التحرّك النووي الروسي على سواحل كوبا وبواعث القلق الأميركي | سياسة
“على بُعد 150 كيلومترًا من سواحل ولاية فلوريدا الأميركية، يرسو منذ الأربعاء الماضي، وحتى الإثنين القادم، أسطولٌ بحري روسي يتضمن غوّاصة تعمل بالطاقة النووية، في مرفأ العاصمة الكوبية هافانا”. جملة خبريّة كان من الممكن أن ترِد في نشرات الأخبار بشكل سرديّ باهتٍ، غير أن ثالوث الدّول المذكورة فيه، كفيلٌ بدقّ نواقيس الانتباه والتدقيق في الخبر، لاسيما أن تطورات الصراع القائم بين روسيا من جهة، وأوكرانيا والولايات المتحدة وباقي الحلفاء من جهة أخرى، بلغ أشدّه في الأسابيع الأخيرة.
توجّس وإثارة
في الحقيقة، لم يفاجَأ الإعلام الأميركيّ بوصول الأسطول الروسيّ إلى كوبا هذا الأسبوع، فقد كانت وزارة الدفاع الروسيّة، قد أعلنت الشهر الماضي، أن أسطولًا روسيًا مكوّنًا من ثلاث بواخر من “أسطول الشمال البحري”، سوف يتّجه إلى المحيط الأطلسي لأهداف تدريبية، غير أن انضمام الغوّاصة النووية إلى الأسطول، تمّ في وقت لاحق. ولا يُستبعد أن يتّجه الأسطول بعد محطته الحالية في كوبا، إلى فنزويلا بعد ذلك. لكن زيارة وزير الخارجية الكوبي إلى روسيا، بعد يوم واحد من وصول الأسطول الروسي إلى كوبا، زادت الأمر إثارة.
ويبدو أن التوجّس من رسائل وصول الأسطول الروسي، لاسيما الغواصة النووية، إلى مرفأ العاصمة الكوبية، اقتصر على الأوساط السياسية والرأي العام العالمي. حيث أجمعت الرواية الكوبية والروسية على أن وصول الأسطول الروسي إلى كوبا، يأتي في إطار تعاون دولي بين بلدَين تربطهما صداقة تاريخية، مع تأكيد أنّ السفن لا تحمل أسلحة نووية. كما أكّد الجانب الروسي أن حركة الأسطول في المحيط الأطلسي تدخل ضمن برنامج تدريبات عسكرية بروتوكولية، وتتمّ وفق القواعد الدولية. علمًا أنها ليست المرة الأولى التي ترسو فيها بواخر حربية روسية على السواحل الكوبية، حيث كانت آخرها عام 2019، وقبلها في 2013.
غير أنّ التصريحات الأميركية بشأن الحدث، جمعت بين موقفَين. ففي الوقت الذي يقول فيه كبار المسؤولين؛ إنّ واشنطن ليست منزعجة من تنقّل الأسطول الروسي في المحيط الأطلسي وتوقّفه بكوبا، وأنه ليس هناك أي داعٍ للانشغال، قامت البحرية الأميركية بحشد سفن حربية على سواحلها الجنوبية في ولاية فلوريدا، المقابلة لجزيرة كوبا.
رسالة موجّهة
ومقابل رسائل الطمأنة من الجانبين: الروسي والأميركي، تبقى تصريحات الرئيس الروسي بالتزامن مع وصول أسطول بلاده إلى كوبا، الأربعاء الماضي، مثيرةً للجدل. حيث هدّد خلال اجتماعه بممثلي وكالات الأنباء الدولية، بنشر “صواريخ تقليدية” على مسافة قريبة من الولايات المتحدة وحلفائها من الأوروبيين إذا سمحوا لأوكرانيا بتوجيه ضربات في عمق روسيا بأسلحة غربية بعيدة المدى، داعيًا إياهم إلى عدم الاستهانة بردود فعل بلاده. وتأتي تلك التصريحات على خلفية التطورات المتسارعة في ساحة المعركة الأوكرانية و”الهبّة” الغربية التي وحّدت الولايات المتحدة وحلفاءها من أوروبا وخارجها، على قرار تعزيز دعمهم العسكري لأوكرانيا، وحثّها على ضرب أهداف روسية بأسلحتهم.
وهذا ما دفع البعض للربط بين تهديدات الرئيس الروسي، ورسو أسطول بلاده الحربي، بغوّاصته النووية، في أحد مرافئ بلد صديق، على بُعد عشرات الكيلومترات من السواحل الأميركية! في إشارة إلى أنها رسالة مقصودة لواشنطن.
ورغم التخوّف من اندفاع الرئيس الروسي وتلويحه بتفعيل العقيدة النووية الروسية، التي تمنحه حق استخدام السلاح النووي، ضد أي هجوم بأسلحة نووية على بلاده، فإن جزءًا من آراء السياسيين الغربيين يستخفّ بتهديداته، ويصنفها في خانة العنتريّات، والاستعراض الهادف إلى لملمة ثقة الروسيين بنظامهم.
على صعيد آخر، وبعيدًا عن الاصطفافات الأيديولوجية في الحرب الأوكرانية الروسية، واتّساع رقعة تحالفاتها، فإن هناك جانبًا براغماتيًا لا يمكن إغفاله في دلالات رسو الأسطول الحربي الروسي بكوبا، حيث إن الإنهاك الذي أصاب هذا البلد المُعاقب أميركيًا منذ ستة عقود، يجعله يُرحّب أيما ترحيب بأي تعاون ودعم ونفط وأغذية وسلاح من الدول الصديقة، لاسيما من دولة بحجم روسيا، وفي هذه المرحلة التاريخية المعقّدة.
إزعاج واستفزاز
أمّا روسيا، فإن تنقُّلها بين الدول الصديقة لها، في الشرفة الخلفية للولايات المتحدة، يعتبر في حدّ ذاته، إثباتًا لواشنطن بقدرتها على نقل جانب من معركتها على أرض أوكرانيا، إلى القارة الأميركية، ولو بالتهديد، على النحو الذي تفعله الإدارة الأميركية خارج أراضيها. ويمثّل صمود أنظمة مثل كوبا وفنزويلا أمام مكائد الإدارة الأميركية الساعية لتقويضها، خير وسيلة لاستمرار الاستفزاز الروسي لواشنطن، من مسافات قريبة.
بعض الآراء، مضت إلى ما أبعد من ذلك، ورأت في الأمر “تحرّشًا سياسيًا” روسيًّا بالولايات المتحدة، قد يكون من بين أهدافه “العنتريّة”، التذكير بأزمة الصواريخ الكوبية في 1962، ضمن أحداث الحرب الباردة، والتي هبَّ خلالها “الاتحاد السوفياتي” في ذلك الوقت إلى دعم الحكومة الكوبية ببناء قواعد صواريخ نووية متوسطة المدى على أراضيها، تمكنها من ضرب الأراضي الأميركية. وكان ذلك بمثابة ردّة الفعل على نشر الولايات المتحدة عام 1961، صواريخها في إيطاليا وتركيا، بنيّة ضرب موسكو بالرؤوس النووية.
ورغم تفاوت موازين القوى بين القوة الأميركية والسوفياتية، فإن الأزمة بين الجانبَين انتهت بسحبهما صواريخهما، لكن كابوس الاقتراب من مواجهة عسكرية، بقي راسخًا في الأذهان.
رغم أن وصول الأسطول الحربي الروسي بغوّاصته النووية، في هذا التوقيت إلى السواحل الكوبية الواقعة في خصر المحيط الأطلسي، لا يُمكن أن يُؤخذ على محمل الخطر الجِدّي، فإن الحضور الروسي كما الحضور الصيني في القارة الأميركية يبقى مصدر إزعاج للإدارة الأميركية، يحرمها من حُلم الإمساك بمفاتيح القارّة، والاقتراب من تحقيق حُلم “مبدأ مونرو”!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.