تخليد آمنة حميد.. صوت المهمشين وضحية كلمة فلسطين | سياسة
في 24 أبريل/نيسان الماضي، كانت جثة آمنة حميد الممزقة ملقاة تحت أنقاض منزل في مخيم الشاطئ، في الجزء الغربي من مدينة غزة، بينما كان رجال الإنقاذ يحاولون العثور على ناجين، إذ قد أصاب هجوم إسرائيلي المبنى، مما أدّى إلى مقتلها هي وابنها الأكبر مهدي، كما أصيب شقيقها وأطفالها الخمسة الآخرون لكنهم نجَوا.
وأضيفت وفاتها إلى الإحصائية القاتمة لأكثر من 140 صحفيًا وعاملًا طبيًا قُتلوا في غزة؛ بسبب هجمة الإبادة الجماعية الإسرائيلية، وفقًا للإحصاء الذي يحتفظ به المكتب الإعلامي في غزة. هذا العام – مثل العام الماضي – قُتل عدد من الصحفيين في فلسطين أكثر من أي دولة أخرى.
لقد كانت الصحفيات الفلسطينيات دائمًا في طليعة المناهضين للاحتلال الإسرائيلي العنيف وفي صدارة الوقفين في وجه المحتل في حروبه التي يشنها على الفلسطينيين. لقد ساعدت شجاعتهن وتفانيهنّ في تسليط الضوء على المعاناة والفظائع التي مرّ بها الشعب الفلسطيني وما زال يواجهها.
لكن آمنة كانت أكثر من مجرد صحفية؛ كانت شاعرة وناشطة نسوية. ولدت في غزة عام 1990 لعائلة ترجع جذورها إلى مدينة أسدود الفلسطينية – أو ما يسمّيها الإسرائيليون الآن أشدود.
وكما هو الحال بالنسبة لمعظم النساء في غزة، اتّسمت رحلة آمنة بالإصرار والالتزام الثابت بالتعليم. حصلت على درجة البكالوريوس من الجامعة الإسلامية بغزة عام 2016، ثم التحقت ببرنامج الماجستير في جامعة الأقصى. لقد تمّ تدمير جامعتَيها بالكامل بسبب القصف الإسرائيلي.
عملت في العديد من الصحف والمحطات الإذاعية المحلية، حيث منحت صوتها للمهمّشين، وأجرت أبحاثًا، ودافعت عن حقوق المرأة والقضية الفلسطينية.
وكانت آمنة تعيش في حيّ اليرموك، على بُعد بضعة كيلومترات فقط من ساحل غزة على البحر الأبيض المتوسط. ولو كانت وُلدت على الجانب الآخر من البحر، لربما تمتّعت بشهرة وبمسيرة مهنية واسعة، ولكانت فازت بالعديد من الجوائز والتقديرات العالمية نظير مواهبها العديدة. وكما هي الحال اليوم، فإن مكافأتها الأخيرة كانت الموت على يد الجيش الإسرائيلي.
لقد تركت آمنة وراءها طفلة تبلغ من العمر سبعة أشهر، ضحى، بالإضافة إلى الأطفال: علي (10 أعوام)، ومحمد (9 أعوام)، وأمير (5 أعوام)، وغانا (4 أعوام). ولم يتمكن زوجها – الصحفي والناشط سعيد حسونة – من الوصول إليهم.
وكان قد انفصل عنهم في ديسمبر/كانون الأول 2023 بعد أن داهم جنود إسرائيليون مبنى سكنيًا في مدينة غزة، حيث لجؤُوا، واختطفوه وعذبوه وأجبروا آمنة والأطفال على المغادرة. وبعد أن أطلق الجيش الإسرائيلي سراح سعيد – بعد أن تعرض للضرب والتجريد من ملابسه ولم يعد لديه أي ممتلكات – توجه جنوبا؛ لأنه لم يتمكن من الاتصال بعائلته لعدة أيام. ولأنه كان يعاني من جروح ويشعر بقلق عميق على زوجته وأطفاله أُصيب بانهيار عصبي.
وقبل هذه المحنة الرهيبة، نجت الأسرة من القصف الإسرائيلي الذي استهدف الأماكن التي لجأت إليها مرتين، وفي المرَّة الثانية أصيبت آمنة وضحى بجراح.
قال لي سعيد: “لا أستطيع التوقف عن التفكير بهم بعد مقتل آمنة”. “لا أستطيع أن أذهب إلى الشمال ولا يمكنهم أن يأتوا إلى الجنوب. نحن متفرقون. ولم أتمكن حتى من حضور جنازة آمنة أو توديعها الأخير. ولا أستطيع النوم وأنا أفكر فيهم”.
والواقع أن عائلة آمنة تعتبر رمزًا لجميع سكان غزة الذين ما فتئوا يصارعون الفظائع التي تتكشّف هناك.
ولا شك أن كلمات المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالأراضي الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيز، تنبض بحقيقة قاتمة حيث تقول: “إن الكم الهائل من الأدلة المتعلقة بالجرائم الدولية التي ارتكبتها إسرائيل في غزة خلال الأشهر الستة الماضية يمكن أن يبقي المحكمة الجنائية الدولية مشغولة على مدى العقود الخمسة المقبلة”.
لقد خُلدت الوفاة المرعبة لآمنة إلى الأبد في تقرير بثته قناة الجزيرة. وأثناء وصول المراسل إسماعيل الغول إلى مكان التفجير، ركض نحوه محمد، أحد أبناء آمنة. والدموع تنهمر على وجهه وصوته يرتعش، ينادي الطفل: «عم إسماعيل!» “نعم ماذا حدث عزيزي؟” يسأل المراسل.
فيصرخ الصبي من قلبه: “أمي وأخي محاصران تحت الأنقاض، وإخوتي وعمي هم كذلك مصابون. وكان الطفل يقول ذلك هو يبكي دون أن يدرك أن لديه شظايا صغيرة في جسده: “لقد خرجت بخير”.
يسأله المراسل عما حدث، فيجد محمد صعوبة في الكلام. ويقول وهو يتنفس بصعوبة ويبكي: إن صاروخًا سقط بينما كانت الأسرة جالسة معًا. وبينما تغلب عليه الدموع، يُهرع أحد أقاربه لاحتضانه، ويقدم له ما أمكن من عزاء قليل وسط هذه الإبادة الجماعية التي تتكشف.
كلمات محمد شبحٌ في ذهني، وأنا على بعد آلاف الكيلومترات في كندا، ولا أستطيع أن أفعل أي شيء ضد الطاغوت الوحشي الذي أُطلق العنان له في غزة، وآمل أن يتردد صدى هذه الكلمات يومًا ما في قاعات العدالة الدولية.
وقبل أن يتم أخذها منا، واجهت آمنة حملة تشهير، إذ بثت القناة 14 الإسرائيلية صورة لها وزعمت أنها جزء من المقاومة الفلسطينية المسلحة، وأن وجودها في مستشفى الشفاء يثبت أن حماس “تختبئ في المستشفى”.
وبدلًا من إظهار التضامن مع زميلتها الصحفية التي تعرضت لإطلاق النار، اختارت وسائل الإعلام الإسرائيلية التحريض ضدها.
صحيح أن آمنة كانت بالفعل في مستشفى الشفاء، لكنها غادرت هذا المستشفى قبل بدء حصاره مباشرة، لذا نجت من الموت في المذبحة التي راح ضحيتها 400 شخص على الأقل في مارس/آذار. وتمكّنت بهذه المغادرة من إطالة حياتها بضعة أسابيع.
ويعتقد زوجها أنها استُهدفت بسبب تقاريرها عن الإبادة الجماعية الإسرائيلية، فقبل أسابيع قليلة من مقتلها، كتبت آمنة تعليقًا مؤثرًا على صفحتها على الفيسبوك:
“لطالما كانت اختياراتي عبارة عن مزيج من التجارب المريرة والمذهلة. وعلى الرغم من أن المنعطفات محفوفة بالصعوبة وأن المصير معلق في الميزان، إلا أنني لم أكن أبدًا من أولئك الذين يترددون أو يطأطِئون رؤوسهم أو يتراجعون أو يتلعثمون ولن يوقفني شيء عن التمسك بقدسية الأسرار وحمل وتوصيل الرسالة التي أدركتها بعمق منذ نعومة أظفاري”.
لا شك أن مقتل آمنة في 24 أبريل/نيسان يمثل خسارة لعائلتها وأصدقائها والشعب الفلسطيني وأي شخص ملتزم ببناء عالم أفضل. وإن كلماتها المليئة بالأمل والتفاني هي شهادة لا تصدق على قوة الروح البشرية في البقاء على قيد الحياة خلال أحداث يشيب له الولدان، وآمل أن تلهم تلك الكلمات الأجيال القادمة للتصرّف بشجاعة كما فعلت آمنة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.