العمارة القاتلة.. ماذا تعرف عن خطط إسرائيل لسجن الفلسطينيين في مدنهم؟ | سياسة
حول إمكانيات الحيز الحضري بتعدد أشكاله في إنتاج المقاومين واحتضانهم ودعم صمود الناس، يؤكد الدكتور عبد الرحمن كتانة المتخصص في التخطيط المعماري والحروب بجامعة بيرزيت لـ”أبعاد” أن النسيج العمراني ينتج بيئة اجتماعية خاصة تؤثر بدورها في شكل النسيج الاجتماعي فيها، ويشير إلى الاختلاف بين البيئة المكتظة في المخيمات، وغيرها في العمارات السكنية أو الفلل في المدن الأخرى.
فمثلا، يكون المخيم أكثر إنتاجا للعلاقات الاجتماعية لأن المساحة المكانية تفتح مجالا لأفراده للالتقاء، فتتشكل الروابط الاجتماعية الصغيرة غير الرسمية التي تعتمد على وجود الناس في المكان، وتنشأ مجموعات مثل رجال الحارة وشباب الحارة، وشباب الجامع، وأولاد الحارة، تلتقي بشكل مقصود وغير مقصود في الجامع والشارع والملعب وعلى أبواب المحلات، فضلًا عن اللقاءات المرتبة، مثل تلك التي تنظمها نساء الحارة في البيوت، وهكذا ينتمي كل فرد من أفراد الأسرة الواحدة لروابط اجتماعية أخرى، ويشكل جزءا منها؛ الأم جزء من “نسوان الحارة” والطفل أحد أولاد الحارة، وهذا النسيج الاجتماعي يتعاضد أكثر ويحمي نفسه في مواجهة الضغوط الخارجية في الحروب والكوارث.
تأثر الحيز العمراني بتلك التشاركية التي غلفت العلاقات الاجتماعية في المخيم وأثر فيها، وكان النسيج الاجتماعي الناتج عنه قادرا على إنتاج المقاومة والبقاء أساسًا وحاضنة لها، بمساعدة عوامل أخرى منها الدين ودور العائلة، في غزة يكون واضحا في بعض المناطق كيف أن عائلة بعينها هي التي تشكل مربعا سكنيا ما، وهذه طبقة أخرى من التعاضد.
تدخل رابطة أخرى لتزيد التعاضد وهي الانتماء الاختياري للتنظيم الذي يمتد في شبكة أوسع في كل المناطق، الجامع مثلا كان محلا لتجنيد المقاومين لبعض الحركات، وكذلك كان النادي الرياضي أو مركز الشباب لمجموعات أخرى، وهذا ما نعنيه بكون البيئة المبنية هي التي تشكل الحاضنة الاجتماعية وتسهم في تنظيم واستقطاب عناصر المقاومة كما أن بها ديمومة عمل وحياة المقاومة.
شاهدنا هذا بالتحديد -وفق ما علق محللون عسكريون- مع كتائب القسام وسرايا القدس في الحرب الجارية التي بدأت في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فقد اعتمد عمل كتائب المقاومة على المناطق، بحيث اعتمد توزيع خلايا المقاومة على الحيز المكاني ومعرفة المقاتلين بالمناطق أكثر مما اعتمد على الهياكل التقليدية للكتائب، هناك يكون للمقاومة علاقات مع المكان والعائلة والجيران والتنظيم بالطبع، وكل هذه الطبقات الاجتماعية حاضنة مثالية، إذ يشترك كل الموجودين مع المقاوم في أكثر من رابطة من هذه الروابط.
المعرفة الحدسية
يعتمد جزء كبير من عمل المقاتل -كما يوضح عبد الرحمن كتانة- على الملاحظة بالنظر، وما يمكنه رؤيته؛ ولهذا يستخدم جيش الاحتلال تقنيات المراقبة مثل المسيّرات وطائرات الاستطلاع والروبوتات العالية، ويوضح كيف أن البيئة المبنية بشكل عام تحدّ الرؤية، وتعيق خطوط النظر فتعيق عمل الجندي.
وفقًا لــكتانة، يلزم أي مقاتل في حرب المدن خاصة نوعين من المعرفة، الأول هو المعرفة التقنية التي يحصل عليها من خلال الخرائط والمعلومات والبيانات التي تجمعها له أجهزة الاستخبارات والخبرة من خلال التدريب على ممارسة القتال، أما الثاني فهو المعرفة الحدسية التي لا يحصل عليها إلا من خلال الحياة في المكان نفسه، وعدم العيش في المكان يُفقد الجندي هذه المعرفة.
في غزة يعرف المقاتل -صاحب الأرض- المكان، وهو من يمتلك معرفة حدسية عالية جدا، يمكن ملاحظتها في فيديوهات المقاومة حيث يعرف المقاومون حدسيا أين ستصل الدبابة، وتعتمد المقاومة على خلايا وكتائب وعقد من أهل المكان، لديهم معرفة حدسية غير محدودة لا تعادلها المعرفة التقنية لجنود الاحتلال، فمن يعرف طبيعة المكان أكثر يستطيع اتخاذ ردّ أسرع.
ميزة أخرى دعمت هذه القدرة الحدسية يخبرنا بها كتانة، هي القدرة على اتخاذ قرار لا مركزي؛ فقد اعتمدت المقاومة على عقد قتالية من 4 أو 5 أفراد يكون ردّها بقرار لا مركزي يصدر من داخل العقدة نفسها، في حين يعتمد جيش الاحتلال على المعلومات ولا يمكنه اتخاذ مثل تلك القرارات دون الرجوع إلى القيادة.
يشير كتانة هنا إلى أنه حتى مع الهدم الذي يخفي معالم العمران في المدينة، ويؤثر في بعض العمليات التكتيكية بشكل عام تظل المعرفة الحدسية قوية لدى المقاومين؛ فالركام ينتج نوعا جديدا من “التمويه”، وهو تكنيك عسكري ساعد المقاومة على التماهي مع الركام، لذا كانت تحذيرات الجيش الأمريكي بألا يصنع جيش الاحتلال الكثير من الركام لأنه يعيق الدبابات ويصبح مكانا للكمائن، وقد كان بالفعل مكانا لتنفيذ الكثير من العمليات.
ثلاثية الأبعاد.. الجندي المنهك
أدّت العمارة إذن الدور الأقوى في تعزيز قدرة المقاومة على الردّ الأسرع والمناورة من مبنى إلى آخر بكفاءة أعلى واستخدام طبقات المباني لعمل استطلاع من مناطق غير متوقعة من نافذة في مبنى ثم من نافذة في مبنى مقابل على سبيل المثال، وهو ما خلق بيئة قتال ثلاثية الأبعاد، فصارت قدرة المقاومة على الاستطلاع غير محدودة تقريبا، وبالمثل قدرتها على إطلاق النار وتحديد اتجاهها.
يؤدي هذا بجنود الاحتلال إلى ما يسمى “مرحلة الإنهاك”، أمام كثرة الاحتمالات، وتعدد الأماكن التي قد تأتيهم منها قذيفة أو إطلاق نار أو حتى مجرد رصد حركتهم، تُستنزف الطاقة النفسية للمقاتلين وهذا من أهم عوامل ضعف الجنود في حروب المدن ويعتبره بعض العسكريين أصعب الأسلحة.
يضيف كتانة “رأينا مثل هذه الحالة حين قتل جنود الاحتلال ثلاثة أسرى إسرائيليين، لا تبرير هنا بالنسبة لي سوى حالة الإنهاك التي تشلّ القدرة على اتخاذ القرار ، فجعلت الجنود لا يستوعبون كون الأسرى يحدثونهم بالعبرية، في مثل هذه الحالة أيضا تحدث حالات الانتحار وقتل الزملاء، ولهذا كان الحديث عن أن نحو 20% من قتلى جيش الاحتلال من نيران صديقة”، تلك القدرة التي تمتلكها المقاومة على استخدام البيئة المبنية سواء القائمة منها أو المهدمة، وبراعتها في عمل كمائن فيها، تخلق لدى الجندي الإسرائيلي حالة إنهاك تجعله رد فعل وليس فعلا.
وقد زادت الأنفاق قوة هذه البيئة الثلاثية الأبعاد، إذ دمجت فيها المقاومة ما فوق الأرض بما تحتها، وبالبيئة المبنية في مخارج ما تحت الأرض من مبان وأنفاق أمكن الربط بين مجموعة من المباني فوق الأرض لتزيد الشبكة الثلاثية الأبعاد في بيئة المعركة، فتصبح غير محدودة ولا يسهل على الجندي رؤيتها والإلمام بها، لتزيد حالة عدم التوقع لديه. هكذا تسير الدبابة بصعوبة في مكان القدرة على استهدافها فيه تمثل 360 درجة.
الإعداد السابق كان عنصرا آخر يضيفه عبد الرحمن كتانة، ويؤكد أنه أسهم في دعم المقاومة في غزة، قائلا “هناك كمائن وخطط مسبقة رأيناها في أكثر من نموذج، تعاملت مع إمكانيات وفرص دخول العدو، كانت هناك مجموعات قتالية تنتظر لأسابيع حتى تنفذ هجوما لتحسن استغلال جميع الظروف وتخلق كمينا جيدا، في الحادثة التي قُتل فيها 20 جنديا، تبين أن المقاتلين كانوا يرصدون حركة الجنود من أيام سابقة، لكنهم لم يهاجموهم إلا في اللحظة المناسبة بفضل القدرة على الاستطلاع التي منحتها لهم البيئة المبنية، وقدرتهم بالتالي على اتخاذ القرار في الوقت المناسب”، ويضيف هنا “لا يعني هذا أن المقاوم أقوى لكنني أتحدث عما تمنحه له هذه القدرة”.
العمارة حليفا في الحرب
في معارك المدن بشكل عام تتبدى قدرة العمارة على خلق بيئة ترهب العدو، كما يشرح الدكتور عبد الرحمن كتانة، يتوقع الجنود استهدافهم من أي جهة، وهو ما يدعم قدرة المقاومة على أن تخوض حرب عصابات تعتمد على المكان وليس على الشكل التقليدي للكتيبة من حيث العدد والتنظيم، فتوظف مجموعات تعرف المكان جيدا بكل عناصره، تسيطر المقاومة ضمن خططها على منطقة ما ثم تبدأ المواجهة، وهذا لا يوجد في المناطق المسطحة، إنها قدرات تمنحها حرب المدن.
تمنح العمارة للمقاوم أيضا قدرة على الرصد والاستطلاع من أكثر من جهة والتخطيط والهجوم والرجوع، إنها ميزة حرب المدن، وقد نجحت المقاومة في إعداد خطط تحاول تحقيق أهداف تكتيكية تؤثر على المدى الطويل في الأهداف الاستراتيجية، في الحادثة الأخيرة لمقتل الضابط المسؤول عن الهجوم على مستشفى الشفاء، يتبين كيف رصدته المقاومة وتتبعته من منطقة لأخرى، واستخدمت الاستطلاع من أكثر من جهة لتحديد هدفها، والتأكد من أنه الشخص المستهدف.
في مواجهة قدرات الآلية الإسرائيلية من مسيّرات ودبابات، كانت البيئة المبنية مهمة في دعم المقاومة، في أكثر من حادثة كان المقاوم يضع العبوة وينسحب معتمدا على زاوية الرؤية وعلى تقديره للمسافة التي تحتاج إليها حساسات الدبابة لكي تستشعر الخطر وتبدأ الردّ، فكان يعرف كيف يستبقها.
كان الأمر نفسه يحدث مع قاذف الياسين 105 المضاد للدبابات حين يتم إطلاقه من مسافة لا تزيد على 100 متر، بسبب سرعته وقرب المقاوم لا يلبث النظام المضاد للصواريخ الموجود في دبابات الميركافا، أن يعمل، في أكثر من فيديو ظهر المقاوم وهو يهاجم من مسافة قريبة جدا ثم يختفي من خلال باب مثلا، وهكذا منح العمران للمقاوم قدرة على الاستباق والهجوم قبل أن تستعد الدبابة وتلف الرشاش أو المدفع وتفعل أي نظام.
كيف يواجه الاحتلال؟
كان على أجيال سابقة من العسكريين التعامل مع مناطق جغرافية مختلفة، إضافة إلى الهياكل المبنية من حصون ومعسكرات، ومع تزايد الأماكن الحضرية التي تتحول إلى مسرح لعمليات الجيوش، يعمل مخططو الحرب حاليا على فهم الشوارع الحضرية الكثيفة. في عام 2011 على سبيل المثال كان على قوات خاصة تابعة لمشاة البحرية الأمريكية مداهمة مجمع سكني تتنوع طبيعته بين القرى والحقول؛ مما دفع بمخططي الحرب إلى وضع الشوارع الحضرية في الاعتبار عند التخطيط لعملياتهم المستقبلية.
في كتاب Fronts: Military Urbanisms and the Developing World “الجبهات: التمدن العسكري والعالم النامي” يصف كل من إرسيلا كريبا وستيفن مولر هذا المفهوم، من خلال نسخة أخرى من تخطيط المدينة تمنح المتدربين قدرة على التعرف على معالمها، وكيف يجري تدريب العسكريين على معلومات تتعلق بمواد البناء وسمك الجدار وأي مستويات المبنى يمكن اختراقها بسهولة. هكذا تُبني اليوم قرى ومناطق حضرية تحاكي المواقع التي سيكون على الجيوش التعامل معها لتوفير تحديات مماثلة وبيئة واقعية للتدريب على الحركة وتفتيش المنازل وصولا إلى القصف.
يوضح لنا الدكتور عبد الرحمن كتانة كيف كان جيش الاحتلال يطور خططه في الحرب في المدن، فأنشأ مبكرا جدا -في منطقة النقب- مدينة “البلدية” التي تشبه في تصميمها المدن والمخيمات العربية، لتدريب جنوده على خوض الحرب فيها. لقد استُخدمت هذه المدينة للتدريب من قِبل جيوش أخرى، وحتى 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي كان الجيش الإسرائيلي من أنجح الجيوش في خوض معارك المدن، وكانت المسيّرات التي تراقب حتى من خلال الجدران محل فخر الجيش.
لقد حدّ من تلك القدرات، نقص حاد في قدر ودقة المعلومات الاستخبارية الواردة من القطاع إلى جيش الاحتلال، ولهذا السبب استخدم القصف السجادي لتحقيق أهداف عسكرية مثل تسوية أرض المعركة وإرباك خطوط الدفاع، إلى جانب أهداف سياسية لاستهداف المدنيين بشكل انتقامي، وإجبارهم على الهجرة، إذ كانوا الحاضنة للمقاومة ولأنهم جزء من عائلات المقاومين، فكان القصف يهدف لأن يدفع المدنيون ثمن وقوفهم إلى جانب المقاومة.
كتكنيك عسكري فإن هذا القصف كان يمسح المنطقة لتخريب الخطط الدفاعية في محاولة لأن تكون المنطقة ثنائية الأبعاد فتكون قدرة الدبابات والجيوش على المناورة أكبر، في بعض المناطق مثل بيت حانون وبيت لاهيا على المناطق الحدودية سُويت مناطق وأحياء كاملة بالأرض، ولم يكن الأمر عشوائيا، لقد أراد جيش الاحتلال التخلص من العمارات السكنية التي تشكل حواجز تحجب النظر، كما سعى بهذا القصف للتمهيد لدخول المنطقة وإلحاق أضرار بالأنفاق الموجودة فيها.
أعاق الركام حركة الدبابات إلى حد ما لكن التأثير ظل أقل مما لو كانت المباني لا تزال على حالها كاملة وبها سكانها. يلفت كتانة نظرنا هنا إلى أن وجود الناس في الأحياء السكنية يعيق جيش الاحتلال ليس فقط لأن قصفهم يزيد الخسائر بين المدنيين ويزيد إحراجه، وإنما لأنهم يدعمون المقاومة بالمعلومة والملاحظة وحتى الطعام، فضلًا عن نقل الجرحى وعلاجهم.
كان جيش الاحتلال يلجأ لأن يفيد أيضا من الحيز العمراني ويصبح جزءا منه حتى لا يظل بالشوارع فيخضع للمقاومين بمعرفتهم الحدسية بالمكان، ويصبح مكشوفا لهم، ضمن استراتيجيات الجيش صنع الجنود حفرا داخل البيوت ليتحركوا من بيت إلى آخر دون أن ترصدهم المقاومة، كانوا يصنعون ممرات داخل المناطق المبنية من خلال تفجير الحوائط وعدم استخدام الأبواب إلا بعد تطهير المنطقة كاملة.
في أطراف المدينة في منطقة بيت لاهيا وبيت حانون ومنطقة الكرامة كان جنود الاحتلال يصنعون شوارعهم الخاصة ويؤسسون مناطق التمركز بين عمارات سكنية أو بجانب المدارس ليسيطروا على المكان ويستخدموا البيئة المبنية من عمارات سكنية ومدارس للاحتماء بها باعتبار أن المقاومة ستتجنب القتال فيهم حفاظا على حياة المدنيين.