Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
خبر عاجل

الحضارة المفقودة.. هل حقا بنيت الأهرامات والمعابد القديمة بتقنيات متقدمة؟ | ثقافة


“قال بعض أهل النظر، وقد عاين الأهرام: «كلّ بناء يخاف عليه من الدّهر، إلا هذا البناء فإني أخاف على الدّهر منه»”

شهاب الدين النويري {660-733هـ} – “نهاية الأرب في فنون الأدب”.

قبل 3500 عام، لمع نجم مهندس مصري نعرف أعماله اليوم، يُدعى “سننموت”. عمل سننموت في زمن الملكة “حتشبسوت”، خامس ملوك الأسرة الفرعونية الثامنة عشرة (نحو 1479-1458 قبل الميلاد)، وبنى لها معبدها الشهير في منطقة الدير البحري، وهو ما دفعها إلى مكافأته بأن منحته عشرات الألقاب، قبل أن تهبه النعمة العظمى: أن يبني مقبرته بجانب معبدها الجنائزي.

وفي حال قادتكَ الأقدار لزيارة مقبرة “سننموت” غير المكتملة البالغ طولها نحو ٩٧ مترا، ودخلتَ إليها عبر درجها شديد الانحدار، فلن تخطئ عينك الزخرفة البديعة الكفيلة بأن تجذب إليها كل زائر وباحث. أما إذا نظرت إلى الأعلى، فستجد سبب شهرة المقبرة: سقفها، حيث رسمٌ لتقويم فلكي يخطط السماء ومواقع النجوم في عهد الملكة.

تلك الزخارف تذكُر موعد ظهور “سيبا إن ساح”، ومعناه “نجم الملك أوزوريس”، وإذا دققتَ النظر فستظهر أمامك في سقف المقبرة ثلاثة نجوم كبيرة، نعرفها اليوم باسم نجوم حزام الجبار، وهي التي قامت على أكتافها مقولات لا حصر لها تدّعي فك لغز الحضارة المصرية، لعل أشهرها هو أن أهرامات الجيزة الشهيرة قد بُنيت لتحاكي هذه النجوم الثلاثة، وهو ما يُطلق عليه “نظرية ارتباط الجبار”.

من مقبرة سننموت، بالأعلى منتصف الصورة، ثلاثة نجوم تدل على حزام الجبار (مواقع التواصل)

أنيس منصور وأشياء أخرى

لغز الحضارة المصرية ذاك، وما نُسج حوله من قصص، ليس وليد اليوم، بل هو جزء من متن فكري معاصر حاول التصدي لتفسير الكثير من التراث الحضاري لبعض الأمم والشعوب دون سند علمي أو إطار فكري سليم، وهو اتجاه تعود جذوره الى أعقاب الحرب العالمية الثانية، عندما سادت الشكوك في غالبية القيم والأيديولوجيات القائمة، حيث اندلع فوران ثقافيّ انحرف بعضه في اتجاه الخرافات بأنواعها، خاصة في الولايات المتحدة وأوروبا، فانتشرت المعتقدات البديلة في مواجهة التفسيرات العلمية والعقلانية للظواهر، وبزغت التفسيرات الأثرية الزائفة التي تزاحم علوم الآثار العلمية، لتقديم معلومات مضللة حول ما تركه القدماء من معالم وشواهد حضارية. عزز من ذلك أيضا ذيوع منتجات القنب (الحشيش) والعقاقير المهلوسة، وهو ما تزامن مع ارتفاع نسب الإبلاغ عن مشاهدة الأطباق الطائرة، وتزايد الإيمان بنظريات المؤامرة الخيالية.

في هذه الأجواء، كانت أكثر الكتب ذيوعا هي تلك التي اشتبكت مع هذه المقولات، خاصة إذا ما جاءت من شخصيات تتمتع بقدر من المصداقية. لذلك، استغل عدد من الصحفيين والكُتَّاب -لعل أشهرهم المصري أنيس منصور- الحالة السائدة وأصدروا كتبهم التي يتناولون فيها خوارق الطبيعة، مثل كتب أنيس منصور “أرواح وأشباح”، و”الذين هبطوا من السماء”، و”الذين عادوا إلى السماء”، و”لعنة الفراعنة”. لم تكن أعمال منصور إلا ترسا صغيرا في ماكينة كبيرة شملت كل العالم وأعطت دفعة لتلك النظريات المزعومة، كما اقتاتت على الفرضيات مثل تلك التي تقول بوجود “الكائنات الفضائية القديمة”. روجت هذه النظرية إلى أن أبواب السماء قد انفتحت قديما لإقامة تواصل بشري مع كائنات فضائية. عزز من قوة هذه النظرية في الستينيات أيضا اتساع خيال البشر مع نجاحهم في الوصول إلى الفضاء والخطو على القمر قبل نهاية العقد، حينها انتعشت آمال كثير من البشر في لقاء قريب مع كائنات علوية أكثر رُقيا.

إنجيل الستينيات: الكتاب الذي باع نصف مليار نسخة

كتاب
كتاب “عربات الآلهة” للكاتب السويسري “إريك فون دانكن” مع عنوان جانبي مثير جدا “هل كان الخالق رائد فضاء؟”. (الجزيرة)

هنا وجد “إريك فون دانكن”، الكاتب السويسري، ضالّته ونشر كتابه “عربات الآلهة” مع عنوان جانبي مثير جدا “هل كان الخالق رائد فضاء؟”. صدر الكتاب سنة 1968، وباع خلال عشر سنوات قرابة نصف مليار نسخة، وقيل إنه “الكتاب الذي غيّر قراءة التاريخ”، وفيه يوضح دانكن أن بعض المنجزات البشرية الهندسية عبر التاريخ لا يمكن أن تكون قد حدثت إلا بمساعدة الكائنات الفضائية. انطلق الرجل بعد ذلك لتفسير كل الحكايات الميثولوجية والدينية الخارقة (المعجزات) على أنها كانت اتصالا مع كائن فضائي، وهنا نقصد أشياء مثل الوحي والملائكة ورحلات الأنبياء (كالإسراء والمعراج)، ومن ثم تكون دابة البراق التي حملت النبي محمد ﷺ في رحلته سفينة فضائية متقدمة، بحسب فرضية دانكن.

سرت تلك التفسيرات الزائفة في محاولة لإعطاء تفسير علمي لبعض العقائد الدينية، ستجد مثلا أن كلًّا من “ديفيد أيك” و”زكريا سيتشين” (والأول هو مروج لنظرية مؤامرة أطلق عليها اسم “السحالي”، والثاني روج لنهاية الأرض عبر قدوم كوكب ليصطدم بها) يعتبران أن الأنبياء أو الملائكة هم بالأساس كائنات فضائية جاءت للأرض في زيارات لنقل تعاليم حضارتها الأم والتكنولوجيا الخاصة بها. يشيع هذا الخلط بالأساس في الديانات الزائفة التي تحاول استخدام لغة العلم لتفسير أمور لا علاقة لها بالعلم.

لكن مع تعذُّر اللقاء المرتقب بالكائنات الفضائية الفائقة، وجدت الخرافة طريقها خلال العقود اللاحقة وإلى اليوم نحو ما يُعرف بالحضارة المفقودة. تطورت فكرة الكائنات الفضائية القديمة، ولم تعد فكرة بُناة المنجزات القديمة مرتبطة بالذين هبطوا من السماء، لتصبح مصنوعة بأيدي بني جلدتنا من القدماء الذين غابوا في المجهول. يزعم منظرو هذه الفكرة أن الحضارة البشرية قبل أكثر من 10 آلاف عام كانت أكثر تقدما تقنيا وعلميا من حاضرنا الآن، ثم حصلت كارثة أرجعتها للخلف. لكن هذه الفكرة تتكون من نظريات متشابكة، نحتاج إلى تحليلها كي نصل إلى أقرب نتيجة لحقيقة ما يسمى بعلم الآثار الزائفة.

علم الآثار الزائف: المعرفة في خدمة الإثارة

نحن الآن في أرض خلاء، حيث حطَّت طائرات تحمل مؤنا وطعاما لجنود كانوا يحاربون في مجاهل إحدى الصحاري، كان يحيط بمواضع هبوط تلك الطائرات التي كانت داخل قواعد عسكرية مجموعة من القبائل البدائية التي كانت تراقب الوضع، وتصورت أن تلك الحمولات التي أفرغتها الطائرات هي هدايا من السماء ستُعطى لهم لو فعلوا الشيء نفسه، فقاموا بمحاكاة ما يحدث، فشرعوا في بناء طرقات تشبه طرقات المطارات، وصنعوا نماذج بدائية صخرية أو خشبية للأعلام وأجهزة الاستقبال والهوائيات والمداخل والمخارج الخاصة بالمطارات، ثم جلسوا جانبا وانتظروا هبوط الطائرات المحمّلة بالخير، لكنها طبعا لم تهبط.

هذه الصورة المتخيَّلة التي حاول بها العالِم الفيزيائي -الحاصل على جائزة نوبل- ريتشارد فاينمان أن يفسر بها الكيفية التي يعمل من خلالها رواد العلوم الزائفة، فهم يقلدون الطريقة العلمية من حيث الشكل، فيستخدمون أسلوبا يشبه الأسلوب العلمي في الكتابة والحديث، ويضعون خطوات متتالية مبنية على بعضها بعضا، ويرتبون بياناتهم بطريقة تُشبه طريقة العلماء، ويُقسِّمون كتبهم وكأنها نتائج علمية، لكن الحقيقة هي أنهم يقومون بمحاكاة العلم من حيث الصورة، لكن التدقيق في المضامين سيقودك لاكتشاف الكثير من الثغرات. فهم يستندون على الانتقاء، ويقدمون المزايا والدلائل التي تؤكد وجهات نظرهم على تلك التي تدحرها، ويعظِّمون من شأن الغموض، بينما يتجاهلون مع كل ذلك إجماع العلماء والمتخصصين في المجال، فيقفزون من المقدمات إلى النتائج دون فاصلة معتبرة، والأهم من ذلك أنهم يجهلون – في بعض الحالات- أسس ما يدرسونه أصلا.

مثلا في كتابه “التكنولوجيا المفقودة في مصر القديمة”، يقول الكاتب والمهندس البريطاني كريستوفر دان إنه عندما زار مصر عام 1986 وشاهد تماثيل المعابد، وخاصة تمثال رمسيس الثاني، لاحظ دقة غير عادية في النحت، وتماثلا غير طبيعي يشير إلى أن من المستحيل أن تكون قد بُنيت بالأساليب المعروفة لنا للنحت، لكنه فيما بعد صرَّح في أحد الحوارات الصحفية أنه لم يستخدم أدوات دقيقة لفحص تلك الدقة الشديدة، بل استخدم عينيه ويديه وكاميرا فوتوغرافية، مما يدلل على الخفة في التفكير والتسرع في إعلان النتائج.

The sculpture of Ramses II in Luxor temple, Egypt
تمثال رمسيس الثاني (شترستوك)

على الوتيرة نفسها رأى كريستوفر ورفاقه كذلك بأن مقبرة السيرابيوم (مكان دفن مصري قديم للثيران المقدسة) في منطقة سقارة تحوي توابيت متماثلة الأبعاد طولا وعرضا، وكأنها خرجت من مصنع واحد وفق قياسات آلية استخدمت الليزر لنحتها، مما يعني أنها لم تُصنع على يد نحات، ورأى كذلك أنها كانت من الضخامة والثقل بحيث يستحيل رفعها بالأدوات العادية.

والحقيقة فإن العالم أوغست مارييت عندما دخل إلى هذه المقبرة عام 1850 وجد آثارا لكرات خشبية على أرضية المقبرة مع قضبان مزدوجة وُضعت عليها، مما يؤكد أن التوابيت دُحرجت عليها، كذلك وجد رافعتين خشبيتين أفقيتين، كل واحدة منهما تعمل بثمانية أجزاء للرفع، وهي رافعات ساعدت في شد التوابيت التي وُضعت بها الثيران بحبال طويلة لكي تصل إلى مكانها، وقد تعلمنا قبل قليل أن القدماء من كل الحضارات تقريبا امتلكوا القدرة على العمل بالرافعات.

والحقيقة الثابتة علميا أن زوايا وأسطح التوابيت لم تكن متماثلة بتلك الدقة كما زعم البعض، ولكنها نُحتت وفق قياسات ودقة ممتازة في نطاق البشر في ذلك الوقت. وفقا لمتخصص الأنثروبولوجيا الروسي ألكسندر سوكولوف، فإن القياسات الدقيقة للزوايا والحواف كان بها بعض الاختلاف، في الزوايا الداخلية للتابوت تراوحت الزوايا بين 90.8 درجة و91.4 درجة، وفي الخارج تراوحت الزوايا بين 89.1 درجة و90.8 درجة، وبخصوص الأسطح التي من المفترض أن تكون ناعمة وملساء، وجد أن قياساتها تتراوح بين 180.4 درجة و180.6 درجة، فروق طفيفة لكنها بالطبع ممكنة ليدي إنسان، مقارنة بهؤلاء الذين يدّعون أن الفارق صفر.

وإذا كان كريستوفر ورفاقه بحثوا عن تماثل موهوم في قياسات التوابيت، من أجل إثبات فكرة هاوية الأساس، فقد كان هناك من يبحث عن تماثل آخر في السماء  بين مواقع النجوم الملتهبة، والأهرام الرابضة في منطقة الجيزة بمصر.

علم الآثار الزائف
(الجزيرة)

أهرام في الأرض نجوم في السماء

نترك ثيران المصريين المقدسة إلى أشهر نظريات العلوم الزائفة التي تفترض أن الأهرامات الثلاثة مع نهر النيل يعلوهما في السماء ثلاثة نجوم ونهر كوني. يُطلق على النجوم الثلاثة حزام الجبار، أما النهر الكوني المحاذي للنيل فهو سحابة دخانية تُمثِّل أذرع مجرة درب التبانة، وهي الفلك الأعظم الذي نعيش فيه وتوجد فيها الأرض والمجموعة الشمسية. إذن ثلاثة أهرامات ونهر على الأرض، وثلاثة نجوم ونهر دخاني في السماء، فما الذي يترتب على ذلك؟

يترتب على ذلك بالنسبة لصاحب هذا الاكتشاف، وهو روبرت بوفال، المهندس والمؤلف والمحاضر البلجيكي، أن عمر الأهرامات ليس 4500 عام كما اعتقد علماء الآثار، بل أكثر من 10 آلاف عام، حيث إن في تلك الفترة السحيقة، كانت النجوم الثلاثة المتجاورة في السماء تتفق بدقة شديدة مع مواقع أهرامات الجيزة الثلاثة في منطقة الجيزة بمصر، ومع امتداد الزمن، ولعوامل كونية، انكسر هذا التوافق بين أهرام الأرض ونجوم السماء. وإذا كان العمر المسجل للحضارة الفرعونية هو خمسة آلاف عام، فإن قبل 10 آلاف عام -وهو عمر الأهرام طبقا لتلك النظرية- كانت توجد أمة أرقى من المصريين تمتلك أدوات رصد كونية متقدمة، وأسبابا هندسية عالية، لتقرر عقد هذه المحاذاة السماوية الأرضية الخاطفة للألباب.

أما الحقيقة المعروفة، فهي أن المصريين عرفوا هذه النجوم الثلاثة بالفعل، وفي البرديات حضر ذكرها، ورسمت معالمها على جدران المعابد، كذلك دقوا على الحوائط وصفا للدور الذي لعبته في حياتهم -تذكَّر مفتتح المقال وعمل المهندس سننموت في مقبرة الملكة حتشبسوت-، ولم يكن من تلك الكتابات نقش يدل على نظرية المهندس بوفال التطابقية بين أهرام الأرض ونجوم السماء، بل كانت النجوم الظاهرة على جدران المصريين القديمة تُمثِّل آلهتهم، وأرواحهم المجسدة سماويا، وأن نجوم الجبار الثلاثة التي قدَّرها المصريون تُمثِّل معبودهم “الملك أوزوريس”.

يعني ذلك أنه لا يوجد دليل مادي نقشي واضح لإثبات وجود علاقة متعمدة بين الأهرامات وحزام الجبار، فلا توجد نصوص ولا فكرة واضحة بين مجمل الأهرامات المصرية على الأرض، وهي أكثر من مئة، وبين ما يقترحه مروِّجو الحضارة المفقودة.

وحتى لو سلَّمنا جدلا حدوث هذا التطابق، فإن ذلك لا يمكن أن يقع إلا في حال أن نقلب صورة أحدهما لكي تتوافق مع الأخرى، وهذا ما فعله بالضبط بوفال في كتابه “لغز الجبار”، فقد عكس اتجاه إحداهما ليظهر التوافق المزعوم، حيث تحول الاتجاه الشمالي لإحدى الخرائط إلى الاتجاه الجنوبي، تفاديا لظهور الهرم الأوسط والنجمة الوسطى على طرفي نقيض.

أبو الهول الحائر بين الجيولوجيا والأركيولوجيا (الجزيرة)
أبو الهول الحائر بين الجيولوجيا والأركيولوجيا (الجزيرة)

والعجيب أن المهندس بوفال ومعه جراهام هانكوك، أحد مؤسسي فكرة الحضارة المفقودة، اعترفا بوجود هذا الفارق، واعتبراه من قبيل التعبير الفني، حيث من حق الفنان، وهو هنا مهندس الأهرام، أن يبحث عن مواضع الاتفاق مع التصميم الذي يبني في ضوئه، وهي النجوم الثلاثة، وكذلك من حقه أن يبحث عن مواضع الاختلاف، فقرر مخالفة وضعية النجوم. وهذا تبرير تلفيقي، لأن النظرية بالأساس مبنية على افتراض دقة شديدة في التشابه، ولو كان القدماء ينوون أن تُبنى الأهرام الثلاثة بشكل يتوافق تماما مع السماء، كان بإمكانهم تجنب تلك الاختلافات، إذ كانت لديهم بالفعل معارف فلكية تسمح بذلك.

ليس هذا هو الفتق الوحيد في “نظرية ارتباط الجبار” التي تفترض أن كوكبة الأسد، وهي مجموعة من النجوم في السماء تشبه في ترتيبها معا صورة أسد، تتوافق وتتطابق مع تمثال أبو الهول الذي يتخذ شكل أسد، لكن ذلك الزعم أشبه بالفأس التي هوت على ما تبقى من النظرية، ففي السماء توجد كوكبة الأسد في الجانب الآخر لنهر المجرة أو السحابة الكونية، بينما يوجد أبو الهول في الجانب نفسه من نهر النيل مع الأهرامات، فما تفسير ذلك؟ بالنسبة إلى بوفال ورفاقه فإن حجّةَ التعبير أو الحس الفني هما السبب، ومرة أخرى يتعارض هذا المنطق مع ادعائهم الأساسي بالدقة الشديدة، بينما أمكن للمصريين أن يقوموا ببناء أبو الهول في الجانب الآخر من النيل، لكن ذلك لم يحدث على أرض الواقع.

كوكبة الجبار، حزام الجبار هو ثلاثة نجوم متجاورة تراها واضحة بـ
كوكبة الجبار، حزام الجبار هو ثلاثة نجوم متجاورة تراها واضحة بـ”يسار الصورة” (الجزيرة)

لم تفلح نظرية النجوم مع أبو الهول، لنجد أنفسنا قبالة نظرية أخرى تنطلق من أرضية الجيولوجيا، عن ذلك التمثال العظيم الذي يعتقد علماء الآثار أنه بُني في عهد الملك خفرع (2558-2532 قبل الميلاد). ففي التسعينيات من القرن الفائت، قام روبرت شوك، وهو جيولوجي أميركي، بدراسة أبو الهول من ناحية جيولوجية وليست أثرية، وتوصل إلى أن التعاريج التي تسببت بها عمليات التفتت والتحلل الصخري التي تعرض لها جسم أبو الهول ومحيطه لا يمكن أن تحدث إلا عبر تعرض التمثال إلى أمطار شديدة، ما دعاه للقول إنه بُني قبل موعده المفترض بنحو ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف سنة، لأن مناخ تلك المنطقة وقتها كان ممطرا جدا، أي قبل الحضارة الفرعونية، وبالتالي فإن الأمر متصل بالحضارة المفقودة.

لكنّ المروجين لفكرة الحضارة المفقود عادة ما يتناسون نظريات الجيولوجيا الأخرى التي تمتلك قدرة تفسيرية عالية لتحديد سبب ظهور تلك التعرجات دون افتراضات واهية. على سبيل المثال، اقترح “خاريتي لال جاوري”، أستاذ الجيولوجيا بجامعة لويفيل الأميركية، أن التفتت الصخري الذي حدث لأبو الهول ليس في حاجة إلى مطر غزير مستمر، يكفي فقط أن تتكاثر قطرات الندى الصباحية التي تمتص في ثغرات الحجر الجيري ثم تتبخر في الصباح تاركة نوعا من الأملاح الذي يمكنه التسبب في هذا الأثر.

أما جيمس هاريل، الجيولوجي من جامعة توليدو بولاية أوهايو الأميركية، فيُرجع تلك التعرجات إلى امتصاص الرمال التي أحاطت أبو الهول خلال فترة زمنية طويلة لماء المطر الطبيعي، الأمر الذي يُحدِث تفاعلا يُغيِّر شكل الحجر الجيري. وقد دخل متخصصون آخرون مثل الفيزيائي والجيولوجي روبرت شنايكر إلى هذا المعترك، وافترض أن هناك دلائل على أن تلك التعرجات لم تكن بسبب المطر وإنما قصد المصريون القدماء تركها بهذا الشكل أثناء بناء أبو الهول.

ورغم أن الجدل ما زال قائما ما بين الجيولوجيين وغيرهم، فإن هناك إجماعا على أن تقدير عمر أبو الهول هو أمر يخص علم الآثار وليس الجيولوجيا، وما يفعلونه هو طرح أسئلة لفهم الكيفية التي بُني بها هذا التمثال وأثر البيئة عليه.

والأهم في هذا السياق هو التنبيه إلى خطورة انتقاء الدلائل في معرض الإثبات أو النفي، حيث يقوم البعض بإبراز الدلائل التي تؤيد فكرته للجمهور، بينما يهمل تلك الدلائل التي تناقضها، فيبدو للراغب في تحصيل المعرفة أن ثمّة دليلا واحدا صحيحا فقط.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى