جرائم القاصرين تهز فرنسا وتفتح جدلا بشأن المسؤولية الجنائية | سياسة
في تسعينيات القرن الماضي، نجح الثنائي برونو لوباز وديديي مورفيل في نقل أزمة الشباب الفرنسي بالضواحي الفقيرة عبر موسيقى الراب و”هيب هوب” الصاعدة آنذاك، كأحد أبرز التعبيرات الثقافية الممزوجة بلغة عنيفة ومتقاطعة مع رقص الشوارع والغرافيتي.
وبعد أكثر من 3 عقود عن تلك الحقبة، أصبحت أزمة الشباب في الضواحي أكثر خطورة مع تصاعد مظاهر العنف وتواتر جرائم قتل مروعة بأيدي قاصرين هزت الرأي العام الفرنسي.
وهذا ما دفع الحكومة، باقتراح من الداخلية والمناطق البلدية، إلى التفكير جديا في تعميم حظر تجوال ليلي كأحد الحلول الوقائية للحد من جرائم القاصرين، بينما طرح سياسيون ورجال قانون نقاشا بشأن مراجعة المسؤولية الجنائية للقاصرين.
عنف واستقطاب
مع دخول الألفية الجديدة تصاعدت جرائم القاصرين في أنحاء فرنسا أكثر فأكثر، فوفق تقرير لمجلس الشيوخ فإن معدل أعداد القاصرين المورطين في جرائم ظل يتراوح بين 190 ألفا و200 ألف الفترة ما بين عامي (2010-2019).
وعام 2021، بلغ العدد ذروته حيث ناهز 199 ألفا قبل أن يتراجع العام الذي يليه إلى 169 ألفا، تحت وطأة تدابير الإغلاق التي رافقت الأزمة الصحية العالمية لجائحة كورونا. ويمثل العدد ما نسبته 5.2% من السكان الذين تتراوح أعمارهم ما بين (10-17) عاما.
وفي مقابلة صحفية مع إذاعة “آر تي إل” الفرنسية” حذر المدعي العام الفرنسي لمكافحة الإرهاب جون فرانسوا ريكار من زيادة لافتة وخطيرة خلال السنوات الثلاث الأخيرة من ميل الشباب أو القُصر للمشاركة بالتخطيط لأعمال العنف، بجانب تزايد عمليات استقطاب المتطرفين لهذه الفئة العمرية الهشة، وهي بحسب تقديره ظاهرة جديدة في فرنسا.
وللدلالة على ذلك تمت عام 2023 محاكمة 10 قاصرين (تحت سن 18) في فرنسا، واتهامهم بالتورط في التخطيط لأعمال عنف ذات طبيعة إرهابية، بحسب المدعي العام.
حظر تجوال ليلي
كان رئيس بلدية مدينة “بيزيي” روبرت مينارد قد اتخذ بالفعل مثل هذه الخطوة في أبريل/نيسان 2024، عبر إقرار حظر تجوال ليلي حتى 30 سبتمبر/أيلول 2024، على من سنهم أقل من 13 عاما، من الساعة 11 ليلا حتى 6 صباحا. وتبعه في نفس القرار رئيس بلدية “نيس” كريستيان إستروسي، مع إمكانية أن يشمل أيضا من هم في سن 14 و15 عاما.
وفي أعقاب الاضطرابات وأعمال العنف التي شهدتها أحياء بجزيرة غوادالوب، اتخذت الداخلية الفرنسية قرارا يوم 18 أبريل/نيسان بحظر التجوال على القاصرين بين الساعة 8 ليلا و5 صباحا لمدة شهر قابلة للتمديد.
وقبل ذلك، جرى استخدام هذا القرار في مدينة كوبيين بإقليم “واز” شمال فرنسا بمناسبة الحفل الموسيقي للعام الجديد 2022 ومنع خلاله القصر من الخروج ليلا لتفادي تكرار القلاقل التي حدثت قبل عام باحتفال 2021، والذي شهد أعمال عنف وتخريب واشتباكات مع الشرطة، وطبق القرار في نفس المدينة على مدار السنوات التالية في أغلب الحفلات العامة على سبيل الاحتراز.
وتقول السلطات الأمنية -في تقرير نشرته “لوباريزيان”- إن حضور القاصرين أصبح أقل في الحفلات العامة مع تراجع حجم الانتقادات الموجهة لحظر التجوال، ومع ذلك يشير القيادي بحزب “اتحاد الديمقراطيين والمستقلين” دانيال ليكا إلى أنه “من المهم أن يبقى القرار استثنائيا وأن يظل تطبيقه في حالات محددة”.
وبحسب نتائج استطلاع أجراه معهد “سي إس آي” الفرنسي المتخصص باستطلاعات الرأي ودراسة الأسواق، فإن 67% من الفرنسيين يؤيدون تعميم تدابير حظر التجوال الليلي بدءا من الساعة 11 ليلا.
وأُجري الاستطلاع بعد حادثتي قتل الطفلين فيليب كوبمان بمدينة “غراند سينت” وشمس الدين بمدينة “فيري شاتيون” في أعمال عنف على أيدي شبان أغلبهم بأعمار تتراوح بين 14و20 عاما.
تحفظات حقوقية
ولكن يثير هذا الإجراء أسئلة بشأن مدى قدرة السلطات الأمنية على تطبيقه، بجانب تشديد المراقبة على المجمعات السكنية التي تنتشر فيها تجارة واستهلاك المخدرات.
وإلى جانب ذلك، ينظر سياسيون من اليسار -بالإضافة إلى رابطة حقوق الإنسان- بتحفظ إلى هذا الاجراء، لا سيما قرار حظر التجوال الممتد 5 أشهر بمدينة بيزيي.
ويقول خبير القانون والمتخصص بالحقوق والحريات نيكولاس هيرفيو إن “القضاة يخاطرون بوضع أنفسهم تحت الضغط، فإذا لم تكن الأوامر مبررة قانونيا فإن الأمر قد ينتهي بإيقافهم”.
وبدأ استخدام هذه القوانين منذ تسعينيات القرن الماضي، بحظر تجوال القصر غير المصحوبين، وتستند شرعيتها إلى القانون للعام للجماعات الترابية، غير أنها في بعض الحالات يمكن أن تشكل تهديدا لحق أساسي في حرية التنقل.
ويشير هيرفيو إلى أنه “كلما كان هناك توسع في تطبيق القرار كان التهديد أكبر على الحقوق، لذلك يتعين أن يكون مبررا ومتناسبا بشكل صارم”.
وبالعودة إلى السنوات السابقة، ألغى مجلس الدولة قرارا بحظر تجوال ليلي على القصر، اتخذته بلدية “بيزيي” عام 2014، بدعوى افتقاده إلى مبررات كافية مثل وجود خطر تشكله الفئة المستهدفة على النظام العام.
ماذا عن الانفصالية متعددة الأوجه؟
لكن القصة مختلفة في حي “لا موناي” بمدينة “رومان سور إيزير” التابعة لإقليم “دروم” جنوب شرق فرنسا، حيث كان مسرحا على الأقل لعمليتي قتل عام 2023 أودت بحياة مراهقين اثنين يقفان على طرفي نقيض من الناحية الاجتماعية، أحدهما زكريا الثابتي الذي قتل طعنا بسكين في شجار، بينما قتل الثاني توماس بيروتو في شجار بطعنة سكين أيضا في شجار مع أصدقائه من لاعبي الرغبي.
ولم تخرج حادثة مقتل زكريا عن الصورة النمطية لتواتر العنف بأحياء الضواحي الفاقدة للتنوع الاجتماعي والعرقي والمثقلة بالصعوبات الاقتصادية، ولكنها في نفس الوقت ألقت الضوء على التمييز الذي يعاني منه أبناء الحي من أنداد زكريا في الحصول على فرص للتدريب المهني وعلى آفاق لمستقبلهم.
ويقول رئيس عمدة سابق لمدينة “رومان سور إيزير” هنري برتوليت إن الأمر المقلق هو تفشي “ثقافة السكين” منذ بضع سنوات.
ويعيب ماركو أوبريتي الباحث والأستاذ بالعلوم الاجتماعية، على الحكومة، تركيزها في معالجة عنف القاصرين على مكافحة الانفصالية، مع ما تحيله الكلمة بشكل مبطن إلى الانفصالية الإسلامية.
كما يعيب أوبريتي أيضا على رئيس الحكومة غابرييل أتال، إغفاله لظاهرة الفصل الاجتماعي والسكني والتعليمي، على الرغم من أهميتها البالغة، كإغفاله أيضا لباقي المظاهر الانفصالية ولا سيما التعليمية التي يلعب فيها التعليم الخاص دورا محوريا.
ويرى أن مقاربة رئيس الحكومة تنطوي على توجه زجري بالأساس، من خلال التأكيد على المسؤولية الفردية على حساب السياقات التي تغذي ظاهرة العنف الحضري، كما يعزز تركيزه على العقوبات والغرامات التزامه بالمنطق القمعي دون الالتفات إلى الإجراءات الوقائية.
ورغم أنه لا يجب إهمال المسؤولية الفردية، فإنه لا يمكن فصلها عن البيئات الاجتماعية. وكان من بين الإجراءات العقابية، المقترحة من قبل رئيس الحكومة، أن تمتد المسؤولية الجنائية إلى آباء القاصرين الذين ثبت تورطهم بأعمال عنف ولا يمكن تجريمهم بسبب سنهم.
ومثل هذه المقترحات طرحت أثناء الاحتجاجات العنيفة وأعمال الشغب التي اندلعت بالضواحي بعد مقتل الشاب نائل برصاص الشرطة في منطقة نانتير بضواحي باريس صيف 2023.
“المسؤولية الجناية” للقصر على المحك
تفكر حكومة أتال في إصلاحات شاملة للنظام القضائي المرتبط بالقاصرين ولا سيما مبدأ “إعفاء القصر” أو انعدام المسؤولية الجنائية، وأولها مراجعة الفورية للسن الدنيا لمثول القصر أمام المحاكم من سن 18إلى 16 عاما، بجانب فرض قيود على منح الشهادات الدراسية للطلاب الملاحقين.
وبحسب القوانين الفرنسية، لا يتحمل القاصر مسؤولية جنائية إلا بدءا من سن 13 عاما، ويملك القضاة وفق هذا المبدأ سلطات تقديرية لتكييف العقوبات على من هم بعد 13 عاما بحسب ظروفهم ووضعياتهم.
ويعود مبدأ “انعدام المسؤولية الجنائية للقصر” بقانون العقوبات -في فرنسا- إلى الأمر الصادر في 2 فبراير/شباط 1945، وهو نص مرجعي في مسائل العدالة الجنائية للأحداث.
وتنص المادة 122 (الفقرة 8) من القانون على أن القصر الذين يفترض أنهم “قادرون على التمييز” -أي أولئك الذين يبلغون من العمر 13 عاما على الأقل- “مسؤولون جنائيا عن الجرائم أو الجنح أو المخالفات التي أدينوا بها، مع مراعاة تخفيف المسؤولية التي يتحملونها بسبب سنهم، وذلك ضمن الشروط التي يحددها قانون العدالة الجنائية للأحداث”.
ويؤكد قانون العدالة الجنائية للقاصرين، الذي دخل حيز التنفيذ عام 2021، من جديد على افتراض عدم التمييز بالنسبة للقاصرين الذين تقل أعمارهم عن 13 عاما والذين لا يمكن فرض أي عقوبة عليهم.
وهذا الافتراض موجود أيضاً في الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل التي تلزم الدول الموقعة عليها “بتحديد حد أدنى للسن يفترض أن الأطفال دونه ليس لديهم القدرة على خرق القانون الجنائي”.
وهذه المعاهدة الدولية، التي صادقت عليها 197 دولة بما فيها فرنسا عام 1989، تنص بشكل خاص في مادتها الثالثة على أنه “في جميع القرارات التي تتعلق بالأطفال، سواء اتخذتها مؤسسات الحماية الاجتماعية العامة أو الخاصة، تراعى المحاكم (…) المصالح الفضلى للطفل” يجب أن يكون الطفل هو “الاعتبار الأساسي”.
وتؤيد أحزاب فرنسية من اليمين واليمين المتطرف مراجعة هذا المبدأ، ويدعم رئيس “التجمع الوطني” جوردان بارديلا مقترحا لفرض “عقوبات قصيرة وفورية” ضد القاصرين المدانين.
بينما يعارض رئيس إقليم شمال فرنسا أكزافيي برتراند التطبيق الآلي لمبدأ إعفاء القاصرين من المسؤولية الجنائية، ويساند فرض عقوبات على القاصرين المدانين تماما مثل البالغين.
ومع أن الحكومة تعهدت بالفعل بمناقشة خطوات في ذلك، غير أن رئيس الوزراء أثار مخاوف من وجود تضارب بين بعض التعديلات القانونية المقترحة مع الدستور الفرنسي.
إجراءات سابقة
هذه ليست المرة الأولى التي تتخذ فيها الحكومة الفرنسية قرارات بمراجعة القوانين المرتبطة بجرائم الأحداث، فقد طرح هذا النقاش مع جيل التسعينيات بداية الألفية، تحديدا عام 2002 حينما اقترحت الحكومة في أعقاب موجة من جرائم الأحداث، قانونا يجيز إنشاء “مراكز تربوية مغلقة” مخصصة لاحتجاز الأحداث الذين تتراوح أعمارهم ما بين 13 و18 عاما، في إطار رقابة قضائية أو إثر صدور حكم مؤجل التنفيذ ضدهم مقترنا بفترة اختبار.
وتضمن القانون “عقوبات تربوية” بحق الأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين 10و13 عاما، ويذهب إلى حد السماح للقضاة بإصدار أحكام “مستعجلة” عليهم في صورة تكرار ارتكابهم للمخالفة أو الجريمة.
ويعتقد إيفلين سير مارين، وهو قاض فخري وعضو مكتب رابطة حقوق الإنسان -في حديثه مع قناة “بي إم إف” الإخبارية- إنه من الممكن قانونيا مراجعة حدود المسؤولية الجنائية للقصر وإيداعهم السجن بدءا من سن 16 عاما اعتمادا على طبيعة الوقائع وشخصية القاصر.