التحالف مع البريكس: كيف تعيد تركيا رسم سياستها الخارجية؟ | سياسة
ضمن 15 دولة تمّت دعوتها، شاركت تركيا في اجتماع وزراء خارجية مجموعة دول “البريكس”، الذي عقد في روسيا.
وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، الذي ترأس وفد بلاده في الاجتماعات، كان قد استبق الزيارة بالإعلان خلال زيارته الصين، مطلع يونيو/ حزيران الجاري، عن رغبة بلاده في الانضمام إلى التجمع الاقتصادي المهم، ليعاد فتح الملف بكل أبعاده الجيوستراتيجية والاقتصادية والأمنية.
الانعطافة التركية الأحدث صوب البريكس، جدّدت رغبة قديمة أعلنها الرئيس رجب طيب أردوغان، عام 2018 لكن طواها النسيان حينها.
هذا التموضع الجديد للسياسة الخارجية التركية، لا يمكن فصله عن تصريحات فيدان أثناء زيارته بكين، بشأن العلاقات الثنائية، والدور المأمول من الصين في بناء نظام عالمي جديد.
فهذا التلازم بين الدوافع الاقتصادية، والمنطلقات الجيوسياسية، هو الذي يمنحنا مساحة أكبر لفهم التموضع التركي الجديد، وإلا فإن دولًا أخرى سبقت تركيا في الالتحاق بالتجمع الذي تبلغ قيمة اقتصادات دوله مجتمعة أكثر من 28.5 تريليون دولار، أي حوالي 28% من الاقتصاد العالمي.
إعادة تشكيل النظام العالمي
ترى تركيا أن النظام العالمي الحالي، استنفد مبررات استمراره، حيث يدعو أردوغان منذ سنوات إلى إصلاح مؤسساته الدولية، وفي القلب منها مجلس الأمن الدولي، بزيادة عدد الدول الأعضاء الدائمة فيه، رافعًا شعار: “العالم أكبر من خمس”.
كما أكد أثناء أزمة كورونا، أن العالم سيشهد ولادة نظام عالمي جديد عقب انتهاء الأزمة، قبل أن تحل أزمتا الحرب الروسية – الأوكرانية، والعدوان الإسرائيلي على غزة.
في بكين أعاد فيدان تأكيد المعنى ذاته بقوله: ” إن الجنوب العالمي، الذي يضم دولًا ذات حكومات وخلفيات تاريخية مختلفة، تعاني من عدم تمثيلها في النظام العالمي بالقدر الذي تستحقّه”.
من هنا تأمل تركيا في أن تلعب الصين دورًا ملموسًا في مأسسة النظام الجديد بعيدًا عن الهيمنة الأميركية التي خلّفت فوضى عارمة لا تخطِئها العين.
لذا استمعنا إلى انتقاد ضمني من فيدان لتلك الهيمنة “دون ذكر الولايات المتحدة” بتأكيده ضرورة الحفاظ على استقرار الصين ووحدة وسلامة أراضيها، كما رفض التدابير الأميركية الاقتصادية الاستثنائية ضد الصين بتشديده على أنه ليس “من الصواب وقف التنمية الاقتصادية في الصين”.
إن علاقة التحالف بين واشنطن وأنقرة، لم تمنع الأخيرة من إدراك أن هيمنة قطب أوحد على العالم منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، أدّت إلى خسائر متعددة وعميقة، وأنه قد آن الأوان للدفع نحو عالم متعدد الأقطاب.
من هنا يعدّ البريكس بوابة مهمة لانخراط تركيا في نشاط اقتصادي جماعي مع محور روسيا – الصين، الذي يمتلك إمكانات كبيرة مرشّحة للتصاعد خاصة في مجال الطاقة.
إضافة إلى ذلك، تدرك أنقرة أن تعظيم التعاون الثنائي مع بكين يبدأ من بوابة الاقتصاد، حيث كشف فيدان عن ضرورة اتخاذ خطوات ملموسة في مشروع “الممر الأوسط”، ومبادرة “الحزام والطريق” في موازاة ما يحدث في ممرات النقل الأخرى، مثل طريق التنمية الذي يتم تنفيذه بالاشتراك مع العراق.
كما دعا الشركات الصينية، خاصة العاملة في مجال التكنولوجيا المتقدمة، إلى العمل في تركيا للاستفادة من موقعها في الوصول إلى أسواق أوروبا والشرق الأوسط.
حضور الملفّ الفلسطيني
تأثير حرب غزة على إعادة تموضع السياسة الخارجية، بدا واضحًا في تحركات أنقرة في منظمة التعاون الإسلامي، أو في علاقتها مع الولايات المتحدة، وصولًا إلى الإجراءات العقابية الاقتصادية التي اتخذتها بحق إسرائيل.
لذا كان الملف الفلسطيني مصاحبًا لفيدان في زيارته الصين، إذ أكد من هناك ” أن حساسية الصين تجاه فلسطين أمر مهم للغاية، وأن أنقرة تقدر تضامن بكين مع الفلسطينيين ودعمها القوي لحل الدولتين في الشرق الأوسط”.
كما دعا الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى “عقد مؤتمر سلام دولي شامل ومختصّ وفعال للتوصل إلى حلّ في فلسطين”.
الاستعداد لتطوّرات الحرب الأوكرانية
منذ اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، اتبعت تركيا سياسة معتدلة إزاء الطرفين، حيث رفضت فرض عقوبات على روسيا، لكنها رفضت العملية العسكرية ضد أوكرانيا، ودعمت الجيش الأوكراني بالعديد من الصناعات الدفاعية.
هذه السياسة أتاحت لتركيا لعب أدوار إيجابية، حيث نجحت في تدشين ممر الحبوب في يوليو/ تموز 2022 بالتعاون مع طرفي الصراع والأمم المتحدة.
كما استطاعت تركيا حمل روسيا وأوكرانيا على توقيع اتفاق لإنهاء الحرب، قبل أن تتنصل منه كييف بضغط أميركي – بريطاني.
لكن ثمة تطورات مهمة تنتظر الحرب، وذلك بانخراط أوسع لحلف “الناتو” في المعركة.
فالاجتماع غير الرسمي لوزراء خارجية الحلف، الذي عقد في العاصمة التشيكية براغ مؤخرًا، أفصح عن عزم دول الحلف زيادة دعمها العسكري لأوكرانيا كمًّا وكيفًا، مما يضع الحلف في مواجهة مباشرة مع روسيا.
هذا السيناريو حذّر منه فيدان عقب انتهاء الاجتماعات، مشددًا على أن تركيا لا تريد أية مواجهة بين الناتو وروسيا، إذ تدرك أنقرة أن مواجهة من هذا النوع قد تضعها في صدام مباشر مع روسيا، وهو الأمر الذي تتحاشاه دائمًا.
فبحسب تقرير نشرته صحيفة التلغراف في 4 يونيو/حزيران الجاري فإن الحلف يعمل على توفير ممرات برية لنقل قوات ومعدات أميركية إلى شرق أوروبا، حال نشوب مواجهات برية روسية – أوروبية.
التقرير أشار إلى أن الاستعدادات انتهت إلى تسمية خمسة ممرات، منها ممر يبدأ من تركيا، ثم بلغاريا وصولًا إلى رومانيا، مما يعني انغماسًا أوسع في الحرب، لا تريده تركيا.
لذا أعاد فيدان خلال زيارته الصين، تأكيد محددات الإستراتيجية التركية بشأن الأزمة: ” إنه على الرغم من ابتعاد البلدين عن سياسة العقوبات ضد روسيا، فإنهما يؤكدان على سيادة البلدين (روسيا وأوكرانيا) وسلامتهما الإقليمية”.
بعبارة أخرى.. لا عقوباتِ تركية متوقعة ضد روسيا، ولا انخراطَ في عمل ينال من سيادتها وسلامة أراضيها.
لكن تحقيق تلك الإستراتيجية المتوازنة ليس بالأمر السهل، لدولة مثل تركيا تمتلك ثاني أكبر قوة برية في حلف “الناتو”، الذي ينتظر منها مساهمة أكبر في المواجهة المرتقبة مع روسيا.
ومن هنا فإن هذا التموضع الجديد من أنقرة تجاه البريكس والصين، ربما يخفف من رد الفعل الروسي تجاه تركيا، حال تطورت الأزمة إلى مواجهة مباشرة بين روسيا و”الناتو”.
وأخيرًا؛ فإن الجغرافيا التي منحت تركيا ميزات إستراتيجية هائلة، فرضت عليها أيضًا تحديات هائلة لوجودها في قلب منطقة مشتعلة ومأزومة، ما يحتم عليها مراجعات دائمة وجادة لسياستها الخارجية.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.