رهانات الحظ العاثر في “مقامرة على شرف الليدي ميتسي” | ثقافة
تتميز رواية “مقامرة على شرف الليدي ميتسي” للكاتب المصري أحمد المرسي (وُلد في عام 1992)، والصادرة حديثاً عن دار دوّن، بعدّة ميزات جعلتها تصل إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية.
التشويق
أولى هذه الميزات أن صاحب رواية “ما تبقى من الشمس” (2020) كتب روايته الجديدة بأسلوب سرديّ وسينمائيّ مشوّق، لدرجة أن القارئ لا يُريد أن يتركها قبل الانتهاء منها، وهي ميزة تُحسب لأي رواية. بل ربما ينتبه القارئ إلى أنه “يجري” مع الرواية بدلَ قراءتها على مهل وببطء. وذلك لا يعود فقط لموضوع الرواية الذي يتناول 4 شخصيّات تعشق الرهانات. منها 3 (الليدي ميتسي الإنجليزية ومرعي أفندي المصري وفوزان الطحاوي) يعشقون الخيل لأسباب مختلفة، وداوم الأولان منهم على الرهانات كذلك لسببين مختلفين. بينما الشخصية الرابعة (سليم أفندي حقي) هي ضابط مطرود من الخدمة، بسبب وقوفه مع ثورة البلد ضد الإنجليز والنظام الملكي. وبسبب العوز، وفقدان ميزات وظيفته، صار يبيع أثاث بيته لكي يستطيع مواصلة العيش، وليُعالج زوجته المريضة “عايدة”، التي كان عدم إنجابها سببا لتبرّئ والد سليم منه، وانقطاع ما كان يصله من إيراد الأرض. ولكنه يعود كذلك للأسلوب المشوّق الذي استخدمه أحمد المرسي، وهو أسلوب يعتمد على التكثيف في تقديم الفصول، من دون زيادات وحشو قدر الإمكان، وتلاحق الأحداث وتدافعها كأية رواية تشويقيّة من النوع الجيّد.
يفتتح أحمد المرسي روايته عن عوالم سليم أفندي حقي وزوجته المريضة. وبيع ممتلكاتهما ورهنها. وذهابه إلى “القهاوي” ليشارك في الرهانات على قتال الديوك، بعد نصيحة من أحد أصحابه حول أرباح رهاناتها الوفيرة. وتقع في تلك القهاوي أحداث وحكايا تقطع الأنفاس بالفعل. وتُبيّن الاختلافات الطبقيّة بين ضابط متقاعد، متزوج من فتاة ذات أصول غنية، ذهب للمراهنة بسبب حاجته للمال، وليس لأنه يعشق هذا النوع من الرهانات، وبين أناس شعبييّن يعشقون ويعيشون هذه المراهنات، ولا يقبلون الخسارة فيها بسهولة، بل قد تجعلهم خسارة الرهان متوحّشين ضد الخصوم وضد ديوكهم؛ المشاركة في رهانات تعتبر دمويّة منذ البداية.
وهكذا تتابع فصول الشخصيات الأخرى، ليتمّ تفكيك الغموض في عتبة الرواية، ويتعرف القارئ، فصلاً بعد فصل، على شخصيّات مختلفة طبقياً وفكرياً ومكانياً وآمالاً، يجمعهم الأمل في تحقيق أمنياتهم.
سينما ومسرح
الميزة الثانية، لهذه الرواية، هي أن أحمد المرسي بنى معمار روايته مثل كتابة فيلم سينمائي، لدرجة أنه يهتم بالضوء والعتمة ودرجاتهما في كل فصل وفي كل مقطع. وكذلك يهتم ببناء المشاهد التي تحدث في الخارج (المقهى – البار – الشارع – مضمار سباق الخيل) وكأنه تصوير خارجي، أو بمعنى آخر، ووفق المصطلحات السينمائية، نهاري خارجي، وليلي خارجي، وليلي خارجي وليلي داخلي. بينما ما يجري في البيوت تختلف مشاهده في البناء والتصوير، بل وحتى من خلال درجة السرعة في الحوارات والمشاعر، معتمداً في ذلك البناء، والتقدم في العمل والأحداث، على الحوارات بين الشخصيات، متمثلاً بذلك الأسلوبين السينمائي والمسرحي.
ونعتقد أن هذه الرواية، بغض النظر عن فوزها بجائزة البوكر أو عدم فوزها، سيتم تحويلها إلى فيلم سينمائي. كما حدث مع روايات بُنيت بهذه الطريقة التاريخيّة الكلاسيكيّة التشويقيّة، مثل رواية “عمارة يعقوبيان” للكاتب المصري علاء الأسواني على سبيل المثال.
الميزة الثالثة هي تخطيط الرواية زمنياً بشكل ذكي ومدروس، لدرجة أنها تبدو رواية كلاسيكيّة، في الدقة والتنظيم، من هذه الناحية، ولكنها لا تخلو من فانتازيا، خاصة من خلال شخصية “زينب” على سبيل المثال. فالرواية تبدأ من عام 1975، من جزيرة سعود، وذلك من “عتبة” الرواية، والتي لن تستغرق سوى 5 صفحات، من أصل 365 صفحة، ليعود الراوي، في فصلها الأول، بالزمن إلى عام 1920، وهو الزمن المكتوب على صورة وجدها “غالب الطحاوي” في منزل ابن عمه فوزان الطحاوب بعد موت الأخير.
ولكن الزمن لا يبدأ من عام 1920 ويتقدم باتجاه عام 1975 فقط، بل يضطر الراوي، كلما تناول شخصية أو حدثاً، أن يعود بالزمن سنوات وعقوداً إلى الوراء، ثم يعود إلى ذلك التقدم البطيء من جديد. وكأن الرواية مكتوبة بالألوان، ثم تعود إلى الأبيض والأسود.
شخصيات متضادة
يقوم صاحب رواية “مكتوب” (2021) بتقديم شخصيّاته في فصول متلاحقة وكأنه يٌشرّحها الواحدة تلو الأخرى، وكما الروايات البوليسيّة يضعها في طرقات لا بدّ أن تلتقي، في النهاية، في طريق واحد، فنجد أن الشخصيات الأربع، التي لديها حيوات مستقلّة قبل هذا اللقاء -ولكن سيكون هذا اللقاء سبباً لبوح تلك الشخصيات بتلك الحيوات الخاصة بها- لا يجمعها سوى القليل جداً. بيْدَ أنها تتحالف مع بعضها للفوز في رهان سباق الخيل. ويكتشف القارئ بأن الْـ4 فقدوا السبب الحقيقي للفوز بالرهان، ومع ذلك يُكملون هذا الجري وراء الفوز به، ليكتشف كل واحد منهم بأن “الآمال إذا تحققت تفقد معناها”. بل تفقد لذة تحقيقها.
كل ذلك باندفاع من الماضي الذي لا يموت. فالليدي ميتسي تُخلص للرهانات بسبب ماضيها الخاص المتعلّق بابنها “ديفيز”. وسليم يجذبه الرهان للتخلّص من الماضي الذي صارت تُثقله الديون ومكابدات صلات القربى والحب. بينما مرعي يهرب من ذلك الماضي الذي يخرج له في كل زاوية وشارع، ويُحاسبه باستمرار على ما ذهب وزال، وكان هو سبباً في ضياعه إل الأبد. وحده فوزان يندفع من الحاضر نحو المستقبل، وحتى ماضيه، مع والده وأمه وعمه، يدفعه أكثر للإندفاع حتى العزلة والخلود في صورة فوتوغرافيّة تشرح حياته واللحظات الأخيرة من موته.
نجح المرسي في جمع هذه الشخصيات المتضادة، والتي حاولت، قدر الإمكان، التقرّب من بعضها البعض، من أجل الفوز في رهانات الخيل، وتحقيق آمالها الممكنة أو المستحيلة، التي لن يكون لها أي معنى في النهاية، لأنها كانت شخصيّات “ميّتة وهي على قيد الحياة”.
صراعات جانبيّة
ليس فضاء الرهانات فقط هو فضاء الرواية الوحيد؛ بل هناك فضاء آخر يُضاف لهذه الرواية، من خلال العسكر والضباط الإنجليز، وحياة الطبقات المخملية. ومن خلال الصراعات والمؤامرات التي تجري لجعل فرس تكسب على حساب الخيول الأخرى، بغض النظر عن أي ميزات خاصة. صراعات رئيسية وجانبية، صراع الديوك وصراعات المُرابين وصراع السلطات وصراع الرهانات وصراع الرغبات والوحدة والآمال التي لا تتحقّق إلا بعد فوات الأوان.
ضمن هذا الفضاء نعثر على الكثير من القاع الشعبي، وكذلك على الكثير من القاع الثريّ البورجوازي أو العسكريّ. نعثر كذلك، ولو على شكل ومضات خفيفة، على مشاهد تخصّ الثورة والتخلّص من العسكر الإنجليز. على شخصية الثري الذي بنى مدينة كاملة لإرضاء حبيبته التي لن ترضى.
صراعات وصراعات تجري باستعمال الخناجر والقتل والربا والدموع وكذلك تجري من خلال حفلات الطبقة المخمليّة التي تحمل أفكاراً أبديّة تخصّها عن الوطن والحريات ومفهوم الشعب.
رواية “مقامرة على شرف الليدي ميتسي”، للمصري أحمد المرسي، لها ميزات عديدة تجذب كل قارئ. لا يمكن تصنيفها في مدرسة واحدة، فهي تبدو تاريخيّة وتشويقية وكلاسيكية، وتجعلها تلك اللغة المنسابة والأسلوب السردي، تذهب براحة إلى قائمة الروايات الأكثر مبيعاً.