إسبانيا الأخرى | ثقافة | الجزيرة نت
ظهرت اسبانيا جديدة مع دستور 1978 الذي قطع مع الماضي الفرانكي (نسبة إلى فرانكو)، وضع اسبانيا على سكة التحديث والدمقرطة والمصالحة مع أوربا.
كتب واحد من العارفين باسبانيا، المرحوم العربي المساري، وهو صحافي مغربي مرموق شغل منصب سفير (في البرازيل) ووزير (للاتصال) ، يتقن اللغة الاسبانية إتقانا مبهرا، كتابا عنونه ب”اسبانيا الأخرى”، واكب فيه التطور الذي عرفته اسبانيا منذ دستور 1978، إلى المحاولة الانقلابية الفاشلة 1980 في مبني الكورتيس (البرلمان)، إلى أحداث 11 سبتمبر وتداعياتها على اسبانيا، فالعمل الإرهابي الذي ضرب محطة القطار بمدريد في 11 مارس 2004 .
يُعتبر الكتاب من أهم ما كُتب عن اسبانيا الحديثة باللغة العربية. اختار له صاحبه في الغلاف صورة امرأة تلعب لعبة الكوريدا الشهيرة، وهي لعبة كانت وقفا على الرجال، وذلك للتدليل على التغيير الجوهري الذي عرفته اسبانيا.
إسبانيا جديدة.. مرة أخرى
وتظهر الآن اسبانيا جديدة، مرة أخرى، في أعقاب الحرب على غزة، تسعى أن تتصالح مع محيطها الجنوبي، وهي محطة في حاجة لمن يرصد تطورها كما فعل المرحوم العربي المساري بالنسبة للمرحلة الأولى.
لِنقفْ عند بعض معالم هذا التحول، ومنها أغانٍ ومهرجانات تُعبر عن التضامن مع الشعب الفلسطيني. لا تتورع الكلمات عن اعتبار ما يجري على الأرض إبادة جماعية، ولا تتحرج من انتقاد إسرائيل، ويجأر الكوروس بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته، ويردد بقوة: “الحرية لفلسطين، وفلسطين حرة”، كما بمهرجان غنائي بقادس، اخترت منه أغنية، تسري في الوسائط الاجتماعية، برعاية مؤسسة كاخا سول كارنافال قادس.. تقول كلماتها:
في تلك الأرض العتيقة
تحت مأوى مذود
رأى المختارُ النور لإنقاذ الناس (..)
لا تنس أن تحكي لهم
أن تلك الأرض شاهدة أيضا
كيف يُقتل الأطفال
لأنهم وُلدوا بأرض فلسطين
جلاّدهم إسرائيل،
دولة ظالمة وقاتلة
هذه هي حقيقة تلك المنطقة،
أنشرها لكي يعلو الصوت
ويتحرك العالم
للقضاء على هذه الجريمة،
وأن تصبح فلسطين
حرة
حرة
هو أمر لافت حقا، بيد أن التوجه الجديد المتعاطف مع الفلسطينيين ليس طارئا ولكنه كان مطمورا. هو تجلٍ لعمق عربي وإسلامي كان ثاويا في وجدان الإسبان. ذلك أن اسبانيا ولو أنها جزء من أوربا من الناحية الجغرافية، فلم تكن أوربية دوما من الناحية التاريخية أو الحضارية.
كانت أوربا الحضارة أو ما نسميه اليوم بالغرب يبدأ من جبال البرينيه، ويشهد على ذلك جملة شهيرة لفولتير يقول فيها إن ما يظهر حقيقة أسفل جبال البرينيه (البرانس)، ليس كذلك، ما وراءها. جبال البرينيه لم تكن حدودا جغرافية فقط، ولكن حدودا حضارية.
ظلت لاسبانيا خصوصية، إذ كانت لها شخصية متميزة كما يقول المؤرخ أميركو كاسترو Americo Castro ، (توفي سنة 1972) ومردّ هذه الخصوصية حسب ذلك المؤرخ الحصيف هو التأثير الإسلامي، وهو أمر إيجابي، إذ لا ينبغي أن يُنظر إلى التأثير بصفته عنصر قوة، والتأثر موطن ضعف.
التأثر يفرز دينامية إيجابية، ولذلك لا يمكن الاستهانة بالتأثير الإسلامي حتى من خلال الرد المسيحي بعد انحسار الوجود الإسلامي. ولذلك فالإسلام والعروبة جزء من تاريخ اسبانيا، إيجابا، في فترة الوجود الإسلامي، وقوة دفع، من خلال ردود المسيحية، في فترة الانحسار.
العلاقة التي سادت بين المكونات العقدية، المسيحية واليهودية والإسلامية، حتى في فترات الاحتدام السياسي، كان تنطبع بالتسامح، وهو ما كان يغذي التأثير والتأثر، ويفرز -من ثمّ- دينامية إيجابية . واستمر الوضع إلى غاية طرد المورسكيين سنة 1609، مما قضى على التنوع لفائدة التنميط، و ثلم التسامح الذي كان قائما على الدوام، وأفضى الأمر إلى انكماش حضاري.
ويعقد كاسترو في هذا المنحى، المقارنة ما بين المورسيكيين وبروتستانت أوربا، كما في طرح ماكس فيبر، لما كانوا يتمتعون به من قوة على العمل وطاقة خلاقة وأخلاقية، كما أخلاقية البروتستانت.
ولقد ترجم الدكتور سليمان العطار، من جامعة القاهرة، فصولا من الكتاب، وصدرت ترجمة كاملة له عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر، أنجزها السيد علي إبراهيم المنوفي، وراجعها السيد حامد أبو أحمد. كتاب كاسترو يعين في فهم اسبانيا الأخرى التي تتبدى اليوم.
صدر رد على طرح كاسترو بقلم المؤرخ كلاوديو سانشيث ألبورنوس Claudio Sanchez Albornoz في كتاب يحمل عنون “لغز تاريخ اسبانيا” (غير مترجم) يدحض فيه طرح كاسترو، ويرى أن حلول المسلمين بشبه الجزيرة الإيبرية كان بمثابة اغتصاب، ولذلك تكتسي الحروب التي تسمى بالاسترداد شرعية، وذلك لكي تستعيد اسبانيا “حقيقتها”، أما طرد المسلمين، ولو أنه مؤذ من الناحية الأخلاقية والإنسانية، فهو مُبرَّر من الناحية التاريخية والحضارية.
توزعت اسبانيا بين هذين الاتجاهين، أو المدرستين، الاتجاه الذي يمثله كاسترو، وهو الاتجاه الموضوعي، والاتجاه الذي يمثله ألبورنوس، ويغلب عليه الطرح الإيديولوجي.
واللافت هو انتعاش الاتجاه الأول، وانبعاث نشاط الجامعات الاسبانية لبعث الفترة الإسلامية، و قيام مراكز بحثية لاستجلاء التراث العربي الإسلامي، كما البيت العربي في مدريد، والمؤسسة الأوربية العربية في غرناطة.
تظل اسبانيا ضمن الدول الغربية الأقرب إلى العالم العربي، تراثا ووجدانا … لغتها تختزن المؤثر العربي، والمعمار الأندلسي يحمل ميسم عبقرية المعمار الإسلامي في أشكاله الهندسية، من مُنحنى عوض الخط المستقيم، والقوس عوض الزاوية، بل حتى غناء الفلامنكو هو غناء إسلامي، متحور عن الغناء الصوفي كما يذهب الباحث أنتونيو مانويل، يطفح بإيحاءات دينية، من قبيل الفاتحة والشهادة. وأهم عنصر تماثل هو طريقة تفكير الإسبان أو ما يسميه الفيلسوف أورتيكا إيكاسي بعقلانية حية، تميز شخصية اسبانيا، وهي عقلانية لا تجري قطيعة مع الوجدان، على خلاف عقلانية ديكارت أو كانط، وأقرب ما تكون إلى عقلانية ابن رشد.
لم يكن غريبا إذن أن تناصر فعاليات شعبية عريضة اسبانية الفلسطينيين بالنظر إلى هذا العمق التاريخي الثاوي في وجدانها، فضلا عن الاعتبارات الإنسانية.
آن الأوان لاستجلاء التراث المشترك مع هذا البلد الذي شكل أرض تلاق الشرق والغرب، ومعانقة قضاياه العادلة، مثلما برز بشكل جلي في الحرب على غزة. يتوجب رصد التطور الجديد الذي يحدث في اسبانيا، أسوة بما فعله المرحوم العربي المساري بعد أن قطعت اسبانيا مع الفاشية. من شأن التغيير الذي يعتمل في اسبانيا أن يغير العلاقات السائدة بداخل الاتحاد الأوربي، وهو أمر سيكون له ما بعده.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.