“باهبل مكة”.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار | ثقافة
بدرجة ما، وبسبب ميزات كثيرة، تستحق رواية الكاتبة السعودية رجاء عالم (ولدت في عام 1956) الجديدة “بَاهَبل مكة 1945-2009” نيل الجائزة العالمية للرواية العربية لهذا العام، ولا ندري إن كان فوزها السابق بهذه الجائزة، عن روايتها “طوق الحمام” مناصفة في عام 2011 مع المغربي محمد الأشعري عن روايته “القوس والفراشة”، سيؤثر على نيلها الجائزة لهذا العام، رغم أنه لا يوجد في شروط الجائزة ما يمنع الفوز بها من نفس الكاتبة أو الكاتب مرتين أو أكثر. ولكن هذه الرواية تحمل بالفعل ميزات وخصائص تجعلها من أفضل الروايات المرشحة للقائمة القصيرة لهذا العام.
وهذه الرواية التي تتحدث عن عائلة “السردار”، وهو اسم متخيّل، في مكة، وكان جدها الـ11 قد حكم مكة، سرعان ما تصلح لطبقة، أو لطبقات، اجتماعية كاملة فيها. بل يمكن القول بأنها رواية مكة في أكثر من نصف قرن. ولكن “باهبل مكة” هي أوسع وأعمق من ذلك بكثير.
بيت الديكتاتور
بيت من 5 طوابق هو بيت مصطفى السردار. يحتوي، إضافة لما يحتويه من غرف، حكايات لأجيال متعاقبة، سمّت ذلك الكبير بالديكتاتور. وأبو الهول. بناته وحفيداته سمينه بتلك الأوصاف التي ألحقت بهن الضرر أكثر مما ألحق الضرر بذكور البيت. بنات وحفيدات قضين جلّ حياتهن متجوّلات بين غرف البيت وممرات سيرة الكبير مصطفى السردار. عشن خائفات من الخوف الذي أكلنه وشربنه أكثر من وجبات الطعام والشراب والحياة. وعندما خرج بعضهن من البيت، بسبب الزواج العسير، استقبلتهن القسوة والحرمان بيدين واسعتين. 5 طوابق تحكي عن 60 عاما في حياة الشخصيات الكثيرة والمختلفة، وفي حياة مكة نفسها، بحذاقة ومهارة من عاش تلك الحيوات المختلفة بنفسه.
خلال عيش كبير البيت، مصطفى السردار، ينمحي عالم بقية ذكور البيت، ويبقى هو الذكر الوحيد في مقابل كل حريم البيت. فالرواية تجري بين عالمي حريم البيت والعالم الموازي أو الخانق أو المتسلط على الأول. التسلط الذي يصل بالسردار إلى عدم الاعتراف بابنة له من خادمته سوى بعد سنوات وتدخلات ورجاءات وتهديد بالانتحار. أو يصل به إلى نفي وجود بنات لديه، عندما يتقدم أحد لطلب إحداهن للزواج. وإذا رضخ أخيرا، تحت الضغط واليمين والجاهات، يتلاعب بشخصية البنت المُراد تزويجها، أو يُكلّف أحدا لإيذاء العريس حتى يفرّ من إكمال مسألة الزواج من بنته!. لذلك تقول “سكريّة” لابن أخيها “عباس” في الصفحة 225 “تظن الحنوط سرّا فرعونيا؟ بيوتنا المكاويّة شغلتها تحنيط البنات”. ثم تقول له في مكان آخر “أكبر حبس عشناه كان في كلمة عيب. عيب تخرج، عيب تشوف، عيب تسمع، عيب تضحك بصوت أو ترد كلمة بنقاش. تعرف القضاء والقدر؟ كلمة الكبار قضاء وقدر يحرم علينا نرده أو نناقشه” (الصفحة 228).
المركز والرخاوة
خلال عيش مصطفى السردار ينمحي عالم بقية الذكور الكثيرين في البيت حد التلاشي، لأنه يُمثّل أصلا الأفكار الذكوريّة المتوارثة، خاصة في مكان شديد الخصوصيّة والصرامة مثل مكة. إذ تبدو الأماكن الأخرى، مثل جدة ولبنان أكثر رخاوة بالمقارنة مع مكة. في حين تظهر بيروت والقاهرة وكأنّهما من أرض أخرى يجب أن تتحصّن مكة ضدها.
مصطفى السردار يُمثّل آخر الذكور في ذلك العالم الذكوريّ المتين، هل هناك إسقاط على ما آلت إليه مكة والسعودية في العهد الجديد؟، فبمجرّد موته واقفا، وهي دلالة أخرى على الثبات حتى في الموت، يندمج تقريبا عالم الذكور، في البيت، في عالم الحريم، ولا يصبح موازيا ولا خانقا ولا حاكما له، بل فقط متسلطا عليه.
خارج عالم السردار، أي خارج بيت السلطة، يبدو الآخرون في عالم آخر من الانفتاح حتى “الفضيحة”. بمعنى أن الرواية تحكي كذلك عن حكم المركز وحكم الأطراف. عن العرف والشعارات، التي لا يُمكن تبديلها بسهولة، وعن البطش والأحكام التي لا يُمكن تغييرها، إلا إذا تدخلت امرأة، وهي الأم، مُحنّكة وحنونة ومظلومة مثل سكينة زوجة السردار، وعن الحفلات والبذخ والتشبه بالآخر، الذي يُشبه التشبه به فضيحة.
ورغم ذلك، وبعد رحيل مصطفى السردار، يصبح الابن الكبير سالم متلبّسا بأفكار وحضور والده، لدرجة أن يقول لابنه عباس، الذي أراد السفر لأميركا والعمل كمصمم للسيارات، “كلمة حر هذه امسحها من رأسك، ومن كل الكتب التي تقرأها، لا تظن نفسك حرا وأنت ولد السردار، اسم السردار قيد على رقبتك لو حاولت تكسره تنكسر رقبتك”.
باهبل
أما شخصيّة باهبل، وتعني الأهبل، أهبل مكة، فهي الشخصية المحورية التي بنتها صاحبة رواية “سِتر” بطريقة سرديّة لافتة للنظر. فعند ولادة عباس (باهبل) قالت القابلة بأنه كان له توأم، ولكنه تبخّر من رحم أمه!. ولكن عمّته نوريّة لم تتخلّ عن وجود ذلك التوأم، فصارت تنادي عباس باسم نوري، وواضح أن الاسم مشتق من اسمها، وهي التي لا تنجب، وتحاول النجاة من الموت بكل طريقة، بينما الآخرون نادوه باسمه عباس.
مع تدفق الرواية، البالغ عدد صفحاتها 337 صفحة، يبرز نوري شيئاً فشيئاً. فهو يوجَد مع عمته، ويتخذها أمّا له، نوريّة بشخصيّة مختلفة عن شخصية عباس مع نفسه ومع الآخرين. “أنا وأمي نورية بيننا عملية نقل دم ليل نهار ودخّلتني في أنيميا حادة” (ص 173). وبعدها صار نوري يُحاور عباس، ويخاصمه وينفصل عنه ليعيش حياة، ومهنة ومواهب وميولا، مختلفة عن عباس. وصار يبحث عن قرينه، الذي لن يكون عباس، كما قد يظن أي قارئ، بل هي قرينة يمكن القول بأنها مرام اللبنانية (ص 175).
انقسام هذه الشخصية إلى شخصيتين مترافقتين، ثم متصارعتين ومنفصلتين، فنجد نوري في بعض الفصول وكأنه شخصية مختلفة ومستقلة عن عباس، وُفّقت فيه صاحبة رواية “خاتم” بشكل أخاذ وذكي، ومن خلالها أخذتنا إلى أجواء تُشبه أجواء رواية “دكتور جيكل ومستر هايد”، لروبرت لويس ستيفنسون (1850-1894)، ولكن في باهبل لا تنفصل الشخصية إلى واحدة شريرة وأخرى خيّرة، بل إحداهما أقرب إلى الأنثويّة، نوري، والأخرى أقرب إلى الذكورية، ويمثلها عباس. وهذا الاشتغال السرديّ والحكائيّ وصل في مرات عديدة إلى الواقعية السحريّة وكذلك الفانتازيا.
أهل مكة
من جهة أخرى، استعملت صاحبة “الموت الأخير للممثل” لهجة أهل مكة في حوارات شخصياتها، ورغم أن تلك اللهجة قد تكون صعبة على قراء كثيرين، فإنها بدت ضرورية وملتصقة بكل فضاءات العمل. وليس من السهل ترويج وتسهيل لهجة على قرّاء غريبين عنها. وكان ذلك ميزة إيجابية تُحسب لهذه الرواية.
والرواية تبدأ بمفتتح في عام 2009، ثم تعود للماضي، ويسير ذلك الماضي بشكل مُتنقّل بين العديد من الشخصيات الأنثوية، مثل حورية وفرح وسكرية ونورية وبدرية وميادة وسكينة وحليمة، والكثير من الشخصيات الذكورية، مثل مصطفى ومحمد وسالم ومحسن ونص لسان وولد الكفن وعبد الصمد وعبد الجليل وعباس ونوري ومنصور وعبد الرزاق، حتى تصل إلى ولادة عباس، بعد عدد من الفصول، وتقوده، بعد ذلك، رجاء عالم إلى مصيره السينمائي الغريب.
تمزج رجاء عالم بين عالم الأحياء وعالم الأموات، بعد أن كانت هناك ستارة خفيفة تفصل بين العالمين، حتى يُصبح الأمر مثل فيلم سينمائي يُعرض داخل الرواية، عن عائلة تُحب الأفلام وتدفع الكثير للحصول على نسخ منها، لتتفرج عليها عائليا، طبعا بعد رحيل الكبير مصطفى، كأنهم يشكلون ناديا سينمائيا للعائلة.
قصص كثيرة وحكايات متنوعة تقدمها صاحبة رواية “موقد الطير” للقارئ، الذي يلتهم هذه الرواية بسبب تشويقها، وبنائها السردي المتنوع، واللغة الروائيّة التي حذفت الكثير من الثرثرة، لتُبقي على ما يقطع الأنفاس. ولكن تُجبره الكاتبة على قراءتها ببطء، وذلك بسبب طريقتها في طرح الشخصيات وبنائها وربطها مع مصائر الآخرين، ومصائر الرواية نفسها.
ولا تكتفي صاحبة مسرحية “ثقوب في الظهر” بحكايات الشخصيات، بل تبني وتستعيد حكايات المكان نفسه في رواية باهبل مكة. وحتى حادثة اقتحام الحرم المكي وحصار الكعبة (20 نوفمبر 1979) من قبل جهيمان العتيبي وجماعته، جاءت مرتبطة بمصير شخصيتين مهمتين في الرواية. وهذه الرواية، بالأصل، تقوم على أنقاض واسعة للمكان، وتروي حكايته، وحكايات سكانه، بطرق سردية تعتمد على الحوار والمذكرات والتصوير الفوتوغرافي والسينمائي والمونولوغ وعلم النفس وفن العمارة. فسوق “المدعي” لم يعد موجودا مع توسيع الحرم، الحرم المكي، والذي، أي التوسيع، محا كل مكان السردارية على أرض الواقع، بيت الجد مصطفى السردار، ليحلّ في هذه الرواية. بمعنى أن الرواية تستعيد مكانا غائبا، وتستعيد شخصيات وحكايات وحيوات، وتفرشها على أرض الرواية نفسها، ويبدو زمنا طويلا ما عاشته تلك الشخصيات، رغم أن كل تلك الحيوات لم تكن سوى “ومضة بين عالم الأحياء وعالم الأموات”.