بنين والنيجر.. فصول أزمة سياسية جديدة بالقارة السمراء؟ | سياسة
في سياق إقليمي معقد تمر به منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وضمن فصول جديدة من صراع القوى العالمية على القارة السمراء، برزت الأزمة السياسية بين جمهوريتي بنين والنيجر مدفوعة بخلفيات الأمن والاستقرار، وتحولات الولاء ومناهضة الاستعمار.
وتشترك الدولتان في الحدود والجغرافيا وتحديات الإرهاب ومشاكل الفقر والتنمية، وتجمع بينهما تركة الاستعمار الفرنسي المتمثلة في الشركات المسيطرة على مفاصل الاقتصاد، والمؤسسات الثقافية التي غيرت هوية المجتمع وثقافته.
والخلاف بين الجارتين لا يعني تباينا في المواقف والتصورات، بقدر ما يؤسس لأزمة اقتصادية قد تفاقم من مشكلات الفقر متعدد الأبعاد، وتمنع تحقيق آمال النهوض الاقتصادي الذي لاح في الأفق مع الاكتشافات النفطية التي عرفتها النيجر في الأعوام الـ10 الأخيرة.
مصالح مشتركة
وبفعل جغرافية الصحراء التي جعلت من النيجر دولة حبيسة لا ساحل لها، اعتمدت نيامي على ميناء كوتونو، وظل يشكل أهم منافذها البحرية، إذ تبلغ نسبة اعتمادها عليه في الإيراد والتصدير 69%، في حين تستورد نسبة 13% من حاجياتها من ميناء لومي و8% من ميناء غانا، و7% من ميناء كوت ديفوار.
وفي المقابل، تجني بنين أرباحا كبيرة من الضرائب على البضائع التي تمر عن طريق مينائها نحو نيامي، وتعمل كثير من الشركات المسجلة في بنين على تصدير السلع والمنتجات الغذائية نحو جارتها الشمالية.
وفي عام 2011 دخلت النيجر نادي الدول المنتجة للنفط بنسبة لا تتجاوز 20 ألف برميل يوميا، لكنها أبرمت اتفاقيات مع الشركة الصينية للبترول لاستغلال حقل “أغاديم” عام 2018 واختارت دولة بنين لتصدر عن طريق مينائها إلى السوق الدولية.
وفي عام 2019 بدأت نيامي بالتعاون مع الصين في العمل على إنشاء خط أنابيب بطول ألفي كيلومتر لنقل النفط من حقل “أغاديم” إلى ميناء سيمي في بنين وهو أكبر مشروع اقتصادي تعرفه البلاد منذ استقلالها عن باريس عام 1960.
وكان من المقرر أن يبدأ تصديره بوتيرة منتظمة في النصف الأول من العام الجاري، لكن الخلافات السياسية بين بورتو نوفو ونيامي ألقت بظلالها على المشهد الاقتصادي فأبقت النيجر حدودها مغلقة أمام التجارة القادمة من كوتونو، وأوقفت بنين تصدير النفط القادم من حقل “أغاديم”.
مسار الأزمة
منذ استقلال النيجر عن فرنسا عام 1960 ارتبطتا بعلاقات وثيقة أملتها ضرورات الجوار والتداخلات المجتمعية، ومتطلبات التكامل الاقتصادي.
وبعد انقلاب 26 يوليو/تموز 2023 في النيجر بادرت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) بفرض عقوبات اقتصادية على نيامي للضغط على المجلس العسكري، وكانت بنين إحدى الدول التي ساندت قرار العقوبات والتدخل العسكري لاستعادة الحكم المدني وإبعاد العسكر عن المشهد السياسي.
واعتبر قادة الانقلاب أن مسايرة بنين لقرارات الكتلة الأفريقية خارج عن المألوف، ويناقض حسن الجوار والعلاقات التاريخية، ورأوا فيه إضرارا بشعب النيجر.
وفي سبتمبر/أيلول 2023 أعلن المجلس العسكري في نيامي تعليق الاتفاقيات العسكرية مع بنين، والتي كانت تتعلق بمحاربة الإرهاب وتأمين الحدود والتنسيق وتبادل المعلومات، وعلل الانقلابيون قرارهم بأن بورتو نوفو أصبحت مركزا لوُجود القواعد العسكرية الفرنسية، ومأوى للحركات الإرهابية.
وعندما أعلنت إيكواس رفع عقوباتها واعترفت بالمجلس العسكري، أصدر الرئيس البنيني باتريس تالون مرسوما في فبراير/شباط 2024 يقضي بفتح الحدود واستعادة العلاقات مع الجارة الشمالية، بيد أن الحكومة في نيامي تحفظت على ذلك، واختارت الاستمرار في إغلاق الحدود.
وردا على قرار نيامي بإبقاء الحدود مغلقة في وجه البضائع القادمة من كوتونو، أمرت السلطات في بنين باعتراض تصدير شحنات النفط القادم من حقل “أغادم” عبر مينائها.
وتعول النيجر على تصدير البترول في دعم موازنتها العامة، حيث من المقرر أن تنتج هذا العام 90 ألف برميل يوميا ليصل الإنتاج لاحقا إلى 110 آلاف برميل.
وفي مايو/أيار الجاري قامت الصين بوساطة لتجاوز الأزمة التي تضر بالمصالح المشتركة، وسمحت حكومة بنين بتصدير النفط مؤقتا عبر مينائها، على أن تفتح الحدود لاحقا ويتم تطبيع العلاقات بين البلدين.
وترتبط الصين بعلاقات اقتصادية متنوعة مع النيجر، وتتولى استغلال أكبر الحقول النفطية فيها، وقبل الانقلاب كانت استثماراتها في المرتبة الثانية بعد فرنسا، وفي عام 2022 بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين ما يربو على 900 مليون دولار.
ورغم الجهود التي بذلتها الصين، فإن السلطات السياسية في بورتو نوفو قالت إن السماح بتصدير الشحنات البترولية القادمة من النيجر إجراء مؤقت هدفه إظهار النوايا الحسنة تجاه جارتها الحبيسة، ولن يكون دائما إلا إذا رجعت العلاقات إلى سالف عهدها.
الانتقام بسبب فرنسا
ويرى المحلل السياسي المختص في الشأن الأفريقي سلطان البان أن العلاقات بين البلدين كان يفترض أن تعود لمرحلة التكامل والتعاون وذوبان جليد التوتر، لكن النيجر أرادت الانتقام من بنين ليس لأنها سايرت الدول الغرب أفريقية التي انتهجت خيار الحصار الاقتصادي، بل لأنها حليف قوي لباريس، وتعتبرها مركزا للقواعد العسكرية الفرنسية.
وفي حديثه للجزيرة نت أشار البان إلى أن النيجر تأخذ على جارتها الجنوبية اصطفافها مع الدول التي كانت تتبنى خيار التدخل العسكري لإعادة محمد بازوم إلى السلطة.
وفي هذا المنحى تأتي اتهامات المجلس العسكري الحاكم في نيامي للسلطات في كوتونو بالتخندق مع فرنسا والعمل لصالحها.
وعبر الصحافة المحلية، قال رئيس الوزراء علي لامين الزين إن بنين تستضيف ما لا يقل عن 5 قواعد عسكرية فرنسية قرب الحدود مع بلاده، تستخدم لتدريب العناصر الإرهابية المكلفة بزعزعة الاستقرار والسكينة، حسب تعبيره.
وبالتزامن مع الخروج النهائي للقوات الفرنسية من النيجر، كشفت تقارير إعلامية أن مجموعة “مجلس الدفاع الدولية” “دي سي آي” (DCI) الفرنسية ستقوم بتقديم طائرات مسيرة ومساعدات أخرى لجيش بنين.
لكن الرئيس البنيني تالون قال إن اعتبار بلاده دولة معادية، وتعمل على عدم استقرار جارتها أمر مثير للسخرية.
ويرى مراقبون أن مخاوف النيجر من التأثير الفرنسي على سياسات بنين قد لا تكون خارجة عن سياق التوترات في المنطقة، لأن باريس ترتبط بعلاقات متينة مع كوتونو وتصنف ثاني أكبر مانح لها بعد الولايات المتحدة الأميركية.
وتشير بيانات وزارة الخارجية الفرنسية إلى أن باريس ترتبط باتفاقيات ثنائية مع بنين تعود لعام 1975 تشمل التعاون الثقافي والاقتصادي والعسكري، وهناك 40 شركة فرنسية في بنين تستحوذ على قطاعات الأغذية والزراعة والخدمات اللوجيستية، وتوفر 8 آلاف فرصة عمل مباشرة.
وتؤكد البيانات أن قوات باريس تنشط في بنين في مجالات التدريب والتعاون ومكافحة الإرهاب.
ويرى المجلس العسكري الحاكم في نيامي أن فرنسا تحاول الإطاحة به، إذ تضررت مصالحها السياسية والاقتصادية والعسكرية بعد تنحية الرئيس السابق محمد بازوم عن السلطة في 26 يوليو/تموز 2023.
ووفقا لهذه المعطيات، يخشى المجلس أن تكون بنين بوابة لفرنسا تنفذ من خلالها أجندات عسكرية وأمنية تمكنها من العودة إلى مركز التحكم في مستعمراتها السابقة.
انعكاسات سلبية
ومن شأن استمرار الأزمة أن تنعكس سلبا على الواقع الاقتصادي للبلدين، فالنيجر تتوقع إنتاج 110 آلاف برميل نفط من حقل “أغادم”، وستصدر منه للخارج نحو 90 ألف برميل، في حين بلغ مجموع الاستثمار في الحقل ما يربو على 6 مليارات دولار، وأخذت الحكومة 400 مليون دولار قرضا من الصين لدعم موازنتها في العام الجاري على أن يسدد بعد تصدير النفط للخارج وبيعه.
وكان صندوق النقد الدولي توقع نموا للاقتصادي النيجري بنسبة 11% مع حلول العام الجاري، وهو الأمر الذي سيجعل من نيامي البلد الأكثر نموا في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
ورغم أن النيجر لها موارد متعددة أهمها اليورانيوم التي تنتج منه 5% من مجموع الإنتاج العالمي، فإن قرار بنين بمنعها من تصدير النفط سيقضي على طموحاتها في التحول من ذيل الدول الأفقر في القارة إلى قائمة الدول الأسرع نموا وذات الثروات المتجددة والمتنوعة.
وفي المقابل، فإن بنين دولة تعتمد على الهبات والمانحين، وتصنف من الدول الأكثر فقرا في منطقة غرب أفريقيا، وتعاني من تضخم وارتفاع في الأسعار، وظلت لعقود عديدة تصدر منتجاتها الزراعية نحو نيامي، ويصنف ميناؤها منفذا رئيسيا للنيجر وتجني من خلاله الرسوم والضرائب.
ومن شأن استمرار الأزمة السياسية بين البلدين أن تخلف الكثير من الخسائر المالية، وهو الأمر الذي أكده رئيس الوزراء النيجري في حديثه لوسائل الإعلام المحلية، وأشار إلى أن آلاف الوظائف المباشرة وعائدات ضريبية كبيرة معرضة للخطر.
مآلات ونتائج
وفي تصريح للصحافة قال زين إن بلاده ترتبط بـ10 اتفاقيات مع بنين ومن أهمها الاتفاق المبرم عام 2019 والمتعلق بتصدير النفط من حقل أغادم، ويشمل طرفا ثالثا وهو جمهورية الصين الشعبية ولا يحق للسلطات في كوتونو أن تخالف نصوصه.
ويضيف زين أن نيامي والصين كانتا تخططان في البداية لمد الأنابيب عن طريق تشاد نحو ميناء كيربي في الكاميرون، لكن بعد الدراسات المتعلقة بالجدوائية وقع الاختيار على بنين.
وبحسب الصحافة المحلية في النيجر، فإن وفدا صينيا سيقوم بجولة في الأسابيع القادم، ويتوقع أن يعقد قمة تجمع بين المسؤولين في البلدين.
ووفقا لزين، فإنه لا يستبعد التوصل إلى وسيلة تفضي إلى حل مشكلة تصدير النفط، وإن بلاده طلبت من الصين القيام بدور الوسيط، لكن الرئيس البنيني باتريس تالون قال إن النيجر إذا أرادت الاستمرار في تصدير نفطها عن طريق كوتونو عليها أن تفتح الحدود البرية.
وفي هذا، يرى البان أن الصين قد تنجح في تقارب وجهات النظر بين الجارتين، وخاصة أنها ليست من أطراف الصراع السياسي في المنطقة، إذ تركز حضورها ونفوذها في الجوانب الاقتصادية، وأنه في حال لم تنجح الجهود التي يبذلها الطرف الصيني، بحسب زين، فإن النيجر قد تلجأ لميناء لومي في جمهورية التوغو وتبدأ من نقطة الصفر رغم تكلفته الباهظة.
وبعد الأزمة الأخيرة ركزت نيامي على ميناء لومي كواجهة جديدة، وفي المقابل قامت السلطات في التوغو بإلغاء الرسوم الجمركية على البضائع التي تمر عن طريق مينائها من أجل تشجيع نيامي وباقي دول الساحل الحبيسة.