اندلاع الحرب الكورية وأزمتان في خليج تايوان أثناء ذلك العقد، لم يتبلور بالفعل هجوم أميركي على الصين. بل إن ماو لو لم يتبنَّ تلك الرؤية الأيديولوجية، لربما أمكن للانفتاح في علاقات الصين مع الولايات المتحدة أن يحدث قبل عشر سنوات من موعده (حين فُتِح الباب بالفعل بزيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى الصين عام 1972)، خاصة أن الخلاف الصيني-السوفيتي كان قد بدأ بعد عام 1959.
على نفس المنوال، يرى شي اليوم أخطارا مُحدقة على الجبهات كافة، ولذا يعكف على أمننة كل جوانب السياسات العامة والحياة الخاصة تقريبا في الصين، وما إن تتحوَّل تلك التصوُّرات عن الأخطار التي تحيط بالصين إلى استنتاجات تحليلية ورسمية وتُترجَم إلى داخل بيروقراطيات الحزب الشيوعي الصيني، حتى تبدأ المنظومة الصينية في التصرُّف والعمل وكأن الصراع العسكري قد صار حتميا. إن تصريحات شي الأيديولوجية تُشكِّل الكيفية التي يفهم بها الحزب الشيوعي، وأعضاؤه البالغ عددهم 100 مليون تقريبا، بلدهم ودورها في العالم، وهُم يأخذون تلك النصوص على محمل الجد، ولذا على بقية العالم أن يأخذها على محمل الجد أيضا.
إن تبنِّي شي للعقيدة الماركسية-اللينينية يجب أن يضع حدا لأي أفكار حالمة في الغرب حول إمكانية أن تقوم الصين بتحرير الاقتصاد والسياسة فيها، ويجب أن يوضِّح بشكل لا لَبْس فيه أن نهج الصين للسياسة الخارجية ليس مدفوعا فحسب بحسابات متغيِّرة عن الفرص والمخاطر الإستراتيجية، بل وبإيمان راسخ مفاده أن قوى التغيُّر التاريخي تدفع البلاد إلى الأمام بلا هوادة.
ويجب أن يدفع ذلك بواشنطن وشركائها إلى تقييم إستراتيجياتهم القائمة حيال الصين بشكل متأنٍ، كما يتوجَّب على الولايات المتحدة أن تُدرك أن الصين تُمثِّل اليوم المنافس الأكثر انضباطا سياسيا وأيديولوجيا الذي أمكن لها أن تواجهه طيلة مئة عام من هيمنتها الجيوسياسية، ويتحتَّم على صُناع الإستراتيجية الأميركية أن يتجنَّبوا إسقاط تجارب سابقة على التحدي الصيني، وألا يفترضوا بأن بكين ستتصرَّف بطرق تُعَد عقلانية بالضرورة من المنظور الأميركي أو تخدم المصالح الصينية المباشرة.
لقد ربح الغرب صراعه الأيديولوجي مع الاتحاد السوفيتي في القرن العشرين، ولكن الصين ليست الاتحاد السوفيتي، ويكفي أن اقتصادها اليوم ثاني أكبر اقتصاد في العالم كي نرى الفارق. ورُغم أن شي جين بينغ قد لا يكون نسخة من ستالين، فإنه في الوقت ذاته ليس ميخائيل غورباتشيف (الزعيم السوفيتي الذي وضع حدًّا لنهج ستالين العقائدي وجعل السياسة السوفيتية أكثر براغماتية).
إن التزام شي بالعقيدة الماركسية-اللينينية ساعده في ترسيخ سلطانه الشخصي، إلا أن هذا الموقف الأيديولوجي نفسه خلق مُعضلات سيجد الحزب الشيوعي صعوبة في حلِّها، خاصة مع تباطؤ النمو الاقتصادي، الذي يثير علامات استفهام حول طبيعة العقد الاجتماعي القائم منذ وقت طويل بين الحزب والشعب الصيني.
أيًّا كان ما ستُسفر عنه الأحداث، فإن شي لن يرتدَّ عن أيديولوجيته، فهو عقائدي صميم، وهو أمر يضع الولايات المتحدة وحلفاءها أمام اختبار آخر، إذ أن انتصارهم في تلك الحرب الأيديولوجية التي تتكشَّف فصولها يوما بعد يوم أمام أعينهم، سيتطلَّب منهم العودة الجذرية إلى المبادئ التي تُميِّز النظم السياسية الديمقراطية الليبرالية. إن قادة الغرب بحاجة إلى الدفاع عن تلك المُثُل بالقول والفعل، ولذا يجب أن يصبح كل واحد منهم -مثله مثل شي جين بينغ- عقائديًّا صميما.
_____________________________
ترجمة: نهى خالد
هذه المادة مترجمة عن فورين أفيرز، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الجزيرة نت