“الإله والمعنى في زمن الحداثة”.. رفيق عبد السلام: هزيمتنا سياسية وعسكرية لا فكرية | ثقافة
صدر حديثا كتاب “الإله والمعنى في زمن الحداثة، الخطاب بين الهيمنة والتعدد” لمؤلفه الأكاديمي والباحث والسياسي التونسي رفيق عبد السلام، ويسعى فيه وزير الخارجية التونسي الأسبق للاجتهاد لتحرير الحداثة من سردياتها الكبرى لصالح قراءة أكثر انفتاحا.
ويرى المفكر التونسي أن الحداثة بدأت إجرائية، ويعتبر أن العالم العربي والإسلامي كان في المركز لا الأطراف، إذ كانت الدولة العثمانية في احتكاك مباشر مع أوروبا، وكانت بلدان مثل الشام ومصر وتونس في احتكاك مستمر أيضا.
ويعتبر المؤلف أن الحداثة بدأت أداتية وإجرائية تماما كآليات يمكن الاستفادة منها كما عبر عنها الإصلاحي خير الدين التونسي، أي كيف نقتبس الآليات التي تساعدنا على المناعة الذاتية، وعلى التحصن من التهديد الغربي.
ويقول في حواره مع الجزيرة نت “لما هزم المسلمون في مواجهة الحداثة الغربية، لم يهزموا في نقاش فلسفي، بل هزموا في الميدان بقوة جيوش الإنجليز والفرنسيين والبرتغاليين ثم الروس وغيرهم”، فكان السؤال الرئيسي داخل بيروقراطية السلطان وفي مختلف مواقع الدولة العثمانية لماذا انهزمت الجيوش العثمانية في مواجهة الجيوش الغربية؟ وكان الجواب على ذلك أن الجيوش الغربية أكثر قوة ونجاعة، وبالتالي الحل: كيف نستنسخ التحديث الإجرائي وآلية تنظيم الجيوش وتسليحها، ثم تنظيم الدولة وبيروقراطيتها، وهكذا انطلق المشروع التحديثي في حقبة التنظيمات العثمانية، ثم بعد ذلك انتقلنا للمرحلة الثانية عندما أصبح التحديث فكريا مضمونيا، خاصة بعد الثورة الفرنسية”.
ويؤكد المؤلف أن العرب والمسلمين هزموا بأدوات السياسة وآلياتها، ولا يمكن أن يتحقق النهوض إلا بمواجهة التحدي السياسي، وما دام العالم الإسلامي مفككا وخاصة قلبه العالم العربي، لا يمكن للعرب أن يخوضوا مغامرة الحداثة، وأن يشقوا مشروعهم في النهوض بدون مواجهة التحدي السياسي، وعلى رأسه ذلك قضية الانقسام والتجزئة والتدخلات الخارجية والهيمنة الأجنبية.
ويعتبر أنه لا مفر من مواجهة الهيمنة الأجنبية والضعف الذاتي بضرب من ضروب التكامل والوحدة، في عالم متعدد الأقطاب، يتجه إلى امتلاك مزيد من القوة وعناصر القوة والإخضاع، هذا هو التحدي كما يراه المؤلف، تحدٍ سياسي بدرجة أولى، فإلى الحوار:
-
كتابك الجديد يبدو انتقالا عما اعتاده قراؤك، فهو كتاب فلسفي، أليس كذلك؟
ليس انتقالا بكل معنى الكلمة، وقد ذكرت في فاتحة الكتاب أن موضوعا مركبا ومعقدا مثل الحداثة يحتاج لتخصصات متعددة ولذلك لم أتناول موضوع “الحداثة” من الزاوية الفلسفية المجردة عبر نصوص الفلاسفة والمفكرين الغربيين من القدامى والمحدثين، ولكن تناولت مداخل مركبة ومتداخلة من الزاوية التاريخية والزاوية الإستراتيجية وعلوم السياسة.
القسم الأول من الكتاب تناول سياقات نشأة الحداثة في العالم الإسلامي، من تجاربها الأولى، تجربة التنظيمات العثمانية وامتداداتها المختلفة في المراكز الأساسية بلاد الشام ومصر (عهد محمد علي) ثم تونس، ثم تناولت خطاب الحركة الإصلاحية باعتباره مرحلة متقدمة لاحقة لفترة التنظيمات والإصلاحات الإدارية، إذ انتقلنا حينها مما سميته “الحداثة الإجرائية” إلى “الحداثة الدينية والفكرية” إن جاز التعبير.
والقسم الثاني مخصص لنصوص فلسفية تناولت فيه الحداثة منذ ماكس فايبر والانعطافة التي أحدثتها فلسفة العدمية مع نيتشه وفي خطاب هابرماس وغيرهم، وتقريبا هو كتاب مركب ولكن فيه قسمين أو جزأين يتناول أولهما الحداثة في السياق العربي والإسلامي، والثاني يتناول الحداثة في السياق الغربي.
وهو استكمال لأطروحتي التي قدمتها في كتابي الأول عن موضوع العلمانية، وكنت عازما على استكمال هذا المشروع بالجزء الثاني حول الحداثة، ولكن انقطعت هذه المسيرة بسبب مشاغل السياسة التي نقلتني من عالم الفكر والكتابة والأكاديميا إلى تعقيدات السياسة وصخبها، وحاليا توفرت فرصة لأعود إلى أوراقي السابقة ثم أضفت إليها ونشرناها في هذا الكتاب.
-
يتحدث العنوان عن “حداثة” بصيغة المفرد، خلاف ما اعتاده نقاد الحداثة من استخدام صيغة الجمع “حداثات” لتناول حداثة وحداثة بديلة من منظور نقدي، كيف ترى ذلك؟
لا مشاحة في الألفاظ، الهدف الرئيسي من هذا الكتاب هو تجريد الحداثة من سردياتها المهيمنة، وقلت إن الحداثة هي حداثات، وهي انفتاح على إمكانيات متعددة، والهدف الرئيسي أيضا أن نفتح باب الاجتهاد في الحداثة، إذ لا توجد صورة نمطية ونهائية ومكتملة في الحداثة، وبالتالي يمكن للعالم الإسلامي أن يختط تجاربه ونماذجه الخاصة في الحداثة، ولكن لا توجد تجربة مجردة ومعزولة عن بقية التجارب، بل تفاعل مع ما هو قائم من تجارب وتخصيبها وتطويرها بما يستجيب لحاجيات المجتمع السياسي العربي الإسلامي.
-
هل تناولت شخصيات الحركة الإصلاحية في تونس مثل عبد العزيز الثعالبي ودوره في الإصلاح والتجديد؟
الحقيقة الكتاب يتناول الفكر العربي والإسلامي بصفة عامة، ولم أركز كثيرا على الخصوصية التونسية، بل تناولت التجربة التونسية من خلال تجربة خير الدين باشا الإصلاحية ودوره في حقبة التنظيمات، ولكن فيما بعد تناولت خطاب الحركة الإصلاحية مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا والآباء المؤسسين لخطاب الحركة الإصلاحية، والثعالبي هو امتداد لهذه المدرسة، ولكن تقديري أن الخطاب الإصلاحي لا يمكن تقسيمه قطريا لخطاب تونسي وآخر لبناني أو سوري، فهو خطاب إسلامي مع بعض الخصوصيات بالتأكيد، إذ كانت كل هذه الروافد تتغذى من بعضها بعضا خاصة في تلك المرحلة التي تتبلور فيها التحيزات والانتماءات القطرية بصورة واضحة.
-
ماذا تقصد بتحرير الحداثة من سردياتها الكبرى، أي حداثة تقصدها وما التحرير الذي تنشده؟
الحداثة تقدم في الأدبيات الليبرالية على صورة نمطية يقصد بها الخروج من دائرة الفكر الغيبي إلى دائرة الفكر العقلاني الوضعي، وهي قائمة على أيديولوجيا التقدم وما تحمله من معاني القطيعة مع الماضي، وهي أيضا ولادة الذاتية مقابل غياب هذه الذاتية في فلسفة الفرد الذائب في المجموع والكيانات العامة، والانتقال من الديني والعلماني، وغيرها، وأنا شككت في هذه المقولات إذ لا توجد صورة نمطية واحدة وخطية للحداثة.
ولذلك قلت إن الحداثة هي حداثات وليست على صورة واحدة، والعديد من العناصر أو المكونات التي ينظر إليها. كمكونات جوهرية للحداثة، لا أراها كذلك، بما في ذلك مقولة العلمانية، ليس بالضرورة أن تكون الحداثة علمانية، لا توجد علاقة حتمية وترابطية بين الحداثة والعلمانية، كما أكدنا في أطروحات سابقة أنها لا توجد علاقة حتمية وقاطعة وتلازمية بين العلمانية والديمقراطية.
-
يبدو مشروعك متقاطع مع مشروعات فكرية أخرى مثل مشروع عبد الوهاب المسيري ومشروع طه عبد الرحمن وغيرهم
نعم، ربما الفرق أن أستاذي الدكتور طه عبد الرحمن يتحدث عن روح الحداثة، وكتابي يتحدث عن أرواح الحداثة، لأني أراها أرواحا متعددة لا روحا واحدة.
كتابي يتحدث عن أرواح الحداثة، لأني أراها أرواحا متعددة لا روحا واحدة، ولا مفر من الاجتهاد في الحداثة أيضا ضمن الكثير من الإكراهات التي صنعتها الحداثة بسبب انسياب مشروع الحداثة والتحديث في مختلف مناحي المعمورة الكونية، فلا يمكن التفكير في الحداثة خارج عوالم الحداثة
كما أكدت في هذا الكتاب أنه لا مهرب من الحداثة، ولا مفر من الاجتهاد في الحداثة أيضا ضمن الكثير من الإكراهات التي صنعتها الحداثة بسبب انسياب مشروع الحداثة والتحديث في مختلف مناحي المعمورة الكونية، فلا يمكن التفكير في الحداثة خارج عوالم الحداثة، يعني في نهاية المطاف نحن نضيف ونجتهد ونعدل ونصوب، ولكن ضمن مقتضيات الزمن المعاصرة والأزمنة الحديثة، لسنا خارج إطار الأزمنة الحديثة، وخير الدين باشا، انتبه إلى هذا منذ وقت مبكر وقال إن أي قوة تقف في وجه هذا التيار الجارف سيصرعها التيار.
ولكن لا أرى الأمور أيضا بصورة حتمية فالحداثة ليست قوة قاهرة جبارة، ولكنها أيضا ليست بالقوة البسيطة، فهي تركت بصماتها وتأثيراتها في مختلف مناحي المعمورة الكونية، وفي مختلف الثقافات.
وربما ميزة العالم العربي والعالم الإسلامي بصفة عامة أنه يتوفر على رصيد رمزي تاريخي ثري وغني جدا، فيمكن أن يمتزج هذا الموروث مع فكر الحداثة، ويخصبه بشكل جديد، وربما هذا ينتج منتوجا جديدا ومتميزا في تجربة أو في تجارب حداثية جديدة.
ميزة العالم العربي والعالم الإسلامي بصفة عامة أنه يتوفر على رصيد رمزي تاريخي ثري وغني جدا، فيمكن أن يمتزج هذا الموروث مع فكر الحداثة، ويخصبه بشكل جديد، وربما هذا ينتج منتوجا جديدا ومتميزا في تجربة أو في تجارب حداثية جديدة
-
هل هناك تقاطعات إذن بين كتابكم وبين الجدل السياسي والأيديولوجي الموجود على الساحة العربية؟
نعم، تماما، الكتاب يتقاطع مع سؤال رئيسي مطروح عن أسباب تعثر النهوض العربي الإسلامي وخاصة في العالم العربي على وجه الخصوص بحكم الخصوصيات العربية، هل نحن كعرب لم نتقدم ولم نلج -بالنسبة لبعض الحداثيين العرب- أبواب الحداثة لأننا لم نستوعب فكر الحداثة وقيمها المؤسسة؟
نحن عجزنا أو تعثرنا كما تعثرت أمم كثيرة في حقيقة الأمر من قبلنا بسبب موازين القوى، ولذلك لا يمكن أن نتناول موضوع الحداثة بمعزل عن موازين القوى بمعناها العام بمعناها الإستراتيجي والعسكري والاقتصادي والسياسي، كان من الممكن لمشروع الحداثة أن يتقدم في العالم الإسلامي لو لم تهزم مثلا الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى. فكر الحركة الإصلاحية يعني في مختلف المراكز العثمانية، توفر أرضية مواتية لإمكانية النهوض
الأمر ليس بهذه البساطة، نحن عجزنا أو تعثرنا كما تعثرت أمم كثيرة في حقيقة الأمر من قبلنا بسبب موازين القوى، ولذلك لا يمكن أن نتناول موضوع الحداثة بمعزل عن موازين القوى بمعناها العام بمعناها الإستراتيجي والعسكري والاقتصادي والسياسي، كان من الممكن لمشروع الحداثة أن يتقدم في العالم الإسلامي لو لم تهزم مثلا الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.
فكر الحركة الإصلاحية يعني في مختلف المراكز العثمانية، توفر أرضية مواتية لإمكانية النهوض، ولا أتصور أن الفكر الياباني في ذلك الوقت أو الفكر الروسي كان أكثر إبداعا وحيوية من فكر الحركة الإصلاحية، ولكن الذي هزم المسلمين وهزم العرب هو موازين القوى، كانت موازين أقوى منهم موازين عسكرية واقتصادية، والتوسعات الإمبريالية.
خاصة أن معطى الجغرافيا السياسية تؤثر إلى حد كبير بالنظر إلى معطى الجوار الجغرافي المباشر للأمم الأوروبية الصاعدة في القرنين الـ18 والـ19، ودفع العالم الإسلامي ثمن قربه الجغرافي، وثمن التوسعات الإمبريالية الغربية التي فككت مشروعه الإصلاحي، وربما أجهزت عليه منذ وقت مبكر.
-
يعني كأنك تريد أن تقول إن أسباب التعثر ليست فكرية ولا فلسفية، بل الأسباب هي سياسية واقتصادية، وليست أسبابا متعلقة بالفكر والفلسفة؟
تماما، تماما، الأسباب تتعلق بموازين القوى بمعناه العام وموازين القوى الصلبة والناعمة، ويدخل فيها الجانب العسكري بدرجة أولى، ثم الجانب الاقتصادي والتقني والعلمي، ونحن نتعثر اليوم كعالم عربي وعالم إسلامي، ليس لأننا متخلفون فكريا، في حقيقة الأمر.
روسيا القيصرية كانت عبارة عن تلميذ نجيب، تعلمت من أوروبا، وتداركت ضعفها ودخلت عالم الحداثة، واليابان أيضا ربما مثلت استثناء من القاعدة العامة، كان ينظر لأمم الشرق بأنها أمم فاشلة وعاطلة وعاجزة، ولكن اليابان تلمذت على الغرب؟ وتقدمت وولجت، ودخلت عوالم الحداثة، المسلمون لم يتمكنوا من دخول مغامرات الحداثة لسبب رئيسي، لأنه تم كسرهم عسكريا واقتصاديا، وخضعوا لتوسعات إمبريالية فالمسألة تتعلق بموازين القوى ولا تتعلق بالاعتبارات الفلسفية أو بمجرد النصوص الفلسفية المجردة.
كون أننا (تعثرنا لأننا) لم نستوعب فولتير أو روسو أو كانط أو هيجل، هذه رؤية تبسيطية، بعيدة عن الواقع التاريخي وبعيدة عن التحليل الاجتماعي السياسي.
نحن لم ننهزم في عالم الأفكار يعني في حركة جدل فكري أو حوار فكري ولكن هزمنا بالدبابات وبالقوة النارية في ذلك الوقت مثل ما نهزم اليوم أيضا بالطائرات والصواريخ، المسألة تتعلق بموازين القوى العسكرية وبمختلف عناصرها الإستراتيجية، ولا يتعلق الأمر بمجرد عالم الفكر أو عالم الروح، أو عالم الثقافة
-
فالأسباب برأيكم هي أسباب مادية، لا أسباب معنوية، هذا ربما اختلاف بعض الشيء عن فكر طه عبد الرحمن، لأن الدكتور طه يرى الأسباب أيضا فكرية ومعنوية وروحية، يعني هناك بعض التباين، ألا ترى ذلك؟
الجانب الفكري والروحي هو معطى، هو عنصر ما بين عناصر أخرى، ولكن تقديري للعناصر الأساسية تتعلق بموازين القوى، اعتبارات مادية بدرجة أولى وخاصة القوة الصلبة، نحن لم ننهزم في عالم الأفكار يعني في حركة جدل فكري أو حوار فكري ولكن هزمنا بالدبابات وبالقوة النارية في ذلك الوقت مثل ما نهزم اليوم أيضا بالطائرات والصواريخ، المسألة تتعلق بموازين القوى العسكرية وبمختلف عناصرها الإستراتيجية، ولا يتعلق الأمر بمجرد عالم الفكر أو عالم الروح، أو عالم الثقافة، فأنا ربما أختلف من هذه الزاوية مع الدكتور طه عبد الرحمن، وحتى مع المرحوم مالك بن نبي.
-
ربما أيضا تجربتك السياسية لها دور في هذا المنظور، تجربة وزير الخارجية وتجربة العمل الدبلوماسي والعمل الدولي، صحيح؟
نعم صحيح، وذكرت هذا في المقدمة، ربما الاحتكاك بالشأن السياسي اليومي. يعني يولد لديك قناعة أن الثقافة والفكر ليست عوالم منعزلة، الثقافة والفكر، يتأثر إلى حد كبير بالمعطيات الموضوعية وبموازين القوى.
نحن نعيش في نظام دولي مركب ومعقد، تتدافع فيها الأمم والمصالح الكبرى، ولا تتصارع فيه فقط الأفكار والقيم، ولو تعلق الأمر بعالم الأفكار والقيم فقط ربما لو كنا في وضع أفضل بكثير. فأنا لا أتصور أن اليابانيين أو الصينيين تقدموا كثيرا يعني مقارنة بالمسلمين على صعيد الأفكار ومنظومة الأفكار والقيم.
-
بالنسبة للجزء الثاني من الكتاب يبدو أكثر التصاقا بالفلسفة الغربية والحديث عن الفلسفة الغربية، يعني لو تشرح لنا أكثر هل هو نقد للفلسفة الغربية التي تأسست عليه الحداثة؟ هل هو انحياز مثلا لمدرسة ومنظور غربي ناقد للحداثة، أم هو نقد لكل هذه المدارس؟
في الحقيقة الجزء الثاني بسطت فيه مختلف الأطروحات ونقدتها، بما في ذلك أطروحة ماكس فيبر باعتبار أن نصوص ماكس فيبر تمثل نصوصا تأسيسية في فكر الحداثة، وميزة ماكس فيبر أنه ربط الحداثة بما يسميه العقلانية، ليست الحداثة كشيء مجرد أو كعالم مجرد، بل هي حالة مجسدة اجتماعيا وسياسيا تتجسد في نظام الاقتصاد الرأسمالي وتتجسد في نظام الدولة الحديثة، هذه التعبيرات الأساسية للحداثة، وانتقدت فيبر لارتباط نصوصه بكثير من الحتميات، ومن يقرأ نصوصه مثل “الأخلاق البروتستانتية ونشأة الروح الرأسمالية” وغيرها، يجدها نصوصا مفعمة بنزعة مركزية تكاد تكون مسيحية بروتستانتية معلمنة.
ثم تناولت الحداثة في نصوص نيتشه باعتبارها منعطفا أساسيا في الفكر الفلسفي الغربي، وليس مجرد مدرسة من المدارس التي أضيفت الفكر الغربي، من خلال نشأة النزعة العدمية وما يسمى بالمنظور النيتشوي القائم على تفكيك المرتكزات والمبادئ الأساسية والقيم الكبرى التي قامت عليها الحداثة، تفكيك مفهوم العقل، تفكيك إيديولوجيا التقدم ومفهوم التقدم، تفكيك مفهوم الذاتية الإنسانية.
وفي أحد تعبيراته يقول نيتشه العدمية هي عبارة عن اتجاه نحو المجهول بحيث فقد الفكر الغربي وجهته الناظمة، وطبعا قراءته تربط بين العقل وبين الثيولوجيا فالغرض الأساسي أن يفكك الأسس الدينية والثيولوجية للفكر الغربي، ولذلك يريد أن يؤسس عالما بدون إله وبدون قصدية وبدون معنى. فبصمات الفكر النيتشوي بقيت فاعلة وحاضرة لحد كبير في الفكر الغربي.
ثم جاء هابرماس، ومدرسة فرانكفورت التي جاءت محاولة إنقاذ مشروع الحداثة من الصدمة النيتشوية، أراد أن يشق طريقا وسطا بين النزعات الوثوقية للحداثة على نحو ما تشكلت مع الآباء المؤسسين في التراث الأنواري، مع أخذ مسافة من الفكر النيتشوي، فيريد أن يشق خطا وسطا بين الفكر العدمي النيتشوي وبين الفكر الوثوقي للحداثة، ومن هذه الزاوية تقريبا، أشبه نيتشه بابن تيمية، وأشبه نيتشه بابن عربي إذ أن الأخير محاولة لتفكيك المعنى الديني وتذويبه في الحقيقة الدينية الذاتية، باعتباره التجربة الروحية ذاتية، يعني لا توجد حقيقة موضوعية، أي أن كل الحقيقة مرتبطة بالذوات، أكثر من كونها مرتبطة بالأعيان، بالنسبة لابن تيمية أراد أن يشق طريقا وسطا من خلال إعادة الاعتبار لمفهوم العقل، وللمبادئ الأساسية للفكر الإسلامي، ولكن أقام طريقه على أسس نقدية بعيدا عن العدمية الصوفية والوجودية الحلولية، وبعيدا أيضا عن النزعات الوثوقية للفلاسفة المتأثرين بالفكر اليوناني، يعني تقريب هابرماس من هذه الناحية.
هو أنه أراد أن ينقذ الحداثة من المتاهات الوثوقية، وكذلك من المتاهات العدمية النيتشوية، ولكنها هابرماس في نهاية المطاف ينتهي إلى تسييج الحداثة بحدود سميكة، ويقول إن الحداثة مشروع غير متكمل ولا ناجز. أي ضبط هذه الحداثة بخصائص جوهرية، وهذه الخصائص الجوهرية في الغالب ترتبط بحد كبير بالقيم المؤسسة الغربية، وبنزعة كونية (ادعاءات كونية غربية) تغيب الخصوصيات وتغيب بقية الثقافات والتجارب الحضارية.
لا حلول جاهزة ومكتملة، الإجابات صيرورة تراكمية، وإذا أردنا أن نخوض مغامرة الحداثة، فعلينا أن نأخذ بالشروط التاريخية، والشروط التاريخية، تعني تعديل موازين القوى لصالح العالم العربي والعالم الإسلامي بصفة عامة، حتى يختط طريقه الخاص أو سبيله الخاص في عالم الحداثة
-
هل الكتاب محاولة لإنشاء حداثة بديلة أو في محاولة لتأسيس موقف بديل غير موقف النقدي؟ يعني أقصد موقفا تأسيسيا أو موقفا إنشائيا؟
لا حلول جاهزة ومكتملة، الإجابات صيرورة تراكمية، وإذا أردنا أن نخوض مغامرة الحداثة، فعلينا أن نأخذ بالشروط التاريخية، والشروط التاريخية، تعني تعديل موازين القوى لصالح العالم العربي والعالم الإسلامي بصفة عامة، حتى يختط طريقه الخاص أو سبيله الخاص في عالم الحداثة.
ثانيا. يجب ألا نصاب باليأس، الكثير من الأمم انكسرت، والصين مثلا إلى وقت قريب كان ينظر إليها أنها نموذج للعطالة التاريخية (عطالة الشرق في الأدبيات الاستشراقية)، وروسيا قبل ذلك تمكنت بعد الاحتكاك مع القوى الأوروبية من أن تشق طريقها الخاص في الحداثة. الآن لدينا بعض التجارب الواعدة في العالم الإسلامي يمكن أن تمثل نماذج مستقبلية، ولدينا تجارب حداثية تجري في تركيا وماليزيا وإندونيسيا وإيران، وأيضا بالعالم العربي لدينا تجربة تونسية ومغربية وغيرها، فيمكن أن يبنى عليها، بمعنى أن الأمور متحركة وليست جامدة، وهناك موازين قوى متحركة، وحالة التعددية القطبية اليوم مفتوح لإمكانيات وتعطينا فرصا للتعبير عن ذواتنا والدفاع عن مصالحنا، هذا العالم لا يعترف بالضعفاء، ذلك إذا أردنا أن ندخل عالم الحداثة، علينا أن نمتلك الشروط الإستراتيجية والاقتصادية والعسكرية. التي تمكنا من انتزاع موقعنا ضمن هذه الخارطة العالمية.
العلمانية لا تعني الديمقراطية بالضرورة، كما أن الدين لا يعني بالضرورة الاستبداد، فيمكن أن يكون هناك تجارب دينية استبدادية، كما يمكن أن تكون هناك تجارب دينية ديمقراطية، والعكس صحيح
-
بالعودة للكتاب الأول للدكتور كتابكم عن الدين والديمقراطية والعلمانية، كيف ترى افتراض التلازم بين العلمانية والديمقراطية في التجربة العربية؟
أحد دوافع هذا الكتاب، تفكيك العلاقة التناسبية بين العلمانية والحداثة، وبين العلمانية والديمقراطية، فالعلمانية لا تعني الديمقراطية بالضرورة، كما أن الدين لا يعني بالضرورة الاستبداد، فيمكن أن يكون هناك تجارب دينية استبدادية، كما يمكن أن تكون هناك تجارب دينية ديمقراطية، والعكس صحيح، أيضا، العلمانية ليست على صورة واحدة وعلى نمط واحد، هنالك علمانيات استبدادية مثل تجربة (الديكتاتور الألباني السابق) أنور خوجة، وقد كان علمانيا ولم يكن ديمقراطيا وهناك تجارب أخرى أيضا مثل ستالين وأتاتورك.
الحداثة الأميركية لم تقم أيضا على فكرة القطيعة قامت على فكرة استعادة أمجاد روما وأثينا، خلاف الحداثة الفرنسية، التي تأسست على فكرة القطيعة، إذا من الناحية التاريخية لا نستطيع أن نقول إن العلمانية والحداثة مترابطتان، كما أنه لا يمكن أن نقول إن العلمانية والديمقراطية مترابطتان
بالمقابل أميركا في حقيقة الأمر قامت على موروث الفكر الديني للإصلاحي أي الإصلاحية البروتستانتية، الجماعات التي هاجرت من أوروبا في أجواء الحروب الدينية ذهبت إلى العالم الجديد، بحثا عن مساحات حرية، وأقامت مجتمعا يتأسس على تصورات دينية. الحداثة الأميركية لم تقم أيضا على فكرة القطيعة قامت على فكرة استعادة أمجاد روما وأثينا، خلاف الحداثة الفرنسية، التي تأسست على فكرة القطيعة، إذا من الناحية التاريخية لا نستطيع أن نقول إن العلمانية والحداثة مترابطتان، كما أنه لا يمكن أن نقول إن العلمانية والديمقراطية مترابطتان، هناك علمانية ديمقراطية كما أن هناك علمانية استبدادية وقس على ذلك أيضا الجانب الديني.
العلمانية ليست مجرد حل فلسفي. العلمانية هي حل تاريخي إجرائي، حينما أصيبت أوروبا في أجواء الحروب الدينية بتمزق ديني وتمزق اجتماعي
هذه النقطة الأولى، أما النقطة الثانية هو أن العلمانية ليست مجرد حل فلسفي. العلمانية هي حل تاريخي إجرائي، حينما أصيبت أوروبا في أجواء الحروب الدينية بتمزق ديني وتمزق اجتماعي، يعني بدءا من القرنين الـ16 والـ17، فقدت الكنيسة قدرتها الإدماجية، تمزق النسيج الديني والسياسي والاجتماعي، ولذلك أصبح السؤال المطروح، ما هو البديل عن إعادة تأسيس الاجتماع السياسي، فالدين أو الكنيسة، لم تعد قادرة على تأسيس هذا الاجتماع السياسي بحكم حالة الانقسام وتعدد الطوائف، وصراع الطوائف الدينية فيما بينها، صراعات دموية مهلكة ومدمرة. فطرح الحل العلمانية ضمن هذا السياق، ولذلك المقولة الأساسية التي تتأسس عليها العلمانية أن الدولة فوق الكنيسة، فنظر للدولة المدنية باعتبارها الإطار المنظم للشأن المدني، وفوق الكنيسة وفوق الدين.
بينما في العالم الإسلامي، إذا لم ننتبه لهذا المعطى، إذا دفع الدين أو إذا تحول الدين إلى قوة إكراهية وقوة صراع، بين طوائف ومذاهب وأصبح مفجرا للتناقضات الداخلية، فيمكن أن يستدعي الحل العلماني، ولذلك أرى أن الجماعات الدينية المتشددة في بعض الأحيان هي أكثر الجماعات رفضا للعلمانية ربما هي نفسها بنمط تفكيرها وسلوكها، هي التي تستدعي الحل العلماني، لأنها تؤكد واقعا أن الدين عاجز على تأسيس المشتركات العامة، فتحوله إلى عنصر تمزق وصراعات داخلية، وبالتالي العلمانية ليست حلا فلسفيا، بل هي حل إجرائي لأسباب وسياقات وملابسات تاريخية معينة، ويجب أن ننتبه إلى هذا أيضا في العالم الإسلامي اليوم.
-
لكن مفهوم الدين مفهوم مختلف، في الحداثة الغربية وفي الفلسفة الغربية، مثلا ماكس فايبر يتحدث عن الإسلام، ليس كدين، واعتباره مجرد دين بالمفهوم الغربي يبدو نوعا من التبسيط المخل، كما أشار، كيف ترى هذا الاختلاف بين مفهوم الدين في السياقين الغربي والإسلامي؟
صحيح، مفهوم الدين في التصورات الغربية مرتبط بكون العلماني والديني مترابطان، فما يحدد مفهوم العلماني ومفهوم الديني مرتبط بالتصورات المسيحية الوسيطة، أن ما يوجد داخل الكنيسة هو المجال المقدس الديني وما يقع خارج الفضاء الكنسي يسمى بالفضاء الدنيوي أو المدني، وأصبح ينظر إليه له -في ذلك الوقت- كمجال مدنس.
حينما جاءت العلمانية وصعدت العلمانية، تمدد المدنس والدنيوي، على حساب الديني، وحشر المجال الديني داخل الحيز الكنيسي، لكن مثل هذا الأمر لا يوجد في الإسلام لأنه كما يقول محمد إقبال كل ما هو ديني هو دنيوي، كل ما هو دنيوي يحمل بعد ديني في التصورات الإسلامية، فالمسلم حتى في أكثر حالته الدنيوية كثافة وهو يقوم بواجباته الزوجية يكون متعبدا في دلالة على الترابط بين الدين والدنيا.
-
نعود للحديث عن كتابك الأول، وعن قضية الديمقراطية، هل تراها فلسفة أم إجراءات؟
نعم، ولا في حقيقة الأمر، المقاربة التي ذهبت إليها في الكتاب أن الديمقراطية هي بالأساس آليات إجرائية، ولذلك نجحت في سياقات منظومات ثقافية ودينية مختلفة، وما أعطى للديمقراطية صلاحية كونية هو أنها يعني قابلة للتعديل والتطوير والاشتغال في المنظومات الثقافية مختلفة.
لست ممن يقولون بوجود ثقافة سياسية مسبقة كشرط لازم للديمقراطية، لكن التجربة بينت أيضا أن التعامل مع الديمقراطية كمجرد آلية إجرائية يمكن أن يوصلنا إلى مأزق، بحيث تستغل قوة كثيرة الآليات الديمقراطية لتخريبها أصلا، ليس بفعل الاقتناع، ولكن فقط هي مجرد أداة، وسيلة للتموقع في الحكم أو للانتصار أو ضرب للخصوم
لست ممن يقولون بوجود ثقافة سياسية مسبقة كشرط لازم للديمقراطية، لكن التجربة بينت أيضا أن التعامل مع الديمقراطية كمجرد آلية إجرائية يمكن أن يوصلنا إلى مأزق، بحيث تستغل قوة كثيرة الآليات الديمقراطية لتخريبها أصلا، ليس بفعل الاقتناع، ولكن فقط هي مجرد أداة، وسيلة للتموقع في الحكم أو للانتصار أو ضرب للخصوم.
وصعود الشعب كما الحالة الراهنة مثلا في تونس يعطينا دليلا على ذلك، كيف يتم استخدام الآليات الديمقراطية لكسر الديمقراطية؟ ولذلك الديمقراطية تحتاج شرطا مسبقا، ليس شرطا فلسفيا. ولكن تحتاج إلى اقتناع أيضا إلى أن تتحول الديمقراطية كقناعة عامة، وبأنها الوسيلة الوحيدة لإدارة الشأن السياسي ولإدارة الصراعات أيضا، يعني لا يمكن أن تستخدم الديمقراطية فقط من المدخل الإجرائي، هي إجراءات نعم، ولكنها تحتاج أن تترسخ، أن تكون هناك قناعة فكرية وفلسفية بهذه الآلة الإجرائية،
بمعنى أن تقوى هذه الإجراء الآلة الإجرائية بوجود أرضية فكرية وفلسفية صلبة بأنها الإطار الوحيد لتنظيم الشأن السياسي، ولإدارة الصراعات والخلافات السياسية، البديل عن ذلك أن تتحول إلى مجرد أداة للتموقع وافتكاك السلطة.
النهوض والتقدم يتعلق بالأخذ بأسباب النهوض، وعنصر رئيسي من أسباب النهوض، هو مثل ما ذكرت السياسة بمعناها الإستراتيجي العام
-
آخر سؤال، هو سؤال الاستقلال هل هو حاضر في كتابك ومشروعك الفكري، خاصة في هذه الحقبة التي نعيشها من الحرب الإسرائيلية على غزة، هل كان لسؤال الاستقلال حضور فلسفي في كتابك؟
نعم، الموضوع حاضر في مقدمة الكتاب وفي خاتمته وبين الاستنتاجات الأساسية، لماذا نهضت أمم جديدة؟ نحن نعيش اليوم مرحلة صعود قوى جديدة في العالم، الصين إلى وقت قريب لم ينظر إليه أنها تمثل شيئا كبيرا في المنافسة الدولية الآن أصبحت قوة، فرضت نفسها في التوازنات الدولية، هناك قوى أخرى صاعدة أيضا مثل تركيا وإيران، والبرازيل. الهند بمعنى كأن بوابة الأمل مفتوحة، إذا أخذنا بأسباب القوة، إن النهوض والتقدم يتعلق بالأخذ بأسباب النهوض، وعنصر رئيسي من أسباب النهوض، هو مثل ما ذكرت السياسة بمعناها الإستراتيجي العام.
إذا امتلكت مقومات القوة بمعناها التقني والسياسي والاقتصادي وغيرها، وواجهت أيضا آليات الهيمنة الدولية، لأننا نعيش في نظام دولي مركب ومعقد ومتشابك، يتسم بالتداخلية الشديدة، إذا لم نواجه عنصر الهيمنة، والاحتلال الصهيوني في قلب العالم العربي. لا يمكن أن نتحدث لها عن نهضة، ولا تقدم، ولا شيء من ذلك.