مزاعم العنف والفوضى.. نظرة على أزمة الانتخابات الراهنة في موريتانيا | سياسة
صاحبت ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية في موريتانيا أعمال عنف وأجواء من الفوضى والتوتر أسفرت عن سقوط قتلى من المدنيين وإصابات وجروح في صفوف قوات الأمن، فتحول فرح المواطنين بـ”العرس الديمقراطي إلى حالة مأتم”.
ومع تدافع الاتهامات حول الفوضى وتزوير الانتخابات والتدخل في مسار العملية الديمقراطية بين وزارة الداخلية وزعيم حركة “إيرا” بيرام الداه اعبيد -الذي حل ثانيا في اقتراع 29 يونيو/حزيران الماضي- عادت البلاد من جديد إلى دوامة العنف الانتخابي وخطابات العنصرية والمشكلات الإثنية والعرقية.
ميلاد الديمقراطية
وكانت موريتانيا قد عرفت الحياة الديمقراطية مع دستور 1991 الذي وضع قواعد الدولة الديمقراطية المعاصرة حيث أسس لما بات يعرف بمسلسل التحول الديمقراطي ونص على إنشاء هيئات تشريعية ودستورية.
وخلال الفترة الممتدة بين 1992- 2024 عرفت موريتانيا 30 عملية انتخابية تنوعت بين اقتراعات رئاسية واستفتاءات دستورية وانتخابات تشريعية وبلدية.
ورغم أن التحول نحو الحياة الديمقراطية واستقطاب الجميع نحو المشاركة السياسية جاء بهدف القطيعة مع الأحكام العسكرية وإنهاء انتزاع السلطة بوسائل القوة، فإن البلاد عرفت انقلابين عسكريين أحدهما عام 2005 والآخر في 2008، كما شهدت العديد من المحاولات الانقلابية.
وبعد الإطاحة بنظام معاوية ولد الطايع عام 2005 تقدم “المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية” الحاكم حينها بتعديلات دستورية -تمت الموافقة عليها في 25 يونيو/حزيران 2006- جاءت بتحسينات كبيرة للنظام الديمقراطي في البلاد؛ إذ نص على تقليص فترة الرئاسة إلى 5 سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، ومنع الترشح على من تجاوز عمره 75 عاما.
وفي سبيل استقلال السلطة من التأثير والخضوع للضغوط السياسية التي تفرضها الانتماءات الحزبية والأيدلوجية، حظرت التعديلات الدستورية عام 2006 على من يتولى منصب رئيس الجمهورية شغل أي منصب حزبي.
وقد اتفقت الأطراف السياسية بعد انقلاب 2006 على تشكيل جهاز مستقل لإدارة الانتخابات تكون قياداته من الشخصيات المعروفة بالاستقلالية والنزاهة، فتم إصدار قانون بإنشاء “اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات” وأشرفت على عدة اقتراعات وصفت بالحياد والشفافية، أبرزها الانتخابات الرئاسية عام 2007 التي فاز فيها أول مدني منتخب في تاريخ موريتانيا الرئيس الراحل سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله.
تعثر المسار
لكن الانقلاب المفاجئ الذي قام به العسكريون عام 2008 على الرئيس حينها ولد الشيخ عبد الله سجّل ضربة قوية في خاصرة الديمقراطية الوليدة وغير مسار التداول السلمي على السلطة الذي كان نموذجا فريدا في الدول العربية والأفريقية.
وتداركا لمظاهر الديمقراطية التي تم تشويهها بالانقلاب المذكور، تقدمت السلطات الحاكمة بتعديلات دستورية عام 2012 تجرِّم انتزاع العسكريين للسلطة وتمنع الترحال السياسي حيث يبقى المنصب الانتخابي للحزب إذا قرر صاحبه التحول نحو حزب سياسي غير الذي نجح منه.
لكن اللجنة المستقلة للانتخابات التي كان يعهد إليها بضمان سير الانتخابات بشفافية ونزاهة تأثرت بهذه التحولات، فتم تشكيلها على أساس محاصّة بين بعض الأحزاب، إذ عين عليها عام 2018 محمد فال ولد بلال وزير الخارجية الأسبق.
وفي عام 2022 تم تغيير لجنة الانتخابات من جديد وعين عليها الداه ولد عبد الجليل وزير الداخلية الأسبق في عهد نظام ولد الطايع الذي يصفه بعض أعضاء الحكومة الحالية بزمن الاستبداد والفساد.
وخلال الانتخابات البرلمانية عام 2023 تم تسجيل العديد من حالات التزوير تقدمت بها أحزاب الأغلبية والمعارضة وأقرت بها لجنة الانتخابات، لكن الحكومة لم تُقل اللجنة وتركت لها الإشراف على الانتخابات الرئاسية التي جرت نهاية الشهر المنصرم.
تأزيم واتهامات
وأثناء الحملة الانتخابية قال سيد أحمد ولد محمد المدير العام لحملة المرشح محمد ولد الشيخ الغزواني إن الوطن لا يمكن أن تُسلّم قيادته لأشخاص ليست لديهم تجربة في قيادة الجهاز الحكومي، مما يعني أن هنالك قرارا تم اتخاذه بعدم السماح لنجاح شخصيات معينة، وإذا نجحت فلن تسلم لها السلطة إطلاقا.
وقد أثارت التصريحات غضبا واستياء في الأوساط السياسية مما جعل المترشح بيرام الداه اعبيد يلوّح بتثوير الشعب ضد من يقف في وجه إرادته.
وشكلت تصريحات الوزير حرجا كبيرا للنظام مما جعل الرئيس ولد الغزواني يعتذر عنها ضمنيا في المهرجان الذي تم تنظيمه في العاصمة الاقتصادية نواذيبو حيث أكد أنه سيغادر دون ضجيج إذا تم انتخاب غيره وسيكون أول المهنئين والمباركين لمن يختاره الشعب.
وبعد خروج النتائج وإعلان فوز الغزواني لمأمورية ثانية اعترض المرشح بيرام الداه اعبيد ودعا أنصاره للخروج سلميا، وردا على تلك الدعوة قال وزير الداخلية الموريتاني إنه لن يسمح بأي مساس بالأمن الوطني مهما كلف ذلك من ثمن.
وبعد يومين أعلنت الداخلية عن وفاة 3 محتجزين في مدينة كيهيدي التي شهدت الكثير من أعمل العنف والتخريب حسب معطيات السلطة الموريتانية.
وبينما قال وزير الداخلية في نواكشوط إن الاحتجاجات تحولت إلى فوضى تقف وراءها حركات عنصرية دنيئة وجهات محسوبة على مرشح بعينه، وصف المرشح الخاسر ولد اعبيد تصريحات الداخلية بـ”الكاذبة”، وزعم أنه لا يوجد تخريب في الممتلكات العامة أو الخاصة.
وقال ولد اعبيد إن السلطة قطعت الإنترنت واستخدمت القوة للتنكيل بآلاف المعتقلين وتحدث عن الكثير من الإصابات والتعذيب لمن وصفهم بالمواطنين الذين خرجوا للتظاهر سلميا بعدما يئسوا من النظام الحاكم.
وفي حديث للجزيرة نت، قال المحلل السياسي الدكتور ديدي ولد السالك إن “السلطة حاليا تركز على الخطاب الشرائحي من أجل تخويف الناس ليلتف الجميع حول النظام، كما أن بيرام وأتباعه يبتزّون السلطة من أجل الحصول على بعض المكاسب الشخصية وهذا كله على حساب موريتانيا”.
أياد أجنبية
ومساء الخميس الرابع من يوليو/تموز صادق مجلس الوزراء الموريتاني على ترتيبات جديدة تتعلق بالمهاجرين حيث أقرت أمرا قانونيا يتعلق بالإبعاد والحظر بصفة مؤقتة أو دائمة بحق المهاجرين الذين يرتكبون مخالفات نظام الهجرة. وأشارت تقارير أمنية إلى أن المتظاهرين في نواكشوط يوجد بينهم الكثير من الأجانب الذين ينتمون إلى دول أفريقية مجاورة.
وسبق لموريتانيا أن عرفت احتجاجات وأعمال عنف وتخريب بعيد الانتخابات الرئاسية عام 2019، وقالت الحكومة إن عددا من الجاليات الأجنبية الأفريقية شاركت فيها، مما جعل وزارة الخارجية وقتها تقوم باستدعاء سفراء مالي وساحل العاج والسنغال، وهي الدول التي شاركت جالياتها في الأعمال التخريبية، حسب قول الحكومة الموريتانية.
وتعاني موريتانيا من تدفق للمهاجرين الأفارقة وخاصة من دول الساحل التي تعيش حالة من الفوضى وانعدام الأمن، وقد حذر عدد من السياسيين من خطورة تدفق المهاجرين الأفارقة على الأمن والسكينة.
وفي تصريحات سابقة لصحيفة “لوفيغارو” الفرنسية، قال الرئيس الغزواني إن المهاجرين كلفوا بلاده أثمانا باهظة فيما يتعلق بالحدود والأمن والاستقرار.
وفي مارس/آذار من العام الجاري 2024 وقعت الحكومة الموريتانية اتفاقا مع الاتحاد الأوربي يقضي بإيواء المهاجرين الذين يستقرون على أرضها.
مطالب ومواقف
وفي خطوة وصفت بالمتسرعة بارك رئيس حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية نتائج الانتخابات، حيث هاتف ولد الغزواني وهنأه بالفوز مما يعني اعتراف الحزب بالانتخابات.
وكانت المعارضة تعمل على الخروج بموقف موحد من نتائج السباق الرئاسي، لكن مواقفها بدت متباينة وينقصها التنسيق والعمل المشترك. ويشار إلى أن النظام الحالي نجح في تشتيت جهود المعارضة وسحب الكثير من قياداتها إلى صفوفه.
وفي السياق، طالب رئيس حزب تواصل الإسلامي -الذي حل ثالثا في السباق الرئاسي- بتنظيم حوار وطني شامل، وهو نفس الطلب الذي تقدم به مؤخرا النائب بيرام واعتبره سبيلا للخروج من الأزمة الحالية، لكن وزير الداخلية الموريتاني قال إن تنظيم الحوار تحت مظلة الأزمات مرفوض لأن البلاد لا تعيش مشكلة تضغط على السلطة بقبول التفاوض.
واعتبر وزير الداخلية المسؤول عن استتباب الأمن الوطني أن الأوضاع عادية، وأضاف أنه إذا كان رئيس الجمهورية قد تعهّد بحوار فسيتم دون ضغوط أو مقايضة وليس مع جهة واحدة.
مآلات الأزمة
ويرى المحلل السياسي الدكتور ديدي ولد السالك أن الأزمة الحالية ليست إلا ظرفا مؤقتا للتعبير عن جزء كبير من الأزمات التي صاحبت البلاد منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960، وهي تمثل مظهرا من مظاهر الهشاشة الاجتماعية والأمنية، وأن “البلاد تعيش مِحنا متنوعة مثل الشرائحية وخطابها، وكذا أزمة الهوية التي لم تحسم الدولة عمليا أمرها”.
ويلاحظ أن الانتخابات منذ عام 2019 أصبحت موسما لتأجيج الصراع الشرائحي والعنصري، وهو الأمر الذي تسكت عنه السلطات الحاكمة، إذ لكل فئة من المجتمع مرشح تبارك الدولة ترشيحه.
وسبق لموريتانيا أن عرفت أحداثا عرقية عام 1989 ما زالت المنظمات الحقوقية الآن تطالب بالتحقيق فيها.
وعام 2018 أصدرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” تقريرا عن المشكلات الحقوقية في موريتانيا وقالت فيه إن المشكلة العرقية مصدر للعديد من المشاكل الأكثر عمقا وحساسية.
ويقول ديدي ولد السالك إنه إذا لم تحصل معالجات عميقة لمشاكل الفساد والشرائحية والهوية فإن موريتانيا مقبلة على مشاكل وأزمات وقلاقل قد تؤدي بها إلى الانهيار.